منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 1165 - 2005 / 4 / 12 - 10:50
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يمرّ الشارعان اللبناني والسوري, اليوم, بفترة غليان يُخشى أن تؤسس, إذا لم يُشتغل عليها بدقّة من منطلق الحرص على العلاقات بين الشعبين السوري واللبناني, لعلاقات بينهما أسوأ من أن يريدها أي منهما. ففي الوقت الذي نزلت فيه المعارضة اللبنانية إلى الشارع وراحت تحتشد على خطاب سياسي يضع سوريا كلّها وبالتالي جميع السوريين, المعارض منهم والموالي, صاحب القرار ومسلوب الإرادة..يضعهم جميعا في بوتقة واحدة هي بوتقة العدو, في هذا الوقت يجد الشعب السوري نفسه في موقع الخيبة, فإذا به يطرح أسئلته المرّة على نفسه, أولا, وعلى السلطة السورية ثانيا, ولن أقول سلطته, وعلى الشعب اللبناني ثالثا, أسئلة من طبيعة التالي: ما الذي جنيناه نحن السوريين, نحن الشعب السوري من وجود الجيش السوري في لبنان؟ وهل حقّا أن أبناءنا الذين قُتلوا هناك كانوا عناصر في جيش احتلال؟ وهل تسمية الجيش السوري بجيش احتلال تعود إلى مسألة شرعية دخوله الأراضي اللبنانية أم إلى مسألة شرعية ممارساته اللاحقة هناك؟ أي, هل هو جيش احتلال منذ البداية, أم أنّه تحوّل إلى ذلك عند لحظة معينة؟ أم أنّ شيئاً من هذا القبيل أو ذاك ليس له علاقة في أن يكون الجيش السوري جيش احتلال أم لا يكون, فالأمر وما فيه يعود إلى طبيعة الصراعات اللبنانية التي تجعل منه جيش إنقاذ تارة وجيش احتلال تارة أخرى, وإلى المتغيرات الدولية التي تجعل من وجوده ورقة إقليمية (سورية لبنانية إسرائيلية) حينا, ودولية حينا آخر ؟..وبصرف النظر عن الإجابة بالسلب أو الإيجاب عن أي من الأسئلة المطروحة, فإن أيا من السوريين,- وأعني الشعب السوري, وليس جنرالات السلطة-, لم يُسأل رأيه, في يوم من الأيام, في أن يُرسلَ أبناؤه إلى الموت وأن يشكل لحمهم ودمهم عجينة أحقاد أم لا يرسلون..فهل يجوز والحال كذلك, أن يدفع شعبٌ لا يُسألُ رأيه في أي من قضاياه المصيرية,- ودخول الجيش السوري إلى لبنان و وجوده الطويل هناك, كما خروجه اليوم, قضية مصيرية بالنسبة للشعب السوري, مصيرية ليس من منطلق مقاومة إسرائيل, إنما من منطلق العلاقات بين الشعبين اللبناني والسوري-, أن يدفع ثمن ما يجب أن يُحصّل (هو) ثمنه من السلطة التي تحكمه؟ أقول: يحصّل (هو) ثمنه, وليس أحد ما بالنيابة عنه, لأن الجميع, في الخارج والداخل مشغولون عن الشعب السوري ومصيره ومستقبله وحقوقه بالمساومة على مصالحهم. فالأحداث التي تدور اليوم تبيّن أن الشعب السوري سيكون الخاسر الأكبر فيها, وليس السلطة السورية, كما يتوهم البعض.
من غير المجدي, في ذاكرة العلاقة السورية-اللبنانية الشعبية, البحث عن البادئ والتالي, عن الفعل وردة الفعل. فنحن هنا أمام سلسلة ستنتهي, بإذن إلهٍ ما, إلى الشيطان, سلسلة كل حلقة فيها تولِّد حلقة أخرى من طبيعتها. ففي الوقت الذي يستطيع فيه الكثير من اللبنانيين استحضار أمثلة عن مظالم تعرّضوا لها من قِبل سوريين, أو بفضل منهم (بل الأصح من أجهزة السلطة السورية), تجد لدى الكثير من السوريين العاديين أمثلة ًعمّا تعرضوا له, من طبيعة ذلك وغيره, من قِبل لبنانيين في لبنان وخارجه. وأمّا الخوض في الزمن المؤسس للأحقاد فليس أقلَّ إيغالا في الوحل, ذلك أنّه يعود إلى ما قبل دخول الجيش السوري إلى لبنان بكثير.
قد تجد من ينفّره استخدام مصطلح (الحقد) هنا. لكنني للأسف لا أجد بديلا عنه في هذا السياق. فبمجرد خروج السياسة من المكاتب إلى الشارع, وبمجرد أن يصبح الجمهور أداتها الرئيسة, يصبح حضور العواطف والانفعالات حضورا ضاغطا ومهيمنا, وتحتل الذاكرة موقع الصدارة, وتملي غريزة البقاء خياراتها التي تضع جانبا كلّ شيء آخر. فتنبني الأفعال على ما كان يخيف ويهدد ويثير القلق في الذاكرة, وتدعم الذاكرة هذه الخيارات بوقائع من محفوظاتها مولِّدة قلق اليوم ومخاوفه. فإذا بالعداء فعل مقاومة, بل فعل حياة, وإذا بالعدو القريب ضرورة حياة... ومع ذلك, فلا بد من الاعتراض هنا, لا بد من قول: ولكن!
فثمة عدم تحديد, في حشد المعارضة اللبنانية للناس اليوم, كما ثمة عدم تحديد في استحضار الذاكرة الشعبية السورية لأفعال لبنانية تستنفر العداء, مما يترك للعداء أن يفيض خارج وعاء السياسة, فإذا به يؤسس لسياسة تتسع له, سياسة تتسع للديمقراطية وللحقد معا, كما ثمة في عدم التحديد هذا ما يمكّن العدو الحقيقي من الإفلات, فإذا بأي أحد آخر أو أي شيء آخر يُستحضر ليكون عدوا بدلا منه. فهل ثمة عدو لبناني- سوري مشترك, من شأن الوقوف في مواجهته أن يوحد الشارعين بدلا من أن يفرقهما؟
للأسف الشديد, ليس أمرا بديهيا, على الإطلاق, أن تكون حسابات مصالح الشعب المستقبلية محركا لرافعي رايات الديمقراطية على اختلاف ألوانها, كما هو ليس بديهيا وجود أي عمق وطني أو مصلحة وطنية في الشعارات الوطنية والقومية التي يرفعها نظام لا يرى العالم إلا عبر مصالحه ومصالح أزلامه المقرّبين, وعبر تقوية الأجهزة المعنية بحماية هذه المصالح. وعلى ذلك, فإن تحقيق المطلب الحق بخروج القوات السورية من لبنان ورفع الوصاية السورية عنه بكافة أشكالها يمكن أن يؤدي إلى حرية الشعب اللبناني, وأن يشكّل قاعدة لحرية الشعب السوري من هيمنة أجهزة النظام العسكرية والأمنية, ويمكن أن يؤدي إلى عكس ذلك, أي إلى استعباد الشعبين معا, على أساس من التفريق بينهما وبناء جدار من الكراهية والحقد تفصلهما, تحت رايات وطنية وقومية وديمقراطية, كما على أسس أخرى طائفية وعائلية وميليشوية ومافيوزية وغير ذلك. فإذن, ومرّة أخرى, لا فكاك للبنان من سوريا. ولكن, من سوريا بصفتها تابعة هذه المرّة, وليس بصفتها مُبادِرة.
وعليه, فإذا كان الشعب اللبناني يرى نفسه ضحية, في علاقته بسوريا الرسمية, فمن المؤسف جدا أن يرى نفسه كذلك في علاقته بشعب سوريا. فالأشياء التي تجعل الكثير من اللبنانيين ينزلون إلى الشارع اليوم مطالبين بحريتهم, أشياء يعرف السوريون, جيّداً, ملمسها ورائحتها ولونها وطعمها..أشياء اختبروها, بالمعنى المباشر, على حيواتهم طوال عقود من الزمن وما زالوا يفعلون. ومنه, يكون الشعب اللبناني ضحية من الدرجة الثانية في علاقته بالضحية من الدرجة الأولى-الشعب السوري. وأمّا ترتيب الدرجة هنا فلا يقلل من أهمية المعاناة, في حال من الأحوال, إنما يُقيم بين الضحايا علاقة دم يجري في عروق المستقبل, وواجبات قُربى أقوى من العمومة, بل ومن الأخوّة بالذات. فهل يعني ذلك أنّ على اللبنانيين أن يشكّلوا رافعة لديمقراطية سوريّة منشودة؟ نعم, ومهما بدا الأمر مفارقا, ومثيرا للغصّة, فإنه مطلوب من اللبنانيين اليوم أن يلعبوا هذا الدور! فطالما أن لعبة عسكرة النظام اللبناني ومؤسساته لم تكتمل,- ونرجوا لها بفضل من المعارضة اللبنانية ألا تكتمل-, وطالما أن القضاء على اللعبة الديمقراطية في أدنى حدودها لم يُكتب له أن يُنجز, وطالما أنّ ذاكرة الحريّة لم تحترق بعد, وطالما أن الناس ما زالوا قادرين على الخروج إلى الشارع انتصارا لقيمة الحرية واللعبة الديمقراطية التي تضمن ممارسة هذه الحرية..فلا بد للبنان من أن ينتصر لسوريا! ولكن, هذه المرّة, أن ينتصر الشعب للشعب, وليس السلطة للسلطة. هذا القول لا يعفي المثقفين السوريين المعارضين ولا المعارضين الآخرين, من أفراد وبقايا أحزاب, من مهامهم, ولا يرفع الأوزار عنهم ويثقل بها كاهل اللبنانيين, إنّما يعني أن هناك مطلبا شعبيا سوريا فيما يخرج اللبنانيون اليوم من أجله إلى الشارع, مطلبا يجب أن يّرى بوضوح, ويُعمل على خدمته, خشية أن يؤدي انتصار الشارع اللبناني إلى نقيضه, أي إلى المزيد من التعسّف بحق الشعب السوري.
وهكذا, فإذا كان ثمّة خشية مما يحدث اليوم , فهي في أن يبني الشارع اللبناني معارضته, فقط, على كراهية (السوري) ومطالبه على التضاد مع (سوريا) بصورة رئيسة, ويجعل من حريته حريّة تقوم, فقط, على التحرر من (السوريين), مما يجعل ديمقراطية الغد محكومة بتنظيم هذا النوع من الحرية وإدارته..الأمر الذي قد يعني أن يأتي الناخبون غدا, بنتيجة لعبة ديمقراطية معترف بها دوليا, بمن يُشبع متطلبات كراهيتهم ل(السوري), فإن لم يفلح في ذلك استبدلوا به غيره, غافلين عن أن سياسة من هذا النوع توقع الظلم على الشعب السوري وتجعل منه ضحية ثنائية لظالم ومظلوم.
أخيرا, إذا كان سياسيو التسخين لا يرون فائدة تكتيكية لهم في مخاطبة عقل الشارع المطلوب تأجيج عواطفه الآن, متوهمين القدرة على تغيير قواعد اللعبة وأسسها وقت يشاؤون, فمن واجب المثقفين السوريين واللبنانيين فعل ذلك! وإذا كانت المعارضة اللبنانية لا ترى من مهامها البحث عن أهداف مشتركة مع المعارضة السورية, أهداف تؤدي تلقائيا, إلى الفصل بين النظام والشعب السوري, فمن واجب المعارضة السورية فعل ذلك. أمّا, لماذا لم تفعل المعارضة السورية ذلك؟ لماذا لم تحضر مُمثّلة ببعض أقطابها, أيّاً من لقاءات المعارضة اللبنانية, فسؤال تتباين الإجابات عنه بين غياب المبادرة لدى المعارضة السورية وغلبة الفعل الثقافي عليها وميل المثقفين إلى التنافر والعمل الفردي.
-انتهى-
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟