|
العنونة وجمل القص في مجموعة صالح الرزوق (تشبه القصص) أوراق في سلة المهملات أنموذجاً
صباح الانباري
الحوار المتمدن-العدد: 4035 - 2013 / 3 / 18 - 08:03
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
العنونة: تصدرت العنونة الثنائية في الآونة الأخيرة بعض النتاجات الأدبية، والنقدية. وتجلت تلك الثنائية من خلال ربط العنونة بصلة وصل توضيحية أو تأكيدية أو بديلة أحيانا تحل محل الأولى وتشي شفرتها بما عجزت عن ايصاله الى الرائي قبل بدء رحلة الغور في عالم النص ومطباته وخفاياه. ومن أمثلة ذلك عنوان النص الذي كتبه الأديب الراحل محي الدين زنگنه (رؤيا الملك) كعنوان رئيس، و(ماندانا وستافروب) كعنوان بديل وتوضيحي. في هذا العنوان كان من الممكن أن يكتفي الكاتب بالعنونة الأولى، وأن يقدم لنا تفاصيل رؤيا الملك داخل المتن، ولكنه أراد أن تذهب العنونة الى أبعد من هذا وأن تكشف عن هوية الملك المجتمعية بذكر اسمه البديل (ستافروب)، ومنحها توكيدا اضافيا بوساطة الاسم الثاني المعطوف على الاسم الأول (ماندانا) فالإسمان ينتميان الى مرحلة تاريخية ومجتمعية ليس من الصعب تحديدها. العنونة إذن أرادت أن تنهض بمهمة تمهيدية تيسّر للمتلقي دخوله الى عالم النص قبل الشروع بعملية القراءة. ومن العنوانات المسرحية أيضا العنوان الثنائي الذي وضعه الكاتب والأديب عبد الفتاح القلعه جي (كفر سلام) كعنوان رئيس، أو(دستة ملوك يصبون القهوة) كعنوان توضيحي بديل. فمن خلال معرفتنا بالمكان، وبلا طبيعية الوظيفة التي يؤديها الملوك فاننا نمهد الدرب لانفسنا في الدخول الانسيابي الى عالم (الكفر) وهو عالم تحول فيه الملوك لسبب ما الى مجرد اشخاص ثانويين يصبون القهوة للقادمين الجدد في اشارة الى رفعة مستوى القادمين. وفي المجال القصصي طلع علينا القاص صالح الرزوق بمجوعة قصصية جديدة حملت عنوانا رئيسا (تشبه القصص) وعنواناً فرعياً تفسيرياً (قصص من وحي الواقع). ومن خلال العنوانين يتضح تذبذب الاختيار بين القصص والمشبهات بالقصص. (تشبه القصص) هو عنوان انطوى على تواضع جم، وعلى نظرة تقديسية لا يعلى على قداستها فهي ارفع شأنا وأجل مكانة من أن يصلها القاص، ولهذا قدم مجموعته على أنها تشبه القصص على الرغم من اقراره أنها قصص فعلا في العنونة الفرعية التفسيرية (قصص من وحي الواقع). هذه العنونة اعادت لذاكرتي المجموعة القصصية الموسومة (محاولات تطمح أن تكون قصصاً) التي تشترك مع مجموعة الرزوق بعامل تقديس النص القصصي. إذا تجاوزنا بسملة المجموعة، وألقينا نظرة عامة على عنوانات القصص داخل المتن سنجد أن الرزوق في الأعم الأغلب استخدم مفردتين فقط لبسملة قصته مثل: عودة دافيد، مغارة قاديشا، ورشة آرتين، الأيام للعميد، الضحية والجلاد، رجل الثلج، قسم ابقراط، بيت دانيل.. الخ. أو عبارة قصيرة مثل: أوراق في سلة المهملات، طائرة بين الغيوم، الاحتفال بعيد الاستقلال، أو مفردة واحدة فقط مثل: الغرامفون، وميزوبوتاميا وهذه العنوانات كلها تعكس ميل الرزوق للاختزال والتركيز وهما من عناصر القصة المحدثة التي توسّع فيهما منظروها. فاذا كان هؤلاء قد جعلوا من هذين العنصرين وقفا على النص فان الرزوق قد سحب ذلك الى العنونة أيضاً ليقدم اختزالا شاملا قد لا يؤدي الى نهاية متوقعة لأنه يختزل راهن النص، ومستقبله، وهذا ما سنتناوله في النهايات المختزلة. ولكي نصل اليها فاننا نحدد عناصر القص الاستباقية في: اولا. جملة القص: وهي الجملة التي تتصدر عملية القص ويتم التركيز فيها على تحديد الزمان، والمكان، والحدث، والحالة النفسية، والشخصية، والظرف. ففي جملة "سمعت نبأ انتحاره في صبيحة يوم عابس" والتي تصدرت قصة (أوراق في سلة المهملات) ـــ الخارجة عن قانون العنونة الثائية مع أثنتين في المجموعة نفسها ـــ استطاعت أن توضح للمتلقي العناصر الآتية: 1. الزمن: الماضي بدلالة افتتاح الجملة الفعلية بالفعل (سمعتُ) والذي اتخذ له مسارين: الأول تمثل في السارد الحاضر (الذي قام بفعل السماع)، والثاني في المسرود عنه الغائب (الذي وقع عليه فعل السماع) 2. الحدث: انتحار المسرود عنه. 3. الشخصية: رجل يائس تماما بدلالة قيامه بفعل الانتحار. 4. حالة المسرود عنه النفسية: يأس مطبق باعتبار أن اليأس مرحلة من مراحل الإقدام على الانتحار. 5. حالة السارد النفسية: مضطربة ومشوبة بحزن بدلالة وصفه لصبيحة يوم سماع الخبر. 6. الظرف: صبيحة يوم عابس. بتوافر هذه العناصر، وفاعليتها يكون القاص قد وضع المجسات الحيوية في خدمة التلقي عضوياً، والدخول في التفاصيل بشكل تمهيدي يضمن وصول شفرات السرد الى المسرود له. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا ويظل قائماً هو: كيف تتفاعل هذه العناصر داخل السرد القصصي؟ ثانياً. جملة الاستقراء: وهي جملة جسرية توصل البداية بأقرب نقطة متوسطية في القصة نستقرئ من خلالها حالات السارد، والمسرود عنه، والتشابكات الناجمة عن الحدث المروي، والحدث الآني وما يسببانه من معاناة، وقلق، واضطراب. لنتابع تفاصيل (اوراق في سلة المهملات) ونستقرأ ما يتعلق بجملتها الاستقرائية. يقول القاص/ السارد: "اتصلت هاتفيا بجريدة (الفتى العربي) ووعدت هيئة التحرير بكلمة شرف أن اكتب التقرير المفصل عن الحادث. ولكن الخيوط كانت تفلت من يدي وكأنني وراء سراب" وفي هذا تأكيد على الحدث الآني وهو اتصال السارد بالجريدة، وقلقه الناجم عن ضعفه في الايفاء بوعده (كتابة التقرير المفصل) والذي جعله بوضع نفسي تفاقمت ضغوطه، وفرضت عليه العودة الى الماضي للبحث عما يلغي تلك الضغوط أو يخفف وطأتها أو يحييدها. يقول السارد: "أتذكر: نحن الثلاثة حزمنا حقائبنا وانطلقنا وراء احلامنا الذهبية الى لندن، ولكن لم نصل الى جوهر الحلم ابداً. وجب علينا ان نضع العالم بين فكي كسارة بندق لنتخلص من القشور القاسية" حالة التذكر هنا جاءت لملء الفراغات التي خلفتها جملة القص (الماضية) ومنها علاقة الصداقة أو الزمالة التي تربط بين السارد والمسرود عنه وبينهما وبين ثالث على درب الوصول الى جوهر الحلم ليتم تسجيلها في اول التقرير. القاص سيكرر حالة التذكر لمزيد من المعلومات المربكة التي لا يمكن أن يتضمنها التقرير ولكن ثمة ما يشير الى حدوث الانتحار فقد خطر له ان تحت رماد الشخصية جمرة لم تبرد بعد على الرغم من ان هذه ليست سوى اشارة مموهة الى ضعف توقع الانتحار مهدت للجزم بعدم وقوعه: "فواز لم ينتحر" وبما أن حالة السرد ما تزال متذبذبة فان مصير الجزم ينتهي كالعادة الى سلة المهملات، وينتهي السارد الى تفاقم حالة الضيق: "كنت أصاب بالاحباط سريعا. واختنق بالأفكار والذكريات واحيانا بالعبرات" ان حالة الضيق هذه تربط ما بين السابق من الأحداث باللاحق منها معلنة عن جملة نصية جديدة هي جملة الصراع. ثالثا. جملة الصراع: وهي الجملة التي يبدأ عندها صراع الشخصية مع نفسها أو مع الظرف المحيط. يقول القاص الرزوق: "في نصف يوم مزقت محتويات مظروف كامل من الاوراق البيض التي لها لون الثلج المندوف" في هذه الجملة تتجلى صورة الصراع بين القناعة واللاقناعة، بين قبول الفكرة ورفضها، وبين توجه السارد الى هدفه، وتوجه هدفه اليه. وبين هذه وتلك يمر الوقت هاضما وحداته المنفلتة من العجلة المتوجهة نحو موعد الانجاز المضمون (بكلمة شرف) وليس أمام السارد إلا أن يلوذ بمماطلة التذكر، والرجوع الى الماضي في محاولة لخلق التوازن للاتوازن. ولما لم يفلح التذكر في دعم الموقف الآيل للتدهور يعلن السارد عن هزيمته المبررة بالخيانة: "خانني القلم" ليبدأ كل شيء اعتبارا من هذه النقطة الهبوط نحو النهاية التي مهدت الطريق امامها نبوءته حين قال جازماً: "لم نكن نعلم أن لندن هي نهاية المشوار. القفزة الأخيرة التي سنسقط بعدها في حفرة قلق وجودي". رابعا. جملة النهاية المختزلة المؤجلة: وهي جملة تشي بانتهاء السرد، وانفتاحه على ما بعده باختصار شديد. يقول القاص مختتما نصه: "صدق أو لا تصدق!.. بعد مرور تسع سنوات على الحادث،لا امتلك القدرة على كتابة هذا التقرير" ولا نعرف ما اذا سيمتلك القدرة على كتابة ذلك التقرير وهذا يجعل النهاية مؤجلة الى زمن اضافي لا نستطيع التنبؤ به بعد ان اغلق الباب على تسع سنوات من عدم القدرة على الكتابة. لقد اختزل القاص السنوات التسع بالفشل (فشله في كتابة التقرير) كجزء من الخسارة التي وقع أثرهاعلى الشخصيات الثلاث: "كانت الظروف تؤكد أن مأساتنا واحدة، وخرابنا نحن الثلاثة متشابه" ولعل في هذا تماه غير معلن تسبب في عجز السارد عن بلوغ النهاية بشكل كلي فعمد الى تأجيلها وهذا هو ما قام به ليس في هذه القصة حسب بل وفي اغلب ان لم نقل كل نهايات قصصه القصيرة. (تشبه القصص) إذن مجموعة حاولت الظهور بمظهر تجريبي مستند في تجلياته على الواقع المعيش.. إنها التقاطات ماهرة اختطفها القاص صالح الرزوق من احداث شبه يومية أو سيرية أدخلها في مصهره لتخرج بالشكل الجمالي الذي لا يقل جمالية عن مجمل نتاجه القصصي، والإبداعي.
أديلايد 2013
#صباح_الانباري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القواسم المشتركة في قصص د. صالح الرزوق حضور بصيغة الغائب
-
محي الدين زنگنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة
-
أضف نونا قراءة في كتاب د. حياة الخياري
-
قراءة في أنشودة النقيق للكاتب المسرحي راهيم حسّاوي
-
العنف في المسرح
-
استقراء الصامت والصائت في مسرحية ياسر مدخلي (عزف اليمام)
-
قراءة العنونة وفحوى النص في مسرحية د. حمدي موصللي (هولاكو عل
...
-
قراءات تأويلية في مسرحية إبراهيم حسّاوي (السيدة العانس)
-
هكذا رأى الخيّام زنگبادي
-
بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية
-
خليل المعاضيدي بين شهادة الشعر و استشهاد الشاعر
-
الارتقاء في نزهة الشاعرة فرات إسبر بين السماء والأرض
-
التحويلية في نص عبد الباسط أبو مزيريق (افعل شيئاً يا مُت)
-
قراءة في كتاب د. صالح الرزوق/ (الاجتماعي والمعرفي في شعر أدي
...
-
اجتراح النص المفتوح في (ضراوة الحياة اللامتوقعة)
-
رحيل جبل يدعى محي الدين زنكنه
-
قراءة استبصارية في مسرحية (جنرال الجيش الميت)
-
مساهماتية النص التجريبي في (قصرحية) محي الدين زنكنه (أوراقي)
-
عبثية العزف في سوناتا الانتظار
-
الهوامش وما بعدها في مجموعة الشاعر سهيل نجم لا جنة خارج النا
...
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|