أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سهر العامري - ملا رسول : المثيولوجيا والواقع !















المزيد.....

ملا رسول : المثيولوجيا والواقع !


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 1161 - 2005 / 4 / 8 - 12:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كثير ما عدت الى أيام طفولتي ، أبحث في مخيلتي عن صور لم أكن أجد تفسيرا مقنعا لوقوعها ، واختلافها ، وتناقضها احيانا ، فيها البهي ، المشرق ، وفيها المعتم ، القاتم ، ولو أن المعتم يفوق البهي منها ، فقد اعتدنا نحن سكان وادي الرافدين على هذه المعادلة المختلة لصالح الحزن والظلمة ، فهذا شاعرنا النجفي : عبد الأمير الحصيري ، يفصح عن ديالكتيك الحياة العراقية هذه ، وربما دونما وعي منه ، فالمعنى الشعري يأتي للشاعر أحيانا مثل ومض من حساس ، مرهف بالأشياء ، يشرق في عقله اشراقة شمس ، يقول الحصيري :
وادي الحياة خفي القاع يحضنه = = = سفحان : نضر ، وسفح معتم ، خربُ
لم يقدم الحصيري إلا نعتا واحدا هو النضارة لسفح الحياة العراقية الأول ، بينما قدم نعتين ، متتالين ، يزيد النعت الاول منهما جانب الحياة تلك سوادا وظلمة ، بينما يضفي النعت الثاني على ذات الجانب المظلم خرابا ودمارا ، بمعنى أن هذا الجانب هو وظلمته حل عليهما نعت آخر هو الخراب، فصارت صورة مركبة في جانب السلب من ذاك الديالكتيك .
وحين يسأل الواحد منا نفسه سؤالا هو : لماذا لم يكن سلب الحياة وايجابها متعادلين بنظر الشاعر ؟ هل أن السبب هو ذاتي محض ، أم أنه موضوعي أم الاثنان معا ؟ يكون الجواب هو ربما تكون قسمة الضيزى هذه ترد الى النفس العراقية التي عاشت واقعا مريرا ، يقوم ، بالاضافة الى مرارته ، على تربية من موروث ثقافي ، تكدس على مر عصور طويلة خلت ، فلقد عاشت على أرض العراق ثقافات كثيرة ، لكنها اتسمت بسمات الثقافة الشرقية التي كان أبرز سمة فيها هي خوف المواطن العادي من الحاكم الذي يمثل السلطة الدنيوية بكل جبروتها ، وخوفه من الكاهن الذي صورته الثقافة الشرقية على أنه ممثل سلطة السماء على الأرض ، وأحيانا ترفع الثقافة الشرقية التي منها ثقافتنا العراقية هذا الرجل الحاكم ، أو رجل دين الى منزلة تعلو على منزلة البشر ، فمن قديم كان الملك جلجامش في نظر العراقي زمن الدول السومرية نصف إله ، ونصف إنسان ، حتى عاد هذا الملك ، وملوك تلوه ، في عقول الناس سطورة لا يمكن معها أن يحسب رجلا مثل بقية الرجال ، يأكل ويشرب ، ينام ويتغوط ... الخ ، وإذا كان الحاكم قد أخاف الناس بعقابه العاجل ، فإن الكاهن أو رجل الدين قد أخافهم بعقابه الآجل ، ولكن العلاقة بين الاسطورتين ما كانت تجري على خط مستقيم بينهما دوما ، فكثيرما كان الحاكم يريد من الكاهن أن يظل دائرا في فلكه ، بينما كانت نظرة المحكومين لطرفي السلطة تتسم بالخوف غالبا ، وحتى حين يموت هذان الرجلان : رجل الحكم ، ورجل الدين ، ترفض عقولنا أن تصدق أنهما ماتا ، وعادا ترابا ، مثلما كانا من قبل .
لقد ظلت ثقافة التقديس هذه تطاردنا ، نحن العراقيين ، دائما ومنذ عهود بعيدة خلت ، فحين قتل أبو جعفر المنصور قائده ، أبا مسلم الخراساني ، تشكلت فرقة بعيد موته مباشرة ، عُرفت فيما بعد بـ ( المسلمية ) أعتقد اصحابها أن أبا مسلم لم يمت ، وأنه سيعود اليهم يوما ما ، وفي تاريخنا القريب أعتقد العراقيون أن عبد الكريم قاسم لم يمت ، ولم يستطع أنقلابيو شباط الأسود من المجرمين البعثيين الذين حملهم القطار الأمريكي الى الحكم في العراق من قتله ، فقد كانت الناس في العراق تعتقد أن صورة عبد الكريم قاسم ، الذي تشكلت فرقة باسمه في عراق اليوم ، تظهر في القمر حين يشرق ليلا ، وكنا نحن الصبية وقتها ، وفي خضم تربية البيت هذه ، والموروث الثقافي الذي انتجته أجيال عديدة ، ننتظر ظهور القمر كل ليل ، لنرى صورة الزعيم عبد الكريم قاسم فيه ، ومن دون أن يجرأ أحدنا على تكذيب هذه الخرافة في ظل نقص خطير في تربيتنا ، لم يستطع البيت ، ولا المدرسة سده للان ، ولعمري أن الكثير من شعوب الشرق تشترك مع العراقيين في نقص التربية هذه ، فأهل مكة كانوا يصنعون آلهتم بيدهم من حجر ، رغم أنهم يرون بأم أعينهم كيف كانت ذكور الأفاعي تبول في رؤوسها ، حتى أن شاعرهم ، ولهذا السبب ، قد تبرأ منها ، فقال :
ورب يبول الثعلبان برأسه = = = ألا ذُل من بالت عليه الثعالبٌ
وفيما بعد وقف الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب ( رض ) أمام الحجر الأسود يخاطبه : أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولكن وجدت رسول الله يقبلك فقبلتك 0
أما أكراد كردستان فقد اتخذت فرقة عندهم من الامام علي عليه السلام ربا ، رغم أن الامام علي قال على رؤوس الاشهاد : من بالغ في حبي ، فقد أكبه الله على منخريه يوم القيامة في النار .
وحين ندخل بلاد فارس تجد أن هناك من يعبد النار للان ، وليس البشر هذه المرة ، وإذا رحت بعيدا عنها ، ونزلت الهند ، وجدتهم يقدسون البقرة ، ويريقون دماءهم دونها إن تجرأ أحد ومسّ بقرة ما بضر !
على عكس هذا تعمد فلسفة التربية في البلدان الغربية الى رفض الخرافة والاسطورة ، والركون الى العلم ، والمعارف ، وقد تلاقى عندهم جهد المدرسة هذا مع جهد البيت في هذا المعترك ، فتقدموا في مضمار العلم اشواطا عنها ، قدرت بسبعمئة سنة ، وتعلمنا منهم نحن الشرقيين الذين نسكن بين ظهرانيهم كيف نستغل نعمة العلم في استخدام جهاز الكمبيوتر ، وكيف نحصنه من عبث الشرقيين من عملاء المخابرات الايرانية الذين يريدون أن يطفئوا أنوار العلم بتخلفهم ، وفايروساتهم على شحط المسافة بيننا ، وبينهم ، مع أن هذه الوسيلة العظيمة التي بين أيديهم ما كانت من صنعهم ، ولا من بنات أفكارهم التي لازالت تعيش في كهوف الماضي !
ولسبب رفض الخرافة والتقديس عند الغربيين تجد أطفالهم , وأطفالنا ينهضون بشخصيات حصيفة ، يؤمنون بالعلم ، ويقدرونه حق قدره ، ويسخرون منك أنت الكبير إن حدثتهم بغيره على أنه من الحقائق ، تعلمهم المدرسة الشجاعة في القول ، وتربيهم على أن يعبروا هم عن حاجاتهم ، وتحرم على الكبار عن أن يعبروا عنها نيابة عنهم ، يقولون لهم إن الملك ، ورئيس الوزراء ، ورجل الكنيسة بشر مثلكم لا غير ، يمر رئيس وزرائهم في الشارع دونما حرس يحميه ، ودونما هتاف متملق يتابعه ، ينادونه باسمه دون أن يضيفوا له سيادة أو فخامة ، ولا دامت افاضاته ، ولا شيئا من هذا القبيل ، قد يكون الواحد منهم في ضيق مالي ، فيظل بانتظار وزير المالية حين يمر في الطريق الى وزارته سيرا على الاقدام ، فيرمي على ووجهه قطعة من الكيك مطعمة ببعض الحلوى احتجاجا ، عندها يكون رد الوزير هو أن يخرج منديله من جيبه ، يمسح أثار الكيكة عن وجه ، وينصرف ، فالقانون هو الذي يعاقب المعتدي على حرية البشر الذين يكون الوزير واحدا منهم ، وليس أكثر .
نمط التربية هذه ذكرني بنمط التربية الذي أمضيت أياما من طفولتي على هدى منه ، هناك في قرية نائية من جنوب العراق ، فحين يحل شهر محرم الحرام على تلك القرية تنشد أبصارنا في العشرة الأولى من أيامه الى وجه ملا رسول الذي سيمضي معنا تلك الأيام ، قارئا كل يوم فصلا من فصول مأساة الامام الحسين عليه السلام ، ومن قتل معه في معركة الطف التي دارت رحاها على أرض كربلاء .
كنا نحن الصغار ، ولسوء تلك التربية ، نرى في ملا رسول رجلا فوق البشر، ما كنا نتصور أبدا أنه يعيش مثلنا ، يتنفس من أنف مثلنا ، يمضغ الأكل بأسنان مثلنا ، كيف يكون له ذلك ، وقد رسمت له تلك التربية صورة مثيولوجية ، غريبة لا تركن الى واقع الناس ، وراح أهلنا يفاخرون به دائما، وقد كان فخرهم هذا يقوم على أنه يستطيع أن يبكي عددا كبيرأ ممن يستمعون إليه ، وهذه ميزة تباهى بها قراء سيرة احداث معركة كربلاء تلك بعضهم على بعضهم الآخر ، مثلما تباهى فيها مضيفو الملا نفسه لأنهم استطاعوا أن يأتوا بملا يبكي الآخرين أكثر من غيره !
لقد أوصلتنا التربية تلك الى درجة كنا معها لا نصدق أن الملا رسول كان لديه حانوت صغير يبيع للناس فيه شيئا من السكر والشاي ، وحاجات البيت الأخرى ، مثلما عرفنا ذلك بعد أن شببنا عن الطوق ، كنا نظنه قادما من أرض أخرى ، أو ربما من سماء أخرى ، فقد كان الكبار من أهل قريتنا يقفون له بتبجيل كبير ، حين يدخل هو ديوان أحد منهم ، تماما مثلما يقفون لشرطي نزل تلك القرية بمهمة . لكن اسطورة ملا رسول تلك انتهت على حين غرة ، فقد رفض هو في شهر محرم من هذه السنة القدوم لقريتنا من أجل سرد أحداث تلك المأساة في مراسيم العزاء التي كانت تقيمها بعض البيوتات الميسورة فيها، وقد عرفنا أن السبب كان هو احتجاج الملا رسول على قلة محصوله من الدراهم المعدودة للسنة الماضية، تلك الدراهم التي كانت الناس ترميها ، كأجر له ، في إناء معدني مفتوح يوضع عند أرجل الكرسي الذي يتلو من فوقه أحداث تلك المعركة في صبيحة اليوم العاشر من شهر محرم الحرام ، لكن الملا رسول ما كان على حق أبدا ، فقد تناسى أن اهل القرية في أغلبهم كانوا يتغذون تمرا ولبنا في الكثير من أيام السنة ، وخاصة جارنا ، زاير خصاف ، الذي أكل السل رئتيه ، وراح يتقيء روحه دما عند كل فورة سعال تعتريه ، ومن دون أن يعرف ما معنى كلمة طبيب .
حين علمنا نحن الصغار بامتناع ملا رسول عن القدوم لقريتنا قمنا بمظاهرة حاشدة ، طافت أزقة تلك القرية ليلا ، وهي تهتف بحناجر غضة ، موحدة ، مطالبة بسقوط ملا رسول ، الانسان ، الذي عاش مثل إله في عقولنا ، وتحيي في الوقت نفسه ، وبابتهاج منقطع النظير ، ملا آخر ، جديد ، قادم لنا ، هو الملا مصاول الذي كان يبدو لاعيننا ، نحن الصغار ، مثل راع ٍ من رعاة الاغنام !
لقد ودعنا الملا رسول ، واستقبلنا الملا مصاول على الطريقة العراقية التي اعتاد العراقيون فيها أن يودعوا رئيسا ، ليستقبولوا رئيسا آخر !



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة على ظهر حمار !
- اللوبي الإيراني : اجتثاث البعث أم اجتثاث العرب ! ؟
- الأعجميان وفوضى الحكم في العراق !
- البصرة وضراط القاضي !
- شيوعيون في ضريح الامام الحسين !
- الى وزير خارجية العراق ونوابه !
- الجعفري بين الرضا الانجليزي والحذر الامريكي !
- قراءة أخرى في نتائج الانتخابات العراقية !
- التوافقية !
- المقهى والجدل *
- جون نيغروبونتي ملك العراق الجديد !
- ظرف الشعراء ( 34 ) : بكر بن النطاح
- الجلبي يفتي بحمل السلاح !
- أوربا وقميص عثمان !
- الما يحب العراق ما عنده غيرة !
- من أسقط صداما ؟
- ما كان أهل جنوب العراق سذجا يوما !
- نيران الفتنة قادمة من أيران ! سهر العامري
- الجلبي دولة مرشدها آية الله الخامنئي !
- الانتخابات خيط من فجر الديمقراطية في العراق !


المزيد.....




- رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق ...
- محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا ...
- ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة، ...
- الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا ...
- قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك ...
- روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
- بيع لحوم الحمير في ليبيا
- توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب ...
- بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
- هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سهر العامري - ملا رسول : المثيولوجيا والواقع !