مصطفى اسماعيل
(Mustafa Ismail)
الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005 / 4 / 11 - 10:30
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يشكل كتاب منير شفيق / في الحداثة والخطاب الحداثي / باعثا على الكتابة المنتقدة لأداء الباحث الذي ينعت عمله ومنذ البداية بأنه جهد معرفي حول بعض أوجه الحداثة العالمية من موقع إسلامي . على أن تحديد المواقع قبل التفكر مقتل للفكر ولصاحبه لأنه يحدد شروطه الكتابية قبل التوغل في موضوعاته .
ثم أنه حين بداية يموقع ذاته , إنما يكون حدد أولياته , ونقاط بحثه والشواهد التي سيتكل عليها حينة البحث . هذا من منظار خارجي حول أسلوبية الكتابة في البحث الذي يفترض فيه أنه علمي , فماذا سنشهد بعد ذا .
عناوين فارهة وكثيرة يدرجها منير شفيق في متن كتابه يصلح كل عنوان لأن يتحول الى مشروع كتاب : الحداثة العالمية , المركز الغربي والأطراف , الليبرالية , الجدانوفية والالتزام , الآخر ( وهذا يستدعي الاستشراق حيث يقرأ الردود حول ادوارد سعيد في ذيل كتابه ) , العولمة , حقوق الإنسان , غارودي وقانون غيسو , في نظرية المؤامرة , الغزو الثقافي , الفلسفة ونهضة الغرب...الخ ما هنالك من عناوين فضفاضة يخال المرء أن المؤلف من نمط المثقفين الشموليين العضويين الذين يغلون في كل القدور .
لكنه يصدمك حين تقرأه بالأحكام الارتجالية والصحفية الاطلاقية التي يبثها هنا وهناك , وهو ما يغفل عنه المؤلف عمدا وينعت بها غيره قصدا .فهو محصن لأنه يكتب من موقع إسلامي .
ينصب منير شفيق نفسه حاميا ومدافعا أمينا عن مقدسات الأمة العربية والإسلامية المنتهكة , ويدق نواقيس الخطر ولا نلمح بين سطوره ثمة حلول يقترحها غير وجبات كلام لا يغني ولا يسمن . فهو يريد لتفكير أبناء الأمة أن يبقى أحادي الجانب وأن تتوقف محاولات الإبداع لأن كل إبداع في عرفه هو محاكاة للغرب . وكل تجديد للغة كوعاء للفكر هو قتل لروح الأمة لا انبعاثا لهذه الروح .
إن مشكلة هكذا خطابات تكمن في أن الايدولوجيا هي التي تتسيدها , ولا أبلغ من هذه الوصاية الفكرية المقزمة للآخر الداخلي والخارجي , حين يلجأ في الفكر وفي كتابة معرفية يدعيها الى قائمة مفردات مثل : اجتناب الباطل وإتباع الحق .
تقوم الكتابة عند منير شفيق على إلغاء الآخر وطمسه وإخضاعه لبروكوست الأمة . على أن ظاهرة الإلغاء والشطب واستنكار الجهد المعرفي للآخر الداخلي تحديدا ليست بالغريبة في بيئتنا .
إذ يعتبر الباحث خارجا على الأمة وعنها كل مفكر عربي ومسلم اعتنق الأفكار الفلسفية أو المنهجية في الغرب . فتكون الخلاصة المميزة لجهده المعرفي !!! هي إخراج المئات لا بل الألوف من عداد الأمة . يقول : " أن تكون ماركسيا – لينينيا فأنت غربي الهوى والحضارة , بالضرورة , حتى لو نظمت أصدق قصائد الحب للوطن والأمة , وصرخت بأعلى الصوت ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية . وأن تكون ليبراليا وديمقراطيا امتدادا لليبرالية والديمقراطية الغربية فأنت غربي الحضارة والهوى " . صـ25
يجب التملص حسب الكاتب من هذا المنتج الذي اسمه الحضارة الغربية الحديثة أو الحداثة الغربية الحضارية وذلك لأنها جاءت " عبر تمازج عناصر دينية وفلسفية لها أصول إغريقية ورومانية ومسيحية كاثوليكية ثم بروتستانتية أنغلوسكسونية , ثم توراتية – صهيونية " . فهو لأنه منطلق من خلفيته الاسلاموية , يجب أن يعادي أي منتج صادر عن ديانة أخرى هذا أولا .
وهو يصنف منابع الثقافة الغربية وبالتالي الحضارة الغربية , فيضعنا في صورة التيارات المسيحية أو الطوائف المسيحية , ويتغاضى – ولا نعلم لماذا – عن مذاهب الإسلام وهذه الانشقاقات الكبرى التي تمت على مراحل في تاريخ الإسلام والتي بلغت أحيانا حد التناحر الجماعي . فهو يذكر دونا حرج الكاثوليكية والبروتستانتية ويستنكف عن ذكر الشيعة والسنة , وفي المذهب السني تنويعاته العديدة , وفي المذهب الشيعي كذلك تنويعاته .
لا يتحلى منير شفيق بالواقعية والعقلانية والموضوعية إذن حين يقرأ الفكر الغربي والحضارة الغربية , فهو مقتطع عن المعرفة ويعيش أزمة كبرى تتجلى في فقدانه لمسالة الإلمام بالموضوع , فليست الحضارة الغربية هي الوحيدة التي كانت خلاصة تمازج عناصر دينية وثقافية وفلسفية لها أصول إغريقية ورومانية . أيضا الثقافة العربية لها أصولها الإغريقية , وجاءت نتيجة تمازج عناصر دينية وثقافية وفلسفية . لا يمكننا مثلا تجاهل تأثيرات الفلسفة الإغريقية على الفلسفة الإسلامية من مثل : تأثيرات أرسطو في ابن سينا وابن رشد , وتأثيرات أفلاطون في الفارابي وآراء أهل المدينة الفاضلة , وامتدادات المذهب الذري لدى الفلاسفة المسلمين , وتأثيرات الفكر الفلسفي الإسلامي على الفكر الفلسفي في الغرب وأوروبا .
كما أن الإغريق استوعبوا أفكار مصر القديمة وبلاد مابين النهرين وطوروها وأضافوا إليها . لن يلاحظ منير شفيق كل ذلك , فهو يتهجم وهو منفعل , فلن يكون بمقدوره الالتفات الى كل تلك المقارنات . لأنه أيضا يعيش في جزيرة مهجورة وحيدا , منقطعا عن العالم ولا يستطيع رؤية العالم إلا عبر كوة الإسلام باعتباره يكتب من موقع إسلامي .
العالم في شعوره الكتابي ولا شعوره الكتابي مجموعة أديان وفلسفات متصارعة بالضرورة , وهذا يشكل قمة القمع الإيديولوجي للآخر . ما اختلاف منير شفيق في ذلك عن مفكرين غربيين أمثال / فوكوياما و هنتنغتون / وأفكارهم عن نهاية التاريخ وصراع الحضارات لا تفاعلها . ليس منير شفيق والحالة هذه غير نسختهم الفوتوكوبي في العالم العربي والإسلامي . يطبلون في الغرب للصراع فيزمر لهم هنا .
ليس لدى منير شفيق وعي عياني . لذا يتخذ من ارتجاله الكتابي منطلقا لشرعنة تردي الأمة وفواتها الحضاري . بتلكم الكتابات الصحفية المتورمة إنما يمارس عملية تخدير لوعي العامة والناشئة . يصفعك مرة لأنه يتلاعب على أحاسيس الأمة ومشاعرها البلورية ويعزف على وترها الحساس أو على نبضها , فتقدم الليبرالية بطبعتها الشرقية – الإسلامية وبقراءة الموقع الإسلامي لها . ويالها من ليبرالية . هنا تغيب الثورة الفرنسية وكومونة باريس والثورات على الكنيسة والإصلاح الديني والاكتشافات الجغرافية الكبرى والأفكار الكبرى لمفكرين كبار : هوبز , روسو , ماركس , أنجلز . لتحضر بقوة أمثلة سطحية وهشة من الشارع الغربي ويتم قرن الأمثلة بالليبرالية : الليبرالية وتناول القاصرات حبوب منع الحمل . الليبرالية ومسألة العلاقات خارج رباط الزوجية . الليبرالية وتفكك العلاقات الزوجية أو الأسرية . الليبرالية والعلاقات الجنسية ضمن الجنس الواحد . ليخلص من ترسانة الأمثلة تلك الى وضع الليبرالية في قفص الاتهام , فلا يجب إذن الأخذ بها لأنها تشجع على تهافت الأخلاق والمدارك الاجتماعية .
هكذا بجرة قلم تختزل الليبرالية وتهمش , ونتناسى عمدا التضحيات الكبرى في العالم الغربي وصولا الى هذا المستوى من التقدم والحضارة . لا يهمنا كل ذلك ما دمنا نفسر العالم ونحن قابعون خلف نوافذنا المغبرة , حيث صورة العالم في أوضح نسخها ضبابية بالنسبة لنا .
هكذا بجرة قلم نقفز فوق الديمقراطية وحقوق الإنسان , المجتمع المدني , كخلاصات جميلة للفكر الليبرالي وتجليات له . نتناسى أيضا متعمدين التطبيق الليبرالي الوحيد في العالم العربي , في مصر تحديدا والذي أطيح به على يد جمال عبد الناصر والضباط الأحرار في ثورة تموز 1952 . يثبت منير شفيق أنه لم يدرس التاريخ والتجارب التاريخية , ففي ظل الليبرالية المصرية صدر كتاب / في الشعر الجاهلي / لطه حسين , وصدر كتاب / الإسلام وأصول الحكم / لعلي عبد الرازق وأثار ضجة كبرى حينها ( عشرينات القرن العشرين ) وكان هنالك فكر حر وتعبير حر عن الأفكار والهواجس , فماذا كسبنا من الإطاحة بالليبرالية غير كم هائل من الشعارات والعنتريات والمزاودات القومية . وأمام نماذج من الدول القومجية الشعبوية البلاغية , وأطنان من الأناشيد المضحكة المبتذلة . انه أنموذج للوعي الكارثي المستسلم ليقينياته الكبرى , فماذا ينتج هذا الوعي غير معرفة سطحية بالغرب الحداثي المبحوث عنه .
ويستهجن شفيق ايلاء الليبرالية أهمية لمسائل كحقوق الطفل والمرأة وحقوق الأقليات القومية . بذا يقدم صورة مشوهة للفهم الإسلامي , وللمفاهيم الإسلامية عن الآخر المختلف , فيكدس بذلك كما هائلا من الوثائق والمستمسكات والأدلة والحجج والبراهين بيد البحاثة الغربيين عن ظلامية الإسلاميين وتخلف الفكر الإسلامي وركوده وسكونيته .
هل يمكن إدراج هذا الكتاب في عداد الكتابات الاستغرابية التي انطلقت في العقدين الأخيرين كونه مخصصا بكليته لقراءة الغرب والتجارب الفكرية والتيارات الإسلامية والاقتصادية والاجتماعية فيه ؟ .. قطعا لا . لأن المؤلف وهو يبحث في الردود على كتاب / الاستشراق / لادوارد سعيد والضجة التي أثارها هذا الكتاب . يطرح ما يمكن إن يسمى مشروع قراءة حقيقية للغرب ويكمن جوهر هذا المشروع في الانطلاق من الآليات والحركة الداخلية للثقافة الغربية . أما قراءتها من الأطراف ومن ذهنية التموقع فلن تدر غير إنتاج خرافات وآراء عابرة .
منير شفيق الذي اكتشف هذه الآلية الكتابية لدى ادوار سعيد وقرنها بنزاهته وشجاعته الأكاديمية لم يستطع أن يمتثل لهذا الأداء , فكان عابرا في كلام عابر , ولم يقدم حتى جملة يمكنها أن تكون ملمة بذلك الغرب الذي قدمه ادوار سعيد .
إن النفس الصحافي في كتابة منير شفيق هي التي قللت من امكان التحليل المتعمق للثيمة , وهو الذي خلا أطروحاته قاصرة وليست بمستوى العناوين الفارهة التي بعثرها هنا وهناك بين دفتي كتابه . فهل يمثل المؤلف والحالة هذه صوته الداخلي وموقفه كإنسان من الأشياء والعالم . أم هو صوت المسلمين والتيارات السلفية في محاولاتها الحفاظ على الصورة الراكدة للعالم في مراياها , وفي أحسن الأحوال ماذا يفعل منير شفيق غير التحليق في فراغ لا نهائي .
الكتاب : في الحداثة والخطاب الحداثي
الكاتب : منير شفيق
المركز الثقافي العربي ط1 – 1999 – بيروت – دار البيضاء .
#مصطفى_اسماعيل (هاشتاغ)
Mustafa_Ismail#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟