عبداللطيف أسرار
الحوار المتمدن-العدد: 4057 - 2013 / 4 / 9 - 23:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فــي دولة الاستبداد لا صوت يعلو فوق صوت النظرية الأحادية ,وبالتالي لا مكان للاختلاف في نمط الحكم, تحت أي مسمى من المسميات كان ,وحيث لا مجال للحديث عن البدائل والأخطاء التي قد تؤدي إلى ثورة ضد الحكم أو غليان شعبي لا تدري ركائز دولة الاستبداد إلى أي منقلب تنقلب, وللإنسان آليات ليرفع صوته في وجه الظلم وفي وجه الحاكم المستبد ليقول كلمة لا وبصوت عال طاردا ثقافة الخوف والخنوع ,إلى ثقافة الاحتجاج التي تتربى عليها الشعوب الديمقراطية , تجسيدا لمفهوم المواطنة ,بدل ثقافة الإمعة إن صفق الحاكم صفقنا ,وان أمر أطعنا , طاعة عمياء لا دور للتوافق حولها ,ولا ديمقراطية فيها إلا ما تحمله من اسمها حتى أضحت الديمقراطية بألف وجه وجبة ترتديها
دولة الاستبداد في طلاء تخفي العديد من الأوجاع السياسية والاجتماعية.
والإشكال الذي يطرحه هذا النمط من الحكم معقد في تكوينه وذو أدوات أخطبوطية يصعب انحلاله , وبالتالي صعوبة الحديث عن ثقافة احتجاجية ترقى إلى مستوى التعاقد السياسي والاجتماعي ,نظرا للتوازنات التي تنبني عليها ركائز النظام السياسي في مسك صناعة الشرعية الأقرب إلى وجدان المجتمع ,وبالتالي تمويت الاحتجاج بنشر أوهام الحكم الثيوقراطي والحاكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في محاولة اغتيال أبسط الأشياء التي يملكها البؤساء للاحتجاج ضد بطش الحاكم وزبانيته .
في الحين أن الاحتجاج ثقافة ملازمة للبناء الديمقراطي في سيرورة التشكل المرحلي للدولة في أفق إعادة المفاهيم لصيغها المستعملة بدل المتناقضة تنظيرا وممارسة لخلق وعي احتجاجي مكنون ,يأتي عادة نتيجة هذا الحكم القهري المتسلط تحس به العامة من الناس دون فسحة للبوح بالقهر السياسي والبؤس الاجتماعي , وهي ثقافة تمثلت في ذهنية المجتمع بالفوضى والخروج عن الملة والدين ,ملة الحاكم ودينه ,وهو شعور هيأته ثقافة مشتركة بعامل الآليات السلطوية لشرعنة الممارسات السياسية "الخبيثة" , وبالتالي تماسك دولة الاستبداد تماسكا تهيأ له المجتمع منذ إرساء قواعد الحكم وأنماطه , سواء كان قائما على التوافق أو العنف المادي والمعنوي منه .والحالة هاته تكرس لمعادلات سياسية تعكس واقع فوضى النظام في هدر للحريات والحقوق وقطع الرقاب حفاظا على استمرارية الحكم والحاكم ضد كل المواثيق والعهود التي لم تنبني أصلا على تعاقد سياسي أو اجتماعي ,ولكن كانت نتيجة تعاقد صوري الغلبة فيه للسلطوية والدهاء السياسي الذي يحكم الناس بقبضة من حديد , لذا فالاحتجاج جناية في دولة الاستبداد , ولا مفهوم له ولا مقابل إلا قطاف الرؤوس .
إن الاحتجاج هنا ضرورة حتمية وهي مرحلة تجسد لطبيعة بناء الإنسان الواعي بكنه المحيط السياسي الذي يعيش فيه , مما يجعله يرفض ثقافة الصمت السلبي ,تجاه الممارسات اللاعقلانية , ويرفض الخطاب الأحادي ليرتقي إلى درجة المواطنة التي تنبني على مشاركة المواطن في الحكم ,وتقديم البدائل والاقتراحات , وليس ذلك دائما متاحا في دولة الاستبداد , حيث مفهوم الرعايا هو السائد ,والرعايا لها منطق التبعية والوفاء لا منطق الاحتجاج والنقد.
إن الحاكم ليس دائما على صواب , فمسؤوليته كحاكم تحتاج للاعتراف بالأخطاء , والمحاسبة , فأي حاكم لا يخضع لهذا الثلاثي المنطقي , لا يسعه إلا الدفاع بقوة الحديد والنار عن مشروعه ,ولو كان سيسيل بحورا من الدماء , ضدا على إرادات الشعوب وخياراتها , لان ببساطة دولة الاستبداد مبنية على أشخاص بدل المؤسسات التي تنبثق من الوعي المجتمعي كمؤسسات تحمل الترابط القويم لثقافة المجتمع ,في فهم الحاجيات السياسية والاجتماعية كنمط الحكم وأسلوب التعايش بين مكونات المجتمع , لذا فثقافة الاحتجاج هي القوة القمينة بإعادة الرشد السياسي إلى حضن المجتمع وتصحيح المسارات عبر جسور تمتد إليها أياد الشعوب التي ترزح تحت نيران الاستبداد, علها تفك عقدة الخيوط المترابطة بينها وبين النظام المستبد. ما يجعل معاني الاحتجاج في ارتقاء إلى طابع المسؤولية المجتمعية, ودورها في البناء السياسي للدولة الديمقراطية بديلا عما تحمله الدولة الاستبدادية من أباطيل وأوهام الشعارات الجوفاء ,ومن مكوناتها ما يكفي من تقويضها إلى حيث لا مستقر لها ,لأنها مبنية على أسس البطلان .
وبما أن الاحتجاج ينطلق من التربية كأسلوب حضاري لتقويم الاعوجاج السياسي بالرفض حينا والقطيعة أحيانا فهو ليس بمنطق موسم الربيع والخريف, ولكن هو احتجاج يحمله كل كائن طبيعي في جزء من تربيته السياسية , كنتيجة لاستمرارية الأوضاع الاستبدادية في لبوس عدة, كما ليس بمنطق التأليب والعدوانية , أو احتجاج النخبة في الهوامش ,أو التدافع في إطار التجريب لإعادة إنتاج الآليات السلطوية وإضفاء مسحة الشرعية عليها باسم المجتمع .
ولان الإشكال يتجاوز ضعف ثقافة الاحتجاج في المجتمعات السلطوية ,إلى انعدامه ,من الاحتجاج الاجتماعي التربوي إلى الاحتجاج السياسي ,نظرا للدور الذي تلعبه التربية في ترسيخ المفاهيم وتداولها ,وما يحول دون انغراس ثقافة الاحتجاج والرفض هو طبيعة التكوين النفسي لهاته المجتمعات في إطار مخاصمة الذات بدل التصالح معها , دون إغفال عامل الدولة السلطوية في قمع كل المبادرات الجماعية الآتية بهاته الثقافة التي تشكل أساس ونقيض للبناء الاستبدادي والبديل المستقبلي لها ,وهي ذات اليد الطولى في كبح كل المبادرات الاحتجاجية الشعبية ,طبعا في الدولة الديمقراطية و اللاديمقراطية ,بذرائع الفوضى وحفظ الاستقرار ,ولكن الأهم هو التبادل الاحتجاجي كثقافة أولا وأخيرا ,وهو ما يحدث في المجتمعات الديمقراطية .وهذا التبادل يجابه في الدول الاستبدادية بالعنف دون ترجمته في أرض الواقع الى رؤى تخدم التنمية الشاملة للإنسان ,حيث الهاجس الأمني هو الطابع المميز لهذا النظام العنيد.
ففي الدولة الديمقراطية يشكل الاحتجاج المحرك الذي يستقيم به النظام الديمقراطي ,بعيدا عن ديمقراطية الواجهة ,إلى ديمقراطية التناوب وذلك بعد مخاض عسير من الاستبداد , وحكم الفر دانية ,تأتي إرادة الجماهير للاختيار الحر ,- لا الاختيار القسري ولو انبثق من رحم المجتمع بصيغ الجمع والفرد -, في عمليات لا يمكن اختزالها في الحاكم ومنجزاته بل هي عملية تطورية جاءت نتيجة النظرة التوافقية إلى احترام إرادة الشعوب في العيش وفق أنماط سياسية تكفل الكرامة الإنسانية ,والعدالة الاجتماعية في بساط لا يمكن أن يوصف إلا بالمشهد الديمقراطي بطابعه الواقعي لا المثالي ,ولا يمكن للاحتجاج الاندفاعي المتسم بالعدوانية بالقطيعة من اجل القطيعة والرفض من اجل الرفض دون البدائل التي تنطلق من وعي الشعوب بمراحل التاريخ المحدد لكل عملية انتقالية نحو بناء دولة المجتمع ,
كلها عوامل لها نقط التقاء وتقاطع ,بين السعي إلى أي بناء نريد , حيث لكل بناء نمطه للاحتجاج , من احتجاج تسعى فيه الشعوب إلى الطلاق الأبدي للدولة الاستبدادية ,واحتجاج شعبي عفوي غالبته الطبيعة الإنسانية حبا للارتقاء إلى الأفضل ,إلى احتجاج من داخل عمليات ديمقراطية هي الفاعل الرئيسي في تحريك المطالب وتقويم الاعوجاج , إلى أنماط احتجاجية لا ترقى إلى مستوى التصحيح ولا إلى القطيعة الأبدية ,إلى احتجاجات التنفيس ,والغضب وغيرها من أشكال التعبير عن الرفض للتسلط والهيمنة و عبودية الحاكم.
ولعل الاحتجاج يكشف عورات وهشاشة الأنظمة الاستبدادية التي عمرت لعقود من الزمن والمسألة مسألة وقت ووعي بأهمية الاحتجاج لدى الشعوب في النهوض بأحوالها وأوضاعها لان الدولة الديمقراطية ليست هبة من السماء ,هي ضريبة تؤدى بأثمان تأتي على الأخضر واليابس من أجل التنفس الديمقراطي السليم.
ما أحوج إلى إرادة حقيقية في صنع ثقافة احتجاجية, هي الضامن لاستمرارية الدولة الديمقراطية, صناعتها ومنطلقها من المجتمع, بعيدا عن تصورات الفوضى, المشكلة في المخيال المجتمعي التي تكرسها الأنظمة الاستبدادية في عقول "رعاياها.".
فالاحتجاج بهذا المعنى مفهوم شامل, يشمل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية...وهو مفهوم حضاري لا فوضوي ولا مكان للفوضويين فيه , مما يجعل المتنفس الوحيد للتعبير في وجه الحاكم الطاغي هو التشبع بثقافة الاحتجاج ,
فمبناها ومعناها ينطلق من الاختلاف والرأي و البدائل على كل الأساسات ولو على نمط الحكم ,بشرط التوافق والإرادة المجتمعية المبنية على الوعي ,واستعداد المجتمع بكل مكوناته إلى بلورة فكرة الاحتجاج كبديل للثقافة السائدة منذ ردح من الزمن ,و للإنسان دور في أي عملية للتغيير من منطلق الاستعداد الثقافي والتصالح الذاتي , وإلا أمكن طرح إشكالية الحديث عن بناء الديمقراطية في ظل غياب الشروط الذاتية والموضوعية ,
وبالتالي استمرارية إعادة محطات التاريخ إلى الوراء ,وتأجيل الانتقال إلى الديمقراطية ,والى أجل غير مسمى يأتي اولا يأتي , في مشهد لا حول ولا قوة له ,قبل أن نرفع شعار نكون مواطنين أو لا نكون إلا قطعان تساق كما يساق المحكوم إلى المقصلة أمام الملأ .
#عبداللطيف_أسرار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟