|
الإلحاد ومعنى الحياة
ليث البرزنجي
الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005 / 4 / 11 - 11:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن إحدى أكبر الإعتقادات الخاطئة وأكثرها شيوعا حولنا معشر الملحدين هي الإفتراض بأننا نفتقر أو ليس لدينا أي احترام لقيمة الحياة، سواء أكانت حياة البشر أو الكائنات الأخرى. ولأننا نؤمن بأن الحياة قد نشأت بسبب صدفة عشوائية تولدت من توافر مجموعة مقومات في الطبيعة كانت ملائمة لانبثاق الجيل الأول من الكائنات أحادية الخلية، فأن هذا يُفسّر من قبل الآخرين على أنه اعتراف من الملحدين بأنه لا معنى ولا مغزى للحياة وأنها مجرّدة من أية قيمة، وأنه لا يمكننا نحن الملحدون أن نكتسب أي متعة أو رضا أو سعادة أو شعور بالإنجاز المتأتي من كينونة الحياة كما يفعل الدينيون، وأننا لا نبالي بمعاناة وألم الآخرين، لأنه في نهاية الأمر سيصبح الجميع طعاما تقتات عليه الديدان والبكتريا.
طبعا هذا الكلام، وبكل بساطة، محض هراء.
نعم، الحياة على هذا الكوكب مصادفة محظوظة، مثلها مثل عدد لا يحصى من المصادفات الأخرى المشابهة التي تولد عنها نشوء الحياة في أماكن أخرى من هذا الكون الشاسع. ليس وراء هذه المصادفة أي معنى أو مغزى خاص أو استثنائي - ولماذا يجب أن يكون؟ فالحياة على كوكب الأرض محصورة بداخل ما يعرف بالمحيط الحيوي (Biosphere) الذي يمتد من أعلى نقطة في الغلاف الجوي، على ارتفاع 20 كم فوق سطح البحر، وحتى أعمق نقطة في خندق ماريانا في غرب المحيط الهادي (حوالي 11 كم تحت سطح البحر)، وهذا المحيط الحيوي في نهاية الأمر ما هو إلا قشرة كروية رقيقة جدا تغطي سطح الكوكب، وذات سمك صغير جدا (31 كم) مقارنة مع نصف قطر الكوكب (6378 كم)! ثم يأتي كوكب الأرض نفسه الذي يشكل، بكل ما عليه، جزءا صغيرا للغاية من المجموعة الشمسية، حيث يمكن مقارنته بحبّـة ذرة موجودة على بعد 82 مترا من مركز ساحة دائرية نصف قطرها حوالي 4 كم! والمجموعة الشمسية نفسها ما هي إلى نقطة ضئيلة للغاية على طرف إحدى الأذرع الخارجية لمجرّتنا الحلزونية (المعروفة بـ "درب التبـّـانة")، والتي هي بدورها واحدة من بلايين وبلايين المجرات الموجودة في الكون. في ضوء كل هذا، ما الذي يعطينا الحق في اعتبار أنفسنا حالة خاصة وأصحاب أهمية مركزية في الكون، لدرجة الإعتقاد أن الحياة على هذا الكوكب لا يمكن إلا أن يكون لها مغزى أو معنى أو هدف أسمى، كما تدّعي الأديان؟
رغم هذا فأنني أعتبر الحياة (رغم عبثيتها) مقدّسة جدا. فنحن الملحدون على يقين بأننا نحظى بفرصة واحدة فقط للحياة - فرصة واحدة لا غير. فلا حياة أخرى ولا بعث أرواح ولا جنة ولا نار وما إلى ذلك. الحياة مباراة من جولة واحدة، لذا فمن المؤسف جدا أن يبعثرها المرء أو يضيعها سدى.
لذا، فلإعطاء هذه القدسية حقها الكامل، على المرء أن يستغل فترة وعيه الوجيزة جدا ككائن حي إلى أبعد الحدود. ثقـّف نفسك وعلـّمها، عزيزي القارئ، ليتسنى لك رؤية عجائب هذا الكون لما هي عليه فعلا، بمنأى عن ضباب الفكر الديني. إسبح في المحيط الهندي... راقب غروب الشمس في وادي رم... دغدغ رضيعا... تسلق شجرة أو جبل... تعلـّم حرفة يدوية كالنجارة أو الفخارة... إشتر منظارا ودليل فضاء وفلك للمبتدئين وتمعن في أعماق الكون وابحث عن كواكبه ومجراته... كن سببا لتحسين حياة غيرك من الناس الأقل حظا واكتسب من عملك هذا المتعة والرضا، فهناك الكثير من البشر الذين يعيشون في ظروف من السوء لا توصف، ويكسبون في أسبوع ما قد تكسبه أنت في ساعة (هذا إن كانوا يكسبون شيئا أصلا)... تبرع بالدم بين الحين والآخر إن كانت صحتك تسمح... إدعم ميتما أو داراً للعجزة... إلخ...
ما يثير غضبي فعلا هو الإعتقاد الغريب السائد بين أغلب الدينيين بأن الملحدين هم ليسوا سوى اناساً تعيسين مكتأبين مليئة نفوسهم بالغم والأنانية الشديدة ولا يفكرون بأحد سوى أنفسهم ويتسكعون بلا هدف في هذه الحياة.
طبعا لا داعي للقول بأن هذا الكلام ليس سوى مزيد من الهراء ودليل حماقة وضيق أفق.
أحد الأسئلة التي يطرحها علي الدينيون بكثرة هو السؤال التالي:
"لماذا أنت مكترث أصلا؟ إذا كانت الحياة برأيك هي مصادفة عشوائية لا تحمل معنى أو غاية أسمى، لم لا تنهي حياتك الآن؟ ما الذي يمنعك من ذلك إذا كنت على يقين أن الموت قادم لا محالة وأنه لا توجد حياة آخرة أبدية بعد ذلك؟"
جوابي على هذه التساؤلات يكون عادة بشكل سؤال أطرحه على السائل، وهو:
"هل قمت يوما ببناء تمثال ثلج أو قلعة من الرمال على الشاطئ؟"
هذه الأشياء، كالحياة نفسها، زائلة بدون شك - تذيبها الشمس أو يمحيها المد. هي أشياء ليس لها غاية أو هدف أسمى، وبعد زوالها لا يتبقى أي أثر يدل على وجودها الذي دام ساعات أو أيام قليلة. إلا اننا نبني تماثيلا ثلجية أو قلاعا رملية لأننا، دينيين كنا أم ملحدين، نعيش في هذا المكان الصغير جدا من الكون وفي هذا المقطع الزمني القصير جدا من عمره. في ضوء حياتنا الفانية القصيرة جدا نسبيا، نستطيع كبشر أن نتمتع معظم الوقت بهذه الحياة بالقيام بأعمال لا معنى لها لمجرد كونها ممتعة. فمن الممتع بناء تمثال ثلج أو قلعة رملية، أو تسلق جبل، أو مشاهدة الغروب، أو رمي قطعة حجر مسطحة ومشاهدتها تتقافز على سطح الماء، أو تطيير طائرة ورقية، أو الخروج في رحلة إلى الطبيعة أو الريف للتنزه أو ركوب الدراجات. هذه الأعمال، بطبيعتها، ليس لها معنى أو غاية أو هدف أسمى في انتظار أن يُحرز أو يتم تحقيقه - بل هي أعمال تكتسب معناها وقيمتها مما تعنيه لنا ومن تأثيرها المباشر علينا. أنا لست قلقا جدا حول مستقبل سيأتي بعد خمسين بليون سنة. ما يهمني هو مستقبل البشرية الآن - مستقبل الأجيال الحالية والتي ستأتي بعدها. هذا هو جوهر معنى الحياة الفانية، وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعلني، كملحد، مكترثا ومهتما جدا بهذه الحياة ومستعدا أن أبذل أقصى جهدي للإستفادة البناءة من هذه الفرصة التي تمنحها الحياة لي.
خلاصة الأمر هي أن وجود الحياة نفسه ليس له معنى، ولا الكون له غاية أسمى في انتظار أن تتحقق. إلا أنه يمكنك كإنسان حي، عزيزي القارئ، أن (تــَعـطـي) للحياة معنى من خلال أفعالك، بجعل العالم مكانا أفضل لك ولأقرانك ولذريتك.
هناك الكثير من الملحدين، أكثر بكثير مما تصوّره الإشاعات والإعتقادات المغلوطة التي تبثها الدعاية الدينية، ممّن يعيشون حياة متكاملة وممتعة وبنـّاءة أخلاقيا واجتماعيا واقتصاديا، لأننا معشر الملحدين نعرف يقينا أن هذه الحياة هي فرصتنا الوحيدة للقيام بعمل الخير لأنفسنا ولغيرنا. فنحن مثلا لا نؤمن أنه هناك أي فائدة ترتجى من الدعاء والصلاة للبشر الذين يموتون كل يوم في بعض بقاع العالم بسبب الجوع أو الجفاف أو العنف أو غيرها من الأسباب. فلا إله موجود لمساعدتهم - البشر فقط يستطيعون مساعدتهم ولا غير. عندما تحدث كارثة كبيرة في مكان ما من العالم، فأن أكثر ما يثير الغضب والإشمئزاز عندي في آن واحد هو ظهور أحد السياسيين أو رجال الدين على الملأ أو في أجهزة الإعلام، ليخبرنا بأن الضحايا والمتضررين بحاجة ماسة إلى دعائنا وصلواتنا. لا هم ليسوا بحاجة لها. ما هم بحاجة إليه فعلا هو أن يقوم أحد بالبحث عنهم وانتشالهم من تحت الأنقاض، أو مواساة وتعزية العوائل المنكوبة، أو البحث عن الأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة، أو توفير الطعام والدواء والمأوى للجرحى والمتشردين. الدعاء والصلوات هي مجرد كلام فارغ لا يقدم أي فائدة للضحايا كالتي تقدمها هذه الأعمال الملموسة التي يقوم بها البشر. هناك، على سبيل المثال، عشرات بل مئات من دور الأيتام في بعض دول العالم الفقيرة. الأطفال هناك ليس لهم عوائل بالمرّة، ويعيشون بأعداد كبيرة في أبنية صغيرة مهترئة تكاد لا تتسع لهم. هل هؤلاء الأطفال بحاجة إلى الدعوات والصلوات والقرائين والأناجيل وغيرها، أم هم بحاجة إلى المال والطعام والشراب والملبس والحب والحنان والكلمة الطيبة، ومن ثم إلى التعليم؟ السؤال يجيب عن نفسه.
ختاما أقول أنني كملحد، أقدّس الحياة. فالحياة والعقل والذكاء الذي نتمتع به نحن جنس البشر هي أشياء من المؤسف إضاعتها واستهلاكها وتبذيرها في التحضير لحياة افتراضية أزلية يُدّعى، بدون ذرة دليل عملي واحدة، أنها تبدأ بعد الموت. إستفد قدر المستطاع من حياتك الحاضرة والملموسة، عزيزي القارئ، فهي الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الشك. وأعمل مع غيرك وساعدهم ليقوموا بنفس الشئ. هذا هو معنى الإنسانية وهذا هو هدفها الأسمى، فلا هدف أسمى ولا معنى أكبر.
أترك بصمتك على هذه الحياة قبل رحيلك، وكن قدوة لمن بعدك، فلن تتوفر لك فرصة ثانية لتفعل ذلك.
فمعنى الحياة ومغزاها، هو أن تعيش حياة ذات مغزى
#ليث_البرزنجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهزلة المعجزات وعجرفة التفسير
-
ملايين وبلايين
-
خواطر علمانية
-
إسلام الغربيين وهستيريا الإعلام العربي/الإسلامي
المزيد.....
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|