|
بحث في طبيعة السلطة في سورية واحتمالات انفتاحها على العصر
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005 / 4 / 11 - 11:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يلاحظ المراقب للشأن السوري، منذ بدء التحولات الديمقراطية الكبرى فيما كان يسمى بالبلدان الاشتراكية السابقة، في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، وبالأخص خلال العقد الأخير منه، وما تلاها من انتقال لعدوى التغيير إلى جميع مناطق العالم تقريبا، ما كان منها قد نسج نظامه على المنوال السوفييتي، أو ما كان منها من دكتاتوريات جاءت بها أمريكا في سياق الحرب الباردة، أن المنطقة العربية عموما، وسورية على وجه الخصوص قد بقيت في منأى عنها إلى حد كبير. ورغم الوضع الدولي الضاغط بعد الحادي عشر من أيلول، والاستراتيجية الأمريكية المعلنة للتدخل، بذريعة محاربة الإرهاب، والتي وجدت تطبيقا مباشرا لها في أفغانستان، ومن ثم في العراق، ظل النظام السوري يراهن على مناعته. غير أن استراتيجية التغيير التي أصبحت دولية، بعد تبنيها من الدول الثماني الكبار، وبعد خروجه مكرها من لبنان، والنجاح النسبي للانتخابات العراقية، وتعديل الدستور المصري بما يسمح بتعدد المرشحين لانتخابات الرئاسة المصرية، والموجة الجديدة من التغيرات التي بدأت تجتاح العديد من الدول، خصوصا تلك التي كانت جزءا من المنظومة السوفييتية السابقة، هذا بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تأخذ بتلابيب الدولة والمجتمع، والناس جميعاً في سورية، كل ذلك جعل المهتمين بالشأن السوري يتساءلون عن مدى استمرار النظام السوري في الممانعة تجاه استحقاقات الإصلاح الضرورية، والعميقة، وفي مقدمتها الإصلاح السياسي. ويبدو لي أن محاولة مقاربة الأجوبة المحتملة لمثل هذه التساؤلات، قبيل المؤتمر القطري لحزب البعث المتوقع انعقاده في أواسط شهر حزيران القادم، والتي تكتسب أهمية كبيرة، لا بد لها أن تبدأ بالإجابة عن السؤال المركزي المتعلق بطبيعة السلطة في سورية، وما تركته من أثار في البنية المجتمعية السورية. في السلطات الاستبدادية، كما هو حال السلطة في سورية، يندمج المستوى الأول للسلطة، والمتمثل بالأشخاص الحاكمين، في المستوى الثاني لها، والمتمثل بمؤسسات السلطة، فتتحول هذه الأخيرة إلى مجرد أجهزة، ويضيق كثيرا المستوى الثالث لها والمتمثل بالتعاقدية، بحيث يركز على ضبط السلطة، ويعيد إنتاجها بالصورة عينها التي يريدها مستواها الأول. ومع أن السمات السابقة تنطبق على جميع السلطات الاستبدادية، إلا أن لها في سورية خصوصية معينة، وإن معرفة هذه الخصوصية، يفسر لنا شدة ممانعة السلطة السورية، حتى الآن، لأي إصلاح عميق وجدي. من المعروف أن تاريخ سورية السياسي منذ الاستقلال عن فرنسا وحتى عام 1970، كان يتميز بسمتين بارزتين: من جهة، كانت السلطة السياسية غير مستقرة، وتخضع لتأثير الجهاز العسكري، الذي بدوره كان يخضع لتجاذبات القوى السياسية المحلية، التي بدورها كانت تتأثر بتجاذبات القوى الإقليمية والدولية. ومن جهة ثانية، كان الحراك السياسي الحزبي يتركز في أوساط الطبقة الوسطى، وفي أوساط الطلبة بصورة رئيسة، وفي أوساط الفلاحين والنقابات العمالية بصورة أقل. ومما لا شك فيه أن هذا التاريخ السياسي كان مدركا ومستوعبا بصورة جيدة من قبل الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي قاد في عام 1970، وهو على رأس المؤسسة العسكرية، آخر انقلاب عسكري، تحت عنوان تصحيح مسار الحزب والدولة، لتدخل البلد والسلطة في مرحلة جديدة نوعيا. لقد كان واضحا للحكام الجدد، ومنذ البداية، أن استمرارهم في السلطة يتوقف على مدى نجاحهم في ثلاث مجالات على الأقل: من جهة، كان لا بد من إخراج المؤسسة العسكرية من دائرة الفعل السياسي. ومن جهة ثانية، كان لا بد من القضاء على الروح السياسية في حزب البعث، وفي غيره من الأحزاب التي كانت قائمة آنئذ. ومن جهة ثالثة كان لا بد من نزع السياسة من المجتمع، وتقديم كل ذلك في إطار أيديولوجي، وسياسي مناسب. في المجال الأول عمدت السلطة ومنذ البداية إلى تضخيم الجهاز العسكري بحجة المجابهة مع إسرائيل، وربطه بالسلطة عبر شبكة من العلاقات التوازنية في داخله، بحيث تلتقي خيوطها جميعها في قبضة واحدة. بالإضافة إلى ذلك، فقد فتحت شهية الصف الأول من الضباط على الثراء بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، وانتقال ذلك بالعدوى إلى مستويات أخرى، وبهذا الشكل تم ربط الكثير من مفاصل الجهاز العسكري بالسلطة من خلال المصالح الاقتصادية. أما في المجال الثاني فقد عمدت السلطة إلى تحويل حزب البعث إلى مجرد جهاز من أجهزة السلطة، فقضت على روحه السياسية، وعمدت إلى تضخيمه كثيراً، ونمت في صفوفه روح الانتهازية، المستندة بالأساس إلى العلاقات والروابط الشخصانية، ذات المرجعية الأمنية. وفي المجال الثالث عمدت السلطة، وبعبقرية تسجل لها، إلى القضاء على الحياة السياسية في المجتمع، من جهة عبر ربط مجموعة من الأحزاب بها، من خلال ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية، بعد أن أرغمتها عمليا على الموافقة على تجفيف منابعها، من خلال حرمانها من العمل في أوساط الطلبة. ولم تكتفي بذلك، بل عمدت إلى تخريبها من الداخل بحيث تحولت إلى صورة كاريكاتورية عن حزب البعث، فعمدت إلى تنمية الميول الانتهازية في صفوفها، وفتحت شهية قياداتها على الثراء غير المشروع، والامتيازات السلطوية المختلفة. ومن جهة ثانية عبر إلغاء الحياة النقابية الحقيقية، من خلال ربط جميع النقابات والتنظيمات المدنية والأهلية بالسلطة، بل تكليفها بأدوار أمنية عديدة، كل في مجاله. ومن جهة ثالثة، عبر قمع القوى السياسية المعارضة لنهجها، بل ولكل رأي لا يروق لها. ولهذا الغرض فقد بنت أجهزة أمنية عديدة، وأهلتها للقيام بهذا الدور بكفاءة، وزودتها بكل ما تحتاجه ماديا ومعنوياً، وحمتها من أية مساءلة قانونية، بل أصبحت هي القانون، وهي فوقه في ذات الوقت. بتكثيف واختصار، يمكن القول أن الراهن السوري يخضع لهيمنة مطلقة لسلطة أمنية قل نظيرها، هي مزيج من الأوليغاركية الأمنية والاقتصادية، حولت المجتمع إلى خواء، يملأه الخوف والسلبية، تديره عبر الفساد وآلياته. في هكذا مجتمع، يفتقر إلى الحياة السياسية الطبيعية، ناسه مجرد رعايا، يلهثون وراء لقمة العيش، ينتظرون مكرمة من هنا، أو حسنة من هناك، بهذه المناسبة أو تلك، مجتمع، هذا هو حاله، لا يمكنه أن يولد قوى تغيير حقيقية، وفاعلة من داخله. في هكذا وضعية كان من الطبيعي والمنطقي أن يبرز الخارج باعتباره قوة حاسمة، لتحفيز التغيير في الداخل، وهو يحفزه فعلاً. ويبقى السؤال إلى متى سوف تظل السلطة في سورية تقاوم التغيير، ومتطلباته، و مستحقاته؟ الم تستنفذ جزءا كبيرا من قدرتها على الممانعة؟، بعد أن أصبحت التغييرات تجري من حولها، وبعد أن فقدت أي غطاء عربي أو دولي لسياساتها، وفي ظل استفحال الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالكيان المجتمعي. أعتقد أن تاريخ الأوليغاركيات في العالم يقدم نوعا من الأجوبة المحتملة. وللأسف الشديد فإن هذا النوع من الأجوبة يرتكز في الغالب الأعم على الدور الحاسم للخارج، وليس للداخل، ويأخذ إحدى صورتين: إما انكسار حاد، أو إعادة تكيف. في الحالة الأولى، تفقد الطغمة الحاكمة موقعها، وقد تفقد بعضا من مصالحها، أما في الحالة الثانية، فقد تبقى في مواقعها الجديدة إلى حين، مع المحافظة على مصالحها. في الحالة الأولى قد يكون الثمن المجتمعي باهظا في المدى القريب، والمباشر، أما في الحالة الثانية فقد يكون الثمن في إطار ما هو مقبول ومحتمل. العامل الحاسم في تغليب احتمال على آخر هو مدى اقتناع الطغمة الحاكمة بجدية المخاطر المحدقة بها. في سورية، وكما يبدو لي، أن السلطة الحاكمة، أو على الأقل القوى الحاسمة فيها، قد أدركت أخيرا جدية المطالب الدولية لها بالتغيير، وهي تعد العدة لعملية إعادة التكيف معها، وهذا ما سوف يشكل الشغل الرئيسي لمؤتمر حزب البعث القادم. ومع أن المسألة برمتها لا ترقى إلى مستوى اليقين، فهي مع ذلك على درجة عالية من الاحتمالية الممكنة والمتوقعة. ومما يزيد في ترجيحها حقيقة غياب البدائل الممكنة من خارج السلطة ذاتها، الأمر الذي يجعل قوى الضغط الخارجية تركز جل اهتمامها على انفتاح النظام ذاته. لقد امتنعت القوى الوطنية والديمقراطية في سورية، حتى الآن، عن تشبيك مطالبها وتحركاتها مع القوى الخارجية. هذا لا يعني أبدأ أنها لا تريد الاستفادة من المتغيرات العالمية لجهة الحد من الطلب على الأنظمة الاستبدادية، لتسريع التحولات باتجاه الحرية والديمقراطية في سورية. بل، وفي حال استمر النظام في عناده، وإصراره على تجاهل مطالب الشعب السوري، الذي عبر عنها مثقفوه، والقوى السياسية المعارضة بكل أطيافها، فسوف يكون الاحتمال الأول هو الأكثر رجحانا. وإذ تدرك قوى المعارضة السورية أن وراء مطالب أمريكا والغرب عموما، لإجراء إصلاحات جدية وعميقة في بنية الأنظمة العربية، خصوصا لجهة فتح هذه الأنظمة على الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، الرغبة في البحث عن إدارة مصالحها في المنطقة بطريقة جديدة، وآمنة، فإنها تجد في ذلك، من الناحية الموضوعية على الأقل، نوعا من الدعم لمطالبها الخاصة في الحرية والديمقراطية. وفي هذه الحالة سوف يطرح بقوة خيار تشبيك قوى الداخل مع قوى الخارج لتحقيق التغير المطلوب، حتى ولو أخذ شكلا حادا. لقد طالبنا، وفي أكثر من مناسبة، بضرورة أن تبادر السلطة للحوار مع القوى الوطنية والديمقراطية في سورية، من أجل التوصل إلى مشروع وطني للتغير، متدرج وأمن. ونقول لها الآن عليك أن تسارعي إلى الحوار مع شعبك، عبر قواه الوطنية والديمقراطية، للخروج من الأزمة الراهنة التي وضعت البلد والشعب فيها. ولن يكون للحوار أي معنى إذا لم يتركز حول مسائل الإصلاح الجدي والعميق، وفي مقدمته الإصلاح السياسي. نحن ندرك جيدا حجم الضغوطات التي تتعرض لها سورية، تحت شتى الذرائع، وندرك أيضاً أن أمريكا لا يهمها سوى مصالحها، ومصالح إسرائيل. لكننا ندرك أيضا أن الشعب غير الحر، لا يستطيع الدفاع عن مصالحه ومصالح بلده.
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حتى لا يخطئ أحد في قراءة التحركات الشعبية
-
نحو حزب بلا تاريخ-ضروراته وهويته
-
مبروك للشعب المصري
-
حرية المرأة من حرية الرجل
-
اغتيال الحريري:اغنيال لمشروع العلاقات المميزة
-
حول محاضرة نائب رئيس الجمهورية العربية السورية السيد عبد الح
...
-
كيف ستبدو سورية بعد الانسحاب من لبنان
-
مستقبل العلاقات السورية اللبنانية
-
ملاحظات على البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماعي السو
...
-
ملاحظات حوا البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماعي 2
-
ملاحظات على مشروع البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماع
...
-
حول الإصلاح في سورية: رؤية من الداخل
-
الديمقراطية ذات اللون الواحد
-
هواجس لتطوير التعليم العالي والبحث العلمي في سورية
-
القوانين الاستثنائية في سورية
-
نحو وحدة وطنية قائمة على التنوع
-
نحو رؤية وطنية ديمقراطية للإصلاح
-
لجان إحياء المجتمع المدني في سورية والمسؤولية التاريخية
-
سياسة كسب الأعداء
-
المياه العربية: الأزمة، المشكلات، والحلول
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|