|
في أصل -السينيكية- الشعبية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005 / 4 / 11 - 11:19
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
وماذا لو حكم الشيوعيون أو الناصريون... أكان للنتيجة أن تكون مختلفة؟ يتواتر طرح هذا السؤال الاستنكاري بصيغ مختلفة من قبل سوريين متنوعين، أغلبهم أفراد متعلمون، متشككون ومعترضون على الأحزاب جميعا. وتتساءل تنويعة اخرى للسؤال ذاته: ماذا استفدنا من الأحزاب؟ كلهم مثل بعض! تختلف هذه التنويعة بأن من يطرحها في الغالب جمهور متقهقر، امي أو شبه امي، مديني وريفي، استفاد قليلا من السياسات الاقتصادية الشعبوية في الماضي ويتضرر كثيرا من السياسات الانفتاحية اليوم. وهناك ايضا تنويعة "عالمة" من التشكك ذاته، يروجها مثقفون ذوو سوابق حزبية في سياق التأزم الدائم للعلاقة بين السلطتين الحزبية والثقافية. ويتوحد الجميع في أن غرضهم ليس الدفاع عن حزب البعث ولا منح حكمه شرعية تحصيلية (شرعية الأقل سوءا)، بل التشكيك في ونفض اليد من الأحزاب الأخرى ومجمل النخب السياسية التي عرفتها سوريا. وقد يمضي البعض إلى حد اعتبار الأحزاب المعارضة للنظام محض طامحة إلى السلطة، أو حتى راغبة في بعض المناصب. يقتصر اهتمام هذه المقالة على التنويعتين الشعبيتين للتشكك حيال الأحزاب. التنويعة العالمة مسألة اخرى.
يتكرر الموقف المتشكك هذا بصيغ متقاربة، وبالنبرة المرتابة والمزدرية ذاتها، منذ ثلاثة عقود على الأقل، ما يشير إلى أهمية ما يضمره. ومع ذلك لم يتم تناوله ومحاولة استخلاص شيء ما منه من قبل الأحزاب السياسية ومثقفيها وكوادرها. الطرف المخاطب بالسؤال هو أعضاء الأحزاب المعنية، الشيوعيون بخاصة، لكن أيضا الناصريون، وأحيانا الإسلاميون. ورغم ان أحزابا سورية معارضة عديدة، قد تعرضت لضربات قاصمة من قبل الحكم البعثي خلال عقود العهد السابق، ورغم أن المئات من أفرادها عانوا منه الكثير ودفعوا ضرائب باهظة جزاء معارضتهم له، فإن شيئا لم يتزحزح في هذا الموقف المتشكك، القاسي. قد ينال أفراد اعتقلوا وعذبوا الاحترام والعطف، لكن قلما ينسحب هذا الموقف على احزابهم. يعكس السؤال انتشار مزاج "متحرر من الوهم" أو "كلبي" (سينيكي: يرى المصالح الشخصية والدوافع الدنيئة وراء الإعلانات النبيلة والافعال الغيرية ظاهريا) في اوساط واسعة من الجمهور السوري. ينتشر هذا المزاج عادة في ظل الأنظمة التسلطية الشعبوية والشمولية، حيث استخدام الشعارات الغيرية لتحقيق مصالح أنانية خبرة عامة ومتكررة. لقد كانت السينيكية الشعبية أبرز ملح للوعي الاجتماعي في بلدان "الديمقراطية الشعبية". ويمكن القول إن ما تنطوي عليه السينيكية من استهتار ولا مبالاة وارتياب بجميع الناس وبجميع القيم هو طابع الأخلاقيات العامة في ظل أنظمة الاستبداد العقيدي التي تنتحل الفضائل جميعا. فالسينيكية، حيال سلطات عقيدية وعنيفة من هذا الطراز، قناع يمكن من ورائه نقد السلطة دون استجلاب غضبها المهلك، وفي الوقت ذاته تحمل الهزيمة أمامها دون احتقار الذات. وإجمال المعارضين في الموقف من السلطة في سوريا ينبع من مشاركتهم في عقيدية عالية النبرة، وفي مماهاة أنفسهم بالفضائل كلها، وفي تمحور تفكيرهم حول السلطة. فقد علمت التجارب السوريين أن ثمة تناسبا بين تشدد النزعة الاعتقادية وبين الانشداد للسلطة والتوق إلى "الوصول" إليها، أو أن احتكار الحقيقة ينتمي إلى عالم احتكار النفوذ والمال وفرص الحياة، لا إلى العالم الأخروي والغيري الذي يعد به دعاة "الحقيقة" عادة. ومن هذا الباب بالذات يمتد التشكك إلى كل "المناضلين" والدعاة، بالخصوص أصحاب البلاغ العقيدي. بيد أن "سينيكية" السؤال لا تقول شيئا عن دوافع تشككه في افراد وجماعات محسوبة على النخبة السياسية. إنه كما ألمحنا تشكك متعلمين حيال حزبيين ومثقفين ونشطاء، وريبة مواطنين فرصهم محدودة للمشاركة في السلطة والثروة حيال افراد ومجموعات تبدو فرصهم واعدة، وربما مضمونة للانضمام إلى تلك النخبة المحبوة. يتعلق الأمر بدوافع اجتماعية و"طبقية" بالفعل. إذ يبدو لعين الفئات المحرومة أن تناقض هؤلاء مع النخبة المسيطرة والممتازة أدنى من تناقضهم مع الكتلة الشعبية المكونة من حائزين على تعليم لا يتيح لهم فرص ترقي مهمة (عاملون مستقلون وبرجوازيون صغار)، أو أميين يعيشون من ملكيات صغيرة، أو موظفين صغارا في التعليم والجهاز الإداري. وبلغة بيير بورديو، يبدو جامعيون ومهنيون ومثقفون أعضاء في تنظيم معارض قسما مسودا من النخبة السائدة الحائزة على السلطة والثروة، في عيون المحرومين من الاثنتين الذين تنفلت شروط حياتهم من بين ايديهم دون أن يستطيعوا فعل شيء. والتفسير الجاهز لسلوك تلك الشريحة الحديثة، المثقفة والجامعية، بالرغبة في المناصب والسلطة مؤشر دال على اعتبارهم جزءاً من النخبة السائدة. وينال هذا الموقف تعزيزا من حقيقة أنه لا يفتقر إلى أساس تجريبي. إذ قلة هم المثقفون والكوادر الحزبيون الذي أداروا ظهورهم لفرص المال والسلطة حين سنحت. من جهتهم، يميل المثقفون والجامعيون والمهنيون المعارضون إلى التركيز على ما بذلوا من "تضحيات"، وإبراز عنصر مواجهة السلطة وما يتضمنه من مخاطر عليهم، والتقليل من شأن الفرص المتاحة لهم للترقي. لكن من الناحية التجريبية فرصهم للعمل والكسب أحسن بالفعل، وهوامش حركتهم أوسع، ودخولهم أعلى من دخول كتلة الموظفين والعمال. ورغم انهم في بلد مثل سوريا ليسوا جزءا مشاركا بصورة فعلية في النخبة السائدة بحكم جمود دورة تداول النخب في البلد، فإنهم بالقطع ليسوا جزءا من الأوساط التي انسدت آفاق ترقيها أو المهددة بالهبوط، إن في مستويات حياتهم المادية أو في انماطها الثقافية (أذواق فنية وطعامية، أشكال سلوك، لغة تخاطب، ازياء، طرق التمتع وقضاء اوقات الفراغ). ومن هذا الباب، وليس من باب ديني او قيمي، ينصب التشكيك على الشيوعيين أكثر من غيرهم. ففرص الشيوعيين للانضمام إلى النخبة أكبر بحكم أن المستوى التعليمي لأكثرهم أعلى من الوسطي الاجتماعي، وبفضل حيازتهم "رأسمالا ثقافيا" يفتح لهم ابواب دخل وترق أكثر من غيرهم. ولعل دافع المشككين بالشيوعيين أقوى لأن الأخيرين هم الأكثر تركيزا على الدوافع الغيرية، والأكثر تجاهلا لميزات وضعهم الإيجابية، والأكثر حرصا في الوقت نفسه على تميز نمط حياتهم. هذا لا يعني أنه ليس هناك عنصر ثقافي، قيمي أو ديني، في هذا الموقف الشكاك والعدائي؛ ما يعنيه بالأحرى أن العنصر الثقافي مكون لذاك الموقف "الطبقي"، مشتق منه ومندرج فيه، وليس مستقلا عنه أو سابقا عليه. العنصر الثقافي يتمم ويضفي الشرعية والثبات على مواقف وأوضاع لم تنشأ عنه. إنه العنصر الذي يرقي فرقا ماديا كميا إلى مستوى فرق اجتماعي نوعي، ويقفز بفرق في الدخل وفرص الدخل إلى مرتبة فرق بين صنفين من البشر. ولا يكون العنصر الثقافي مستقلا وأوليا إلا عند المشتغلين بـ"الرأسمال الديني"، من مشايخ وخريجي شريعة وأئمة جوامع..، وهؤلاء يجدون في الشيوعيين والعلمانيين خطرا وجوديا، اي تهديدا أكثر جذرية لنمط حياتهم ولفرصهم في الترقي ولقاعدتهم المادية. ومن هنا جذرية وعقيدية وإطلاق موقفهم منهم.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وطنية تخوينية أم خيانة وطنية؟!
-
جنون الاستهداف والعقل السياسي البعثي
-
في استقبال التغيير: ليس لسوريا أن تتخلف!
-
ما بعد لبنان: سوريا إلى اين؟
-
على شرف حالة الطوارئ: حفلة لصيد -الخونة- بين قصر العدل وساحة
...
-
نحو تملك عالمي للحداثة والتغيير تأملات حول شيوعية القرن العش
...
-
نقاش حول الدين والثقافة وحرية الاعتقاد
-
تسييس العلاقة السورية اللبنانية
-
ما بعد الحقبة السورية: تحديات الوطنية اللبنانية الجديدة
-
أمام الأزمة وجهاً لوجه
-
من يقتل رفيق الحريري؟
-
الإعلام الفضيحة: ماذا فعلت جريدة -تشرين- بالحوار مع الأسير ا
...
-
السجناء السوريون في إسرائيل أو موقع الجولان في الوعي السوري
...
-
دولة مؤسسات أم دولة أجهزة؟
-
في ذكرى انتفاضة الجولان: الشجاعة وحدها لا تكفي!
-
موجتان لنزع العقيدية في الثقافة السياسية السورية
-
نظام اللاسياسة: العنف الطليق والعقيدة المطلقة
-
ضد الحرية وليس ضد -الحرة-
-
عشر أطروحات حول السلطة والندرة
-
موقع الثقافة في مشروع الإسلاميين السوريين
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|