أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مسعود أومري - بارانويا بودلير:منهج حياة و منطلق شعر















المزيد.....

بارانويا بودلير:منهج حياة و منطلق شعر


مسعود أومري

الحوار المتمدن-العدد: 1166 - 2005 / 4 / 13 - 10:52
المحور: الادب والفن
    


ولد بودلير من أب يدعى( فرنسوا بودليرFRANCOIS BOUDELAIRE) و أم شابــــة تدعى( كارولين ديفايس KAROLINE DUFAYS)كان لوالده من العمر اثنا و ستون عاماً حين تزوج من والدته التي كانت تبلغ من العمر خمس و عشرون عاماً ,قضى بودلير معهما ستة سنوات متقلباً فيها على أوجه النعيم و السعادة متذوقاً الحب حتى الثمالة . و من ذلك الفردوس الأسروي و بالتحديد تأسيساً على ذلك (الحب الأمـ بوي) شرّعنت بارانويا بودلير وجودها مارة بعدة مراحل و مستويات في النشوء و التطور . ولأجل فهم أبعاد و مسببات هذه البارانويا نجد ضرورة في التصدي للسنوات الأولى من طفولة بودلير بالتحليل المنطقي المبرهن و تسليط الضوء عليها لتوضيح معالمها . سبب آخر يدفعنا إلى الإهتمام بتلك الأيام من حياته , و هو أن الكثير من أشعاره ما هي إلا رجع الصدى النفسي لتلك السنوات المخزونة في ذاكرته الأمر الذي يدفعنا قسراً إلى استيعاب شخصيته على المستويين الفكري و السلوكي . تلك الفترة الحساسة من طفولته تمتد من الولادة ( 9/نيسان/ 1821) حتى تزوج الأم من المقدم ( أوبيك) عام 1821 بعد وفاة والده وهذه الفترة كانت بمثابة الفردوس المفقود له فقد ظل حتى نهايات عمره يحتفظ بصورةٍ لوالده بريشة ( رينيوREGNAULT) وفي رسائله لوالدته كثيراً ما كان يذكر شوقه و حنينه لتلك الذكريات وهذا مقطع من رسالة الى أمه بتاريخ 6/أيار/1861 " ليس هناك ما لا أجود به مقابل تمضية بضعة أيام بقربك , أنت , الكائن الوحيد المتعلقة حياتي به" . إذاً الملمح الرئيسي لتلك الفترة كان الحب , إلا أن طقوس العلاقة بينه و بين والديه أوحت لإدراكه بمعنىً خاص للمفهوم . فوالده المسن الفار من قبضة الموت يبحث عن الخلود بطريقة ما و خيار أوديب بالعودة إلى رحم الأم لتجديد الولادة قد فاته أوانه لذا كانت ولادة بودلير المنفذ الذي أنقذه من العدم و منحه الاستمرار في الوجود و الخلود خلال شخص الولد . و هو بدوره وهب مخلّصه كل رصيده من الحب و ألغى بحرية إرادته أمام إرادة الطفل ليرى صورته الجديدة في حياة هذا الكائن و يتغلب على الخوف من الموت بولادته مرة ثانية . الأم أخذت نفس المنحى و وصلت إلى النتيجة ذاتها وإن كان دوافعها مختلفة عن دوافع الأب , فهي كانت ما تزال محصنة ضد الشيخوخة و غزوات العدم , و صباها كان يفجر فيها إقبالا نحو الحياة , إلا أنها كانت تعاني من عقدة ذنب مستقبلية اتجاه كل من زوجها وولدها . الزوج , لعلمها برغبتها في الزواج بعد موته . وولدها , لأن زواجها سيصرفها عنه بطريقة ما . ولأن بودلير ابنها من جهة و من جهة أخرى سيبقى رمزاً للعلاقة الظاهرة المجسدة لرابطة الزواج السابقة فإن جهد الأم المبذول للتكفير عن خطئيتيها انصب عليه متمثلاً بدرجات عالية من الحب و تعديم الإرادة و بكيفية مطابقة لكيفية الأب الأمر الذي حفر في لا وعي الطفل بأن الحب هو " أعطني و حسب" و مهد الطريق لالتفاته مبكراً نحو ذاته و رؤيتها على نحو نرجسي . هذه الحالة النفسية للأب و الأم خلال تلك السنوات من عمر بودلير- و هي السنوات التي تتشكل فيها هوية الإنسان و طبيعته – و ذلك نموذج المختل من العلاقة بينهما و بينه كلها كانت معطيات و أحجار أساس لإيمان بودلير بعظمته و تفوقه على الآخرين , واهباً نفسه صفة المركزية في أي علاقة إنسانية يكون طرفاً فيها و لو من بعيد .
أما عقدة الاضطهاد و هي معلم أساسي من معالم المصابين بالبارانويا فقد تجلت عند بودلير بعد وفاة والده و زواج أمه بعد ذلك بسنة من المقدم (أوبيك) . كانت هذه الواقعة تهديداً مباشراً لذاتية بودلير و مفهومه عن الحياة و الإنسان و مستقبل مركزيته التي بدا يشعر بها تنسل منه لتستقر في شخص أوبيك و بموافقة و رضى الأم . إذاً كرهه للمقدم أوبيك و الذي رافقه إلى نهايات عمره ليست كما تعتقد المدرسة الفرويدية ناجماً عن عقدة أوديب و إنما عن البارانويا. فحقيقة ارتباط بودلير الشديد بأمه لم يكن حباً بالمعنى الفرويدي , و إنما لكونها المرآة التي يرى فيها عظمته و مركزيته . فالأم بنظره لم تكن أماً فحسب إنما هي أيضاً مجمع الكهنة حيث تبارك فلسفة بودلير و تحاك سيادته على الآخرين . و بتقاعد الأم عن الوظائف المهمة لحياته و تحولها للطرف النقيض له بدأ الاضطهاد يسدل شعوره على نفس بودلير و الأبيات التالية من قصيدته " المباركة" أولى قصائد ديوانه (زهور الشر) تبرز جلياً هذه الشعور : " و تقول ليتني وضعت وكراً من الأفاعي
بدلاً من أن أضع هذا الطــــفل التافــــــه
ملعونة هي ليلة المتعة الزائلة التي حملتها فيها"
و كتب في نفس القصيدة :
" هكذا تزرّدت زبد حقدها
و دون أن تدرك المقدرات السرمدية
هيأت بنفسها في قعر جهنم
المحارق المخصصة لجرائم الأمومة"
بارانويا بودلير بعد هذا البيان الشعري استوفت عناصرها البنيوية لتتحول إلى المستوى الثاني من حياتها و هو مستوى التمظهر و التجلي على الأصعدة الفكرية و الاجتماعية و حتى الاقتصادية . أما معالم البارانويا الفكرية فتتمركز في قصائد بودلير و يومياته . ففي قصيدة المباركة نقرأ الأبيات التالية :
" لكن ملاك خفياً يبسط حمايته على الولد المحروم
فيسكر بالضياء , و في كل ما يأكل و يشرب
يجد الرحيق و شراب الآلهة
يلهو مع الريح و يتحدث إلى الغيوم
و يمشي على درب الآلام و هو يغني"
الملاحظ أنه يتعامل في هذه الأبيات - و هي التي تلت الأبيات التي هجا فيها أمه – مع كائنات ميتافيزيقية ( ملائكة , آلهة ) و يضفي على نفسه صفات غير بشرية( يسكر بالضياء , رحيق و شراب الآلهة, يلهو مع الريح ,يتحدث إلى الغيوم ) إنها بالمجمل ثورة الابن ضد كهنوت الأم لإقصائها عن منصبها و ليبنّي نفسه للآلهة و يحجز مكاناً في عالمها لتكون البرهان و الدليل القاطع على عظمته . ولأن المجتمع يأخذ مكان الأم في المستوى الأخير من الارتقاء النفسي للإنسان فإن بودلير تجنب الاندماج فيه انتقاماً من أمه , منتقداً إياه بعدم الكفاءة و في قصيده " سمو " نقرأ :
طيري يا نفسي بعيداً عن هذه الروائح الكريهة
واذهبي و تطهري في الفضاء الواسع العالي
و ليكن شرابك الإلهي النقي هذا الضياء اللامع"
و بمقابل هذا الترقي عن المجتمع شد بودلير وثاقه أكثر بالسماء كما هو واضح في تلك الأبيات و غاص أعمق في ذاته متواصلاً بكثافة مع أناه ليتعرف على ملكاتها و أسرارها و يعي دوافعه الرئيسية و رغباته و قدراته و يحيط بمجمل الخبرات الحسية و العقلية المعتملة بداخله , و بالنتيجة يدرك شخصيته والوسائل التي تتيح الحضور المميز الذي يشهد له بالعظمة و الانفراد .وفي آرائه حول الجمال يقول في يومياته :" الغموض و الندم هما أيضاً من صفات الجمال" و كلا المفهومين يحملان دلالات إيحائية و يحرضان على التأمل العميق بالذات و الذوات و يفرض على الإنسان طقوس ال وحدة و العزلة . و بودلير يتبنى الوحدة كإحدى شروط عظمته فقد كتب في يومياته : " البطل الحقيقي يلهو وحيداً ". هذه العزلة و الوحدة البودليرية تنجح أن تفلت من فخ الاغتراب و أن تكون " لا انتماءاً" بالمعنى الذي قصده "كولن ويلسون " لأن بودلير يحافظ على نموذج تواصل مع المجتمع لكن وفقاً للعلاقة البدائية من حياته, أي أن يكون هو بؤرة الاتصال و مركزيته , ووضع منهجاً لهذه الغاية أطلق عليها اسم "الداندية " .
الدانديزم : وهي صورة لبارانوياه الاجتماعية , حدها الأدنى تسريحة شعر و حدها الأعلى محاولة الانتحار إذا ما سلمنا بقول " كريبييه" بأن الانتحار هي أسمى تكريس للداندية عن بودلير .
منهج بودلير الداندي هي صيغة متطرفة تبالغ في فرض الذات و تأكيدها في الوسط الاجتماعي بسلوكيات ظاهرية تسدل على نفسها نوعاً من الغرابة و الغموض هي عناصر فلسفته الجمالية , و هي تختلف عن النرجسية كونها تتجاوز انبهار و عشق النفس لذاتها لتبلغ مستوى آخر يمكّن بودلير من أن يمتلك عقاراً في المساحة الفكرية للاخرين يشيد عليه نصبا مضيئا لذاته يُكسبه الخلود في أذهان الآخرين. الدانديزم كمخطط استراتيجي على المستوى الاجتماعي هو ردة الفعل على عقدة الاظطهاد التي احس بها بودلير بعد زواج أمه من المقدم أوبيك لذافهي تسعى الى شحن الذات بطاقة متابعة الحياة لتتحاشى سقوطها في منطقة ما بين الحياة و الموت، هذا السقوط يشبه الى حدٍ ما السقوط في العبثية التي تحدث عنها "ألبير كامو" وجسدها في سيزيف، الأختلاف بينهما هو وجود الأمل في الغبثية وإلا ما كرر سيزيف حمل الصخرة كلما وقعت ، بينما الحياة التي تحاشاها بودلير تفتقد إلى ذالك الأمل ، هناك الرقود والركود فحسب . انها تتطابــق مـع مقولــــة الفيلســــوف الفرنسي "إمـــــيل ميشــيل ســيوران " في كتــــــــــابه "The trouble with being born " : "ما أعرفه في سن الستين كنت أعرفه جيدا في سن العشرين ، أربعون عاما من جهد البحث بكاملها زائدة " ،" ليس هناك تقدم في الحياة ثمة تغييرات صغيرة " . إذا الدانديزم بالظبط هي عقد الحياة بين بودلير و ذاته ، يتيح له العيش وفقا لشروطه وانسجاما مع تكوينه السيكولوجي ، الدنديزم كنظرية في التوجيه السلوكي تحرض على الفرادة الاختلاف لتنصف العالم الى نصفين نصف بودلير ونصف الاخرون، وبودلير يخشى غياب نصفه امام الاخرين ، ويرفض الحضور المشابه ، انه لا يصر الا على الحضور المميز الذي يشهد له بالعظمة " الرغبة يوميا في ان اكون الأعظم بين البشر "( اليوميات ، قلبي عاريا ) .
ان وجود الاختلاف والانفراد يفترض صحوة فكرية دائمة على الذات والخروج من دائرة النشاط العفوي لتجنب التشابه والتماثل المحاكاة والتقليد ، فهؤلاء يقتلون الداندي . وبهذا الشكل يتحول كل اخر من الاخرون الى مرآة يتمعن بودلير من خلالها بذاته ليطمئن على دانديته " على الداندي ان يعمل ما في وسعه كي يكون رائعا باستمرار، عليه ان يعيش و ينام امام مرآة " .
الدانديزم وفقا لهذه الرؤية تبادل بين مستويات ( سيغموند فرويد) اللاشعورية للشخصية، بحيث يصبح (الهو،The id) هو مسيّر الشخصية بدلا من (الأنا،The ego) و (الأنا الأعلى،The super ego)، وتنعكس الرقابة لتفرض على الأنا، وتُلغى الكثير من توصيات الأنا الأعلى لأن كلاهما يحلقان مع السرب ويراعيان القوانين والضمير الاجتماعي ،وهذا يعاكس بودلير الذي يكره الضياع في القطيع والتشابه والتطابق مع أفراده .
سيادة (الهو،The id) انجز اختلاف بودلير وجسده في الواقع لكنها وضعته في مواجهة المجتمع بانساقه الفكرية والاجتماعية والعقائدية كان من نتائجها ان ديوانه زهور الشر لم ينشر الا بعد حذف وتعديلات ، الا ان هذه المواجهة مطلوبة فهو سعى اليها بقدميه ويصنفها كاحدى شروط عظمته " الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة ، إذن لن يكون الرجل عظيما إلا إذا انتصر على أمته جمعاء "
الدانديزم بالمحصلة النهائية تسعى لتوكيد تفوق وعلو بودلير على الآخرين " هل تتصورون دانديا يخاطب الشعب إلا للسخرية منه ؟ " ، "لايوجد غير ثلاثة أشخاص جديرين بالاحترام: الراهب والمحارب والشاعر، أن تعرف وأن تقتل وأن تبدع، أما الآخرون فأنهم صالحون للاستعمال والسخرة ، مخلوقون للأسطبل، أي لممارسة ما يسمى المهن " .
قراءة جان بول سارتر للداندية
جان بول سارتر في قراءته لبودلير حجّم كثيرا الداندية وحرّف من ماهيتها عنــــــدما كتب " إن دانديته دفاع عن خجله " ويراى أن غرابة هندام بودلير وتسريحة شعره التي تلفت الأنظار إليه وميله المفرط إلى الكذب بحسب إدعائه ما هي إلا نشاط داندي مستمر يهدف إلى إبراز بودلير المزيف لحماية بودلير الحقيقي، بودلير المزيّف هو ذلك الرجل الفاقع ، ذو تسريحة الشعر الغريبة ،"اللوطي ،الواشي ،آكل الأطفال " وبودلير الحقيقـــــــــي هـــو " الخجول ، المتألم " وكتب سارتر " ما دامت الثرثرات والشائعات تمّزق الشخص المخترع من بنات الخيال فإن الآخر يظل بمنجى " . إذاً سارتر يرى ان وظيفة الداندية هي حماية بودلير الحقيقي من الآخرين .
الرد
أولاً: هناك قصيدة لبودلير بعنوان " المدمر لنفسه " اشتهرت لشهرة هذه الأبيات :
أنا الجرح والسكين
أنا اللطمة والخــــد
أنا الأعضاء والمبضع
والضحية والجلاد
المدقق ليوميات بودلير وقصائده ومنها هذه الأبيات يتيقن من ان ثنائية الأنا وتناقضها هي ذاتيته ، فهو الخير والشر معاً، لقد كتب عن الشيطان في قصائد كثيرة تارة يذمّه كما في قصيدة "برميل الحقد " ، " شفق المساء " وتارة أخرى يمجّده كمـــــا في قصيـــــــــدة " صلوات للشيطان" ، ومع الله يبتعد ويدنو ، وفي قصائد يهجو عشيقتـــــــــه "جان ديفال" وفي أخرى يثني عليها بحرارة ، وعن الحياة كتب في شذراته "النشوة والرعب من الحياة" وكذلك تقلبه بين حب الجسد وحب الروح ،بين "جان ديفال" من جهة و"ماري دوبرين" و"أبولوني سباتييه" من جهة أخرى، ووقوفه ضدّ الملكية والأنقلابات العسكرية والديمقراطية والبرجوازية. عندما نفهم كل هذه الثنائيات المتناقضة في شخصية بودلير والتي جاهر بها كلها في شعره ويومياته ورسالاته لا يبقى هناك دواعي ومبررات للإدعاء بأن هناك بودلير زائف يحمي البودلير الحقيقي كما رأى جان بول سارتر . وتلك التناقضات الحادة التي ذكرناها في شخصية بودلير هي بالأساس جزء رئيسي من الدانديزم، ومن البديهي أن تكون شخصيته كذلك طالما هي متعطشة دائماً للتمايز والأختلاف ، لأنه إذا وقف مع الخير سيجد الناس طوابير طوابير أمامه ،وإذا أختار الشر فانه لن يتفاجىء بوجود أنصار الشيطان متحاشدين منذ الأزل ، وضمن هذه الرؤية فانه أختار حالة التأرجح بين الطرفين وخذ هذا مقياساً في كل شؤون حياته ،ليرسم هذا المنهج في نهاية المطاف لوحة واحدة هي الأغمض، الأدهش، الأفرد وبالمحصلة الأعظم .
ثانياً : لسارتر مسرحية بعنوان " الجحيم " يرى فيها أن الجحيم هم الآخرون، وبهذا المعنى يكون من الطبيعي أن ينفر الفرد ويمتنع عن الأتصال تجنباً للوقوع في الجحيم،وسارتر يريد ان يسقط رؤيته وربما معاناته من هذا الموضوع على بودلير تحت غطاء الخجل ، إلا ان بودلير رغم تعاليه عن الآخرين فهو بعكس سارتر يتقصد الأتصال معهم لانهم يصنعون المرآة التي تعكس بريق عظمته الذي هو غاية وجوده.
لماذا محاولة الانتحار ؟
كنت قد ذكرت في مقام سبق ان بودلير قد بدل مراكز مستويات الشخصية الثلاثة وقدم الهو على كل من الأنا والأنا الأعلى ، هذا التغيير حرّم الأنا من التمتع بالجنسية الاجتماعية وما نتج عن ذلك من فقدان الا ندماج الايجابي بوحدات المجتمع ومنظوماته وكتم نوازع الأتصال الفطري وتعطل بناء العلاقات الودية مع أفراده ولا سيما في محيط الاسرة وتعمق اغتراب الأنا عن قيم وضمير المجتمع ، وعلى صعيد الأنا الأعلى فقد بقي حقها في مناشدة المثل الاجتماعية العليا محجوباً لانها تسوق الشخصية في النهاية الى حالات التقمص والتشبّه والتمثّل وهي حالات مرفوضة في عرف بودلير .
تسلط الهو المستمر وقمعه الشديد للأنا والأنا الأعلى ومصادرته لهوياتهما دفعهما وبتحريض من قيم المجتمع الى التمرد والثورة ومحاولة قتل الهو فكانت النتيجة محاولة الانتحار ، ولو نجحت تلك المحاولة لكان ذلك انتصاراً رمزياً لأعراف وعادات وقيم المجتمع ، أي انتصاراً للأنا والأنا الأعلى ، وبصياغة أخرى سيادة الهو على بودلير وما صاحبها من انكار للنظام الاجتماعي العام ونزوع سادي تمّثل بدرجات متفاوتة في سلوكيات بودلير تزامن معها في الحقيقة الشعور بالذنب والذي احتدّ في بعض الأحيان ليتجلى في نزعة مازوشية تغلبت على ساديته كما حدث في محاولة الانتحار .
ان في أختيار بودلير للسيف في عملية الانتحار – وهي الأداة التي تشير الى التراث بمجمل قيمه وأعرافه ـــ من بين أدوات وطرق أخرى أسهل في الاستعمال برهان جلّي وتوكيد قوي على ان تلك المحاولة كانت انتقاماً للضمير الجمعي والعرف الاجتماعي ضدّ الهو وتنكرها للمجتمع .
بودلير من صنف الشعراء الذين يكتبو ن مذكراتهم شعراً ، فشعره لا ينفصل عن شخصه وما عاشه في الحياة عكسه في قصائده "اني في هذا الكتاب الفظيع اودعت كل قلبي، كل محبتي ، كل ايماني (مموهاً)، كل بغضائي " وحين قرأ الناقد ( سانت بييف) زهور الشر قال لبودلير "انك قد تألمت جدّاً ولا بدّ يا ولدي المسكين "
بـــــــــودلير أراد من ديوانه (زهور الشر) ان يكون صورة لعظمته كشاعر وإنسان معــــاً ، انها طريقته في الخلود .



#مسعود_أومري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
- من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم ...
- الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
- ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي ...
- حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مسعود أومري - بارانويا بودلير:منهج حياة و منطلق شعر