كنت أتمنّى لو صدر هذا البيان او ما يشبهه عن اليسار في لبنان بمناسبة أحداث أفغانستان:
نحن أهل اليسار، المتحدّرون من العنف الثوري، من لينين وماوتسي تونغ وتشي غيفارا وعبد الناصر وكمال جنبلاط وليلى خالد وسهى بشارة والحركات القومية المكافحة، الحاملون على أكتافهم تاريخا مجيدا من النضال لتحرير شعوبهم من النهب الرأسمالي ومن السيطرة الامبريالية، المناضلون في سبيل مستقبل أفضل للبشرية...
نعلن اعتراضنا على زج إسم الارهاب في حرب أفغانستان، واعتراضنا على وصف الحرب ضد الطالبان بحرب ضد الارهاب، لان الارهاب إسم يخصنا وحصلنا على براءة اختراعه منذ أعلنت الولايات المتحدة الاميركية حربها علينا في السبعينات.
وان أصرت جبهة الامبريالية على هذا الوصف فنحن نعتز بتاريخنا لتحرير الارض من الاحتلال والارهاب الاصلي بريء من سلوك الطالبان لأنها قوضت الحضارة على الارض وهدمت تماثيل العظماء وقتلت التاريخ المتألق للاسلام والمسلمين وحجرت على المرأة وقطعت مع انجازات العصر في العلم والديمقراطية وحقوق الانسان.
وان أصرّت الامبريالية ثانية فإننا نشهر انتصارنا جزئيا بعد ان فرضنا عليها ان تستثني من الحرب المزعومة من ينتمون الى سلالتنا في المقاومة اللبنانية والفلسطينية وهما آخر من تبقى من ارهاب التحرير ومواجهة الاحتلال في العالم. ونعلن انتصارنا لأن جبهة الاعتراض على مشروعها التدميري هو اليوم اكثر اتساعا مما كانت عليه جبهة خصومها في الحرب الباردة.
نحن اليسار الحقيقي لا نقبل ان يزج اسمنا وتاريخنا في إرهاب مزور، ونحن لا نتنكر لتاريخنا، ولسنا نادمين على كل المواجهات التي خضناها ضد وحش الحضارة الحديثة، وحش النهب المنظم وآليات السوق، وحش الاستعمار والصهيونية، لكننا بالجرأة ذاتها نعيد قراءة الماضي، ونقسو على أنفسنا في النقد الذاتي من غير ان نصير من المرتدين.
اليسار القديم، الجريء، المقدام، الواضح الرؤيا، المتفائل بالتاريخ والواثق بالبشر.... الذي دك العروش وليؤسس لعدالة على وجه الارض، هذا اليسار مات. واليسار الذي تناوب على حكم أوروبا اصطف وراء الولايات المتحدة الاميركية لترويع شعوب أوروبا من قلب يوغسلافيا، والحركة القومية العربية اقتتلت حتى التخمة، ثم ختمت حياتها النضالية يوم اصطفت بالنظام المرصوص في حرب الخليج، وتخرّج من صفوفها من عولم كفاحه باكرا، وراح يبحث عن جبهة قريبة ليحارب إسرائيل، فوجد ضالته في البوسنة والشيشان وأفغانستان، او في مواجهة الثورة الفتية والأشقاء... اية خطة للالتفاف! ولكن على من؟!
واليسار اللبناني، بكل أحزابه، (اما أفراده فلا) استقال او أقيل او استسلم او هرب او ارتد... وما بدل تبديلا. لكنه يستمر حاضرا بقوة التسلط او بقوة الحنين الى ذكريات جميلة. سقط منه بالضربة القاضية من اختار السلطة وفضل الانتماء الى جنتها على الانتماء الى جمهور المواطنين، وسقط بالاستسلام المذل من أقام سعيدا خارج الحياة السياسية، او على هامشها في أحسن الاحوال، وعينه على السلطة يغازلها وهي تمتنع عليه، وغدا مثله كمثل الغراب والحجل...
نعم لم يبق للحزب الشيوعي اللبناني من نشاط الا مناسبات نوستالجية كالأسرى والشهداء والمقاومة وذكرى التأسيس وتكريم القدامى... ولو أجازت له قوى السلطة والقوى المتسلطة باستخدام الإعلام المتطور، كالصور على أعمدة الكهرباء مثلا لما تأخر عن تلقف المبادرة، في حين ان مبادرته الاصيلة لا تكون ان هو لم يعرف ان اليسار الحقيقي لا يقوم من غير الحزب الشيوعي وانه لن يقوم بمثل هذا الحزب الشيوعي.
إذن بات من حقنا نحن اليسار الحقيقي ان نطالب بقيامة الحزب الشيوعي وان نرفع دعوى انتحال صفة على كل الهيئات التي كانت فيما مضى تنتمي الى صفوف اليسار ولا تزال تستخدم هذه الصفة رغم تغير الاحوال وتقلب المواقف وتبدل الازمان.
أيتها الامبريالية: اليسار القديم مات. كلانا، نحن وأنت، يعرف ذلك. وحده اليسار لا يعرف، وهو لا يعرف لأنه مات. مات ونعاه انهيار الاتحاد السوفياتي وحركات التحرر من قبله وعدم الانحياز والتضامن الأفروآسيوي وباندونغ والمؤتمر الاسلامي، وانهيار الأطر النقابية بعد تدجينها ومصادرتها بالارهاب ومهارة الديماغوجيا... ولكن من يقنع النقابيين أولا؟؟
مات في عز حاجة الوطن اليه. واليسار حاجة للأوطان ما بقيت الاوطان. ولهذا فها نحن نقوم من بين الانقاض نستجمع ما تبقى من ماضينا المشرق، والكثير منه رغم الهزيمة كان مشرقا، ونعيد صوغ الحلم الجميل، حلم تحرير الانسانية وفتح الآفاق الرحبة أمام مستقبلها السعيد يوم نستعيد ألق إرهابنا، وتعودين أيتها الامبريالية الى رعبك القديم الطبيعي من البشر والمستقبل. ولكن...
لن نشارك المتضامنين مع بن لادن، ولن نخرج معهم الى الشوارع مستنكرين لأنهم لا يعرفون ان الجهل هو صدأ العقل، كما اننا لن نشارك يتامى اليسار شماتتهم ببن لادن، لانهم يخطئون بنبش قبور التدخل السوفياتي، لكننا نقول لهما، للمتضامنين والشامتين، ان التاريخ جواد، وهو لا يرحم من يكبو من الفرسان على ظهره. والتاريخ لا يرضى بأن يتجسد تراث الاسلام بسلوك بن لادن، ولا ماضي الثورة الاشتراكية بالتجربة السوفياتية في أفغانستان ولا الحضارة الرأسمالية بكياناتها السياسية الفاجرة. والتاريخ يقدم دروسا ملزمة للمعيدين من أهل السياسة وأحزابها، او في دورات محو الأمية. وقد قررنا ان نستفيد من دروس التاريخ. وقررنا:
ان نضع تعريفا للارهاب لا في مؤتمر مزعوم، بل في نضال دؤوب يرفع قناع التمدن عن وجه من اغتصب انجازات الحضارة الرأسمالية ثم خانها، عن وجه من رفع شعار الحرية وجعلها لآليات السوق وحدها واستعبد الشعوب، ومن صاغ شرعة حقوق الانسان الفرد ثم عبث بحقوق الأمم وتقرير مصيرها، ومن أسس للديمقراطيات الحديثة ثم اختزلها بحق الاقتراع لمن يتشوه وعيه بقوة السيطرة على وسائل الوعي والمعرفة، ومن ومن...
ألا نقع في أفخاخ الامبريالية فنستحضر الشعور الانساني ونجعله مقياسا للموقف السياسي، ثم باسمه نستنكر ضرب نيويورك وضرب أفغانستان على حد سواء، فنتصرف من موقع القائد السياسي بأخلاق عمال الاغاثة والمحسنين. وان نترك لجمعيات الاغاثة دورها، لا لأننا نأنف من ممارسة هذا الدور، بل لأن السياسي يكذب ان هو لم يلحظ الجانب ((اللاإنساني)) في قتل المدنيين في كل حرب، في كل ثورة، في ثورة الرأسمالية كما حصل في فرنسا 1789 او في الثورة التقدمية كما حصل في موسكو ولينينغراد 1917، او في الثورة الاسلامية أيام النبي محمد.
ألا نندب حظنا على ضعف الفريق الثالث العقلاني، لأن هذا الفريق الثالث ليس الا نحن، نحن الذين نشجب اليوم الارهاب ونبحث عن مسوغات موقفنا في أدبيات لينين ((الذي استنكر الاغتيالات))، والذين نعوم على شبر ماء فنستفظع كل جديد تبتكره الامبريالية في حقل توحشها، وكأننا لم نتعلم لا من ماركس ولا من التاريخ كيف يفضي التنافس على الربح الى التضحية بكل شيء، كل شيء، الطبيعة والبشر والعلم والتكنولوجيا، او كأننا لم نعرف أسباب الحربين العالميتين ولا فظائع هيروشيما، هيروشيما مثلا لا حصرا...
وقررنا ان نعود الى ماركس، وألا نخجل من العودة اليه في توصيفه آليات النظام الاقتصادي الرأسمالي، على ان نعلن خجلنا من تقصيرنا الفادح بحقه وبحق العلم، لأننا لم نستكمل في السياسة صرحا بناه في علم التاريخ وعلم الاقتصاد، ولأننا لم نفهم معنى الثورة الحقيقي، فشوّهناه وجعلناه عنفا، عنفا وحسب، وانقلابا، انقلابا فحسب، ولم نر من الثورة الا لحظتها الاخيرة، فأكثرنا من الثورات/ الانقلابات وعممناها من المحيط الى الخليج، فربضت على صدورنا عقودا من الزمن تقاتل باسمنا وعلى حساب كراماتنا وأسباب معيشتنا نسخة وهمية من الامبريالية. واذا كان لا بد لنا من ان نعيد الاعتبار للثورة، بما هي صيرورة وعملية طويلة ومتشعبة ومتعرجة من التطور، فحري بنا ان نسأل عما اذا كان تصدير الثورة الاشتراكية او الحضارة الرأسمالية او النموذج الاسلامي يتم حصرا عن طريق التدخل المباشر، من تدخل نابليون في مصر غداة الثورة حتى تدخل السوفيات ثم أميركا في أفغانستان، على تفاوت المغزى الاخلاقي بين التدخلين، ولماذا ينعت الاسلاميون التدخلين بالقهر ولا يحسبون تعميم نماذجهم قهرا من الطبيعة ذاتها يمارسونه على الأفراد والجماعات؟؟!
وقررنا ان نترك للتاريخ عظماء التاريخ، نكتفي باستلهام تجاربهم، باستلهامها فحسب، اي ان نبحث في سير الثورات الظافرة عن سر نجاحها، لا لننسخها نسخا أعمى فنلوي عنق التاريخ، على غرار ما فعلته ثورات تقدمية في العالم سعت الى تطوير المجتمع بما يفوق طاقته على التطور، او على غرار حركات الاسلام السياسي التي تحاول إكراه البشر أفرادا وجماعات على تبني صيغ من السلوك الفردي والسياسي لا يستنبطونه من قوانين التاريخ بل من بطون الكتب، او على غرار ما فعلته وتفعله الامبريالية اليوم، بزجر الشعوب وإرغامها على الطاعة ودفع الخوة، بأسوأ ما عرفه التاريخ والمخيلة من عمليات القرصنة والبلطجية.
وقررنا، بالعودة الى ماركس وسواه، ان في الرأسمالية جانبا مشرقا ومشرّفا تجلى في نقل المجتمعات البشرية من عصر الاقطاع والحكم الوراثي، عصر التخلف والجهل وظلام القرون الوسطى، الى عصر النور والوفرة والرفاهية والتقدم العلمي والتقني، وتجلى في قيم سياسية رفع لواءها ثم خانها كالديموقراطية وحقوق الانسان، وان مواجهة مفاسد هذه الحضارة لا يتم بمواجهتها بالجملة بصفتها تحمل نعت الامبريالية اللينيني او الشيطان الاكبر الخميني، بل بمواجهة مفاسدها فحسب، بحيث لم يعد جائزا، باسم محاربتها، ان نتنكر للقيم الديمقراطية والحريات والعلم، وان نستورد منها كل منتجاتها ثم نطلق نعت المستورد على العلم والثقافة فحسب، تماما مثلما تفعل الأنظمة العربية، التي تطبع تدريجيا علاقاتها السياسية مع إسرائيل وترفع في وجوهنا شعار منع التطبيع الثقافي، فيصدّقها، للأسف، بعض المثقفين.
ان نعيد الاعتبار للستالينية.. بعد ان جار عليها من وقع في وهلة انهيار جدار برلين، لأن المتهجّمين عليها لا يصوبون على نواقصها في الديمقراطية والمسألة القومية والدين، بل على أهم ما أنجزته في القرن العشرين حيث كانت أحد أهم أسباب الانتصار على النازية. بعد اعادة الاعتبار اليها نواجه ورثة الستالينية الذين استعاروا منها البطش والحزب الواحد، وجوّعوا شعوبهم، باسم المصالح القومية العليا للأمة، وباسم التسلح المزعوم ضد العدو الصهيوني، فكمّوا الأفواه ووسعوا السجون وهجروا الشعوب وجعلوا ميلاد الزعيم بمثابة العيد الوطني... هذه الحركة القومية، التي نعتز بالانتماء اليها، لا تزال، للأسف، ترهبنا وهي ترفع شارة النصر غداة كل هزيمة، كأن الذي انهار في العالم لا يعنيها، او كأنها ليست من هذا العالم.
وقررنا ان الطائفية في لبنان إرهاب، والتشريع للفساد إرهاب، وسوء استخدام السلطة وانتهاك القانون وخرق الدستور... كل هذا إرهاب بإرهاب، ولا يجوز لإرهابي في السلطة ان يرفع عجيزته فيتحدث عن العفة وهو في بيت من زجاج.
ان نبقى كما ينبغي على اليسار ان يكون، اي ألا نخون حليفا ولا صديقا ولا تاريخا من النضال المشترك، وألا نتنكر لتجربة مريرة ومؤلمة خضناها بشرف مع أصدقاء لنا في لبنان والعالم العربي والعالم... فنتحمل بشرف مسؤولية ما قررناه وما صنعناه بأيدينا، ونعتز ببعضه لا سيما بالمقاومة الوطنية للاحتلال الاسرائيلي.
لكننا قررنا تفكيك كل تحالفاتنا وخصوماتنا التي كانت قائمة بقوة آليات الحرب الاهلية ومنطقها، فطوينا صفحتها، ولن نفتحها الا للعبرة والاستفادة من دروسها، وجعلنا معيار التحالف المستقبلي مع الآخرين في نضال مشترك هو اعادة بناء الوطن، عربيا سيدا حرا مستقلا، واعادة بناء الدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والعدالة والحريات والديمقراطية، واعادة بناء العلاقات اللبنانية السورية على قاعدة الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، والمشاركة في بناء عولمة مضادة لعولمة قهر الشعوب ونهب خيراتها، وسنبقى نقاوم كل محاولة لقهر أحلامنا في تغيير هذا الوضع المأسوي الذي يرزح شعبنا تحت وطأته.
مع طيّنا صفحة الحرب ندعو الآخرين الى الوقوف على مستوى شجاعتنا في النقد الذاتي فيحاسبوا أنفسهم ولو في السر عما ارتكبوه في الماضي من ((فنون)) السيارات المفخخة والقتل على الهوية الدينية والفكرية... وسنعد ترفعهم عن ذلك بمثابة إرهاب مبطّن، يشبه إرهاب من يدّعي النطق باسم اليسار وهو على منصة السلطة، من غير ان يتواضع قليلا ويشاركنا البحث عما تبقى من الحدود الضرورية الفاصلة بين اليمين واليسار.
وسنعد إرهابا كل خطاب ديماغوجي يصادر القضايا الكبرى ويحتكر النطق باسمها، وباسمها يخطط لقيامة الدولة الامنية. وإرهابا كل قرار ببيع الوطن بالجملة والمفرق للمؤسسات المالية الدولية وفوائد الدين العام وكل قرار بمنعنا من التعبير عن اعتراضنا على ذلك.
وإرهاباً كل قرار بالخصخصة واستقالة الدولة من مسؤولياتها التاريخية في إدارة الشأن العام وترك الامور على غواربها، وعلى مقاس مصالح الربح السريع والنهب المنظم...
والمحاصصة إرهاب وهدر المال العام والترهيب بفزاعة الحرب الاهلية لتمرير قانون متخلّف للانتخاب، وقطع الكهرباء وبيع القطاع العام للمحاصصين...
وبعد.
حين يقوم اليسار من غفوته ويستعيد نفسه، لن تبقى أميركا سيدة العالم وقرصانه.
أيها اليسار إلى اليسار دُرّ.
() كاتب وأستاذ جامعي.