|
سورة الفتوى
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 4035 - 2013 / 3 / 18 - 12:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سورة الفتوى داود روفائيل خشبة مهداة إلى مشايخنا، بدءًا من المكفـّرين الظالمين، إلى أهل الوسط الطيّبين، إلى الذين هم من كل ماعون يأكلون
أهل الفتوى ما بالهم يختلفون وبعضهم بعضا يكذّبون وهم إلى كتاب واحد يرجعون وإلى رسول واحد يحتكمون أفلا يعقلون؟ ها قد جئتهم بتأويل مبين من أهل حكمة أقدمين إن يكن الله فى عدله قد كتب لهم النار من قديم فإنه فى حكمته قد أتاهم الرشد الرصين وقد ضنّ به على أصحاب اليمين. فى كتب الحكمة الهندية حكاية لطيفة، قد تبدو لنا ساذجة، لكنى أجد فيها الإجابة على السؤال المحيّر: لماذا يختلف أهل الفتوى كل هذا الاختلاف وتتضارب أحكامهم وهم جميعا يزعمون أنهم يستمدّون فتاواهم من مصدر، الحلال فيه بيّن والحرام بيّن، مصدر لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه، فكيف يصدر عنه كل هذا التناقض؟ ودعونى أقول إنى لا أعالج هذه المسألة كقضية دينية أو فقهية، بل إنى، بوصفى فيلسوفا زنديقا، أعالجها كقضية إپيستيمولوچية. بل أمضى لأبعد من هذا فأقول إنى أجد فى هذه الحكاية الساذجة بصيرة نافذة فى عبثيّة ولاعقلانية الاحتكام إلى أىّ نص محدّد ثابت، هذه البصيرة التى كان أفلاطون، فى زعمى، الأول بل الأوحد بين الفلاسفة الذى عبّر عنها فى وضوح منذ أكثر من أربعة وعشرين قرنا إلا أننا لم نستوعبها حتى الآن. وأمضى أبعد فأقول إنى أجد فى الحكاية الهندية الساذجة المرشد الأمين إلى ينبوع الوحى المكين. وقبل أن يحلـّق بنا هذا الاسترسال فى أجواز فضاء الأفكار الفلسفية الرهيفة إليكم الحكاية اللطيفة. ذات يوم توجّه الـ ديڤا – الآلهة المشرقة – والـ داناڤا – الآلهة الداكنة – وجنس البشر، توجّهوا متتابعين إلى الخالق پراچاپاتى يطلبون النصح والمشورة. ذهب الـ ديڤا أوّلا فنطق لهم پراچاپاتى بمقطع واحد من الصوت بثـّه لهم: "دا". قالت الآلهة المشرقة: "نحن الـ ديڤا نطلق لأنفسنا العنان كثيرا ونسمح للملذّات الحسيّة أن تتحكّم فينا كثيرا، فها هو الإله الأول براهما يوحى إلينا بهذا النطق "دا" أن علينا أن نـُلزم أنفسنا بالـ دامانا: الاعتدال والسيطرة على النفس." بعد ذلك ذهب الـ داناڤا إلى پراچاپاتى فنطق لهم بذات المقطع الواحد "دا". قالت الآلهة الداكنة: "إننا نحن الـ داناڤا نسارع إلى الغضب ونحن قساة القلوب. ها هو الخالق يوحى إلينا بهذا النطق "دا" أن علينا أن ننمّى فى أنفسنا الـ دايا: الرحمة والعطف." ثم ذهب جنس البشر يطلبون النصح فنطق لهم الخالق بذات المقطع الواحد "دا". قال البشر: "نحن البشر تتملـّكنا الرغبة فى كنز المال والثراء. ها هو پراچاپاتى يوحى إلينا بهذا النطق "دا" أن نمارس الـ دانا: العطاء." أقرّ الخالق تأويلاتهم على اختلافها. إنه لم يعطهم أمرا ولا وصية ولا توجيها محدّدا. إنهم لم يجدوا معنى الرسالة الإلهية فى ذلك النطق "دا" بل وجدوه فى قلوبهم. (نلاحظ فى الحكاية ذكر پراچاپاتى والخالق والله وبراهما كبدائل بلا تمييز، وهذا يتوافق مع مفهوم وحدة الكل فى براهما الذى يمثل الحقيقة النهائية فى الفكر الهندوكى.) ليجدنّ القارئ فى هذه الحكاية ما يجده. إننى لن أفرض عليه تأويلى. لكنى أعود لحديث الإپيستيمولوچيا، وفى هذا أيضا لا أعرض على القارئ فكرى ليقبله أو يتبنّاه بل ليجد فيه مسألة يُعمِل فيها فكره وينتهى فيها إلى رأى يراه. فى قناعتى أن اللغة، أىّ لغة، ليس فيها لفظ واحد يحمل معنى محدّدا ثابتا. وأنا أتحدّث عن اللغة الحيّة، لغة الحياة. كلنا نعلم أن رموز الرياضيّات لها معان محدّدة، لكن رموز الرياضيّات والمنطق الرياضى هى أطـُر مجرّدة، يمكننا أن نصوغ منها معادلات تتميّز بالصحّة الصورية، لكننا حالما نعطيها مضمونا من عالم الواقع يلحق بها عوار كل ما هو واقع فعلى وتصبح قابلة للنقض بل ونستطيع أن نجد فى صميمها تناقضا ذاتيا. هذه رؤية ألححت عليها كثيرا فى كتبى لكن المجال هنا لا يتـّسع للاسترسال فى بيانها. أعود إلى لغة الحياة فأقول من جديد: ليس فى اللغة، أىّ لغة، لفظ واحد يحمل معنى بسيطا محدّدا ثابتا. إنك تـُلقى تحيّة الصباح على رجلين فيجد فيها أحدهما سلاما وودّا ويجد فيها الآخر مكرا ونيّة سوء مبيّتة. وذات الكاتب يكتب كلمات ويعود إليها هو نفسه بعد حين فيجد فيها معنى غير المعنى الذى كان فى ذهنه حين كتبها. لا أحد يقرأ نصّا مكتوبا يحقّ له أن يقول إنى أعرف المعنى الذى أراده الكاتب؛ كل ما يحق له أن يقول هو أنه يجد فى النصّ المكتوب معنى يرضى عنه أو معنى لا يرضى عنه. حين يخرج علينا مشايخنا بفتاوى تتناقض وتتطاحن، وكلهم استمدّوا فتاواهم من مصادرهم الموحّدة، وكل منهم حفظ القرآن واستوعب الحديث واكتظّ دماغه بكنوز الفقه، أفلا يكون حل اللغز أن كلا منهم يجد وحيه فى ما امتلأت به نفسه من طيّب أو من خبيث؟ ألا نجد فى هذا الدليل على سخف وعبثيّة فكرة المرجعيّة الدينية؟ إننا نقبل فكرة المرجعيّة فى مجالات الحياة العمليّة. فى تطبيق نصوص القانون نحتكم لمرجعيّة القضاء، وفى أعلى مستوى نحتكم للمحكمة الدستورية العليا. هذه ضرورة عملية لاستقرار الحياة المدنية، ضرورة نرضخ لها وفق نظام نضعه لأنفسنا وبموجب ضوابط نحدّدها باختيارنا وبالتوافق فيما بيننا ويحقّ لنا أن نراجعها ونعَدّلها متى شئنا ومتى اقتضت الحاجة. أما المرجعية الدينية فتعنى أن نسلم رقابنا لأشخاص يهتبلون لأنفسهم سلطة استبدادية مطلقة فى تأويل نصوص ميّتة وفق وحى هو فى نهاية الأمر وفى حقيقة الأمر وحى نفوس قد تمتلئ بما هو طيّب وقد تمتلئ بما هو خبيث. يبقى موضوع ينبوع الوحى الذى ألمحت إلى أنى أجده فى ثنايا الحكاية الهندية الثرية بالمعانى، إلا أنى لم أجد له مكانا فى هذا المقال، لكنى سأحاول أن أتناوله فى مقال عن "وحى الأنبياء ووحى الشعراء" فى وقت قريب. أعتذر للقارئ إن يكن قد وجد فيما أقول الكثير مما يحتاج للمزيد من الشرح والإيضاح، فإنى قد انسقت إلى إثارة مسائل أكبر من أن يتـّسع لها مقال قصير، إلا أنى أرجو مع ذلك أن يكون القارئ قد وجد فى مقالى لا رأيا أريد منه أن يقبله بل إثارة تستحثـّه لأن يفكـّر بنفسه ولنفسه لينتهى إلى رؤية يرتاح لها عقله، فهذه فى مفهومى هى وظيفة الفلسفة. القاهرة، 18 مارس 2013
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايتى مع الدين
-
حدود احترام أحكام القضاء
-
هل بقى أمل؟
-
فى الدين (8) الإسلام
-
فى الدين (7) المسيحية
-
فى الدين (6) اليهودية
-
فى الدين (5) البوذية
-
فى الدين (4) الهندوكية
-
فى الدين (3) زرادشت
-
فى الدين (2) نشأة الدين
-
فى الدين (1) كلمة تمهيدية
-
الهزل والجد فى أمر تعريب التعليم والعلوم
-
عبثية التفاهم مع الإسلام السياسى
-
ما العمل؟
-
حين نتنازل عن عقولنا
-
خطر خلط المفاهيم
-
السبيل لتحرير العقل العربى
-
مواد الحريات فى الدستور المقترح
-
مشكلة الدين
-
نقد الدين ضرورة حضارية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|