تصادف هذه الأيام ذكرى مرور خمسين عاماً على قيام الحزب الشيوعي الأردني. ففي أيار من عام 1951، صدر برنامج هذا الحزب في كراس خاص، تضمن مقدمة تفسر مبررات قيامه، ثم المهام النضالية التي صاغها الحزب لنفسه، في ضوء الوضع المستجد.
وفي الحقيقة، فقد بادرت عصبة التحرر الوطني في فلسطين، أو على الأدق ذلك الجزء من العصبة الذي بقي في الضفة الغربية، بقيادة فؤاد نصار، الى اتخاذ هذه الخطوة. وكان ذلك بعد ثلاثة أعوام على النكبة وعلى قيام دولة اسرائيل، كانت العصبة خلالها تواصل المطالبة بتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 181 الصادر في 29/11/1947 وقيام دولة فلسطينية مستقلة ،على المساحة التي حددها هذا القرار، واعادة اللاجئين الى ديارهم وفقاً للقرار 194. وفي الوقت ذاته، كانت هذه العصبة تقاوم ضم الضفة الغربية الى دولة شرقي الأردن التي كانت مكبلة بأغلال المعاهدة البريطانية - الأردنية وترابط فيها قوات بريطانية ضخمة.
واذا كانت العصبة قد تفردت، كتنظيم سياسي، بقبول قرار 181 للأمم المتحدة حول تقسيم فلسطين الى دولتين، ليس باعتباره الحل المثالي للقضية الفسلطينية، بل باعتباره الامكانية الواقعية الوحيدة لتفادي تشريد الشعب الفلسطيني وحرمانه من حق تقرير المصير .. فإنها - أي العصبة - قد تفردت في البدء كذلك في مقاومة ضم الضفة الغربية من فلسطين الى الدولة الأردنية.
وفي ربيع 1950، عقدت السلطات الأردنية انتخابات نيابية، شملت ولأول مرة الضفة الغربية من الأردن، كما شملت الفلسطينيين الذين لجأوا للأردن، وهم أكبر مجموعة فلسطينية لاجئة خارج حدود فلسطين الانتدابية. وكان الهدف من هذه الانتخابات اضفاء طابع الشرعية على عملية ضم الضفة الغربية للدولة الأردنية. حينها، وقفت العصبة وحدها تنادي بمقاطعة هذه الانتخابات، باعتبارها فصلاً من فصول المؤامرة على الشعب الفلسطيني.
وفي إطار حملة العصبة ضد هذه الانتخابات، نظمت العصبة مظاهرة جماهيرية في مدينة نابلس، حشدت لها من مختلف مدن الضفة الغربية. وقد قمعت شرطة الجنرال البريطاني كلوب، الذي كان قائد الجيش الأردني، والحاكم الفعلي للبلد، هذه المظاهرة بمنتهى القسوة، واقتادت شرطته وراء سنابك الخيل العشرات من نشطاء العصبة، من نابلس ونحو عمان مكبلين بالسلاسل وسيراً على الأقدام. وفي منطقة البادان، استشهد الشاب الرفيق روحي زيد الكيلاني من شدة الإعياء، مما أرغم السلطات على تغيير مخططها ونقل بقية المعتقلين، بعدئذٍ ، في الشاحنات الى سجن عمان.
وجدير بالذكر، أن حزب البعث العربي، شارك في هذه الانتخابات، انطلاقاً من قناعاته بأنها خطوة على طريق الوحدة العربية، ودخل البرلمان الأردني، ولأول مرة، عن هذا الحزب، كل من النائبين عبد الله الريماوي وعبد الله نعواس.
وفي مراجعة نقدية للوقائع الجديدة التي خلقها ضم الضفة الغربية لدولة الأردن، ووجود أكبر تجمع من اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الشرقية، وما رافق ذلك من عمليات التداخل والاندماج التي راحت تأخذ طريقها، ليس فقط على مستوى الادارة في الضفتين وانما كذلك على المستوى الاقتصادي، بين بقايا الاقتصاد الفلسطيني المنهار والاقتصاد الأردني البدائي نسبياً.. توصلت قيادة العصبة الى ضرورة توحيد "الطبقة العاملة" في الشعبين الشقيقين ليغدو بالإمكان حشد طاقات الشعبين الوطنية والتصدي بنجاح للمهام الجديدة. وكان فؤاد نصار هو رائد هذه العملية الوحدوية وقائدها الفعلي.
وفي النقاش الذي جرى ، آنذاك، في قيادة العصبة حول اسم الحزب الجديد، كان هناك من اقترح أن يعكس اسم الحزب الجديد طبيعة تكوينه المفترض من أبناء الشعبين الفلسطيني والأردني. لكن تغلب، في نهاية الأمر، الرأي القائل بأن اسم الحزب السياسي يتبع اسم الدولة، كما هو مألوف في العالم.
كان القرار بتشكيل الحزب الشيوعي الأردني هو قرار عصبة التحرر الوطني في فلسطين، أما العناصر الماركسية الشرق أردنية، فكانت في غالبيتها وبخاصة في البدء، من الجامعيين الذين تلقوا العلم في جامعات خارجية وهناك تعرفوا على الفكر الماركسي. وكان المنتدى الثقافي في وادي السير - عمان مركز تجمعهم الرئيسي. ومع أن أحداً منهم لم يتمثل في قيادة الحزب الشيوعي الأردني لدى الاعلان عن قيامه، الاّ أنه، وبعد مضي بعض الوقت، راحت اللجنة المركزية تستوعب في عضويتها، وبالتدريج، أنشط عناصرهم.
أما على صعيد البرنامج السياسي للحزب الجديد، فقد تراجع في هذا البرنامج شعار النضال في سبيل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة 181 الخاص بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة و 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين، الى المرتبة الثالثة بعد أن كان هذا الشعار يتصدر برنامج العصبة. وفي الحقيقة، كانت التطورات العاصفة والنكسات الخطيرة التي حلت بالشعب الفلسطيني وقضيته، خلال السنوات الثلاث التي سبقت الاعلان عن قيام الحزب الشيوعي الأردني، والممثلة في حرمان الشعب الفلسطيني من إقامة دولته الديموقراطية المستقلة وتشريد اقسام أساسية منه، وقيام دولة اسرائيل على مساحات أوسع بكثير مما هو مخصص لها في قرار التقسيم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: ضم الضفة الغربية لدولة الأردن ، التي كانت بمثابة محمية بريطانية، ووضع قطاع غزة تحت الادارة المصرية.. كل هذا أضاف مهام اضافية خطيرة وثقيلة، يشكل التصدي لحلها شرطاً مسبقاً لحل القضية الفلسطينية، وفق قرارات الأمم المتحدة السالفة الذكر.
على صعيد آخر، كان بدء الحرب الباردة الذي دشنته الولايات المتحدة وحلفاؤها بتأسيس حلف شمالي الأطلسي عام 1949، وتزايد التوتر الدولي الناجم عن تهديدات الولايات المتحدة التي كانت، حتى ذلك الحين تحتكر السلاح النووي، في محاولة للجم صحوة الشعوب الطامحة لاستعادة حريتها المسلوبة ونحو التقدم الاجتماعي، كل ذلك ، خلق تهديداً جدياً ومتزايداً على سلم العالم وأمنه واحتمالات تعريض الانسانية للفناء بالسلاح النووي.
ورداً على هذه المخاطر والتهديدات، ولدت حركة السلم العالمي، والتي كانت الأحزاب الشيوعية والتقدمية نواتها الفعالة، باعتبار صيانة سلام العالم مسؤولية انسانية عامة.
وهكذا، احتل شعار "الدفاع عن السلم العالمي.." البند الأول في برنامج الحزب الجديد. وقد اغتنى هذا الشعار، لاحقاً، بشعار مقاومة الأحلاف العسكرية العدوانية في المنطقة، التي كانت تسعى لإقامتها الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانت أولى محاولاتها عام 1951 تحت اسم "قيادة الشرق الأوسط". وجدير بالتنويه أن هذه الأحلاف كان مقدراً لها أن تضم -كما هو مخطط - الدول العربية وتركيا واسرائيل كحلفاء، مما يعني إهدار القضية الفلسطينية لصالح هذا التحالف وأهدافه العدوانية .
ومع أن عصبة التحرر الوطني كانت قد باشرت منذ عام 1950 النشاط لتشكيل حركة سلام وطنية ودشنت نشاطها هذا بحملة جمع التواقيع على بيان استوكهولم لتحريم السلاح النووي، فان الحزب الشيوعي الأردني، بادر فور قيامه الى اقامة حركة سلام اردنية، بقيادة شاب (آنذاك) جامعي قريب من الحزب ومن اسرة لها وزنها في المجتمع الأردني الذي كانت العشائرية ما تزال طاغية التأثير فيه، هو حسن سعود النابلسي. لكن هذه الحركة بقيت محدودة التأثير نسبياً، بسبب شراسة القمع البوليسي، والذي وضع هذه الحركة خارج القانون، هذا اولاً - وثانياً : لاقتصار قيادة هذه الحركة على اصدقاء الحزب واعضائه، وبخاصة في المراحل الأولى.
اما على الصعيد الداخلي، فقد تصدر أهداف البرنامج شعار "النضال من أجل الغاء المعاهدة الأردنية - البريطانية وجلاء الجيوش البريطانية وجميع الجيوش الأجنبية عن الاردن، والنضال في سبيل الاستقلال الوطني".
وهكذا، فقد غدا تراجع الحرب الباردة، التي غدت القضية الفلسطينية ومنذ وقت مبكر أحد مساحاتها، ودرء محاولات اقامة احلاف عسكرية عدوانية في المنطقة، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى: الغاء المعاهدة الأردنية - البريطانية وجلاء الجيوش الأجنبية عن البلاد .. غدى تحقيق هذه الأهداف مقدمة لا مفر منها لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً. وبهذا احتل "النضال في سبيل تنفيذ قرار الأمم المتحدة 181 ، المرتبة الثالثة في هذا البرنامج، ثم جاءت بعد ذلك المهام الاجتماعية والاقتصادية.
آلية النضال لتحقيق هذه الأهداف
رفع الحزب الشيوعي الأردني، ومنذ البدء، شعار الجبهة الوطنية، التي تضم في صفوفها مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية التي تتضرر مصالحها من الوضع الذي كان قائماً، انطلاقاً من الادراك بأن ضخامة المهام المطروحة وصعوبتها، لا يمكن لحزب أو تنظيم او حتى طبقة اجتماعية بمفردها أن تتصدى لها بنجاح.
ومع أن الحزب لم يكف يوماً عن التثقيف بشعار الجبهة الوطنية، الا ان الأمر تطلب زمناً، وتطلب تجارب مريرة، حتى أمكن تحقيق هذا الشعار على الأرض وبخاصة في المعارك الكبرى التي عرفها الأردن، ولا سيما ضد محاولة جره الى حلف بغداد عام 1955، وفي التضامن مع مصر عبد الناصر ضد العدوان الثلاثي خريف 1956، ثم في الانتخابات النيابية خريف 1956 التي افرزت اكثرية نيابية وطنية كان في عدادها رفيقان للحزب هما فايق وراد ويعقوب زيادين، وهي الانتخابات الاولى التي جرت بقدر من الديمقراطية.
وفي الحقيقة، فقد شهدت هذه الحقبة قمة نشاط الحزب الشيوعي الأردني وحيويته ونفوذه الجماهيري، رغم أنه كان خارج القانون. وخلال هذه الفترة والفترة التي تلتها وحتى بداية عام 1968 كان فهمي السلفيتي هو الذي يقود الحزب، حيث كان فؤاد نصار وراء القضبان يقضي عقوبة السجن لمدة ستة أعوام بعد اعتقاله، أواخر 1951، مع ثلاثة من رفاقه في بيت مطبعة الحزب. وبعد خروجه من السجن اواخر 1956 لم يمكث طليقاً في الأردن، سوى اشهر قلائل، أعقبها الانقلاب الرجعي ضد حكومة النابلسي في 25 نيسان 1957، حيث غادر فؤاد البلاد تسللاً الى الخارج، بقرار من المكتب السياسي، ليعود اوائل 1968 لممارسة دوره على رأس الحزب حتى وفاته عام 1977.
ولكن اذا كان الحزب، خلال المرحلة الاولى من هذه القيادة، قد استوعب خصائص المرحلة وتعاطى معها بشكل صحيح وفعال واكتسب بذلك هيبة واسعة في اوساط القوى الوطنية في الاردن، فإنه قد تخلف في المرحلة التالية، في استيعاب خصائص ما بعد انقلاب نيسان 1957، الذي كانت واشنطن من ورائه وما تلاه من تبعية الاردن للاستعمار الجديد، ولا سيما في تقييم دور البرجوازية الوطنية وما طرأ عليه من متغيرات سلبية في الوضع الجديد، مأخوذ في الحسبان ان هذه الطبقة الاجتماعية هي، في ظروف الاردن ، تجارية في الأساس وليست صناعية، وانها في الوضع المستجد تحولت ، او اقسام اساسية منها، الى برجوازية كومبرادورية - وكلاء للشركات الاجنبية - وما تبع هذا التحول في دورها الاقتصادي من تأثير على موقفها السياسي. كما تخلفت هذه القيادة عن التقاط المؤشرات التي راحت، مع بداية الستينات، تتوالى حول عودة الروح للشخصية الفلسطينية المتميزة،، وبالتالي: توجيه الحزب للقيام بدور متقدم وفعال في هذا المنحى-.
ولدى بروز حركة المقاومة الفلسطينية، عقب العدوان الاسرائيلي عام 1967 واحتلال الضفة الغربية، تخلف الحزب الشيوعي الاردني، بعض الوقت، عن تحديد الموقف السليم منها، ومن اساليب النضال الملائمة بخاصة في الخارج ضد الاحتلال الاسرائيلي. وفي حينه، تبلورت في قيادة هذا الحزب ثلاثة اجتهادات حول هذه القضايا. الأول: ويدعو للمشاركة في العمل المسلح في الخارج وفي الداخل. والثاني: ويدعو الى المشاركة في العمل المسلح في الخارج، بينما الاعتماد في الداخل على النضال الجماهيري والتركيز عليه، اخذا بالحسبان الخصائص المميزة لوضع الداخل غير الملائمة للنشاط المسلح، والثالث: ويدعو الى حصر نشاط الحزب في الداخل والخارج في النضال الجماهيري والسياسي. ومعلوم ان هذه القضية حسمت لصالح المشاركة في النشاط العسكري في الخارج، وتشكلت منظمة الانصار بالتعاون مع الاحزاب الشيوعية الشقيقة: العراقي والسوري واللبناني. اما في الداخل، فقد مارس الحزب العمل المسلح، ولفترة، في اطار الجبهة الوطنية التي كان الحزب قد شكلها وكان القوة الأساسية فيها، وذلك الى جانب النضال الجماهيري الذي كان للحزب فيه قواعد اساسية وتقاليد غنية في الداخل، وبرّز فيه بشكل ملحوظ. هذا، وقد جاءت الانتفاضة الكبرى عام 1987 لتزكي جدوى هذا النضال الجماهيري وملاءمته اكثر من سواه للوضع الملموس في الاراضي الفلسطينية المحتلة.
وعقب التطورات الهامة، على الصعيدين الفلسطيني والعربي، التي تلت حرب تشرين 1973، وبخاصة اعلان المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 عن الاستعداد لاقامة "السلطة" الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره من الاحتلال الاسرائيلي، واستعداد م.ت.ف لحضور المؤتمر الدولي الذي نص على عقده قرار مجلس الأمن 338، عقب تلك الحرب، واعتراف القمة العربية في مؤتمر الرباط بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني .. بعد هذه التطورات البالغة الأهمية بدأ الحزب الشيوعي الأردني في اتخاذ الخطوات التمهيدية لإعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني . وفي اطار هذه الخطوات التمهيدية جاءت تسمية فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية ب "التنظيم الشيوعي الفلسطيني"، ثم تبعه في وقت لاحق، وبخطوة مماثلة فرع الحزب في لبنان، حتى تتوج الأمر باعلان الحزب الشيوعي الفلسطيني المستقل في شباط 1982.
وخلال هذه المسيرة الحافلة والمثيرة على نحو غير عادي، منذ تأسيس الحزب الشيوعي الأردني، والتي كانت من الصعوبة والقساوة الى حد الاعجاز ، حيث امضى المئات والمئات من مناضلي الحزب وكوادره، بروح من الصمود والتضحية المثيرة للاعجاب، السنين الطوال، يتنقلون في السجون والمعتقلات الصحراوية والزنازين، وأقبية التعذيب الذي كان يصل حتى القتل على ايدي خبراء حلف الأطلسي كما جرى مع الرفيق الشهيد عبد الفتاح تولستان وغيره، والمحاربة في لقمة الخبز والعمل والسفر وغيرها من القيود، بينما النواة القيادية للحزب لم تعرف منذ نكبة الشعب الفلسطيني وحتى الانفراج التدريجي في الأردن بعد عدوان حزيران 1967. . لم تعرف سوى حياة السجون او العمل السري الذي هو في بعض جوانبه اقسى من السجن.
لقد راكم الشيوعيون، خلال هذه المسيرة المجيدة، تقاليد مضيئة في الصمود والبسالة وصون شرف الحزب والشعب .. تقاليد غدت مضرب الأمثال وأسهمت كثيراً في تطوير تقاليد المواجهة للارهاب البوليسي في الاردن. وقد غدت هذه التقاليد، وبحق، جزءاً مميزاً في كنز التقاليد المجيدة، في تاريخ نضال الشعبين الشقيقين الفلسطيني والأردني. وهي، بهذا المعنى، تشكل أمانة في اعناق من توارثوا هذا الارث المجيد، ليس فقط لصيانته من أي تشويه او ابتذال او اساءة، بل والسعي المخلص لتطويره واغنائه والنسج على منواله.