|
حوار حول الثورة السورية في عامين
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4036 - 2013 / 3 / 19 - 23:03
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أسئلة ريتا فرج
• دخلت الثورة السورية عامها الثالث كيف تصفون ولو بشكل موجز الإنجازات التي حققتها؟ أعتقد أنها أسقطت النظام في عيون السوريين وأثارت في نفوسهم احتقارا عميقا له، بجميع رجاله، وأولهم بشار. كما طوت صفحة "سورية الأسد" وحكم السلالة الأسدية، والأبد. وأخرجت العديد من مناطق البلد من سيطرة القوات الأسدية المعتدية. وفي إسقاط تمثال حافظ الأسد في الرقة يوم 4/3، ثم ضربه بالأحذية والتبول عليه، ما يرمز إلى ما تحقق على هذا المستوى. هناك قدر كبير من الحرية الخام أو غير المنظمة في سورية اليوم. وما أراه ثمينا على نحو خاص هو تجارب متنوعة في التنظيم الذاتي، والتعبير عن النفس، وما لا يحصي من التشكيلات السياسية. هناك بالطبع قدر مهول من الصعوبات، وكيان البلد مهدد، والمجتمع منقسم بعمق، والكثير من التشكيلات العسكرية غير المنضبطة أو ذات الانضباط الديني. لكن تلك التجارب يمكن أن تكون ركائز للبناء السوري الجديد وتعديل الكفة بقدر ما في مواجهة الصعوبات. المجتمع السوري يحاول سياسة نفسه بعد نصف قرن من الغياب. هنا القصة. • بعد مرور عامين على الثورة السورية لم يحدث تحول ملحوظ في مقاربة الدول الكبرى لما اصطلح عليه لاحقاً بـ "الأزمة السورية". ما هي الأسباب التي تدفع المجتمع الدولي إلى عدم اتخاذ إجراءات قادرة على وقف حال الجمود النسبي؟ بموقعها وإقليمها وتكوين مجتمعها والآثار المحتملة للتغير السياسي فيها، تشكل سورية عالما مصغرا، تلتقي فيه مخاوف الدول جميعها. عالم اليوم ليس صديقا للحرية وللكفاح من أجل الحرية رغم المظاهر، وليس هناك دولة، لا من "أصدقاء الشعب السوري" المزعومين ولا من أعداءه لا ترتعش من التفكير في أن شيئا كهذا يمكن أن يحصل لديها ومن محكوميها. القوى الغربية تنفر من النظام، وتخاصم تحالفاته الإقليمية، لكنها (وهي الأعضاء المؤسسون والأصلاء في نادي النخبة العالمي) تخشى على "الاستقرار في المنطقة"، وقد كان من أولوياتها دوما، ودخول الجمهور العام في السياسة نازع للاستقرار دوما، ومصدر للفوضى الخلاقة فعلا. ثم إنها تخاف من الإسلاميين أو من أية قوى وطنية استقلالية. وتشغل إسرائيل موقعا مركزيا في حساباتها السورية، ومصلحة إسرائيل هي استمرار الاستعصاء ما دام لا أمل في عودة النظام الأسدي. في النتيجة يبدو لي أن المحصلة العملية لسياسة القوى الغربية تتجه نحو تفضيل أن ينهزم الطرفان في سورية، النظام والثورة، أو أن تترقب إلى اللحظة التي توفر لتدخلها المتأخر مردودا أعظميا. أما روسيا من بين القوى الكبرى فهي تقف بثبات إلى جانب النظام ومستمرة في توريد الأسلحة "الدفاعية" له، أي التي تفيد في قتل السوريين، وليس في مواجهة أيٍ كان غيرهم. والصين شريكة في الدعم السياسي. والأساس في مواقف الدولتين هو الشراكة في معسكر الاستبداد، والتطلع إلى إشغال موقع نخبوي منافس في العالم. الجمود متولد عن أن داعمي النظام أقوياء القلب في دعمه، فيما أصدقاء الشعب السوري فاترون في مساندته. لكن يبدو أن هذا الوضع آخذ بالتغير. • تطرح سيناريوات مختلفة عن مستقبل سورية من بينها التقسيم وإنشاء دولة علوية ما هي حظوظ سيناريو التقسيم وهل له مقومات على أرض الواقع؟ بتقديري أن نواة النظام الصلبة أو "الدولة الباطنة"، المكونة من الأسرة الأسدية والمخابرات والبرجوازية الجديدة، ستتمسك بـ"سورية الأسد" ولو على رُبع سورية أو عُشرها. اعتادت على السلطة المطلقة والثروة المطلقة، وتجريدها من السلطة والثروة منها هو بمثابة إعدام لها.لا تطيق المساواة أو ما يقارب المساواة مع أي أطراف اجتماعية وسياسية أخرى بفعل اعتيادها طوال عقود على أن تكون هي كل الأطراف، وصار الامتياز طبيعتها الثانية. وليس لها ولاء لسورية العامة، سورية السوريين، وهي التي حكمت البلد طوال عقود حكما استعماريا. لذلك نعم، سيحاولون التقسيم، وهم ينالون دعم إيران وحزب الله في ذلك. وتقديري أيضا أن لحظة البدء الفعلي للدولة الأسدية في الساحل هي لحظة إفلات دمشق من قبضة النظام. لكن هذا مشروع لن يمر، ولا أحد، بما في ذلك قطاع مرشح للاتساع من العلويين، يمكن أن يتحمله. النظام الذي كان يشبح في سورية كلها، لن يتوقف عن التشبيح فيما لو كان سكان دولته الأسدية من العلويين فقط، ولن يتوقف عن الكذب، ولا عن السرقة، ولا عن القتل. تكوينه هكذا وغرائزه هكذا، وبعد طرده من أكثر الأرض السورية سوف ينتج كل طاقته من العنف والموت والكراهية في بقعة أضيق، وفي النهاية سوف يقتل نفسه بسمه الخاص، مثل عقرب محاصر بالنار. ربما ليس قبل أن يقتل كثيرين في "الأسدية"، وفي سورية ككل، وربما ليس دون تطهير وانتقامات طائفية للأسف. النظام الطائفي في سورية سيكون طائفيا ولو في القرداحة وحدها. سيتلاعب بالتمايزات العشائرية إن وجدت هناك، وإلا فسيتلاعب بالتمايز إلى عوائل. يفرّق كي يسود. • أحدث تفاقم العنف في سورية بعدما أجبرت الثورة على الخروج عن طابعها السلمي/ المدني شرخاً لدى مكونات المجتمع السوري، ربما زاد من قلق الجماعات من بعضها البعض. هل تؤيدون هذا الطرح؟ وإذا كان هناك فعلاً جرح وطني كيف يمكن معالجته؟ والى أي مدى يحتاج السوريون إلى مصالحة حقيقية تساعد على توطيد العلاقات بينهم؟ الشرخ سابق للثورة ولـ"تفاقم العنف في سورية". وهو ليس وليد التمايزات الموروثة بين "مكونات المجتمع السوري"، ولا "خروج الثورة عن طابعها السلمي المدني"، بل هو نتاج تفاوت المواقع السياسية والاجتماعية للنخب، أو لاقتران التمايزات الموروثة بامتيازات راهنة. الثورة تفجرت ضد هذا التفاوت، وتحولت إلى المقاومة المسلحة بفعل إرادة النظام حماية امتيازاته غير العادلة وغير الوطنية بالعنف، ومن هذه الامتيازات ما هو طائفي وما يقتضي التوظيف في الطائفية. في سورية نظام اعتمد الطائفية أداة حكم منذ مبدئه، وهو بهذا المعنى نظام طائفي (وليس بمعنى أنه معني برفاه العلويين وكرامتهم)، وكانت عملية إعادة إنتاجه لنفسه، أي دوامه واستمرار أجهزته ومؤسساته، تمر عبر إعادة إنتاج موسعة للانقسام الطائفي داخل المجتمع السوري، واتساع ريبة السوريين ببعضهم وخوفهم من بعضهم. وهو ما شاركت فيه أو تواطأت معه نخب متنوعة، من رجال الدين إلى مثقفين إلى أثرياء، وصولا إلى صنف من المعارضين: ينفرون من أساليب النظام القمعية، لكنهم يريدون بقاءه، ويخافون عليه حين يكون مهددا. كأن تلك الأساليب منعزلة عن تكوينه. تتكلمين الآن على "قلق الجماعات من بعضها" لأن الأشياء كلها صارت ظاهرة بفضل الثورة. وغير قليل من هذا القلق متولد عن الخشية على مواقع وأوضاع خاصة. ليس هذا قلقا من التمييز بل على الامتياز، وليس من الظلم الوارد بل من المساواة المحتملة. هل منه ما هو متولد عن تشدد سياسي ديني سني؟ دون ريب. يمتزج في سيكولوجية كثير من الثائرين السوري المنحدرين من أصول سنية شعور بالتهميش الاجتماعي والسياسي، وبالحط المنتشر من شأن معتقدهم، ولدى كثيرين منهم تاليا دوافع قوية للثأر وفرض أنفسهم. وهذا مصدر لقلق أوسع، يفيض عن "مكونات المجتمع السوري" إلى المجتمع السوري كله، بما فيه بيئات سنية متنوعة. أما معالجة هذا "الجرح الوطني" فتتطلب شيئين في تقديري. أولا التوقف عن اعتبار الجماعات الدينية والمذهبية وحدات سياسية أو تحليلية ناجزة في كل حال، ومنح الأولية للتحليل الاجتماعي والسياسي الكلي الذي يُظهر، باختصار، أن "الطوائف" ومستوى نجازها، نتاجان سياسيان في ظروف محددة، وليسا واقعين أوليين منتجان للسياسة. أي أن الطائفية من خطط السياسة والسياسيين وأنماط ممارسة السلطة، وليست شيئا قدريا عتيقا، ابتلينا به نتيجة التكوين "الفسيفسائي" لمجتمعنا، أو ربما بسبب "الإسلام". والشيء الثاني أن نكف عن سياسة اللوم، أو اعتبار طائفتهم (السنيون الأصوليون والإرهابيون، العلويون الشبيحة والمخابرات، المسيحيون المتغربون...) هي السبب في الطائفية، ولولاها لكانت الأمور بخير. وكذلك وأن نتحرر من غرورنا (نحن السنيون الأمة، نحن المسيحيون الحداثة، نحن العلويون العلمانية...)، ونخرج من ذهنية الغيتو المهدد، ونتعاون مع غيرنا على المساواة والمواطنة، لا على الامتياز والطغيان. وهذا الأمر الأخير هو "الفلسفة" اللازمة لفكرة "المصالحة الوطنية" في سورية بعد حين، لكن ليس قبل إلحاق هزيمة كاملة بالنظام الأسدي. ستكون المصالحة كذبا وتكاذبا دون ذلك. • يكثر الحديث عن الحركات الجهادية التكفيرية في سورية. ما هو واقع هذه الحركات وما هي هويتها؟ وإذا دفعت الثورة باتجاه الجهادية لمصلحة من هذا الدفع؟ نعم هناك مجوعات جهادية وتكفيرية في سورية، لكنها صناعة سورية بقدر كبير، الأصل فيها أن سورية محكومة بنظام جهادي وتكفيري، يقوم بجهاده الخاص وتكفيره الخاص منذ عامين دونما توقف. الجهاد ضده يغدو فعل مقاومة، ونشأ الأمر كذلك فعلا، مقاومات تطورت تدريجيا إلى جهاد ديني. وتكفيره يغدو إعلان قطيعة. علما أن "جهاد" النظام، أعني عنفه الإرهابي ضد خصومه والمجتمع السوري عموما، و"تكفير"ـه، أي التخوين الواسع للمجتمع واتهامه والمزايدة عليه، هي طبائع قارة وقديمة لديه، وليست شيئا ولد أثناء الثورة. وإيديولوجيو النظام العضويين لم يقصروا على كل حال حتى بالدعوة للجهاد بالمعنى الديني: البوطي، والمفتى حسون الذي جعل الجهاد إلى جانب النظام واجبا شرعيا. أما إيديولوجيوه العلمانيون فلم يقصروا بدورهم في الدعوة إلى سحق "العراعير" و"الإرهابيين". العرعوري في لغة هؤلاء مثل الكافر أو المرتد في لغة "جبهة النصرة". لكن الجهاد الذي هو مقاومة، والتكفير الذي هو قطيعة، يمكن مع الزمن أن يكتسبا دافعية خاصة بهما، وتتولد في ظل ممارستهما استعدادات ومصالح خاصة، سياسة ومادية، ويجتذبان قطاعات تنفر من الحياة المعاصرة القلقة، وليس من "جهاد" النظام و"تكفير"ـه وحدهما. أو يختلط الأمران، وتجد تلك القطاعات في التشكيلات الجهادية أطرا للسلطة والانضباط، تردُّ على خوفها من علمنة الحياة واختلاط النساء والرجال، ولا تكتفي بالحجاب كخطة لمواجهة الأمر. علما أن علمنة الحياة متولدة عن الحياة في العالم، وليس عن أية عقيدة أو دعاية علمانية، على ما قد تفضل الاعتقاد هذه القطاعات المأزومة من مجتمعنا. باختصار الجهادية تتولد عن التقاء نوعين من الدوافع: مقاومة نظام "جهادي" متطرف من جهة، والخوف من العالم الحديث من جهة ثانية. نحتاج إلى التخلص من الأول ليمكن مواجهة الثاني. وتقديري أن من شأن سقوط النظام أن يفتح الباب لتفاعلات نفسية وسياسية أوفق لروح الاعتدال، تتيح ضبط التطرف الديني، وربما مواجهته. فيما يلعب كل شيء لمصلحته اليوم، ويحتمل أن يفلت من كل قدرة على التحكم كلما طال أمد الصراع. • هل تعتقدون أن الأزمة السورية مرشحه باتجاه تسوية تجمع كافة أطراف الصراع أم أن النظام سيكون خارج أي حل سياسي؟ لا أرى التسوية ممكنة. النظام لا يريدها ولا يقبلها. تكوينه متطرف، واعتاد على سلطة مطلقة، ولن يستطيع العيش في ظل سلطة جزئية. هل تتصورين حقا أن بشار الوريث يمكن أن يصير رئيسا منتخبا؟ أن القاتل جميل حسن يمكن أن يصير مسؤولا أمنيا في دولة وطنية؟ أن ماهر الأسد يصير عسكريا عاديا؟ أن رامي مخلوف يصير "رجل أعمال" مثل غيره؟ محصلة عامين من إصلاحات النظام وخططه للحل السياسي هي لا شيء بالتمام والكمال +70 ألف قتيل. ولا أظن إلا أن أي طرف من المعارضة يقبل تسوية مع بشار وزمرته سيخسر شرعيته. ليس القبول بالتسوية معهم أمرا عادلا ولا إنسانيا ولا وطنيا. وهم على كل حال لم يقبلوا، ولن يقبلوا، أية تسوية. • في حال سقوط النظام هل تعتقدون أن المنظومة الأمنية التابعة له قادرة على البقاء؟ ولا بأي حال من الأحوال. المنظومة الأمني هي النظام، أو هي ركيزته الصلبة. علمت عن شاب في السجن اليوم، ومر على فرع الأمن الجوي، ثم الفرقة الرابعة (يتعرض المعتقلون عندها لتعذيب انتقامي وبغرض المتعة)، أنه أوصى أنه يمكن أن يتساهل في كل شيء إلا حل الأجهزة الأمنية. يقول إن بشار ذاته يمكن الأخذ والعطاء في شـأنه، لكن ليس تلك الأجهزة الإرهابية. ومن تجربتي الشخصية أعرف أن هذه الأجهزة هي جيش الاستعمار الأسدي، وهي مؤسسة الإذلال الوطني العام. لذلك لا وألف لا، ولا بأية حال، لبقاء المنظومة الأمنية. بقاؤها يعني "كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، ويعني خيانة دماء سبعين ألف شهيد، ويعني عمليا التضحية بالثورة.
• كيف تقوم أداء حركة الإخوان المسلمين داخل المعارضة؟ وهل ترى أنها قادرة فعلاً على تطبيق الوثيقة التي أصدرتها والتي تنادي بالدولة المدنية في حال رحل النظام؟ لست على اطلاع على دواخل الأمور. لكن من موقع الخصومة لفكر الإخوان المسلمين ونموذجهم، أخشى من ضعفهم لا من قوتهم. من حيث التكوين، الإخوان قوة "وسطية" مبدئيا بين الإسلاميين السوريين. يتميزون عن المجموعات السلفية الجهادية، ويمكن أن يكونوا قوة اعتدال وسط الجمهور الإسلامي السني العام، ولدى كثير من أوساطه من دوافع الانتقام ما هو معلوم. لكن يبدو لي أن الإخوان أضعف من أن يقوموا بهذا الدور، وأن مزيج الضعف والاستبعاد المديد سيدفعهم بالأحرى إلى لعب لعبة التطرف، وليس الاعتدال والعقلنة. خاصة وأنهم سيقعون تحت ضغط من قواعدهم الاجتماعية من جهة، ومن الموجة السلفية الشعبية الصاعدة من جهة ثانية، لاتخاذ مواقف أكثر تشددا وصلابة. الوثائق لا تشكل حاجزا يعتمد عليه في مواجهة تقلبات عنيفة وضغوط قوية. والمعضلة التي قد نجد أنفسنا أمامها في وقت قريب تتمثل في أن من شأن قيام الإخوان بدور اعتدالي وعقلني عام أن يمنحهم موقعا سياسيا مميزا، فيما من شأن عجزهم المرجح عن القيام بهذا الدور أن يترك المجتمع السوري تحت رحمة التطرف والمتطرفين. عموما أرجح أن مركز ثقل الحياة السياسية السورية سيتحول باتجاه إسلامي، على نحو ما نرى ما مصر وتونس. وسيكون وجود إسلاميين أكثر اعتدالا حاجة وطنية عامة. وبعد مرحلة أولى يرتفع فيها صوت التطرف بفعل تطرف أوضاع البلد في قسوتها، ربما تعتدل الأمور ويرتفع الطلب الاجتماعي على الاعتدال والمعتدلين. • ما رأيك في أداء الائتلاف الوطني السوري؟ يبدو لي أداء متقلبا، ومتواضعا على العموم. ووجه تقصيره الأهم في تقديري يتعلق بالإقامة في الداخل. يلزم أن يكون أكثر أعضاء الائتلاف في الداخل، لا أن يقوموا بزيارات سياحية. هذا ممكن اليوم، وليس من الضروري أن يكون معلنا. المشكلة أنه لا غنى عن الائتلاف لكونه الإطار الأوسع لتمثيل السوريين من جهة، والأكثر تماهيا بالثورة من جهة ثانية، فوق أنه حظي باعتراف عربي ودولي واسع. لكن أُقدّر أن مشكلات الائتلاف تعطينا فكرة عن مشكلات حياتنا السياسة في سورية ما بعد الأسدية. إننا نتدرب على السياسة وإدارة الذات. ومن المفهوم أن تكون هناك مشكلات كبيرة في هذا التدرب بعد انقطاع عمره 50 عاما، أو العمل في أطر سرية ضيقة، تورثنا عادات واستعدادات سيئة بدل أن تشكل تمارين مفيدة على العمل العام. • في حال سقوط النظام السوري ماذا يعني ذلك بالنسبة لإيران وحزب الله وروسيا؟ إيران ستخسر أداة نفوذ إقليمي مهمة لها، وورقة في المساومة مع الغرب. أعتقد أنها تتصرف باستهتار ولا إنسانية، ولا تُكِنُّ أي احترام للشعب السوري، وتعادي العرب عموما والإسلام السني، ووضعت نفسها عموما في موقع العدو. وحزب الله، بعد أن خسر ما يفترض أنها القضية العامة التي كان ينال بسببها عطف السوريين، مقاومة إسرائيل، وضع نفسها في موقع عميل للعدو، وفاز باحتقار جمهور سوري واسع، هذا الحزب سيخسر مع معلميه الإيرانيين وأداتهم الأسدية. لكن الطرفين يبرهنان أنهما قادران على الإيذاء كثيرا، وأرجح أن يتوجا أفضالهما علت الشعب السوري بدعم إقامة كيان أسدي في الساحل. روسيا لن تخسر شيئا أساسيا لأن النظام السوري ليس أداة مهمة لها مثلما هو لإيران. • هل تتخوف من إعادة إنتاج بنى الاستبداد في سورية المستقبل؟ طبعا. أظن الثورة أحدثت ثغرة كبيرة في أسوار الطغيان في سورية، وتحديدا هياكله السياسية والأمنية، وأسانيده الفكرية الحداثية. لكن هذا يجري دون أن تكون سورية في وضع صاعد اقتصاديا، بل هي في وضع منهار، وهو ما يرفع من قيمة السلطة السياسية والتنافس عليها. ولا شيء يضمن ألا يتجدد الطغيان بأسانيد فكرية إسلامية. بل هذا مرجح فعلا بفعل دور الإسلاميين الكبير والمتنامي في مواجهة النظام. ما يمكن أن ينجينا منه هو موازين قوى اجتماعية تحول دون أن ينفرد أي طرف اجتماعي أو سياسي بالسلطة العمومية. لكن هذا احتمال ضعيف بالنظر إلى أن الإسلاميين هم القوى الأكثر تنظيما اليوم، سياسيا وعسكريا. أمامنا في تقديري مرحلة انتقالية مضطربة، وقد تكون طويلة، أُعوّل عليها في تطوير تفاعلات وقوى تحول دون انفراد أي طرف سياسي بحكم البلاد. في مجتمع تعددي ومعقد مثل المجتمع السوري لا يستقيم حكم واحدي. حزب البعث والحكم الأسدي بخاصة خرب سورية مجتمعا ودولة واقتصادا وثقافة وأخلاقا، فإذا أراد إسلاميون أن يحلوا محل الأسديين، انتقلنا من خراب إلى خراب، لا من خراب إلى عمار. لست متشائما مع ذلك. أرى أن أزمنتنا هذه خصبة ومفتوحة النهايات، ومهما تكن مصاعبنا فإننا نخوض كفاحا عظيما وتاريخيا، ونسير إلى الأمام. • وسط الحديث عن القلق لدى المسيحيين في سورية. ما هي الضمانات التي يجب أن تمنح لهم؟ ولماذا لم تشهد الطائفة المسيحية انزياحاً كبيراً لصالح الثورة؟ سأتكلم بفظاظة: هناك أشياء في السيكولوجية الجمعية المسيحية في سورية لا تثير التعاطف. بخاصة ذلك المزيج من الغرور ومن الخوف، ومن التمسك بهما. لا يمكنك طمأنة من يحتاج إلى خوفه ولا يتنازل عن غروره، ومن قد يعتبرك معتديا على كيانه ذاته إن قلت له إن ما وراء الباب بشر مثلك، وليسوا غيلانا أو وحوشا. المسيحيون السوريون سوريون، ليسوا ضيوفا في البلد، ولا ينبغي أن يحتاجوا إلى ضمانات من أحد، ولا ينبغي أن يقبلوا ضمانات خاصة من أحد لو عرضت عليهم. من يضمنك ينتظر منك الولاء على طريقة النظام اليوم. ومن يرعاك ويطبطب عليك سيضعك تحت إبطه. ما يضمن المسيحيين السوريين هو مشاركتهم في تغيير الواقع وفي الحياة العامة، دون عقد تفوق أو نقص، ومع رفض منطق الامتياز أو الوضع الخاص أو الذمية المقلوبة. دون توقع أن يكون للمسيحيين موقف سياسي واحد (هذا مرفوض قبل ان يكون ممتنعا)، فإن المأمول أن يكون لكلهم مواقف سياسية نشطة ومشاركة قوية في الحياة العامة. وليس مما يلحق الضرر بأحد أن يتدرب قليلا على تقمص الغير والتعاطف معهم، ووضع نفسه مكانهم. وأن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه من أقوال أو أفعال أو أوضاع. لا أرى أن أحدا أساء إلى وضع المسيحيين في سورية أكثر من النظام الأسدي الذي ينحاز إليه كثيرون (من يعارضه ويقاومه ليسوا قلة، بالمقابل، وبينهم شهداء للثورة)، ومن مسيحيين تحولوا إلى قوة جمود ومحافظة على أوضاع امتيازية ضد تطلعات أكثرية مواطنيهم. إذا كان بين المسيحيين من يعتبر أن مشكلته هي الإسلام أو المسلمين، فهو لن يرتاح يوما، فوق كونه مخطئ في ذلك. والبحث عن وضع خاص لن يحل المشكلة. فما هو وضع خاص لك يوما سينقلب وضعا خاصا عليك في يوم آخر. الصحيح والعادل هو وضع عام ومتساو للجميع. ولا يمكن لشيء أن يكون جيدا للمسيحيين إن لم يكن جيدا لعموم السوريين. قد يكون المسيحيون أكثر هشاشة في سورية ترتفع فيها حرارة المشاعر الدينية الإسلامية، لكن عدا أن هذا وضع تاريخي عارض، وليس بلا مقدمات وأسباب، فإنهم ليسوا وحدهم، وليس قليلا عدد السوريين الأكثر هشاشة أمام ارتفاع حرارة التدين. والمخرج هو المشاركة مع الغير في الكفاح من أجل المساواة. لا ينبغي أن يكون مخرجا مقبولا، بالمقابل، الوضع الخاص أو الهجرة من البلد.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
1963- 2011: بين -ثورة- وثورة
-
الرقة... صورة -مستعمرة داخلية-
-
يوم سقط التمثال
-
التناقض الكبير للثورات العربية
-
ثورة في المملكة الأسدية
-
ثلاثة أشكال للعنف في الثورة
-
من مجتمع القضية الكبرى إلى مجتمع المشكلات الصغيرة
-
-من بدل دينه فاقتلوه-!
-
ثلاثة أشكال للنزعة السلمية في الثورة السورية
-
استحضار كربلاء في -قلعة العلمانية-!
-
عمر عزيز
-
قطع رأس أبي العلاء
-
عن الانتقال الديمقراطي والثورة الديمقراطية...
-
ثورة أكثر، سياسة أكثر
-
سورية الفلسطينية... -النظام- الإسرائيلي
-
... ولكن أين هو -الحل السياسي-؟
-
هل هناك عرب في سورية؟
-
تحطيم متعدد الأشكال للمجتمع السوري
-
اقتراح معاذ الخطيب: خطأ إجرائي وصح سياسي!
-
ما هي مشكلتنا مع -جبهة النصرة-؟
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|