السبت 19 أكتوبر 2002 17:00
هل عادت ظاهرة "الفقر" فعلا الى المجتمعات الاوربية المتقدمة ؟
هذا ما يؤكده علماء الاجتماع السويديين على الاقل. الفقر لم يول دون رجعة من المجتمعات الاوربية بل عاد من باب واسع يسمى "المهاجرون" اللذين يقطنون العديد من الدول الاوربية وبات من الطبيعي ان تكون احيائهم وتكبر على اطراف المدن فقيرة بعض الشئ مقارنة بالاحياء الراقية في مدن وعواصم اوربا ولكن لا يزال هناك ذلك التناقض العجيب الذي يراه المرء وهو يتمشى في ازقة واحياء الفقيرة في "بومباي" مقارنة ما عليه المدينة من عمار في الطرف الاخر من وقد تكون استثنائات اخرى لقواعد الاستيطان وتخطيط المدن خاصة في الولايات الامريكية فقد يشاهد المرء احياء فقيرة للملونيين والفقراء وسط الحواظر الكبيرة وقرب مركز المدينة وعماراتها الشاهقة.
الناحية السياسية للموضوع يتارجح بين اليسار واليمين فمن المعلوم ان القوى اليسارية من احزاب سياسية تناضل وتكافح من اجل المجتمع الذي يسوده العدالة الاجتماعية والبرجوازية من جهتها تحاول اغناء الغني وربما يلوح الفقير شئ من غناه وتبقى افكار في الوسط اخذت من هنا العدل الاجتماعي ومن هناك الاقتصاد الحر بينما بقى الشيوعيين وخاصة الاوربيين منهم يعتزون بخطهم الثوري في تغيرجميع مجالات المجتمع عن طريق الكفاح الديمقراطي.
هذه اللوحة السياسية العامة تكون طيف الاحزاب السياسية الاوربية بينما يبقى حزب الخظر ك"الباقلاء اللقيطة " كما يقول المثل التركماني العراقي تحاول جاهدا هذا الحزب الحفاظ على البيئة الاوربية بافكار سياسية ربما تعوزه سياسة خارجية ودفاعية واظحة رغم نجاحات زعيمها الالماني "فيشر" المتتالية.
السويد كانت دولة ذو صبغة سياسية اشتراكية خلال عقود طويلة من الزمن وكلنا نتذكر مواقف رئيس وزائها الراحل"اولف بالمة" الذي اغتيل برصاصة غادرة عام 1986 من موضوع الحرب الفيتنامية وتظامنه مع دول العالم الثالث الفقيرة.
رغم هذه السياسة الاشتراكية التي طغت على المسرح السياسي السويدي وافكار العدالة الاجتماعية التي رافقتها الاجئين طبقة فقيرة في السويد بالمقارنة مع المواطنيين الاصليين وقد كثر الحديث في الفترة التي سبقت عشية الانتخابات البرلمانية الذي اجري في ا لخامس عشر من سبتمر الماضي واستمر الباحثين الاجتماعيين بالتحدث عن "اطفال السويد الفقراء" في دلالة واشارة الى ابناء الاجئين, حيث تدل البحوث على ان النسبة الكبيرة من اطفال الاجئين يعيشون تحت المستويات العامة للرفاه في حالة من الفقر بالمقارنة مع رفاقهم السويديين.
قد يتعجب القارئ الكريم من استعمال مصطلح "الفقر" لمن يعيش تحت سماء مجتمع متطور قد سبق العديد من المجتمعات في حالة الرفاه الاجتماعي وحقوق الانسان الفردية والجماعية وحرية التعبير والرأي والعقيدة والحركة والنشر وما الى ذلك من حقوق ولكن الباحثين الاجتماعيين والاقتصاديين لا ينظرون الى الامور بتلك البساطة ولا يتم المقارنة لديهم مع الدول الاخرى بل هناك العديد من الضوابط والشروط التي يجب توفرها في البحوث العلمية وقد يجري الباحث استفتاء بين عدد كبير من الناس وتطول بحوثه عددة سنين قبل ان يتوصل الى نتائج يمكن الاعتماد عليها ويقوم بنشرها لاحقا. وقد كانت النشرة الاحصائية العامة التي تصدرها مكتب الاحصاء السويدية ذو دلاات وبيانات تؤكد ما ذهب الية الباحثون. دراسة للاسباب والمسببات تاخذنا الى سفر في عالم الاجئ او المنفي وشروط دول اللجوء خاصة بما يخص مجالات العمل وفرصها المتاحة للاجئ.
الهجرة الطوعية في الماضي والقسرية لاحقا:
الاجئون غير المنفيون ويرجع تاريج اللجوء والاحتماء عند الاخرين الى ايام ابونا ادم ولم يتغير اسباباها ومسبباتها كثيرا عبر التاريخ فقد كان ولا يزال الظلم وجور الطغاة وجبروت البيئة والحالة الاقتصاصية من كفاف العيش والفقر والحاجة امور دفع بالانسان ان يترك ديارة ويلتجئ عن الاجنبي الغريب حاملا قلبة على كفه من " الربما" الذي سوف يرافق حياته في المستقبل في ديار الغربة فتراه يحن الى وطنة وذكرياته واصدقاء طفولتةوالازقة والحارات التي جابها فيكون مثل ذلك المرء الذي "بالع الموس" كما يقول المثل العراقي الشعبي رجل هنا في الغربة يؤلمه ورجل هناك في دياره اشد الما. ان التغير النوعي والكمي لعدد للاجئين خلال السنوان ما بعد الحرب العالمية الثانية مثير للانتباه فسنوات الحرب يجاريها دوما عملية انتقال الناس خوفا من نيران الحرب وبعد الحرب ايام السلم تراه يدور في الشوارع بحثا عن عمل يترزق منه وتحت طائلة البطالة يلجئ الى ترك الديار وربما يكون من القلة من الناس الذين يحبون المغامرة والسفر فتراه نسى ان يعود الى ديارة بعد ان عشق اميرة الاندلس وبات يسهر الليالى مناجيا اياها وشعرها الذهبي وعيونها اللوزية الكحلاء.
المعلوم أن السنوات الأخيرة من القرن الماضي، كان مسرحا لنزوح أعداد هائلة من المهاجرين من دول الشرق إلى أوربا. وكان عدد خريجي الجامعات والأكاديميين تمثل نسبة لا بأس بها من المجموع الكلي قياسا ما كان يستقبله أوربا في الماضي من طالبي العمل القادمين من شمال أفريقيا أو من الشرق وبالأخص من تركيا . وقد يكون من الملفت للأنظار أن الكثير من الدول الاسكندنافية لم تعرف بهجرة الشرقيين إليها إلا في السنوات الأخيرة. واليوم هناك أحياء بأكملها سكانها من الشرقيين في العواصم والمدن الرئيسة في أوربا وفي السويد بالذات، تقطن جالية شرقية مهاجرة كبيرة العدد في مدنها الرئيسة الثلاث : العاصمة استوكهولم , مالمو ومدينة يوتابورغ.
أول موجة من المهاجرين إلى السويد تبدأ عام 1875 بأرقام متواضعة لا تتعدى الثلاثة آلاف. بالمقابل يقوم ما يقارب التسعة آلاف من السويديين بترك بلادهم والهجرة خلال نفس العام وتستمر الأمور على هذا المنوال وبزيادة ملحوظة للمهاجرين من البلد. ويبدو أن وجهتهم كانت آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية,. ويستمر تفوق عدد النازحين بالمقارنة للمهاجربن إليها خلال سنوات1899 -1913 حيث هاجر من البلد حوالي 370000 سويدي وهذا عدد كبير إذا علمنا أن عدد نفوس السويد عام 1913 كان ما يقارب 5 638 583 نسمة. وتبدأ أعداد النازحين بالانخفاض خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث كانت السويد دولة محايدة إبان الحرب. حيث بدأت الهجرات إليها تزداد نسبيا بعد سنوات الحرب. ونتيجة للحروب الإقليمية والنزاعات العسكرية التي سادت العالم خاصة بعد الثمانينيات حيث حرب الخليج الأولى والثانية والى يومنا هذا .
الجدير بالذكر أن أعداد النازحين من السويد والمهاجرين إليها ،لا زال محافظا على توازن نسبي ، خاصة إذا أضفنا كذلك، النسبة العالية للولادة عند النساء المهاجرات مقارنة بالسيدات السويديات.
المحافظة على البقاء بين الموروث والمستحدث:
الكثير من الجاليات قامت بالتجمع وتشكيل مجتمعات مغلقة في هيئة نوادي ثقافية لتكون متنفسا لها ولأبنائها للابتعاد من جو البيئة الخانقة والغير متوازنة مع العرف الثقافي والأخلاقي أو الديني للمهاجر.
اللغة الرسمية للدولة تعتبر معرفتها وإتقانها من الأمور البديهية والأساسية للتخاطب بين المهاجرين وآهل البلاد ومؤسسات الدولة. وإتقان هذه اللغة يكون من الأمور المهمة لهم ولأبنائهم. لذلك نرى من الطبيعي أن يكون الأبناء هم الذين يردون على رنين الهاتف في بيت المهاجر. قد لاحظت الكثير من الهيئات التعليمية،ومن خلال ملاحظاتي الشخصية في المدارس. تكون زوجة المهاجر عند استدعاء ولي أمر الطالب لاجتماع بين المدرس والعائلة اكثر حضورا من رب البيت. وقد يكون ذلك موشرا لعدم إتقانه اللغة . وربما وبدافع من الغرور يرفض المشاركة في الاجتماع للتداول والمناقشة حول الأمور المرتبطة بالسير الدراسي لأبنائهم , وهذا النموذج من التعامل يمكن تعميمه على مجمل العلاقات الثنائية بين المهاجر والمجتمع ... هذا يفسر كذلك أحجام المهاجر من المشاركة الفعلية في الحياة السياسية للبلدان التي يقيمون فيها. والظاهر أن أبنائهم من الجيل الثاني اكثر مشاركة بالقياس إليهم كما نشاهد ذلك في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مثلا.
الملاحظة الأخرى يأتي بصدد تعلم أبناء المهاجرين للغاتهم الأم حيث تقوم الدولة بتقديم التسهيلات الأزمة من تعيين مدرسين خارج الساعات الدراسية المقررة لتدريس لغات الأم، وذلك لضمان استمرارية التواصل والمخاطبة مع الأهل والأقرباء في الوطن الأم. وقد يكون الطالب من القادمين الجدد إلى البلاد فتتعين على إدارة المدرسة تعيين مدرسين مساعدين لشرح المواد الدراسية بلغاتهم الأم لمساعدة فهمهم للمناهج الدراسية المقررة.
إن النظرة إلى الموروث الثقافي تتغير بشكل جذري بعد عدة سنوات من إقامة المهاجر خارج الوطن، فتراه اكثر ارتباطا بالأمور التراثية والتقاليد وربما اكثر تقديرا وتثمينا للتراث. ومع تقدم المهاجر بالعمر يتبنى الأفكار والمعتقدات التي ربما كان هو بالذات قد حاربها أو وقف ضدها يوما ما. وهذا ليس بغريب في تطور الفكري للبشر حيث ديناميكية الاعتقاد الفكري والتغير المرتبط بالزمن... هنا مثلا يبدأ بتقدير المطبخ الشرقي اكثر ويشتاق إلى ما كان من الأمور البديهه في وطنه الأصلي وتبدأ الذكريات تفوح منها رائحة زكية يحلو له التحدث بها كلما التقى مواطنيه.
أن من الأمور المتفقة عليها هو، الصراع بين الجيل الجديد والجيل القديم .والصراع هنا حضاري أزلي سيستمر تواجده على المعمورة وقد تتجاوزها إلى عوالم أخرى مستقبلا. يبدو أن الابن الذي يتهم أبويه بالرجعية يعود لاحقا ويتحول إلى متهم بعين التهمة من قبل أبنائه.
أوطان المهاجرين الجديدة تعكس صراعات أخرى جديدة، وهذا طبيعي نظرا للهوه الزمنية الكبيرة والبعيدة بين بدء صراع الأفكار والمعتقدات في الغرب بعد الثورة الفرنسية وعصر النهضة والحربين العالميتين إلى يومنا. هذا زمن الثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الفضاء والمتغيرات الأيدلوجية وعصر العلمنة . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالفرق شاسع بين مراحل التطور المجتمع الغربي والشرقي. الشرقي الذي حل في هذه البلاد الأوربية سيكون في مفترق الطريق في الصراع بين الموروث الثقافي الشرقي و القيم الغربية. بين المجتمع العسكري والمجتمع المدني. وإشكالية الفهم للديمقراطية بين التفسير الشرقي والغربي ، تحت سقف هذه الدار. سوف يكون منقسما وعلية اتخاذ موقف حيث يحاول جاهدا أن يجد صيغة توفيقية بين التناقضات .
أما أبنائه الذين يحملون نواة القدرة على التغير ،سيكونون خلال السنوات الأولى بعد الولادة قد أودعوا في الحضانة، ويبدو وللوهلة الأولى قد تم غسل أدمغتهم وتكاملوا مع مستجدات المجتمع الجديد ، هذا الصبي يعود بعد أعوام وهو يتخطى سنوات عمره الرابعة عشر إلى البحث عن جذوره العرقية والثقافية متمثلا في اختياره لنوع الملبس والأصدقاء ومرورا باللهجة التي غالبا ما يتداولها أبناء المهاجرين مكونيين بذلك شخصية مميزة لهم.
هنا لا بد من التنويه أن السهولة التي يلاقيه ابن المهاجر في اتصاله مع أبناء البلد الأصليين أيام تواجده في الحضانة وفي الروضة ، تزول مع تقدمه في الدراسة في المتوسطة والإعدادية.
تدل نتائج التحصيل الدراسي الثانوي لأبناء المهاجرين قياسا إلى أبناء البلد الأصليين إلى تدني واضح يقلق بين الحين والآخر المسؤولون عن التربية والتعليم وهذا مدعاة قلق لأولياء أمرهم ولو بمستويات مختلفة تربط بدرجة تعليم الوالدين.
قد يكون ولي أمر الطالب من اللذين أسعفهم الحظ في تجارة ما أو في مشروع تجاري تدر عليه الكثير ويتحول إلى نموذج وقدوة لأبنائه وربما للآخرين كذلك. ليس من المستغرب أن يجادلك ابن هذا المهاجر عن جدوى التعليم وهو يقتني احدث ما أنتجته مصانع السيارات ويؤشر إلى والده الشبه أمي بالبنان مقارنا آباه معك ربما , هنا أجد من الضروري أن لا أقوم بالتعميم بل ذاكرا نموذجا قد يكون ابن المهاجر عرضة لمرافقته كزميل دراسي.
الصراع الخفي لذوي المؤهلات الجامعية بين الرضوخ للواقع والطموح:
بالرغم أن معظم الشهادات الجامعية الأولية والعالية الغير سويدية تتم تقيمها ومعادلتها بمثيلاتها السويدية، ويحرر لها وثائق رسمية إلا أن القلة القليلة من الحاصلين على تلك الشهادات ،تتوفر لهم فرص العمل ضمن اختصاصاتهم .وليس غريبا أن تلتقي بالكثير من حملة الشهادات العالية يعملون كأصحاب حوانيت أو مطاعم للمأكولات والنواشف .وربما يعمل كعامل بسيط في أحد المصانع رغم كونه حاملا درجة الدكتوراه أو الماجستير. بالإضافة إلى ذلك لا يحق حتى الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العمل في مصانع عسكرية، أو معامل إنتاج أسلحة أو أجهزة متطورة تكنولوجيا أوحتى في مؤسسات الدولة كالوزارات ومؤسسات شبه الرسمية والبنوك إلا الخاصة منها. وقد يرشح أحد من الجيل الثاني على الأرجح نفسه للبرلمان ضامنا إلحاق اسمه في ذيل إحدى القوائم الانتخابية لأحد الأحزاب السياسية التقليدية .هنا يجدر الإشارة إلى أن لموقع المرشح في القائمة الترشيحية أهمية لضمان دخوله البرلمان. ونتيجة لكل ذلك ،نرى انه لا يوجد أي نسبة بين عدد المهاجرين ونسبة تمثيلهم في معظم برلمانات الأوربية الوطنية منها أو البرلمان الأوربي.
يقف المهاجر ذو الخلفية الأكاديمية موقفا حرجا أمام أبنائه اللذين يتساءلون بين الحين والآخر عن جدوى دراستهم. وقد يقرر دخول سلك التعليم وهنا نرى إحباطا كبيرا كذلك فنسبة التلاميذ من المهاجرين كبيرة جدا قياسا إلى عدد المدرسين المهاجرين هناك مدارس لا توجد فيه أي مدرس من المهاجرين وهؤلاء يمثلون فقط 6 % من مجموع المدرسين والعديد منهم من دول الشمال والأوربيين يستثنى من ذلك مدرسي لغات الأم , هذه المعلومات تعتمد على الإحصائيات الرسمية للدولة. هنا أود تأكيد أهمية تواجدنا نحن المهاجرين في سلك التعليم للطالب المهاجر وأهمية ذلك لعائلته ولإدارة المدرسة في نفس الوقت. من حيث تسهيل حل المشاكل المتعلقة بالطلاب المهاجرين داخل المدرسة أو من خلال الاتصال بذوي الطالب ويعطي تواجدنا في المدرسة شعورا بالأمان للطالب المهاجر يساعده مستقبلا في إنماء شخصيته. هذا إضافة إلى أن ذلك يعود بالفائدة للمجتمع، ويؤدى إلى نوع من التطبيع للمهاجر .كما قد يؤدي إلى زوال الأفكار الفاشية والعرقية السائدة في المجتمع وخاصة بين طلاب المدارس المتوسطة والثانوية. يبقى قلب المهاجر معلقا بين عائلته والمجتمع وذلك الحنين الأزلي واللهفة إلى لقاء الوطن .......سلاما
إليك أيتها الأم التي لفظت أنفاسها الأخيرة وهي في حسرة لرؤية الحفيد المهاجر... سلاما.
خاص بأصداء