|
تعقيب على مقال -بعض الآثار السلبية للقرآن-
محمد علي عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 4038 - 2013 / 3 / 21 - 21:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بدايةً، أُوضِحُ أنني لستُ من دعاة الإلحاد ولا الأديان. ولا أدعو المسلمين إلى نبذ دينهم ولا إلى الإلحاد ولا إلى اتِّباع أي دين آخر، بل أدعوهم إلى تجاوُزِ الإسلام الحالي بوعيهم وإلى الخروج من قفصه، لا إلى قفص عقائدي آخر، بل إلى الحرية الإنسانية. ما أعملُ على إيضاحه هو ضرورة تحرير العقل العربي المسلم والخافية الجمعية العربية الإسلامية (اللاوعي الجمعي) من تحَكُّمِ كِتاب وُضِعَ لتلبية متطلبات عصر محدد قديم وبيئة محددة ولا يمكنه أنْ يلبِّيَ متطلباتِ عصر جديد وبيئات جغرافية مختلفة. ولذلك لا يصلح أبداً كتشريعٍ لعصرنا، كما يؤكِّد المفكِّر السوداني الشيخ محمود محمد طه. القرآن هو مخطَّط وُضِعَ لإنشاء قومية عربية لا أكثر، وقد أدى دورَه وانتهى الأمر. فإذا كان له من دور معاصر فيجب أنْ يكون دوراً أركيولوجياً [آثارياً] تاريخياً للباحثين والمؤرخين فقط لا أنْ يتحكَّمَ بأمة بكاملها. فإذا تحكَّم بأمة ثبَّطَ عقولَها ونقلَها إلى العصر الذي وُضِعَ فيه، لأنَّ أيَّ كِتاب ينقلك من عالَمك الواقعي إلى عالَمه الخيالي. وعندما يتحرر العقلُ من سلطة النص يستطيع تقييمَه ورؤيتَه على حقيقته وتجاوُزَه. فمن أراد أنْ يحبَّه يكون حبه صادقاً وحراً كمن يحب رواية خيالية ويعرف أنها خيالية. فكرتي هي إبعاد القرآن عن الحقل العام والجماعي للمجتمع وحصرُه بالحقل الفردي الخاص، أيْ إعلانُ موته اجتماعياً لا فردياً وإلغاءُ وظيفته التشريعية والمرجعية. ففي الحكاية الرمزية لإبراهيم، نرى أنَّ إبراهيم حطَّمَ الوظيفةَ الاجتماعيةَ والجمعيةَ للمقدَّسات، أيْ حطَّمَ الأصنامَ من الحقل الاجتماعي لا الفردي، فهو لم يذهبْ إلى بيت أحد ويكسر الصنم الموجود في داخله، إنما ذهبَ إلى المعبد العام. وهي قصة رمزية تشير إلى أنَّ الأصنام (ماديةً كانت أم عقائدية دينية وفكرية) ينبغي ألَّا تحكمَ المجالَ العام أو اللاوعي الجمعي. وأودُّ أنْ أجيبَ على النقاط التي أثارت جدلاً: 1- إنَّ إسلام موريس بوكاي ورونيه غينون هو حالات فردية لا تشير إلى صحة القرآن والإسلام، بل تشير إلى ديموقراطية البلاد التي يعيش فيها هؤلاء الأشخاصُ. فلو غيَّر مسلمٌ دِينَه في بلاد الإسلام لقتلوه، ولكن الغرب يحترم الحرياتِ الشخصية. أما أسباب إسلام هؤلاء فهي أسباب سيكولوجية فردية خاصة بكل واحد منهم. هناك، بالمقابل، حالاتٌ كثيرة عن أشخاص (أعرف بعضَهم) قد تركوا المسيحيةَ واعتنقوا البوذية أو أصبحوا ملحدين، ومنهم مفكِّرون كبار. فهل هذه الحالاتُ دليل على صحة البوذية والإلحاد؟! كما أنَّ كثرة المعتنقين لفكرة ليس دليلاً على صحتها. وهذا مثبت تاريخياً. فأغلبُ المعتقدات الفلكية الراسخة للعصور القديمة غير صحيحة الآن علماً أن كل البشرية كانت تؤمن بها آنذاك. ما أحاول توضيحَه ليس إلغاء القرآن كنص ومنعه من التداول بل رؤيتَه على حقيقته بحيادية وبناءً على معايير لغوية وعلمية، أحاولُ رؤيته ككلام عادي لا يحتوي على حقيقة بل يشير إلى ألف معنى ومعنى بحسب استعداد القارئ، وبالتالي لا يمكن فرضه على المجتمع وجعله مرجعاً. كما أدعو إلى توضيح ذلك علناً عملاً بالحديث الذي يؤكد على إظهار عيوب السلعة المراد بيعها. فالقرآن كسلعة فكرية يجب التنويه في بدايته إلى أنَّ ما جاء فيه يخصُّ القرون الوسطى والجزيرة العربية فقط وهو مرتبط بزمانه ومكانه. وأدعو من منطلق حبي للمسلمين وللقرآن إلى تحرير اللاوعي الجمعي الإسلامي من سلطة القرآن وجعل القرآن كتاباً فردياً شخصياً لا جمعياً. أي يمكن لأي شخص أنْ يحبَّه كما يحب أية رواية أو أسطورة ولكن لا يمكن فرضه على الآخر. فإذا اعتنقه موريس بوكاي أو غيره فذلك لا يزيد من قيمته شيئاً وإذا انتقده أحد مثلي فلا ينتقص من قيمته شيئاً. ويبقى القرآن كتابَ أساطير من مخلَّفات القرون الوسطى يعكس عصراً وبيئةً ويُـعَـدُّ مصدرَ بحث تاريخي للدارسين. إذا كان المسلمون يأخذون إسلام موريس بوكاي دليلاً على إعجاز القرآن فإن مقابل ذلك هناك أمثلة أخرى كثيرة جداً على إلحاد مفكرين كبار في تاريخ البشرية. بالمقابل هناك مفكرون ورجال دين مسلمون معاصرون ينتقدون القرآن بشدة مثل: الشيخ أحمد القبانجي والشيخ محمود محمد طه. هذه عقول كبيرة يجب ألا نتجاهلَها. فلماذا نأخذ حالةَ موريس بوكاي المؤيدة للقرآن دليلاً على صحة القرآن ونتجاهل حالات أخرى أعظم وأهم في تاريخ الفكر البشري تنتقد القرآن والأديان عموماً وتفضح زيفَها؟ أليس التمسك بحالة موريس بوكاي والقليل غيره دليل ضعف فكري وعلمي للمسلمين فيريدون بشتى الوسائل أنْ يثبتوا صحة عقيدتهم؟ لو كان قرآنهم صحيحاً وقوياً وعظيماً لما احتاج إلى شهادات لتثبتَ صحته كشهادة الوليد بن المغيرة الوحيدة تقريباً في تاريخ الإسلام في حين أنَّ جميع الانتقادات قد طُمِسَت فلم يصلْنا مثلاً أي شيء من كتابات ابن الراواندي لأن المسلمين أحرقوها خوفاً على دينهم، وهذا دليل ضعف. فمقابل كل دليل تُـقدِّمه على وجود الله يكون هناك شك في داخلك. وكذلك مقابل كل دليل تُقدِّمُه على صحة كتابكَ المقدَّس هناك حالة ضعف تسعى لتغطيتها بدليل. فلو كان القرآن واضحاً ناصعاً حقيقياً كالشمس فلماذا يخاف المسلمون من انتقاد الكافرين له؟ هل تخشى الشمسُ من أنْ يُبصَقَ عليها؟ عندما يتغنَّى المسلمون بماضيهم يقولون بأنهم عندما كانوا متمسكين بقرآنهم كانوا متطورين ولم ينتبه المسلمون إلى أنَّ أغلب علماء الإسلام وفلاسفتهم وأدبائهم كانوا إما ملحدين أو غير مؤمنين بالإسلام مثل الرازي وابن سينا وإبن المقفّع وجابر بن حيّان والخوارزمي والجاحظ والفارابي والمعري. 2- العرب عاطلون عن الإنجاز العلمي ليس بسبب الإسلام وحده ولكن هناك أسباب اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة أهمها تحكُّم القرآن بلاوعيِهم الجمعي. لاوعيُهم أصبحَ محدوداً مقيداً بالقرآن، مما أعاق الإنجازَ العلمي الذي يتطلَّب الحريةَ التامة والحيادية، فحلَّ محلَّه كذبةُ الإعجاز العلمي للقرآن. عندما يسيطر أيُّ كتاب مقدس على اللاوعي الجمعي لشعب يجعله عقيماً. ولذلك عندما كان الإنجيل مسيطراً على عقلية أوروبا كانت أوروبا خاملةً، ولم تبدأ بالإنتاجَ إلا عندما بدأت بالتحرر من سلطة نصها المقدس ورجال دينها. لا يختلف المسيحيون المحكومون بالإنجيل عن المسلمين المحكومين بالقرآن فجميعهم يحتكمون لكِتاب لا علاقةَ له بعصرهم، وجميعهم يقزِّمون الإنسانَ ويجعلونه تابعاً وخاضعاً للنص في حين أنَّ الإنسان أعظمُ وأكبرُ من أي دِين وأي كتاب. فأيُّ كتابٍ مقدس يقتل لامحدودية اللاوعي الجمعي لأنه يحددها بحدوده ويلغي كلَّ مخالف له. إنَّ أيَّ نموٍّ للكائن الحي يتطلَّب نزْعَ جلدِه القديم وأيَّ تطوُّرٍ للمجتمع يتطلَّب كسْرَ أصنامِه القديمة مهما كانت مقدَّسة. ألم يكسرْ إبراهيمُ بحسب القرآن أصنامَ قومه المقدَّسة؟ أليست أصنامُ الفكر والعقيدة أقسى من الحجارة؟ 3- تطوَّرَتْ ماليزيا صناعياً ليس لأنها اتَّخذَت القرآنَ نموذجاً لها، بل لأنها اتَّخذَت اليابانَ وبعضَ الدول الصناعية الأخرى نموذجاً. تطوَّرَت لأنها أفسحَت المجالَ لرجل متمرِّد (مهاتير محمد) أنْ يطبِّـقَ أفكارَه. ويبدو أنَّ مهاتير محمد قد فسَّر الإسلام بطريقة إيجابية، كما طبَّقَ التسامحَ الديني والمشاركةَ مع المختلِف دينياً واستفاد من خبرات الدول الصناعية لا مما يقوله القرآنُ. النقطةُ أخرى والأهم هي أنَّ تطوُّرَ ماليزيا يجب فهمُه ضمن إطار سوسيولوجي سياسي تاريخي، أيْ أنَّ هناك أسباباً اجتماعية وسياسية معينة ساعدَت في صعود ماليزيا، ومن بين هذه الأسباب لا يوجد القرآنُ قطعاً. فماليزيا لم ترجع إلى القرآن وتطبِّقه حرفياً كتطبيق وصفة سحرية أو طريقة طبخ. كما ينبغي فهمُ تطور ماليزيا من منظور كارما الأمم التي تكلَّمَ عنها وِلْـيَـم ك. دْجَدْج وهو أنَّ لكل أمَّةٍ أو جماعةٍ كارما [كَرْمىً] خاصةً بها مثلما أنَّ لكل فرد كارما خاصة به. مما يعني أنَّ شرط التطور المادي ليس التمسك بالقرآن بدليل أنَّ أكثر الدول المتطورة ليست مسلمةً وأنَّ الطفرة الوحيدة التي هي ماليزيا ذات الغالبية المسلمة والتي قد تكون عابرةً لم تتطوَّرْ لأنها مسلمة مطبقة للقرآن. كما أنَّ القرآن لا يحكم اللاوعي الجمعي (الخافية الجمعية) للماليزيين. وإنَّ التجارب التاريخية للشعوب التي طبَّـقَت القرآنَ كانت كارثيةً. كما أنَّ القرآن لم يصنع عظَمةَ المسلمين وهيبتَهم العسكرية كما يروِّج رجالُ الدين. ولو كان ذلك صحيحاً فلماذا لا هيبةَ لهم الآن ومازال بين أيديهم القرآن. فإنْ برَّروا ذلك بأنَّ المسلمين لا يطبِّقون القرآنَ فأقول: وماذا بالنسبة لمن طبَّقه فخرجَ بنماذجَ كأفغانستان والصومال؟ ثم ماذا على الأمَّة أنْ تطبِّقَ منه حتى تتقدَّمَ تكنولوجياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً وإنسانياً؟ مِن وجهة نظر اجتماعية وعلمية، هناك قوانينُ لصعود الأمم، وهذه القوانين لا توجد في الكتب المقدَّسة، فالقرآنُ ليس برنامجاً سياسياً أو اجتماعياً أو تكنولوجياً. وتطوُّرُ الأمم مرتبطٌ بعوامل اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية وتاريخية وكارمية معقَّدة جداً. فتطوُّر الأمة مرتبط بشكل رئيسي بإنتاجها، وإنتاجُها غير مرتبطٍ بتاتاً بكتابها المقدَّس. فهناك أممٌ معاصرة صنعَت لنفسِها عظَمةً وهيبةً بدون الحاجة إلى الرجوع إلى أي كتاب مقدَّس، بل إلى العقل والوعي والعِلْم والتنظيم والعمل الدؤوب والإصرار. كما أنَّ هناك بلداناً معاصرة طبقَّت القرآن أو جزءاً منه فلم يزدْها ذلك إلا تخلُّفاً، فإنْ قيل بأنهم لم يطبقوا القرآن بالشكل الصحيح فسندخل في جدال عقيم حول ماهية الفهم الصحيح للقرآن. إنَّ تطبيقَ القرآنِ أو أيِّ كتاب آخر قديم يقطع الأمَّةَ عن حاضرها ويرميها في الماضي، والماضي ذاكرةٌ، والذاكرةٌ ميِّتةٌ. فالحيُّ هو الحاضرُ، هو الآن. فإمَّا هُـنا-الآنَ أو لا زمانَ ولا مكان، كما تقول العبارةُ الإنكليزية: Now-here or nowhere. إمَّا أنْ يتجذَّرَ المسلمون في حاضرهم وإما أنْ يموتوا أو يعيشوا كالأموات. 4- كلُّ المشكلةِ هي في الاعتقاد بأنَّ القرآن كلام الله، أيْ في الاعتقاد بما يخالفُ الحقيقةَ اللغوية والعلمية وهي أنَّ كلَّ نص لغوي هو مِن صُنعِ بشر. المشكلةُ الأخطر هي في تعميم هذا الاعتقاد وفرضه. فمادام ذلك الاعتقاد فردياً وشخصياً فإنَّ ذلك لا يسبب مشكلةً كبيرة. ولكنه عندما يصبح عاماً تكونُ المأساة. لأنَّ الاعتقاد بأنَّ القرآن كلامُ الله يجعله ملزماً ويحتجز حريةَ مَن لا يريد الإيمانَ به أو يجبره على النفاق. أليس وجودُ المنافقين من بداية الإسلام إلى الآن دليلاً على رفض المسلمين للفكر الآخر المخالِف لا على كفر المنافقين؟ إنَّ الاعتقاد بأنَّ القرآن (أو غيره من الكتب) هو كلام الله يحدُّ اللامحدودَ ويجعلُ اللانهايةَ بين دفَّـتَيْ كِتابٍ. فاللهُ لانهائيٌّ (أو هكذا يُفترَض) ولا يمكن أنْ يحدَّه كلامٌ ولا أنْ يوصَف بالمتكلِّم. إنَّ الإيمانَ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله يبرِّرُ فرْضَه على الآخرين بل ويبرِّر القتلَ مِن أجلِه ومِن أجلِ الدفاع عنه. فالمسلمون قَــتــلوا المخالفين لعقيدتهم تحت ذريعة إعلاء كلمة الله. وهنا الكارثة. لو لم يعتقدوا أنَّ للهِ كلمةً لمَا قَــتـلوا من أجلها. مشكلةُ الاعتقادِ بأنَّ القرآنَ كلام الله هي أنَّ مَن يعتقد أنه كلام الله يجعله مرجعاً له، ومَن يجعلُه مرجعاً له يأتمر بأمره ويسعى إلى تطبيق ما فيه دون تمييز ودون الأخذ بعين الاعتبار السياقَ التاريخي الذي وُضِعَ فيه. وبما أنَّ القرآن يحتوي على آيات تحثُّ على العنف وقتلِ المخالف فإنَّ جعلها في متناول العامة وإقناعَهم بأنها كلام الله يُــعَـــدُّ خطراً كبيراً على المجتمع كمن يعطي سلاحاً لطفل ويقول له بأنَّ الله يأمره أنْ يستخدمَ هذا السلاحَ. إنَّ الخطورة الاجتماعية في اعتبار القرآن كلام الله هي أنَّ اعتباره كذلك يؤدي إلى وضعه في القمة واعتباره كاملاً فريداً مرجعاً قدوةً في حين أنه ليس في الحقيقة كذلك. مما يؤدي إلى تخلُّف مَن يجعلُه قدوةً أو مرجعاً له. فلو اتَّخذْتَ قدوةً لكَ طالباً ذا مستوىً متوسط أو أقل فلن تصبحَ في عِداد المتفوقين وسيكون إنتاجُكَ بمستوى قدوتك ونموذجَكَ إنْ لم يكنْ أقلَّ. ولو اتَّخَذَت الأمَّةُ نموذجاً لها كِتاباً من منتجات القرون الوسطى، أيْ متأخر زمنياً وثقافياً وفكرياً عن الزمن المعاصر، فسيكون تطورها بمستوى نموذجها وأقلّ، وستصبح في مؤخرة الأمم. إذْ كيف لطبيبٍ أنْ يتطوَّرَ وهو يتَّخِذُ مراجعَه ونماذجَه ما كتبَه الأقدمون في الطب؟! عندما تطبِّقُ الأمةُ المعاصرةُ مخطَّطاً وضعَه أناسٌ منذ قرون لعصرهم وزمانهم فسترجع تلك الأمةُ المعاصرةُ إلى مستوى الوعي النفسي والروحي والثقافي للأمة السابقة التي وضعَت المخطَّطَ. كما أنَّ القرآن يزرع الخوفَ في النفس الفردية والجمعية العربية والإسلامية. هذا الخوفُ أكبر عاملٍ يعيقُ الإبداعَ عند المسلم كما يؤكِّد السيد أحمد القبانجي. 5- الأنظمةُ العربية العلمانية من وجهة نظري هي الوجه السياسي للإسلام. فظاهر النظام علمانياً وبطانته وقوانينه دينية وطائفية. وبما أنَّ المجتمعاتِ العربيةَ الإسلاميةَ محكومةٌ بالقرآن في لاوعيها الجمعي فإنَّ لَـبْسَ الأنظمةِ السياسية فيها لقناعٍ علماني لا يفيد في شيء. وإني أدعو لتغيير جذري في آليات التفكير وفي البنى العميقة للمجتمعات العربية والإسلامية لا إلى لبس قناع علماني. ولذلك فإنَّ هذه الأنظمةَ العلمانية المزيَّفة لم تفلح في شيء سوى في القمع وخاصةً في قمع ما هو ديني. ولكنها لم تساهم في تغيير التربية والعقلية الدينية. وقد انتبهَ الباحثُ نبيل فياض إلى أنَّ حزب البعث ذا المظهر العلماني ما هو في الحقيقة إلا وجهٌ آخر للإسلام السياسي. فكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة. ولا أدَلَّ على ذلك من استخدام البعث لتعابيرَ دينيةٍ مثل: البعث والرسالة الخالدة. 6- عندما أطالب بقطيعة معرفية مع القرآن فمِن بابِ أنه كتاب من نتاج القرون الوسطى لا يمكنه أنْ يحكم البنى المعرفية لمجتمعنا المعاصر. هذه القطيعةُ يجب ألَّا يقومَ بها فردٌ واحد أو عدةُ أفراد قلائل بل أنْ يتمَّ قطعُ النظم التربوية المعاصرة عن القرآن. أيْ عدمُ جعل القرآن مصدراً للثقافة والتشريع والتعليم. وبالتالي فإنني لا أدعو إلى إحداث قطيعة على المستوى الشخصي الفردي فحسب، إنما أدعو إلى إحداث قطيعة جماعية مع العقلية القرآنية. ولكنْ لا أدعو إلى سحب القرآن من حياة الفرد فهذا شأنه وتلك حريتُه، بل إلى سحبه من اللاوعي الجمعي للمجتمع. فإنجازاتُ الفرد الواحد الذي يقاطع القرآن قد لا تظهر مباشرةً وقد لا تنعكس مباشرةً على المجتمع بل تحتاج إلى وقت لتقييمها ومعرفتها. فانتقاداتُ سقراط الواخزة لمجتمعه وآراؤه لم يكن لها تأثير في وقتها ولكنها أثَّرَت فيما بعدُ بِأجيال. الإنجازُ الأول والأهم للقطيعة مع القرآن هو إنجازٌ على صعيد الوعي الفردي والروحي والنفسي. فكلُّ المستنيرين وحكماء الحضارة والفلاسفة والأنبياء قد أحدثوا قطيعةً مع معتقدات عصرهم فكسروا أصنامَها الفكرية والإيديولوجية. أولُ إنجاز يحصل عليه مَن يقوم بقطيعة مع النصوص المقدسة جميعاً هي ارتقاءُ وعيه إلى ما هو أبعد من تلك النصوص. يكفي إنجازاً أنه يتحرر من سلطان العقيدة وأغلالها. يوضح كريشنامورتي أنَّ "الحقيقة أرض بلا دروب ليس بمقدور الإنسان أنْ يأتيَها عبر أي تنظيم ولا عبر أي معتقد ولا عبر أية عقيدة ولا كهنوت ولا شعيرة ولا عبر أية معرفة فلسفية أو رياضة نفسانية. عليه أنْ يجِدَها عبر مرآة العلاقة، عبر فهم محتويات ذهنه هو، عبر الرصد وليس عبر التحليل الفكري أو التشريح الاستبطاني.". وبالتالي فإنَّ ما يوصل إليه القرآنُ والإسلامُ ليس الحقيقةَ بل سُجونٌ إيديولوجية. وبالتالي فإنَّ مِن ثمار القطيعة مع القرآن هي أنْ يكون الفرد المُقاطِع عصفوراً حراً من القفص ومن الخوف. ولا تعني القطيعةُ عدمَ قراءته بل تعني أنْ ندرك أنه كتاب خاص بمكانه وزمانه فلا نجعل منه قفصاً مذهبياً، وحتى لو كان ذهبياً يظل قفصاً يمنع من الرؤية والطيران. يقول كريشنامورتي: "أريد ممَّن يسعون إلى فهمي أنْ يكونوا أحراراً، لا أنْ يتَّبعوني ويجعلوا مني قفصاً قد يصير ديناً أو مذهباً. عليهم بالحري أنْ ينعتقوا من المخاوف كلِّها: من الخوف من الأديان، من الخوف من الخلاص، من الخوف من الروحانية، من الخوف من الحب، من الخوف من الموت، وحتى من الخوف من الحياة. فكما الفنان الذي يرسم لوحة لأنها فنُّه الذي يفرح به، لأنها الإفصاح عن ذاته، لأنها مجده وتفتُّحه، هكذا أفعل ما أفعل، لا لأحصل على شيء ما من أيٍّ كان." 7- يعتقد المسلمون أنَّ القرآن خاطبَ العقلَ وطالبَ بالتفكر. صحيحٌ أنَّ هناك آياتٍ تدعو إلى التفكر ولكنَّ هذا التفكر مشروط بأنْ يؤدِّيَ إلى الإسلام أو إلى الإقرار بوجود الله بحسب المنظور الإبراهيمي. فمثلاً يقول القرآن: "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ." (الروم، 8) وبالتالي فإنَّ القرآن يرفض التفكُّــرَ الحر. أيْ أنَّ الإسلام يقبل التفكر المحصور بالقرآن أو الذي يؤيد الإسلام. وكلُّ تفكر مخالف هو كفرٌ بنظر الإسلام. علماً أن التفكر الحر وحده هو الذي يؤدي إلى الاكتشاف. الفكر الحر هو وحدَه الفكر المنتج. وكلُّ تفكر مشروط ليس تفكراً بل أداة إيديولوجية تُرسِّخُ التبعيةَ والتخلُّف. ما أدعو إليه من خلال القطيعة مع القرآن هو القطيعة مع التفكر المشروط والفكر المقيد لأنه عقيم ولا يؤدي إلى الإنجاز. فالقرآن يدعم الفكر الذي يؤيده ويحارب الفكر الذي ينتقده. فهو أشبه بالطاغية الذي يجمع حوله "المفكرين" المأجورين المادحين لعظمته. ولو كان القرآنُ يدعو إلى الفكر بصورة مطلقة غير مشروطة لتسامحَ أتباعُ القرآن من الفكر الناقد والمخالف و"المنحرف" و"الضال" و"الشاذ". 8- مِن الطبيعيِّ أنْ يحتويَ القرآنُ على افكار إيجابية وإنسانية فهو انعكاس لعصره بما فيه من إيجابي وسلبي. فالخطابُ المكي عموماً كان خطاباً وعظياً وعاماً وإنسانياً مثل: "ادفع بالتي هي أحسن السَّيِّئَةَ" (المؤمنون، 96) (وقيل أنَّ هذه الآية منسوخة بآية السيف)، "وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (فصلت، 34). هذا الخطابُ حصلَ عندما كان الإسلامُ ضعيفاً وقبل أنْ يصبحَ دولةً. فلما أصبحَت له دولةٌ تغيَّرَ خطابه إلى خطاب تشريعي هجومي قومي نزاعي. فكان الخطابُ القرآني أَشْبهَ بخطاب المرشَّحين السياسيين قبل استلام مناصبهم وبعده وأَشبهَ بالخطابات البلاغية الجميلة للطغاة عن حقوق الإنسان بينما هم يقمعون أبسطَ أنواع الحريات. وجودُ مثلِ هذه الآيات الأخلاقية والجميلة لا يعني أنَّ القرآن كلام الله. فهناك كُتُب فيها مِن الإنسانيةِ والأخلاقِ أكثر مما في الكتب المقدسة جميعاً ولم يدَّعِ أصحابُها أنها كلام الله. واحتواءُ القرآن على بعض الأفكار الإيجابية لا يعني الأخذ به. فكلُّ الكتبُ، مقدَّسةً كانت أم غيرَ مقدَّسة، تحتوي على ما هو إيجابي وما هو سلبي فهل نأخذ بكل ما فيها. 9- لستُ وحدي من يطالب بعدم قتل القاتل، بل جميع المنظمات الإنسانية واللاعنفية، وقامت بعضُ الدول بإلغاء حكم الإعدام. أرى من موقفي كإنساني لاعنفي أنَّ آية القِصاص هي ابنةُ عصرِها وتتنافى مع مبدأ اللاعنف. ولذلك فمن الطبيعي ألَّا أطالبَ بقتل من قتلَ لي قريباً. فما الفائدة الأخلاقية والإنسانية وحتى المادية التي سأجنيها من قتل القاتل سوى إشباع عقدة الثأر وإرضاء الأنا الفردية والجمعية؟ يكفي القاتلَ عقوبةً أنه ارتكبَ جريمةَ قتل. فكلُّ فعلٍ يجرُّ ردَّ فعلٍ نفسي من سعادةٍ أو ألم، بحسب الكارما، أيْ أنَّ كلَّ فعل خاطئ، أيْ في غير محلِّه، يقود إلى الألم بحسب البوذية. ولذلك قال كرستمس همفريز مُـحِـقاً: "المرء يعاقَب بـخطاياه، وليس عليها." ولذلك فإنني لا أعاقب نفسي بارتكاب فعلة القاتل ولا بالدعوة إليها. 10- أما رأيي في الإنجيل فهو كِتاب عادي مجموع من أكثر من نص، مثله كمثل القرآن وغيره من الكتب المقدسة. هو ابنُ عصره وبيئته ويحتوي على تناقضات عصره. فيه الأفكار الجميلة والمنطقية والإنسانية، وكذلك فيه الأفكار الغريبة واللامنطقية واللاإنسانية. أما حَـمْـلُ "العذراء" بيسوع من ناحية علمية فهو بديهي كحمل أية امرأة من علاقة مع ذَكَر. وما الطريقة اللامنطقية واللاعلمية لحمل العذراء بيسوع سوى عقيدة خيالية رمزية اخترعَـتْها المؤسسةُ المسيحيةُ لأسباب اجتماعية وسياسية معينة ووقعَ في مَـطَـبِّها الإسلامُ. فعقيدةُ الحبَل بلا دنس تصلح جواباً لطفل يسأل: "من أين أتيتُ؟" ثم لأيِّ حكمةٍ يَخرُقُ الله قوانينَه ويخلقُ المسيحَ بلا أب؟ ألِـيُـثبِتَ قدرتَه وقدرتُه تملأ الوجودَ؟ ولمن يُـثبِتُ قدرتَه؟ لأناس لا يمكنهم أنْ يتأكَّدوا فيما إذا كان المسيح فعلاً بدون أب؟ لا معنى لأنْ يقومَ اللهُ بهذه المعجزة لأنَّ البشر لا يستطيعون أنْ يروها ولا أنْ يتأكدوا من حصولها؟ ما هي الطريقة التي تُـثبِت لنا أنَّ ولادة المسيح هي من دون أب وليست نتاج علاقة جنسية؟ أمْ أنَّ علينا أنْ نُصدِّقَ ذلك لمجرد أنَّ القرآن والإنجيل قاله؟ مما يعني أنَّ المعجزات ما هي إلا قصص للساذجين. تقول سيمون فايل (كتاب: التجذر): "عندما نقول [عن المعجزة] بأنها حدثٌ مخالف لقوانين الطبيعة فإننا نقول شيئاً مجرَّداً تماماً من المعنى. [...] الفعلُ الخارق للطبيعة الوحيد في الدنيا هو القداسة نفسها وما شابهها؛ وهي أنْ تصبحَ الوصايا الإلهيةُ لدى الذين يحبُّون اللهَ دافعاً وقوةً فاعلةً وطاقةً محرِّكة بالمعنى الحرفي كالوقود في السيارة. فإذا قام المرءُ بثلاث خطوات بدون أي دافع آخر غير الرغبة في طاعة الله فإن هذه الخطواتِ الثلاثَ معجزةٌ؛ وتكون معجزةً أيضاً سواء تمَّتْ هذه الخطواتُ على الأرض أم على الماء. لكنها عندما تتم على الأرض لا يبدو أيُّ شيء مدهشاً. [...] بخصوص صحة الأحداث الخارقة التي يرويها الإنجيلُ، لا يمكن إثباتُ شيء أو نفي شيء إلاَّ إذا أرسلنا الكلامَ على عواهنه، فالمسألة ليست بذات أهمية." إنني أعمل بصدق ومحبة من أجل تحرير نفسي أولاً وأخي المسلمَ ثانياً من الخوف ومن الخرافات والأساطير ومن المفهوم السائد عن المعجزة. فكلُّ هذه قيود تمنعنا من اختبار ألوهيَّـتَـنا الساكنة فينا.
#محمد_علي_عبد_الجليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعض الآثار السلبية للقرآن على حياة المسلمين
-
لماذا نقد القرآن؟
-
الألفاظ الأعجمية في القرآن ودلالتها والتحدِّي ومعناه
-
قِطة شرودنغر وقسورة القرآن
-
القرآن العربي نص مترجَم إلى العربية
-
وظيفة القرآن
-
حقيقة النبي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|