نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1163 - 2005 / 4 / 10 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم أكن أدري أننا وصلنا درجة من الرقي والحضارة والمدنية المتقدمة إلا منذ فترة وجيزة ,وبعد أن بلع الجميع "المقالب الكبرى" ,ولكن دون أن يهضموها على أية حال ,بحيث أن جميع البرامج التي تبث في قنوات الإستهبال مخصصة أربعا وعشرين ساعة للأطفال ولا تخاطب إلا عقولهم, ولا تهتم إلا بهم ,ولا تتوجه إلا إلى أدمغتهم وآفاقهم المتواضعة,وأما الصحف المحنطة فما زالت تروي القصص الرومانسية ,والفوازير الخيالية ,و"الحتوتات" الحلوة ذات النهايات السعيدة للأطفال عند المساء.
فكثيرا ما قلبت أمهات الكتب ,وفتحت عشرات القواميس والمراجع ,واستعنت بعدد لا يحصى من الخبراء والمختصين ,وراجعت عشرات المكتبات بحثا عن مفهوم المرحلة التاريخية الذي كان يطبل به المطبلون عند الصباح ,ويزمر به المزمرون عند المساء, ,ولم أستطع التوصل أبدا لحل لهذا اللغزالغامض والسر الجامد . وكثيرا ماصُدعت رؤوسنا حين كنا نجلس في حلقات من الورع والصوفية الوطنية حول قناة البث الوحيدة , مصلوبين ومرعوبين من كتبة التقارير مخافة أن يفوتنا حرفا واحدا من الدرر الثورية والنفائس الأدبية التي كانت تتلى من الأسفار القومية ,وكانت تسهب في الحديث عن المرحلة التاريخية التي يجب أن يعي الجميع أبعادها وخطورتها ,وإلا فالدوريات تنقله مجانا وعلى نفقة الثوار إلى "الأجنحة الفخمة" الظلماء حيث ينعم الضيف بإقامة طويلة لا يزعجه فيه سوى الجرذان, والذباب الأزرق الطنان.وكان كل ذلك يتم وفق طقوس من اليوغا الوطنية الشاملة في جلسات التسمر أمام التلفزيونات, وكانت المسيرات والهتافات الحمراء هي الفواصل "الترفيهية",و"الكوميرشال" البرجوازي الوحيد بين فقرات المحاضرات. وكان المذيعون المتجهمون الذين يشبهون الخفراء,وحفاري القبور في الجبانات, والعياذ بالله ,يصدحون بهذه الأحاجي والألغاز وسط صمت مطبق وبلاهة خرساء من المشاهدين المعترين "الكرام". حيث كانت دقة المرحلة التاريخية تقتضي ألا يأتي أحد بأية "حركة",وألا يغلق رموش عينيه الزائغتين في الأفق ,والمحدقتن طويلا في الفراغ ,لأن ذلك سيؤثر حتما على المسيرة التاريخية في المرحلة التاريخية التي تستمر منذ عقود بلا انقطاع والبائس المقطوع قابع يتجرع المواعظ القومية ,وكرامات الجنرالات ,التي تحقنه بالمخدرات الظلامية السوداء,وتُمنيه بالوعود والأباطيل والأحلام .
ومع مرور الزمن ,والتاريخ اتضحت ملامح وخصائص وسمات المراحل التاريخية التي أصبحت تعني فيما تعنيه ,تجويع الفقراء ,وإفقار العباد,وفتح المعتقلات,وإهانة الأحرار,وصلب الشعراء,ومصادرة الآراء,وتكميم الأفواه,وكتم الأنفاس , والسمسرة والتجارة وعقد الصفقات,وإغلاق الصحف والمجلات,وسجن الأدباء,وتشفير الإنترنت,وكبح الحداثة ,ورفض الإصلاح والمتغيرات,وهزيمة الجيوش النكراء في كل المعارك والمنازلات,والإثراء غير المشروع ,وإفلاس المصانع والشركات,ودمار الاقتصاد,وهجرة العقول والأدمغة , وتكفير المصلحين والمفكرين ,وانهيار التعليم,وتطبيق قوانين الطوارئ والأحكام العرفية ,وفساد القضاء,وتفشي الرشوة,وتقهقر البلاد , والهجرات الجماعية والخروج تحت جنح الليل من ديار الآباء والأهل والأجداد طلبا للنجدة والفرار من جنة مهندسي المراحل التاريخية ,والوقوف طوابيرا وقطعانا أمام الأفران ,ومراكز توزيع الطحين والسكر ,والزيت ,والصابون ,والمناديل وعلب الدخان ,وانعدام الخدمات والفوضى الشاملة في كل المجالات,وسيطرة المافيات على مناحي الحياة,والتخلف والبداوة السياسية والانحطاط.
لقد عاشت دول كثيرة مراحل تاريخية حقيقية ,وتحديات مصيرية ,وزمنا دقيقا وصعبا من التحولات قلبتها رأسا على عقب,وغدت بعدها دولا عظمى مهابة الجانب يحسب حسابها الجميع.فقد خرج الاتحاد السوفييتي السابق من الحرب العالمية الثانية التي كانوا يطلقون عليها المأثرة العظمى محطما ومدمرا ,لنجده بعد سنوات عدة يقارع الولايات المتحدة برا ,وبحرا وجوا.وأصبحت الصين بعد المسيرة العظمى لماو ورفاقه حوتا عسكريا مرعبا ,وتسونامي اقتصاديا يهدد بإغراق شواطئ أمريكا.فيما أصبحت أوروبا فردوسا سياسيا واقتصاديا ينعم بالرفاهية المطلقة لشعوبه ,بعد مشروع ماريشال التاريخي ,وبعد أن دفعت عشرات الملايين من القتلى وخسائر مادية لا تحصى جراء مغامرات أصحاب الحماقات والمراحل التاريخية ,ولا حاجة للتذكير بالنموذج الياباني العملاق ,وأما كوريا الجنوبية فهي نمر آسيوي آخر مثير للرعب ,وهي الشطر الآخر الذي كان حصيلة حرب أهلية مريرة مايزال توأمها الذي يمر بـ"المراحل التاريخية" في حالة مزرية من التجويع ,والفقر والحصار والإذلال, وهناك عدد من النمور الإقتصادية التي واصلت النمو والارتقاء كسنغافورة,وماليزيا ,وتايوان , بينما لازال "البعض" مسوخا وأقزاما تائهين في أدلجة المراحل التاريخة وفلسفة العبودية والطغيان تحت شتى الأسماء ,والالتفاف ,والتعتيم على أبسط البديهيات.مع العلم بأن معظم تلك الدول,إن لم تكن كلها قد استقلت بعد الكثير من الدول العربية التي مازالت تقبع في أسفل السلم حسب كل التصنيفات الصادرة عن الهيئات الدولية المختصة,وتعيش في دوامة المراحل التاريخية التي يبدو أنها لا تنوي الخروج منها في القريب العاجل.
وفي خضم هذه المراحل التاريخية ,والمنعطافات الدورانية,والمنزلقات المصيرية,والمنحدرات الإلتفافية,والمتاهات البلاغية,والمطبات الإنشائية أصبح يقينا جازما أن الجميع أضحى خارج التاريخ والجغرافية ,والتصنيفات الآدمية الأخرى ,ويبحث عن أية قشة "تاريخية" تنشله من الغرق في مستنقعات الركود ,والعجز والدوران في الفراغ.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟