|
شكوى مدينة تحولت من الثقافة والأدب والفن، إلى مثلث موت
حسين السكاف
الحوار المتمدن-العدد: 1161 - 2005 / 4 / 8 - 12:10
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
مدينة عمرها الإداري عمر قناة السويس، أو تكبرها بعام. ولكن عمرها التاريخي أبعد من ذلك بكثير، حين كانت دار إستراحة المسافر بين بغداد والبصرة، فهناك يقف شامخاً " خان السبيل " – مسقط رأس المدينة – الذي كان يأوي المسافرين ودوابهم في القرن الثامن عشر، ذلك الخان الذي لا زال قائماً رغم كل التشّوهات التي طرأت عليه بحكم الزمن أو بحكم الحاكم. قبل ذلك كانت السقائف التي يشيدها المسافرون بين أشجار النخيل والتوت المنتشرة على جانبي الطريق، هي من تأويهم وتقيهم حرارة الشمس. مدينة مر بها كل مسافر وجهته بغداد أو البصرة، ربما المتنبي، أبو فراس، الجاحظ، الفارابي، إبراهيم الموصلي،إسحق الموصلي، ولاة عثمان. مرت بها جحافل الإنكليز، السياب، الجواهري، ضيوف المهرجانات، ومرت بها جحافل الجيوش الأمريكية وأتباعهم. لم تتأثر مدينة المحمودية بأي صخب سياسي على مر العصور، فلم تشارك بثورة، أو إنقلاب، أو إنتفاضة، حتى أنها لم تتأثر أو تهتم بالخطب السياسية التي كان يطلقها الزعماء. وعلى غير العادة كان سياسيوها يهتمون بالثقافة متخذيها طريقهم الأنجع للفصح عن أفكارهم، فلقد كان طابعها الثقافي حصنها الحصين، هي مدينة الراحة والإستجمام لوفرة بساتينها وأنهارها وإمتداد مساحات مزارعها، بل كانت مركز إستقطاب الكتاب والمفكرين والفنانين لهدوئها وصفائها ولقربها من العاصمة بغداد. أطلق عليها الموسيقار الفلسطيني الراحل روحي الخماش اسم " نابلس " ويقصد تلك المدينة الفلسطينية التي ولد فيها، بصورتها التي تعتمر ذاكرته حين رحل عنها عام 1948 قادماً إلى العراق، فكان كلما سأله أحداً من زملائه الفنانين عن وجهته، يقول: " سأذهب إلى نابلس حيث بيتي "، فهناك إتخذ الفنان روحي الخماش من منطقة تتوسط العراق – تماماً وسط العراق – سكناً له، حين اشترى أرض زراعية في إحدى ضواحي مدينة المحمودية، " منطقة اللطيفية " جانب نهر " ابو رميل " تقدر مساحتها بمائة وخمسين دونماً زراعياً تحقيقاً لأحلام تعتمر دواخله القروية. فالفنان روحي الخماش ينحدر من طبقة ريفية، اذ كان والده حمدي عباس الخماش يمتلك أرض زراعية في مدينة نابلس الفلسطينية تقدر بمائة وخمسين دونم مازالت قائمة حتى الآن، وحين ابتعد روحي الخماش عن أرضه ومسقط رأسه، أراد أن يعيد تلك الصورة في موطنه الجديد. إن جمال المنطقة وسحرها بحقولها وأنهارها وصفاء أجوائها، هو سر بلائها، وهو ما كان يجعلها محط أنظار أصحاب الأموال وأطماع رجالات السلطة الذين لم يتوانوا عن إمتلاك مئات الدونمات فيها ليؤسسوا قلاع الترفيه والزهو. ولم يكن الراحل روحي الخماش الوحيد من الفنانيين الذين سكنوا هذه المنطقة الساحرة، فلقد سبقه العديد منهم، وكان الشاعر العراقي الذائع الصيت " الملا عبود الكرخي " قد سبقه في ذلك بسنوات عدة حين أنشأ في عهد الإحتلال الإنكليزي للعراق – أوائل القرن المنصرم – مزرعتين هناك، وهما " شطيطان " و " السليمية " وظل يزارع فيهما سنين عدة حتى قامت ثورة العشرين، ليشترك فيها الشاعر الكرخي وراح يمد الثوار بأشعاره وبما تطرحه أرضه من خيرات، فعمدت سلطات الإحتلال إلى مصادرة أرضه الزراعية، حيث أوعزت إلى ( المستر أوستن ) الحاكم السياسي للواء بغداد بوضع اليد عليها. والسبب المعلن من قرار قوات الإحتلال الإنكليزي هو الإنتقام من هذا الشاعر الثائر، لكن السبب المتداول بين الناس آنذاك، هو جمال الطبيعة الخلاب لتلك الأراضي التي كانت مثار إعجاب وأطماع الضباط الإنكليز ممن زاروها. بقيت مدينة المحمودية ومناطقها الريفية الجميلة " اليوسفية واللطيفية وأبو شمع والقصر الأوسط وغيرها " على صورتها الزاهية مرتدية حلتها الثقافية والفنية سنوات طوال، فهي مدينة المخرج وأستاذ مادة السينما الفنان عبد الوهاب الدايني، وفيها ولد وعاش سنواته العشرين الأول الفنان التشكيلي عباس الكاظم الحائز على جائزة بينالي القاهرة السابع، ومدير ترينالة كوبنهاكن حالياً، وهي المدينة التي عاشها الشاعر العراقي فوزي كريم لسنوات عدة حين عين مدرساً للغة العربية هناك، وفيها ولد وترعرع الكاتب والصحفي أحمد المهنا صاحب كتاب " الإنسان والفكرة " والذي عرفه الجمهور العربي من خلال الكثير من البرامج الثقافية والسياسية التي أعدها وقدمها لتفزيون أبو ظبي، وكذلك الكاتب والصحفي العراقي عامر بدر حسون صاحب كتاب العراق ومجلة الأيام التي تصدر في دمشق، وهي المدينة التي سكنتها عائلة الأعسم لسنوات طوال، تلك العائلة التي ينتمي إليها الكتاب والصحفي العراقي عبد المنعم الأعسم، كذلك المخرج السنمائي عبد الهادي ماهود الذي سكن المدينة منذ مطلع الثمانينيات. بقيت المحمودية على صورتها حتى إغتصب صدام حسين السلطة من الواهن " البكر ". كان " إبن العوجة " يعرف المنطقة جيداً منذ كان يختبأ في بساتينها فترة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم عندما كان يلاحق من قبل الشرطة لجرائمه العديدة، وكان له فيها أصدقاء من أبناء الفلاحين. عند وصوله إلى السلطة، أصبح يغتصب الأرض تلو الأخرى والبستان تلو الآخر من مالكيها، مقابل أثمان بخسة أحياناً أو تعيين أحد أبناء الشيوخ في مراكز الدولة المهمة أو بالقوة أحياناً أخرى، حتى تحولت أغلب مناطقها الزراعية إلى مناطق عسكرية مغلقة يصعب على سكنة الأراضي المجاورة تجاوزها، مما أضطرهم إلى بيع أراضيهم لأزلام السلطة ومرتزقتها بأبخس الأثمان، وكان لخال الرئيس خير الله طلفاح وولده الأكبر عدي حصة الأسد من تلك الأراضي، ولم يكتفي " القائد الضرورة " بذلك، بل شيد ستة مصانع عسكرية على محيط المدينة التي يحدها نهر الفرات غرباً ودجلة شرقاً، وأسكن موظفي تلك المصانع وعمالها التابعين إلى هيئة التصنيع العسكري والذي يقارب عددهم الخمسون ألف نسمة، جاءوا من مختلف محافظات العراق، في قلب المدينة، بعد أن شيد لهم بنايات سكنية هناك، فأصبحت المنطقة وبقرار منه حزام بغداد الأمني. وجراء ذلك، أصبحت المحمودية ترسانة السلاح الأمني لصدام حسين وأتباعه، فضاعت الثقافة ومات الأدب والفن، وتشرد الفنانيين والمثقفين من أبناء المحمودية، فتوزعتهم المنافي بعد الهجمة الشرسة التي قادها " القائد الملهم " ضد الثقافة والمثقفين بحجة إنتماءاتهم السياسية. أصبحت تكنى مدينة المحمودية وضواحيها بـ " مثلث الموت " بعد سقوط التمثال، هكذا إكتست مدينة الثقافة والفن صبغة الموت والدمار، ففيها أصبح الذبح تقليداً بعد أن كانت تحتضمن موسمين مسرحيين في العام، موسم المسرح المدرسي، وموسم مسرح المحترفين والهواة، وأصبح الإختطاف صفة شوارعها بعد أن كانت أول مدينة عراقية تعرف شوارعها معرض الرسومات في الهواه الطلق عندما أقام الفنان عباس الكاظم والفنان قاسم حمزة الفرهود معرضهم الفني في شارع المحمودية العام إحتفاءً بالجيش العراقي من حرب إكتوبر بفلسطين عام 1973، المدينة التي كانت زاخرة بمسابقات الشطرنج أصبحت تزخر بسباقات الإرهابيين وهم يتسابقون على إتمام " العدد عشرة " من ذبح الأبرياء كي يصبحوا أمراء جماعاتهم الإرهابية. هل يمكن القول إذاً بأن الموسيقار روح الخماش كان محظوظاً بموته (المبكر) قبل أن يشهد خراب مدينة نابلس العراقية، المدينة التي عاثت بها أيادي الدكتاتور ومرتزقته ومن ثم الإرهابيين وجحافل الإحتلال، تماماً كما خربت الجحافل الإسرائيلة مدينة الخماش الفلسطينية؟. سؤال أتركه لأبناء المدينة وهم يضعون اللسمات الأخيرة لتمثال الحرية والثقافة والفن في أيامهم القادمة.
#حسين_السكاف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صديقي الدانماركي والفن العُماني
-
سرقة سنوات المنفى بقرار وزاري
-
إلى شهيد الديمقراطية، سعدي جبار البياتي
-
ثمن بطاقتي الإنتخابية
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|