المنصف رياشي
الحوار المتمدن-العدد: 4041 - 2013 / 3 / 24 - 09:21
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
إن وحدة مصالح الطبقة العاملة و وحدة النضال السياسي و الاقتصادي لأحزابها العمالية و منظماتها النقابية هو لأمر على درجة قصوى من الأهمية , و رغم أن ذلك يبقى بعيد المنال فإن توحيد أكبر كتلة من الجماهير الكادحة ضرورة حتمية في كل صراع ثوري . و الموقف من كل خطوة سياسية أو نضالية باسم هذه الوحدة هو أيضا على درجة كبيرة من الأهمية . في صراعها ضد البروليتاريا و باقي الطبقات المطحونة في المجتمع فإن البرجوازية تسعى بكل الوسائل الأيديولوجية و الاقتصادية ( توزيع العمل داخل الطبقة العاملة نفسها و خلق الامتيازات لشرائح محدودة ) لتفتيت تلك الوحدة و بث الانشقاقات السياسية في أحزابها و منظماتها عبر سياسة إدماج للأحزاب العمالية في المنظومة السياسية البرجوازية و إفساد المنظمات النقابية عبر سياسة الارتشاء و المصالح الضيقة التي تقيمها مع القيادات النقابية . فلئن كانت وحدة النضال مهمة حقا فذلك رهين بالاتجاه الذي الذي يأخذه و أهدافه الحقيقية , لذلك فإن الموقف من كل جبهة يسارية يطرح بديهيا السؤال عن الهدف منها , أي بعبارة أخرى برنامجها و البديل الذي و تلك هي النقطة الفاصلة .إن الموقف من سياسة الجبهة اليسارية يخضع على الأقل لشرطين أولهما أن تكون هذه الجبهة مستقلة تماما عن البرجوازية و أحزابها حيث أن هناك تناقضات تشق المعسكر المضاد للثورة و هذا يدفع بعض الانتهازيين إلى تبرير صفقاتهم تحت مبرر استغلال التناقضات بالتحالف مع أحد الأطراف السياسية للبرجوازية , و الشرط الثاني وهو أن يكون برنامج الجبهة برنامجا ثوريا يقوم على تغيير البنى الاقتصادية و العلاقات الانتاجية القائمة و إسقاط الطبقة البرجوازية . . و حين يسعى الثوريون إلى تشكيل جبهة ثورية تضم المنظمات الثورية فهذه خطوة في الاتجاه الصحيح لأنها تجمع بين الوحدة الطبقية و الاتجاه الصحيح في صراع التحرر من عبودية العمل المأجور . تلك الجبهة لا تكون ثورية حقا إلا ببرنامج ثوري لإفتكاك السلطة و الثروة من تحت إلى فوق و إسقاط النظام و دولته البرجوازية , برنامج يطرح نضالات جذرية و مباشرة صلب الطبقة العاملة و بالاعتماد عليها عبر مجالس عمالية ذات سلطة و هيئات جماهيرية قاعدية ثورية فاعلة يسعى هو نفسه إلى الدفع إلى إنشائها .
سجل المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية فشل الحركات الثورية و الأحزاب الشيوعية الفتية في عدد من البلدان الأوروبية في تغيير الأنظمة البرجوازية القائمة التي تعززت أكثر , لذلك و لتقويض نفوذ الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بين الجماهير جاءت الدعوة في ديسمبر ( كانون الأول ) 1921 إلى الجبهة البروليتارية " سيرى الشيوعيون أنفسهم مجبرين على أن يقترحوا على الإصلاحيين قبل الشروع في أي عمل جماهيري أن يشاركوا هؤلاء في هذا العمل . و طالما يرفض الإصلاحيون ذلك فعلى الشيوعيين أن يفضحوهم أمام الطبقة العاملة ... يجب أن يتحمل خصومنا المسؤولسة في فك الجبهة العمالية " . إلا ان ستالين و بوخارين بعد وفاة لينين سنة 1924 تبنيا سياسة يمينية تلزم الأحزاب الشيوعية بالارتماء في أحضان البرجوازية و قد تسببت هذه السياسة في هزيمة نكراء للثورة الصينية 1925_1927 حين فرض على الحزب الشيوعي الصيني التحالف مع حزب الكومينتانغ البرجوازي بقيادة تشانغ كاي تشيك ( الذي دعاه ستالين ليصير عضوا في اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة) قبل أن ينظم مجزرة دموية للشيوعيين و الطبقة العاملة الصينية . بعد هذه الهزيمة و هزائم أخرى بسبب تلك السياسة اليمينية كتلك في بريطانيا سنة 1926 ( هزيمة الإضراب العام ) تبنى ستالين سياسة يسراوية متطرفة تنعت الاشتراكيين الديمقراطيين بالفاشيين و منع الشيوعيين في ألمانيا من التحالف معهم و رفض تكتيك الجبهة المتحدة لدرء الخطر الفاشي في الوقت الذي كان فيه تروتسكي يدعو إلى الجبهة متحدة بين الأحزاب الاشتراكية و الشيوعية منعا لأن يحطم هتلر الطبقة العاملة الألمانية المنقسمة على نفسها بفعل التخريب الستاليني و إصلاحية الاشتراكيين الديمقراطيين . بعد كارثة صعود هتلر إلى الحكم و الهزيمة المروعة للطبقة العاملة الألمانية , عاد ستالين , منظر الهزائم , إلى سياسة يمينية من جديد فتبنى الكمنترن سياسة الجبهة الشعبية في إطار سياسة التقارب مع الأنظمة الرأسمالية في فرنسا و بريطانيا ضد خطر محتمل من ألمانيا , و قد دفعت الأحزاب الشيوعية بسياسة الجبهة الشعبية إلى التعاون مع البرجوازية و أحزابها و التصدي لكل تحرك عمالي جذري يهدد مصالح أصحاب رؤوس الأموال . في فرنسا ضمت الجبهة الشعبية الشيوعيين و الاشتراكيين و الحزب البرجوازي الرئيسي وقد وصلت للحكم في الانتخابات البرلمانية لسنة 1936 لتجهض إضرابات الطبقة العاملة و حركات احتلال الصانع , و في سنة 1940 صوت كافة النواب اليساريين لصالح حكومة فيشي الفاشية التي نصبها الاحتلال النازي لفرنسا . في اسبانيا كانت سياسة الجبهة الشعبية أكثر كارثية , فقد تسبب في هزيمة الثورة الاسبانية , دعما لحالة الود التي أبداها ستالين لفرنسا و بريطانيا بعد أن قمعت حكومة الجبهة الشعبية العمال و الجماهير الثائرة من أجل حماية مصالح البرجوازية حيث تحالف الحزب الشيوعي الاسباني بأوامر ستالين مع الجمهوريين البرجوازيين من أجل قمع الثورة و تصفية القيادات الثورية و استرجاع المصانع لمالكيها . بعد تصفية الثورة و القيادات و العمال الأكثر ثورية وجد فرانكو الظروف سانحة لإخضاع كل اسبانيا .
في تونس و مصر , و مع تزايد الهجوم المضاد للثورة و النجاح في تغيير وجهتها من قبل البرجوازية عبر ممثليها السياسيين , نسمع دعوات للوحدة بين مختلف تشكيلات اليسار الحزبية في جبهة يسارية تلملم ذلك الشتات من المنظمات السياسية التائهة في دروب شتى . هذه الدعوات قد نلتمس العذر فيها للبعض الذي يطرحها عن حسن نية , و لكنها حين تصدر عن آخرين من الاتجاهات الانتهازية فالأمر لا يحتاج إلى طيبة خاطر للسقوط في شراكهم لأن الجبهة التي يدعون إليها ليست إلا تأكيدا لسياسة الهروب إلى الأمام في ممارساتهم التخريبة للثورة من أجل تحصيل بعض المكاسب الحزبية و حتى الشخصية بعيدا عما يجتاح الجماهير من بؤس و خراب و تردى ملفت في أوضاعها المعيشية . صحيح أن الجبهة اليسارية يمكن أن تكون رافعة لنضالات الطبقات الكادحة من أجل مواصلة ثورتها و تغيير المجتمع جذريا , إلا أن هذه الإمكانية رهينة ببرنامج تلك الجبهة وبالقوى السياسية و النقابية التي تقودها و التي من المفترض أنها ستوجه سير المعارك ضد النظام القائم , و كذلك رهينة بالمدى الذي تمكنت فيه الجماهير الكادحة من إنشاء سلطة موازية عبر هيئاتها القاعدية الديمقراطية . و كل جبهة لا تحمل برنامجا ثوريا في الممارسة على أرضية الصراع الطبقي وسط الجماهير بالاستقلال عن المسار السياسي الذي تطرحه الطبقة الحاكمة و بالاستقلال عن أحزابها الليبرالية و الرجعية , هي جبهة عقيمة و معدمة من أي تأثير حقيقي لصالح القوى المنتجة , و ليست إلا عقبة في طريق تجذرها و تقدمها و لا نبالغ إذا قلنا أنها أحد أشكال الانقلاب المقنعة على الثورة . التاريخ يبين كم من الجبهات السياسية في ذروة الصراع الطبقي كانت وسيلة لإطفاء لهيب الصراع و تشتيت الجماهير من جراء الخيانات و الهزائم المجانية بعد أن كانت محط ثقتها و آمالها في أن تكون مركبة العبور إلى مجتمع عادل في توزيع الثروة بين المنتجين . إن أطروحات القوى السياسية الإصلاحية العفنة حول الجبهة اليسارية و الآمال الكاذبة المعلقة حولها في أثناء تزايد الاستياء و الحيرة و الخوف في نفوس الجماهير و تصاعد القمع و الهجومات التي تشنها الحكومتين الإسلامية في تونس و مصر , يطرح كثيرا من الإرباك و الأوهام لدى فئات جماهيرية لا تستلمح الخدع و الأكاذيب التي تروجها القيادات اليسارية و ببغواتها عبر صحفها و وسائل الإعلام البرجوازية . و ليدلل هؤلاء اليساريين على صحة موقفهم يلجؤون بانتقائية إلى تجارب سابقة و نصوص أكدت على أهمية الجبهة كتكتيك و يتغافلون في صمت مطبق عن مواقف أخرى رفض فيها الثوريون العظام ذلك التكتيك و اعتبر رجعيا لا ينسجم مع الإستراتيجية المطروحة للنضال . هؤلاء , في الحقيقة , يمارسون تجريبية هزيلة و تذبذب بين المواقف المتناقضة إجابة على سلسلة الهزائم التي منيت بها أحزابهم و ليس لهم أدنى استعداد لايلاء النظرية الثورية و تاريخ الثورات أي اهتمام في ممارساتهم و ليس لتلك النخب من المثقفين الوضيعين في جعبتهم غير دروس منظري الهزائم التاريخيين في الحركة العمالية العالمية و دروس مدارس الفكر البرجوازي على تعددها . أما الماركسية و منهجيتها المادية فهي مجمدة و لا تستدعى إلا لإضفاء الشرعية الباهتة على ممارساتهم و رؤاهم الرجعية , فإن لم يكن من الممكن تأمين ذلك التسويغ المبتذل فإنهم يلجؤون إلى تصفية الماركسية أو بعضا من نتائجها النظرية بتعلة ضرورة تغيير الطرق النضالية في ظل العولمة بعد فشل ما يسمونه بهتانا " التجربة الاشتراكية " في الاتحاد السوفياتي و دول أوروبا الشرقية . هنا تقع المزاوجة بين الدغمائية و التصفوية في تأرجح فكري برجوازي صغير بكل وقاحة و صفاقة . إلا أن ما يرصعون به بياناتهم و رؤاهم من تبريرات هجينة يربك الكثيرين من قواعد اليسار من ذوي المعرفة البسيطة و يصيبهم بالحيرة و العجز عن فهم ما يلزم أن تكون عليه المواقف السليمة , و هو ما يجعلهم بالتالي أقرب للتسليم للقيادات باحتكار المعرفة و الحكمة خاصة مع مستوى المتدني حتى الحضيض لما يلقن لهم في دعاية تلك الأحزاب .
يرفع الدغمائيون من عبيد الأصنام الستالينية و الماوية شعارات و رؤوى باطلاقية دون تبين هل تغيرت الظروف التي أجابت عليها في وقت سابق و في بلدان أخرى , فيظلون خارج التاريخ يجترون رواياتهم العفنة عن أمجاد أسلافهم المشينة و حكمهم العبقرية حد الهذيان . و هم من أجل التهرب من كل المهام المطروحة و من أجل تبرير خياناتهم و تواطؤهم مع الطبقة السائدة , ينتقون شعارات و مواقف سابقة بذاتها دون غيرها للتظليل و الخداع و تشريع تخاذلهم و تآمرهم على مصالح الطبقات المطحونة . ولمواجهة كل الأصوات المناضلة عن حق التي تكشف تلاعبهم بالماركسية و تاريخ الثوريين العظام يرفعون ضدها الشعارات الراجمة و حملات التشويه و التخوين . أما التصفويون فيرمون جانبا كل التراث الثوري للماركسية و يدعون في كل ذروة الصراع أن الظروف تغيرت دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التثبت في أن بعض المواقف استدعتها نفس الظروف . هؤلاء ليس لهم من هدف غير تصفية الفكر الثوري و تجريد الحركة العمالية من سلاحها النظري , و هم في الغالب من خريجي مدارس الدغمائية الستالينية و الماوية , يبحثون لأنفسهم عن مكان يروجون فيه بضاعة غير تلك التي تروجها الأحزاب التي طردوا منها , أو أنهم أفراد و مجموعات من أحزاب مفلسة من يوم ظهورها أجبرها فشلها النظري و العملي على الانبطاح للنظام القائم فطلقت على العلن كل التراث الماركسي ( و الغريب أن فيهم من يدعي الماركسية و إن كان لا يخفي هجومه على كل الماركسيين الثوريين كلينين و تروتسكي و روزا و غرامشي ) . إنهم النيو ستالينيون أو التائبون عن عبادة ستالين و لكن المحتفظون بكل مساوء الستالينية . و لا يخفى عن عاقل نواياهم الحقيرة في استعداء الثوريين و تشويه كل فكري ثوري كما تعودوا حين كانوا دغمائيين و أنهم بأفعالهم الدنيئة يسعون إلى حجز مكان في سوق العمالة للأنظمة الرأسمالية , لينزعوا عن أنفسهم القناع الذي طالما اختبأوا وراءه و ليصبحوا عملاء أيديولوجيين و سياسيين مفضوحين للنظام القائم .
و المؤسف حقا أن البعض لا يدرك النوايا الخبيثة التي تحركهم و المغالطات التي يبثونها فينساق إلى دعوات تجاوز الخلافات و كأن هذه العداوة التاريخية بين الماركسية الثورية و أعدائها هو مجرد اختلاف بين أشخاص حول رؤى بسيطة و ليس اختلاف قطعي بين معسكر البروليتاريا و الثورة من جهة و بين معسكر البرجوازية و الحفاظ على النظام من جهة ثانية . فتشخصن القطيعة كأنها مثلا بين شخصي تروتسكي و ستالين , إن الأحمق هو فعلا من يجرد ذلك الصراع بين الماركسيين الثوريين و الستالينيين في علاقة بين شخصين .
إن هؤلاء المفلسين من الصنفين الدغمائي و التصفوي ليسوا إلا مسخ من مسخ , لم يقدروا يوما أن يتحرروا من صيغ الثنائيات المثالية و لم يكن فكرهم إلا إحدى تجليات المادية الميكانيكية و المناهج الوضعية للفلسفات الايجابية التي هي إحدى وسائل الأيديولوجية البرجوازية .
مع احتدام التناقضات الاجتماعية و تراجع مستوى المعيشة لفئات واسعة من الطبقات الشعبية و فشل الطبقة السائدة في ترميم هادئ لدولتها و مسارها الانقلابي الذي لم يمر بهدوء رغم كل الجملات الدعائية و خطابات الوعود و التهدئة , و مع تزايد الاستياء و التذمر لدى قطاعات من الجماهير ازداد بؤسها و خيبة أملها من القوى الإسلامية السياسية التي توجت باعتلاء منصة الحكم , و هذا ما ينذر بثورة ثانية أكثر جذرية تنزع الأوهام التي انخدعت فيها الجماهير و تتجه مباشرة إلى جوهر أزماتها الاجتماعية فتطرح توجهات مباشرة تفضي إلى تغيير جذري للعلاقات الطبقية القائمة , فإن البرجوازية و ممثليها السياسيين الحاكمين و المعارضين تدرك جيدا ضرورة التحرك مبكرا لقطع الطريق على ذلك السيناريو الكارثي بالنسبة لها و ذلك بعزل المنظمات الثورية الصغيرة عن الجماهير و تطويقها و إطفاء الأصوات الثورية عن طريق تحييدها و امتصاصها سياسيا في برامج أوهام ذات أفق متدني . فهذه المنظمات الثورية و بحكم الأزمة الاجتماعية و الاقتصادية و تنامي الاستياء و روح التمرد و الرفض لدى طبقات شعبية و لإمكانية قدرتها على اكتساب هذه الطبقات و قيادتها بنجاح في تغيير ثوري حقيقي إن هي امتلكت رؤى صحيحة و برنامج ثوري للتغيير , فإن وجودها يصبح خطرا حقيقيا على البرجوازية و الاقتصاد الرأسمالي المتأزم . إن صيغ الانتقال السياسي الذي وضع للإجهاض على الثورة في تونس أو في مصر و الحد من تجذر الجماهير و قطع الطريق عليها في طرح بدائل حقيقية عبر طرح العملية السياسية على حساب المضمون الاجتماعي للثورة , قد فشل فشلا ذريعا في مهمته و لا أدل على ذلك من الحراك الجماهيري في الشوارع و الميادين و الإضرابات الاقتصادية . إن هذا الفشل و هذا الانهيار السياسي للصيغ الانتقالية و بداية تمزيق الجماهير لستار الأوهام التي تطوقها و استرجاعها للمضامين الفعلية لثورتها رغم محاولات الانحراف بها التي تمارسها الأحزاب الليبرالية و اليسارية الإصلاحية , يفتح باب الثورة من جديد . إن مهمة تطويق المنظمات الثورية مهمة موضوعة على أجندا الساسة ممثلي البرجوازية و هذه المهمة موكولة على الأحزاب الليبرالية و اليسارية الإصلاحية أي الجهاز السياسي الموازي للبرجوازية لتمارس مهمة مزدوجة : إخماد الحراك الجماهيري من جهة و تطويق الثوريين و امتصاصهم و عزلهم عن الجماهير أو إدماجهم في النظام السياسي البرجوازي من جهة أخرى .
جاءت دعوات الكثيرين من اليساريين إلى وحدة اليسار و تجاوز الخلافات و حتى تأخذ هذه الدعوة وجاهة كان لابد من التركيز على الأداء السياسي لعصابة الإخوان المسلمين و ممارساهم القمعية و الإرهابية في حق الجماهير و على خطرهم المتنامي و تهديدهم باجتياح الدولة و بناء نظام شمولي .و هكذا يمارس تسطيح الوعي لدى الجماهير و تختزل الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية في الظواهر الرجعية للإسلاميين دون الإشارة إلى جوهر العلاقات الاجتماعية و منشأها الطبقي و لا إلى طبيعة النظام الاقتصادي القائم و الذي لم يسقط و لا إلى أولئك العمال الذين يعتصرهم البرجوازيون أشد اعتصار من أجل ملئ جيوبهم بمزيد من الأرباح و لا إلى أن الحريات و حقوق المرأة كانت دائما مغيبة قبل حكم الإسلاميين . و هذه الحيل انطلت على الكثيرين و وجدت الأوهام و التحاليل السطحية طريقها إلى عقولهم . هؤلاء الحمقى لم يتبينوا جذور الأزمة و لم يدركوا غير الظواهر كما تبدو مباشرة و لم يخضعوا مواقفهم إلى نظرة كلية موضوعية تعيد الأحداث و المعطيات الآنية إلى جوهرها الاجتماعي و طابعها التاريخي . فأضحى النفور من الإسلام السياسي هو المحرك أو النقطة المركزية لكل أطروحات اليسار الإصلاحي رغم تلك الشعارات البراقة المخادعة عن العدالة الاجتماعية . هذا اليسار الزائف , بمباركته للعملية السياسية الانقلابية التي فاز بها الإسلاميون , و سعيا وراء أوهامه السياسية المحضة في المحطة الانتخابية القادمة , يسعى جاهدا لاجتذاب المنظمات الثورية و امتصاص قواعدها و عملها و بالتالي كسب أصوات انتخابية إضافية من أجل فتات من السلطة لقاء تدعيم النظام القائم و تقديم طوق النجاة له . هذه الدعوة تختزل الثورة في مجرد عملية سياسية تسكب من فوق على رؤوس الجماهير التي صنعتها و ليست تغييرا اجتماعيا جذريا على الأرض في صالح الطبقات الكادحة التي يختزلون دورها في السير وراء مهزلة الانتخابات التي تشير كل الدلائل الموضوعية أنها ليست في صالح هذه الطبقات و أنها شتتت وحدتها في صراعها ضد القوى البرجوازية المعادية للثورة .
يقول البعض من اليساريين , عن حسن نية , أنهم يسعون من خلال توحيد اليسار إلى ممارسة فعلية أكثر تأثيرا عوض التشتت الذي يعاني منه اليسار و الذي يعود بالتالي بالإضرار بمصالح الطبقات التي من المفروض أن اليسار يدافع عنها . لكن ما لا ينتبه له هؤلاء أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة , فالاتفاق على مهام ثورية موحدة أمر لا يرفض بل دائما ما يدعو إليه الثوريون , لكن أن تصبح الوحدة هي الهدف أي أن تكون سابقة على البرنامج الذي يصاغ في مرحلة تالية في الكواليس المغلقة , و نعرف ما الذي سيطرحه الانتهازيون و الوسطيون , فهذا تحايل و خداع . فلماذا لا تطرح الخطوط العريضة لبرنامج تحرك أو تعلن مهام مركزية للتقدم بالثورة ؟ إن الإجابة على قدر كبير من البساطة وهي أن هاته الأحزاب الرثة لا تحمل أي برنامج ثوري و أنها لا تحمل غير مهمة مكلفة بها وهي تخريب النضالات الجماهيرية و الانحراف بها إلى طرق مسدودة ما يديم الوضع البائس و ينقذ النظام من الانهيار و يبعث الجماهير على الخنوع و الاستسلام لمصيرها المظلم . مهمتهم تقضي بتحييد القوى الثورية أو تقزيمها و تطويقها و تفكيكها و قطع الطريق عليها في بناء قيادة ثورية تلتف حولها الطبقات المطحونة , و لعل حملات التشوية و الافتراء التي تشنها هذه الفصائل الانهزامية على التيارات الثورية تتنزل في ذلك السياق . المخدوعون في شعار جبهة يسارية لا يدركون أن الخلافات ليست على أساس انتماء و أن النوايا المثالية لا يمكن أن تتجاوز بكل بساطة الخلافات المنهجية العميقة و العملية في الممارسة و أن الالتقاء بين من يطرح تغييرا جذريا و من يطرح الترقيعات لا ينجح و لا يدوم طويلا و أن الالتقاء يجب أن يكون على مهام ثورية واضحة و محددة و ليس على مهام اصلاحية و هذا ما يرفضه جملة و تفصيلا اليسار الإصلاحي الليبرالي . هل يصبح التخلي عن المبادئ و الثوابت الثورية و الحذر و الحيطة من ميولات الخيانة كلاما في غير محله ؟ و هل يصبح الستاليني المنافق و البيروقراطي و الاستبدادي و المتعالي على الجماهير اليوم ثوريا نتوسم فيه الخير بكل طيبة خاطر ؟ إن هذه الوحدة التي يتحدثون عنها هي ليست , بالمفهوم الذي يطرحونه بها و بالتصور و الخطوات التي يتصورونها , غير تفكيك لكل فعل ثوري و إجهاض لكل حراك جماهيري جذري .
يواجه الانتهازيون كل رافض لتحالف لا مبدئي يرمي إلى خيانة مصالح الطبقة العاملة و باقي الكادحين بتهم المذهبية و التعصب و العقائدية و الدوغمائية و تكرار التجارب السابقة ( للينين و تروتسكي و روزا و حتى ماركس و أنجلز ) و كيل آخر من التشويهات و حملات الافتراء . لنذكر أن لينين في أزمة نيسان ( أبريل ) 1917 حين رفض الصيغة القائلة بأن الثورة ديمقراطية في روسيا و ليست اشتراكية بما يعني عمليا التحالف مع المناشفة و الاشتراكيين الثورين , و تعرض لكيل من التهم و الافتراءات و الاستهجان و التهكم من قبل القادة البلاشفة اليمينيين ( قال أحدهم : "لقد بقي مكان باكونين في الثورة الروسية شاغرًا خلال عدة سنوات، وها هو لينين يشغله".) , رد على تلك الجعجعة لأنفس انهزامية :" لسنا مشعوذين. وعلينا أن لا نعتمد إلا على وعي الجماهير. ولا بأس حتى ببقائنا أقلية، وقد يكون من المفيد التخلي عن الوضع القيادي خلال فترة من الزمن، ولا ينبغي أن نخاف من وضعنا كأقلية . والسوفييت هو الحكومة الحقيقية لمندوبي العمال ... ويمثل حزبنا الأقلية داخل السوفييت... ولا نستطيع القيام بشيء في هذا المجال ! وليس أمامنا إلا أن نشرح بصبر ودأب ومنهجية خطأ تكتيكهم. وسنمارس النقد لإنقاذ الجماهير من الخداع طالما بقينا أقلية. ونحن لا نود أن تصدقنا الجماهير بمجرد سماع أقوالنا. ولسنا مشعوذين. وكلنا رغبة في أن تتخلص الجماهير من أخطائها بفضل تجربتها وسيظهر خطنا صحيحًا ... وسيأتي كل مسحوق إلينا، لأن الحرب ستدفعه نحونا. فليس أمامه أي مخرج آخر". إن سير التاريخ أثبت صحة موقف لينين وبين أن التكتيك الثوري المنسجم مع إستراتيجية ثورية والثبات عليهما أمام كل الظروف الصعبة و أمام الإغراءات كفيلان بتجاوز عزلة ظرفية تتعلم فيها الجماهير دروسا قيمة و تقطع فيها مع أوهام الانتهازيين . في تونس كانت منظمات ثورية صغيرة متباينة المرجعيات الأيديولوجية تتلاقى في تحالفات للعمل الميداني القاعدي و الديمقراطي داخل صفوف الجماهير و تصعد المواجهات مع النظام القائم و كان لها دور كبير في تجذير الوعي لدى فئات جماهيرية في مناطق بعينها و قد استمرت في رفضها الدخول في الجبهة الشعبية الانتهازية المتخاذلة , و هذا يدحض تلك التهم بالانعزالية و العصبوية التي تدعيها الأحزاب اليسارية المهترئة . إن رفض التحالفات المبدئية ليس مرده الانتماء الأيديولوجي و هذه التهم الكيدية و هذا التحامل منهم هو من تحصيل حاصل لكل منظمة ثورية و لا يجب بأي حال من الأحوال أن تثنيها عن طريقها الثوري , و ليذهب بها اليسار الإنبطاحي إلى الجحيم . في مقابل ذلك فإنهم يمارسون دغدغة المشاعر لدى الجماهير و يستغلون حيرتها و توهانها وسط الأحداث فيدسون السموم عبر دعاياتهم المحمومة حول صواب برامجهم وتصبح الهستيريا الفلكلورية و العربدة العاطفية أدوات للتحريك و تصبح المشاعر نقطة التوجه إلى الجماهير من أجل التغطية على الخيانات و الألاعيب و السمسرة في الأروقة و المكاتب المغلقة مع ممثلي البرجوازية السياسيين . يقول تروتسكي في " الثورة الاسبانية " : " تبقى الجبهة الشعبية قضية القضايا . يحاول الوسطيون طرح هذه المسألة على أنها مناورة تكتيكية , و حتى تقنية , للتمكن من نشر بضاعتهم في ظل الجبهة الشعبية , في الواقع , إنها القضية الأساسية للإستراتيجية الطبقية للبروليتاريا في هذه الحقبة . وهي تقدم , أيضا , المعيار الأفضل للاختلاف بين البلشفية و المنشفية . فغالبا ما ينسى أن المثال التاريخي الأهم للجبهة الشعبية هو ثورة شباط 1917 . فمنذ شباط حتى أكتوبر كان المناشفة و الاشتراكيون الثوريون , الذين يمثلون معادلا جيدا للشيوعيين ( الإسبان ) و الاشتراكيين الديمقراطيين , في تحالف وثيق جدا و ائتلاف دائم مع الحزب البرجوازي الكاديت . و شكلوا معه سلسلة من الحكومات الائتلافية . و قد وقف الشعب بكامله , بما فيه مجالس الجنود و الفلاحين و العمال , تحت يافطة الجبهة الشعبية , يقينا , شارك البلاشفة في المجالس , لكنهم لم يقدموا أدنى تنازل للجبهة الشعبية و كان مطلبهم هو تحطيم الجبهة الشعبية , و تدمير التحالف مع الكاديت و خلق حكومة فلاحين و عمال حقيقية .
إن كل الجبهات الشعبية في أوروبا , ليست إلا نسخة باهتة و غالبا كاريكاتورية للجبهة الشعبية الروسية لعام 1917 , التي كان لها أن تدعي مبرر الوجود أكثر بكثير لأن الأمر كان لا يزال قضية صراع ضد القيصرية و بقايا الإقطاع ."
. إن هذا الاستشهاد لا يعني كما قد يؤول ذلك الأغبياء , أن الظروف الموضوعية التي تمر بها تونس أو مصر هي مطابقة تماما لتلك التي مرت بها روسيا في 1917 بين ثورة فيفري و ثورة أكتوبر , بل إن المقصود أولا أن مقولة الجبهة الشعبية التي يتشدق بها المفلسون لا يمكن أن تكون إطلاقية و الدواء السحري لكل أزمة و أنها قد تكون عملا رجعيا في ظروف بعينها و التاريخ أثبت ذلك , و ثانيا أن الأسباب الوجيهة التي دعت البلاشفة إلى رفض الجبهة الشعبية ( أي التحالف مع المناشفة و الاشتراكييين الثوريين ), وهي حصر الوسطيين للثورة في الطابع الديمقراطي بالتحالف مع البرجوازية و التخويف المقصود من عودة القيصرية لتدعيم ملكية و سيطرة البرجوازية على حساب العمال و الفلاحين صانعي الثورة , نجد ما يشابهها في حالتنا الراهنة مع اختلاف الظروف حين يطالب الإصلاحيون بمجرد الديمقراطية البرجوازية بعيدا عن تغيير حقيقي للواقع الاقتصادي و العلاقات القائمة في المجتمع بما يعني إنقاذ النظام إضافة إلى استخدام خطر الإسلاميين ( وهو حقيقي ) لطمس الأهداف الاجتماعية للثورة لصالح بعض الإصلاحات الليبرالية . إلا الانتهازيين اليساريين في تونس الذين انخرطوا في العملية السياسية التي نظمتها البرجوازية برعاية الامبريالية و تهافتوا على صناديق الانتخابات حاملين شتى أنواع الأوهام لا يخبروننا لماذا لم يتحالفوا وقتها انتخابيا و فضلوا الدخول أحزاب مشتتة إلى وليمة أسيادهم البرجوازيين . إن كل من له ذرة من الحياء من هؤلاء أجدر به أن يصمت و إلى الأبد .
إن الجبهات المحض سياسية المتعالية على شروط الصراع الجذري الحقيقي على الأرض داخل الجماهير من خلال برامج عمل تشارك فيها هاته الجماهير , ليست لتجميع القوى و تنميتها و توجيهها في طرق ناجحة , بل هي من أجل تدعيم الضعف و مواطن الخلل و بث روح الانهزامية و محدودية الفعل و ملاشاة التصورات و الحلول الثورية و الخطوات الفاعلة و تطويق الأفكار الثورية و استبعادها . إن الصراع الحقيقي في الأرض و ليس في السماء , في البنى التحتية و ليس في البنى الفوقية ( و إن كنا لا ننكر أهمية الصراع السياسي للإطاحة أو الاستفادة من تلك البنى الفوقية ) .
لنبحث عن الطريقة التي يبني بها مثقفوهم الطفيليين و قياداتهم القزمية مواقفهم الانهزامية و كيف يتحايلون ليبرروا الهزائم و يضفون الشرعية على خياناتهم بكل صفاقة .
إن أول ما يطرحه اليسار الانتهازي الأجرب هو إلقاء المسؤولية عن الهزائم المتتالية على الجماهير و وعيها و يستخلص من ذلك بمثالية الدجل السياسي أنه لا يمكن يكون الحل غير جبهة توحد اليسار و ترمم الصفوف من أجل أداء أفضل و نلاحظ في هذه الأطروحة الرجعية بطريقة طرحها و أفقها أنها محاولة للهروب إلى الأمام , حيث أن التحالف المطروح هو ليس إلا تحالفا انتخابيا يسير في نفس المسار التي وضعته القوى الثورة المضادة في نظامها السياسي و أن مسألة العمل في صفوف الجماهير ليست إلا توظيف تحركاتها و تخفيض سقف مطالبها لأجل هذا الأفق الانتخابي و ليس لتجذير الحراك و حالة الرفض التي تنتاب أقساما كبيرة منها .
القوى الاجتماعية التي تتظاهر و تحتج و الطاقات التي تحركها و الأسباب الاجتماعية و الاقتصادية التي تدفعها لحالة الرفض و المقاومة , ظلت مشوهة في تحاليل المتهافتين اليساريين أو مخفية , و لم تكن المادية الجدلية , بحكم نفورهم المستتر من الماركسية , أداتهم في الكشف عنها و تحليلها و تبين ملامحها و جوهرها , بل إن التحريفية و ابتذال الماركسية و الارتباط بالمنهجيات الأكاديمية للفكر البرجوازي هي أدواتهم الموكول لها التظليل و الخداع و تغطية الخيانات و الانبطاح و التذيل للنظام القائم و الدفاع عنه في العلن أو في السر , و لم تتجاوز مواضيع تحاليلهم حدود الهنيهات و التفاصيل المجردة و المعزولة بأسلوب الانتقاء و السذاجة و البساطة في التأويل و إخفاء طابع الكلية الموضوعية و جوهر تلك الظاهرات المعزولة و الانجرار وراء الوقائع السياسية الفقيرة فتصبح ممارساتهم ضائعة في دروب تائهة و تصبح الجماهير من وجهة نظرهم التعيسة هي المسؤولة الأولى و الأخيرة عن الهزائم لينعتوها بأبشع نعوت الجهل و التخلف . يقول ماركس : " إن صيغة الصلات الاقتصادية المكتملة كما تبدو على سطحها بوجودها الحقيقي و من ثم أيضا بالتمثلات التي بواسطتها يسعى حاملو و باعثو هذه الصلات أن يكونوا عنها فكرة واضحة هي جد مختلفة و بالفعل مناقضة لصيغتها الداخلية الجوهرية و لكن المختفية و للفكرة التي تتعلق بها " . إن هذه الجماهير بعفويتها و سطوة الأيديولوجية السائدة و وسائل الإعلام التي تزيف الوعي و تشوه الأحداث , تبقى في ممارساتها و تضحياتها أثناء الثورة , متقدمة بأشواط على النخب و المثقفين الطفيليين لليسار المقعد , و لكن أولئك الجهلة اليساريين لا يعرفون غير ترديد الترهات و السفسطات من المدارس الستالينية و الماوية المعادية لقوى الإنتاج . تظل الدوافع و القوى و الأسباب الكامنة وراء تحرك الشعوب اجتماعية في جوهرها و قد تأخذ هذه التحركات أشكالا متعددة عن وعي أو عن وعي ناقص , و إن دور الماركسية يتمثل في معرفة تلك القوى الحقيقية بالاستقلال عن الوعي البسيكولوجي للجماهير حيث أنه لا يجب البحث عن الحقيقة في السيكولوجية الجماهيرية و لا أن تصاغ المهام العملية للثورة بالإجابة على تطلعات تلك السيكولوجية , بل يجب الغوص في أعماق ما وراءها و طرح إجابات علمية و عملية لها . و إن الوعي الزائف و الوهم الذان تحملهما الجماهير حيال ظروف معيشتها و أوضاعها الحيوية في ظل العلاقات الاجتماعية القائمة ليست إلا تعبيرا عن سطوة الاقتصادية الموضوعية بالشكل الذي تعطيه لإيديولوجيتها . لذلك فإنه بقدر ما يجب تجاوز هذا الوعي الزائف لدى الطبقات الكادحة فإن هذا التجاوز لا بد أن يكون في علاقة بتجاوز البنية الاقتصادية القائمة و ليس في أدبيات الأخلاق الوضيعة و الوعي الافتراضي الذي يتحدث عنه المتحذلقون المتطفلون على الماركسية . هذا التجاوز الحقيقي للوعي الزائف هو في علاقة جدلية بتجاوز الواقع الموضوعي القائم و ليس بناءا افتراضيا لجملة من الواجبات الأخلاقية المثالية التي تسقط على الطبقة العاملة و باقي المنتجين . و إن هذا التبسيط و هذه المثالية المقترنة مع مادية مبتذلة ليسار متعالي عن الواقع في معالجته على طريقة المشعوذين لإشكالية الوعي لدى الجماهير و الحلول العقيمة و الرجعية التي يطرحها ليست إلا فعلا مساهما في ذلك التزييف و تواطئا مع الإيديولوجية البرجوازية . لعله يغيب عن هذا اليسار أن الحزب هو حامل وعي الطبقة العاملة التي تفرض عليها البنى الاقتصادية الاجتماعية وعيا متناقضا بين إحساس بالاستغلال و الظلم و الاغتراب و وعي مزيف تقف وراءه أيديولوجية للطبقة المسيطرة . إن الوعي الطبقي رهين بمستوى التطور التاريخي و الحزب هو كما تعرفت على ذلك باكرا روزا لوكسمبورغ هو حامل وعي البروليتاريا الطبقي و رسالتها التاريخية و أن الحزب ليس صيغة بسيطة لتنظيم البروليتاريا و تحريكها بل إنه نتيجة لتطورها و ليس شرطا له , و الحزب الثوري يحول في كل صراع ثوري الطابع المطلبي للبروليتاريا إلى فرض واقع جديد .
هؤلاء المثقفين اليساريين التافهين الذين يتفوهون بكل حكمهم و مواعضهم حول ما ينبغي أن يكون عليه وعي البروليتاريا هم ليسوا إلا مشعوذين يفتقدون إلى الوعي و يجب إدخالهم إلى مصحة للمعتوهين .
الأصول البرجوازية الصغيرة لقادة الأحزاب اليسارية و قياداتها الوسطى التي تحس نفسها فوق تناقضات المجتمع الأساسية بين البرجوازية و العمال , ما يفسر تذبذبهم و ارتيابهم و رؤاهم و أطروحاتهم حول التكيف مع مصالح البرجوازية تحت مبررات شتى , تجعل تلك الأحزاب لا تستلمح إلا سطح و أعراض تطور الصراع الطبقي في الثورة و تتجه فقط إلى المظاهر الجزئية و ليس إلى مجمل بنية المجتمع , و هي و مثقفيها الطفيليين لا تستلمح ذلك إلا بأساليب و منهجيات الفكر البرجوازي لذلك هي لازالت تدور في حلقة مفرغة من الهزائم و الخيانات و لا تنحاز إلا للمظاهر الثقافية و الشكلية و السياسية المحضة لتقدم صيغا أيديولوجية تتواءم و المصلحة الطبقية للبرجوازية حيث يستعيضون بكل وقاحة و صفاقة عن الصراع الطبقي بالوفاق بين الطبقات ليخونوا بكل فخر و اعتزاز مصالح الطبقات الكادحة ليخرجوا علينا بعد هزائمهم يجترون السرديات حول بطولاتهم و نضالاتهم المشرفة. و هم حين يمارسون الانتقائية من النصوص فإنهم يمارسون ذلك بأكثر الطرق ابتذالا و تزييفا بما يتعارض مع الشروط المادية الموضوعية . و إذ يمارسون معاركهم المحسومة سلفا , فذلك على خطى تجريبية فظة أو إعادة لهزائمهم السابقة فينطلقون من النتائج لا من الأسباب العميقة و من الأجزاء المعزولة و ليس من الكل و من الأعراض و ليس من جوهر التناقضات , لا يتحركون إلا في ما تسمح به دولة البرجوازية و ترضاه في إصرار أعمى على فصل القطاعات و عزل قضاياها عن بعضها البعض ليتمكن النظام من تصفيتها الواحدة تلو الأخرى دون عناء كبير . الكلية الموضوعية و الهدف النهائي مغيبان عند هذا اليسار و النضالات الجزئية غير المنسقة و المشتتة زمانا و مكانا و قطاعيا لا تتجه نحو الهدف النهائي وهو إسقاط النظام الرأسمالي بل نحو إصلاحات محدودة في قليل من الأحيان و غالبا نحو إدخال الحركة الجماهيرية في متاهات و إفراغ مضامينها و امتصاص قوتها و طرح الرؤى المتسامية حول الدولة و ليس تعبئة كل النضالات و القوى المتضررة من النظام في معركة شاملة ضد البرجوازية و دولتها . يقول ماركس " بذات الحين , إن العمال ... لا يجب أن يزيدوا من اعتبار النتائج النهائية لهذه الصراعات بالنسبة لهم . و لا يجب أن ينسوا أنهم يصارعون نتائج لا أسباب هذه النتائج ... و بأنهم يلجأون إلى مسكنات و لا يشفون المرض ذاته , و أيضا بأنه لا يجب أن ينصرفوا فقط لهذه الصراعات التي لا يمكن تجنبها ... و لكن بذات الحين أن يعملوا للتحول الجذري و أن يستعجلوا قوتهم المنظمة كرافعة لتحرير الطبقات العاملة تحريرا نهائيا , أعني ضمحلة العمل المأجور النهائية " . إن الثورة ليست فترة زمنية لمعالجة أعراض الظاهرات الاجتماعية والمطالبة ببعض الإصلاحات بتقديم المطالب وبالتحركات السلبية التي تنتظر الإجابة من الطبقة المالكة فالثورة تغير نوعي و ليست مجرد تغييرا كميا . إن هذا الأسلوب العملي الفاشل الذي يحمل نوايا انتهازية و ميولا انهزامية لقيادات الأحزاب اليسارية و المنظمات العمالية يخلق تصادما حتميا بين الأهداف الجزئية و الهدف النهائي الذي يطمسه و يلغيه و لا يخضع التكتيك للإستراتيجية و الجزئي للكلي و الآني للمنشود و إن عزل البرهة الزمنية الآنية أي الحاضر عن التاريخ و تطوره هو خضوع لقوانين النظام الرأسمالي و تأكيد للعلاقات الاجتماعية القائمة . إن الثورة تتجاوز المعطى المباشر إلى جوهر المجتمع لتتخلل تناقضاته الجوهرية و لا تكتفي بالمسكنات متغافلة عن جذورها العميقة و إن كل طرح لا يرى التغيير إلا في الأشكال و الظواهر مهما بدت له خطيرة بعيدا عن أصولها الاجتماعية و التاريخية مقدما رؤية تطورية متفائلة ساذجة ليس إلا طرحا محافظا معادي لفكرة التقدم الحقيقية . إن هاته الأرهاط الخاملة التي تترنح في ممارساتها التجريبة و المتذبذبة دون أي صلابة نظرية تتبع ما قاله برنشتاين " الهدف النهائي، مهما يكن، ليس شيئا، والحركة كل شيء " وهي بتلك تتغنى بنضالاتها . إن قال لينين يوما : " لم يعد المرتد برنشتاين يبدو إلى جانب المرتد كاوتسكي إلا كليبا صغيرا " فما يمكن أن نقوله عن هؤلاء السادة و قد تجاوزوا كل الحدود أنهم جيف كلاب . نستحضر هنا بعضا مما قالته الثورية روزا لكسومبورغ في ردها على الانتهازية الصريحة لبرنشتاين : " إن تصوير العمل من أجل الإصلاحات كثورة تمتد على فترة زمنية طويلة والثورة كسلسلة مكثفة من الإصلاحات أمر مناقض للتاريخ. فالتحويل الاجتماعي والإصلاح التشريعي لا يختلفان في امتدادهما الزمني بل في محتواهما. فسرّ التغيير التاريخي عبر استخدام السلطة السياسية يكمن بالتحديد في تحويل التعديلات الكمية البسيطة إلى نوع جديد، وبكلمات أخرى يكمن في انتقال مرحلة تاريخية من شكل معين من أشكال المجتمع إلى شكل آخر. هذا هو السبب في أن أولئك الذين يعلنون أنهم يحبذون وسيلة الإصلاح التشريعي بدلا من الإستيلاء على السلطة السياسية والثورة الاجتماعية وفي مقابلهما لا يختارون في الحقيقة طريقا أهدأ وأبطأ إلى الهدف ذاته بل يختارون هدفا مختلفا. فهم بدلا من أن يتخذوا موقف بناء مجتمع جديد، يتخذون موقف إجراء تعديلات سطحية على المجتمع القديم. وإذا ما تتبعنا المفاهيم السياسية للتحريفية فإننا نصل إلى النتيجة ذاتها التي نصلها عندما نتتبع النظريات الاقتصادية للتحريفية. إن برنامجنا إذ ذاك لا يصبح تحقيق الاشتراكية بل إصلاح الرأسمالية، ليس القضاء على نظام العمل المأجور بل تخفيف الاستغلال، أي القضاء على تعسفات الرأسمالية بدلا من القضاء على الرأسمالية ذاتها " .
لتجنب المسؤولية عن انحطاطهم و انكماشهم بين الجماهير يقولون , " في غباوة قصوى أو مكر أخرق جدا ( لينين ) " نحن في حالة من الضعف لذلك لا نقوى على تلك المهام الثورية . إن مثل هذه الحجج و مثيلاتها التي تدعمها ( بطش الأنظمة و خلافها ) تستلزم كثيرا من الوقاحة و الدنائة حتى يتفوه بها المرء . ماذا كانوا يفعلون طيلة عقود بكل تلك الترهات الستالينية و الماوية ؟ و ماذا كانت ممارساتهم غير الانتهازية و الانهزامية ؟ و هل كانوا في صف الجماهير الكادحة فعلا أم كانوا عقبة لها في تحررها و نضالاتها ؟ ماذا فعلوا بالمنظمات العمالية غير بقرطتها و تجميدها ؟ إن هؤلاء يلقون كعادتهم بالمسؤولية على الظروف الموضوعية و كأنها كان من المفترض أن تكون مواتية لتسمح للجماهير بأن تكتشف عبقريتهم التي طمستها الظروف وأن الظروف الذاتية الخاصة بأحزابهم و تياراتهم لا دخل لها و لا مسؤولية عليها في ذلك الانكماش و الإفلاس المخزي أو كأن البلاشفة كانت ظروفهم سانحة أكثر في ظل حكم القياصرة الرجعي الرهيب و أن الاشتراكية الديمقراطية الألمانية كانت في أفضل الظروف الموضوعية في ظل حكم بيسمارك و سياسة الحديد و النار التي مارسها ضد الاشتراكيين . كم من اللغو و الثرثرات المقيتة نسمع من هاته الطفيليات ! هم يتصورون أن الجماهيرية و النجاح سيكون وليد لحظة ينزل فيها من السماء إلى إحدى المؤسسات السياسية البرجوازية , لذلك هم يفتشون عن خلاصهم من محنة الفشل و الهزائم المخزية " ككليب أعمى يشتم و يفتش كيفما اتفق ( لينين ) " في مزبلة البرجوازية التي يشغلون عندها عبيدا .
إن كثيرا من مثقفي اليسار ليسوا إلا أتباع السوسيولوجيا أو على الأقل يقفون معها على أرضيات مشتركة في خلط غريب بين الماركسية و السوسيولوجيا , بين الجدل المادي و المناهج الوضعية و التجريبية و النسبوية و الشكلانية , يرددون ما توصلت إليه دراساتها الأبولوجية التي تدافع عن الواقع الاجتماعي و إن أبدت بعض الانتقادات التي لا توجه إلا إلى بعض الترقيعات التي تصب في الأخير في صالح الطبقة المالكة و تمتص الاحتقان و تجهض حالات الرفض التي قد تبديها الطبقات الكادحة . لعل الكثيرين لا يعلمون الدوافع الاجتماعية الطبقية التي دفعت البرجوازية الفرنسية و الانجليزية في القرن التاسع عشر لإحداث علم برجوازي جديد سمي السوسيولوجيا ( علم الاجتماع ) : كان لعجز الاقتصاد السياسي الكلاسيكي عن تجاوز التناقضات الجوهرية التي تشق المجتمع الرأسمالي و انحلال الاشتراكية الطوباوية في فرنسا تحت النقد الذي أبداه ماركس و أنجلز لها و إزاحتها من طرف الجدل المادي أن دفع بظهور السوسيولوجيا بالظهور كميدان يفصل ما بين الاقتصادي و الاجتماعي فصلا تعسفيا . أصبح علم الاقتصاد أكثر ابتذلا و تخصصا مستغنيا عن تعليل الظواهر الاجتماعية و البت في تناقضاتها و إطلاق أحكام القيمة و من جهة أخرى صارت التناقضات الاجتماعية الحادة من اختصاص السوسيولوجيا التي تخلت عن أي رابط بالقاعدة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي . إن السوسيولوجيا التي يستقي منها كثير من مثقفي اليسار الطفيليين مواقفهم و تحاليلهم كان الهدف منها استبعاد النظام الاقتصادي الرأسمالي و العلاقات الإنتاجية التي يحملها من تحليل تناقضات المجتمع و بالتالي إغفال الأسباب الأساسية للبؤس الذي يجتاح الطبقات المنتجة و تصفية الصراع الطبقي كأساس انطلاق في معالجة المعضلات الاجتماعية و منع أي نقد جذري للمنظومة الاقتصادية التي تحكم عليهم بالشقاء . وهي ميدان يهدف إلى مزاحمة التاريخ و مهاجمة المادية التاريخية فتضفي على التاريخ رؤى مثالية مختلفة عبر مناهج ذاتية أو رومنطقية أو نيوكانطية إلخ ( " سوسيولجة " التاريخ ) . إن السوسيولوجيا لا تفعل غير خلق حالة من الضبابية و الانحراف بالفكر إلى متاهات أو حلول واهية وهي بالتالي علم أداتي في صالح أيديولوجية البرجوازية و مصالحها الاقتصادية التي تبرر النظام الرأسمالي و تضفي عليه حتمية حتى لو انتقدت بعض ما تراه تجاوزات و من جهة أخرى تسعى إلى البرهنة على استحالة الاشتراكية و تحرر القوى المنتجة . وهي حين تذهب بعض مدارسها تفاديا للاعقلانية المكشوفة أو المثالية المهترئة إلى الاعتراف بالبنية التحتية فذلك لا يكون إلا في علاقة مشروطة بالبنى الفوقية كالأيديولوجية التي لا تتنازل من منظورها عن كونها العامل الحاسم الأخير في تطور المجتمعات من وجهة نظر قسرية مثلما فعل ماكس فيبر في ألمانيا .
لايتردد صفوة المثقفين التافهين للأحزاب الإصلاحية في تعميم ظاهرة أو حادثة اجتماعية خارج أي اعتبار للتاريخ و لأسبابها و شروطها الاجتماعية فتحمل على المطلق على حساب تطور قوى الإنتاج و البنى الاقتصادية القائمة كما غالبا ما يلجأون إلى اختلاق الثنائيات أو افراغ التناقضات الاجتماعية عبر عمليات من التجريد و الشكلانية من بعدها الاقتصادي و التاريخي لتصير حسب زعمهم التناقضات الحاسمة في المجتمع فيغفلون المعضلات الأساسية للنظام الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي . و هم بذلك يجدون الحجج الواهية لتمرير أي شكل للنضال ذو سقف متدني باسم العقلانية و التدرج بديلا عن كل نضال ثوري و كل سعي لتغيير جذري للمجتمع . يقول الثوري الفرنسي سان غوست " إن الذين يقومون بنصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم " .
#المنصف_رياشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟