أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرج هادي ماهود: علينا أن نستثمر هذه الحقبة لصناعة أفلام وثائقية، أما حلم الفيلم الروائي فيجب أن يؤجل















المزيد.....


المخرج هادي ماهود: علينا أن نستثمر هذه الحقبة لصناعة أفلام وثائقية، أما حلم الفيلم الروائي فيجب أن يؤجل


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1160 - 2005 / 4 / 7 - 11:46
المحور: الادب والفن
    


الحلقة الثالثة والأخيرة
يحتاج أغلب المخرجين العراقيين إلى منْ يحاورهن، ويغوص في أعماقهم، ويواسيهم على الزمن المُضاع من جدوى. فطوال السنوات الخمس والثلاثين المنصرمة في ظل نظام شمولي لم يكن ينوي مطلقاً أن يخلق سينما عراقية حقيقية وسط هذا الكم الكبير والنوعي من المخرجين الذين كرسوا حياتهم للسينما، وأخلصوا لها، ولكنهم كانوا في واد، والسلطة العراقية في وادٍ آخر. كانت السلطة تريد من يمجّد قائدها، وحزبها الأوحد، والمخرجون العراقيون كانوا يريدون الإخلاص للوطن، والحقيقة، والكاميرا التي ترى كل شيء بحياد لم يرُق للمسؤولين العراقيين آنذاك. من هنا بدأت الهوّة تزداد اتساعاً، فلا الفيلم التسجيلي الحقيقي انتعش، ولا الفيلم الروائي وجد طريقه إلى النور ما لم يصب في خدمة الحزب الواحد، والقائد الأوحد. فلا غرابة أن يحمل المخرجون العراقيون أحلامهم وذكرياتهم وآلامهم الممضة، ويشدوا الرحال إلى أبعد بقعة في الأرض. فمن يتخيل أن هادي ماهود، هذا الكائن اللصيق بالسماوة، ممكن أن يعيش في المنفى الأسترالي لولا قساوة النظام السابق، وفظاظة أزلامه، وإمعّاته الذين همّشوا الإبداع والمبدعين، وتركونا نتخبط كحاطب ليل في الجزر النائية، والبحار الهائجة، ونقاط الحدود التي لا تعرف الرحمة. يا ترى، هل آن الأوان لأن نخلق سينما عراقية حقيقية لطالما حلمنا بها من قبل؟ سينما موازية للسينما في مصر، وتونس، والمغرب، أم أن الوقت ما يزال مبكراً حتى وإن سقطت الدكتاتورية، وولى نظام الحزب الواحد إلى الأبد؟ في الليلة التي انتهت فيها فعاليات الدورة الثانية لمهرجان الأفلام التسجيلية العراقية في لاهاي، وتحديداً في العشرين من مارس " آذار " الماضي اتفقنا أنا والمخرج هادي ماهود، والموسيقار أحمد المختار، والشاعر موفق السواد، والفنان انتشال التميمي أن نلتقي في منزلي على وجبة عشاء، ونتجاذب أطراف الحديث في الشؤون الأدبية والفنية. وكنت قد عقدت العزم على أن أحاور هادي في مجمل أبعاد تجربته الفنية، ولكن ما أن بدأنا نحتسي الويسكي حتى اكتشفنا أن الليل قد انجلى، وما كان عليّ إلا أن أوجل اللقاء إلى صبيحة اليوم الثاني. وهكذا كان اللقاء الذي بدأناه من فيلمه الأول " بائع الطيور " حتى فيلمه الأخير " العراق وطني ". كما عرّجنا أيضاً على بعض الأفلام العراقية المهمة التي توقف عندها هادي ماهود، ولكي لا تأخذ المقدمة حيّزاً طويلاً تفسد على القارئ متعة القراءة سأتوقف هنا لأترك لهادي ماهود الفرصة كي يدلو بدلوه في الجزء الثالث والأخير من هذا الحوار الطويل الذي آثرت أن أضعه بسرعة بين يدي القارئ الكريم:
* على صعيد الذاكرة المرئية لديك هاجس توثيق حياة الكثير من الأدباء والفنانين والمفكرين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان لديك هذا النزوع لأن توثق حياة البياتي، زاهد محمد زهدي والفنان عزيز سليم، ولكنه ظل، مع الأسف الشديد، في حدود الآمال والتمنيات غير المنجزة. يا ترى في أثناء عودتك للعراق، وهناك رموز وأسماء كبيرة في كل هذه المجالات، هل ستسعى إلى توثيق هذه الذاكرة المرئية؟
- بالضبط هذه مسؤوليتي، وهذه المسؤولية أنا تبنيتها منذ زمن بعيد، وبذلت جهوداً كبيرة من أجل أن أحقق شيئاً، ولو أتيحت لي فرصة ودعم معقولَين لكنت قد قطعت أشواطاً مهمة في هذا الاتجاه، وستتضاعف مسؤوليتي في العراق لأنه قررت أن أرجع للعراق، وأعتبر هذا الأمر محسوماً. فهذا الظرف استثنائي جداً ويجب أن نوثق كل شيء مهم، وهناك ناس مهمون جداً في تاريخ العراق، ويجب أن نصل لهم، ونوثق حياتهم، ومنجزاتهم الأدبية والفكرية والسياسية وما إلى ذلك. أنا حزين جداً لأن بعض الناس أمثال زاهد محمد زهدي الذي بدأت معه التصوير لكنه غادرنا قبل الأوان. في السعودية لا تستطع أن تمسك كاميرا وتصور بحرية تامة، فالسعوديون هم الذين أحبطوا هذه الفكرة، فقد كنا أنا وزاهد نعمل في الإذاعة في السعودية. حتى أن نجم عبد الكريم الذي كان في زيارة إلى السعودية، ونجم صديق شخصي للدكتور زاهد، بدأت معه التصوير، إذ أخذت نجم إلى الأستوديو، وأجريت له مقابلة حول زاهد، وأكملت السيناريو، وعلى أمل أن أبدأ بالتصوير، لكن السعوديين رفضوا أن نصور، وبقي هذا المشروع مؤجلاً، حتى أنني في سنة 2001 كنت آتٍ في زيارة أول مرة لأوروبا، ومن فنلندا اتصلت بزاهد في الهاتف، وتكلمت معه بصدد المشروع، وقلت له أنني متحمس لمواصلة مشروع التصوير، وأخبرته بأنني ما أزال على وعدي، وعندي رغبة وطموح كبيرين لأن نستأنف العمل، وقال لي أنا مستعد وأنا أنتظرك في أي وقت تأتي إلى لندن. وأنا مستعد لاستقبالك في منزلي، ولكنه كان في تلك الفترة منهار صحياً. يبدو أنه كان يأخذ علاجاً كيمياوياً، فرجعت ولم أستطع الوصول إليه. في الحقيقة أردت أن اصل إليه بأية وسيلة، لكن هذه الفرصة لم تتحقق، ومات بسرعة، ودُفن هذا المشروع معه. البياتي غادرنا، النواب سيغادر ونحن لم نحقق مثل هذه الأفلام والوثائقية لرموزنا الثقافية. أنا مثلاً ذهبت إلى فنلندا، ورأيت الرسام عزيز سليم، وجلست معه وهو إنسان حساس، وقرأ لي قصائد وكان يبكي فيها، وللأسف، لم تكن عندي كاميرا في حينه لكي أمسك بلحظات البكاء هذه، ثم قررت أن أرجع وأصوره، ولكن هذا الحلم لم يتحقق أيضاً. هناك أسماء كبيرة بعضها يحتضر، وهي مهمة جداً في الثقافة العراقية، ممكن أن تموت، ولا يوجد من يوثقها في فيلم تسجيلي يخلدهم في الذاكرة المرئية. إنها مسؤولية الجميع، وأن أي شخص معني بالسينما ولديه كاميرا عليه أن يسرع في الوصول إلى هؤلاء الناس من أجل أن يصوّرهم كمرحلة أولى في الأقل، لأنه أنا عندما عدت إلى بغداد احتجت بعض الوثائق، لكنني اكتشفت أن أرشيفنا سرق بالكامل، ولم يبقَ شيئاً، وأنت تعرف ماذا يعني أن يُسرق أرشيف دوله بكامله. سرقوا الأشرطة كلها في تلفزيون بغداد، حتى أشرطة صدام حسين أعتبرها مهمة لأنها توثق لمرحلة تاريخية خطيرة من حياة الشعب العراقي. ليس هناك احترام لأرشيفنا، هكذا بدأت أنقب، ثم اكتشفت أن هناك واحداً في بغداد مقابل مسرح بغداد، وهو مصمم عنده أرشيف فوتوغرافي، ولديه قصاصات ورقية مقتطعة من الصحف والمجلات، وهذا الشخص لو كان مؤسسة حكومية لكان سرق أيضاً. ذهبت إليه سائلاً، فقال لي بكرم: خذ أي شيء تريده، وتحتاجه حاجة ماسة. فأخذت صوراً فوتوغرافية لأناس مهمين جداً، لأن الأرشيف المرئي سرق كله. أنا أعتقد أن كثيراً من الأشرطة موجودة في مكان ما. لقد صورت مؤسسة السينما والمسرح، وكانت الكاميرا تتجول في الممرات المنهارة وتسجل، هذه الأشرطة توثق تاريخ العراق، وكانت موجودة في الممرات والغرف، إنه نوع من التآمر على الأرشيف. ليس بالضرورة أن تكون عندي رؤية وسيناريو، المهم أن أوثق الآن كل شيء. وبعدها سوف تكتمل الصورة حتماً.
* طالما تحدثنا عن السماوة سواء في فيلمك أو في خارجه، ويكاد يكون سجن " نقرة السلمان " هو المَعْلم المأساوي الأبرز فيها. هل تفكر مستقبلاً أن تذهب إلى " نقرة السلمان " وأن تستثمره في فيلم وثائقي، يستبطن معاناة الكثير من السياسيين العراقيين في هذا المنفى الصحراوي القاسي؟
- لقد ذهبت إلى هذا المكان مرات عدة. ورأيت هذا السجن المرعب عن كثب. وعندما أخرجَ عبد الهادي مبارك فيلماً عن " النقرة " اشتركت فيه، وكان اسمه " الحب كان السبب "، وهو يتحدث عن أناس يُسجنون ويزجون في نقرة السلمان. فيلم فيه تفصيلات مهمة، حتى أنهم عندما يجلبون السجناء في القطار، يذكّرنا هذا القطار بقطار الموت. كان عبد الهادي مبارك في خطته يريد أن يعمل سجوناً وزنازين في بلاتوهات السينما والمسرح، أي أن نصوّر داخل البلاتوهات. فقلت له أنك لم ترَ سجن نقرة السلمان، بينما أنا رأيته، وهو أفضل مكان لكي نصور فيه هذا الفيلم. أنا رأيت جدران السجن كله، وهي بمثابة وثائق لأناس كانوا مسجونين في هذا المنفى. صحيح أنه مكان مهمل، ولكنه مُحافظ على نفسه، غير أن السلطات تعمل منه مرة مركزاً للعلف الحيواني، ومرة مخزناً لبعض ممتلكات الدولة في تلك المضارب. هكذا استهوته الفكرة، فجئنا بقافلة من بغداد فيها المخرج، ومدير التصوير، والمساعدين، وذهبنا إلى السجن الذي يقع في قلب " النقرة ". أنت عندما تأتي من جهة السماوة لا ترَ شيئاً، ثم تهبط رويداً رويداً إلى أن تصل إلى داخل المدينة بحيث ترى في نهاية الأمر سلسلة جبال تحيط بمدينة السلمان. أصلحتْ مصممة الديكور بعض الأشياء، وجاءت بأبواب زنازين وغيرها، ثم رجعنا بعد فترة نصوّر، حتى إننا سُجنا حتى في أثناء التصوير. ألبسنا عبد الهادي مبارك ملابس سجن كي نكون ضمن الجو العام للسجن. وقال أنا سأصوّر لقطات ومشاهد طويلة خلال النهار كله، ولكن يجب أن تبقوا أنتم مسجونين داخل السجن، أغلقوا علينا الباب، وكان هناك بعض الحراس الحقيقيين. أنا لدي رغبة حقيقية في أن أصور هذه المدينة والسجن، وهذا مشروع قائم، ويلح عليّ كثيراً. ولذلك لم أستطع أن أزج هذا الموضوع الكبير القائم لوحده في فيلم مدته 52 دقيقة يتحدث عن موضوع آخر، مختلف بعض الشيء، ولكنني أعدك بأنني سأقدّم أشياء مميزة، ومثيرة سواء عن مدينة السماوة نفسها أو عن " نقرة السلمان " هذه النقرة التي دُفنت فيها أحلام الكثير من العراقيين لسنوات طوال.

* ما الذي يثيرك في مدينة السماوة غير الأشياء التي تحدثنا عنها، وإلى أين تتجه مخيلة المخرج هادي ماهود، هل ستتجه إلى ذاكرة الناس فقط، أم إلى الأمكنة والمواقع الجغرافية أو الأثرية المهمة في المدينة؟
-المهم في المدينة هو الإنسان. أنا اشتغل على الإنسان الذي تؤطره المدينة، المهم الإنسان الضحية وهذا الملمح أنت رأيته في هذا المهرجان، وقلت بأنك ترى ملامح جديدة لسينما عراقية تعتمد على الإنسان مادة لها وتتعامل معه باحترام.
* ما هي انطباعاتك عن أبرز الأفلام التي لفتت انتباهك في هذا الدورة الثانية لمهرجان الأفلام التسجيلية العراقية في لاهاي؟
- لم يتسنَ لي أن أبكي بهذه الحرقة من قبل. ففي أثناء مشاهدتي على فيلم ماجد جابر " ماذا أحكي بعد؟ " على المقابر الجماعية بكيت، لأنه فيلم هائل جداً، وصادق جداً، ويكتسب أهميته من عمق المأساة التي حدثت. تقنياً وفنياً لا يعني لي الأمر شيئاً كبيراً بالنسبة لي. أنت ممكن أن تشتغل بتقنيات بسيطة جداً، لكن الأهم أن تكون المادة غنية جداً، ومدججة بالحقيقة. لقد أثار هذا الفيلم انتباهي، ولن يغادر ذاكرتي بسهولة.
* أنت تعرف بأن الفيلم الوثائقي يحتاج إلى معلومات دقيقة جداً تضخ إلى المتلقي. هل تعتقد أن المعلومات التي وردت في فيلم " ماذا أحكي بعد؟ " كانت كافية لمشروع من هذا النوع ؟ هل انبنى الفيل من وجهة نظرك على نفَس وثائقي حقيقي؟
- المهم بالنسبة لي في الفيلم الوثائقي، هو مشاعر الناس التلقائية، فهذا الحزن الرهيب الذي رأيناه لأم تنتحب عند بقايا جثث أولادها وهي منهارة، وتبكي بألم شديد، وتبحث عن عظامهم وسط هذه المقابر الجماعية هو الصدق الذي بلغ منتهاه وذروته. يهمني أن هناك صورة أراها، ومشاعر ألمسها. أما إذا ظهرت في اللقطة عشرين جثة وامرأة تبكي بصدق فهذا يكفي، ويؤدي الغرض المطلوب أنا لا يهمني أن أرى كل المقابر الجماعية، وإنما أرى مقبرة واحدة ونساء يبكين بصدق وحرارة. ليس المهم أن أرى أرقام الأمم المتحدة، المهم أن ألمس مشاعر الناس الحقيقية. وهذا ما نجح المخرج ماجد جابر في إيصاله لكل المتلقين بمختلف مستوياتهم الثقافية والفكرية.
* في الكثير من الأفلام التي عرضت ألا ترى أن هناك تكراراً لمشاهد اللقاءات والعناق بعد سنوات الغربة، وهذا ما حدث في فيلمك أيضاً. يا ترى، لمَ التركيز على فكرة واحدة يتناولها العديد من المخرجين أمثال طارق هاشم، ووليد المقدادي وآخرين؟
- لأننا منفيون جميعاً. أنا عندما عدت إلى العراق بعد 14 سنة، وهذا الأمر ينطبق على طارق ، ووليد، وآخرين ربما لم نشاهد أعمالهم، لأن هذه اللحظات مؤثرة جداً. أنت تدرك جيداً ماذا تعني اللحظة الأولى التي تلتقي فيها بأهلك بعد سنين طوال، إنها لحظات مؤثرة جداً ولا بد أن توثّق، هذا إضافة إلى أنك تلتقي بجيل آخر من عائلتك، جيل لم تتعرف عليه، لأن هذا الجيل نشأ وكبر وأنت لم تره ربما، وإنما كنت تتحدث معه عبر الهاتف. هذه اللحظة كبيرة جداً، و كل الذين عادوا إلى العراق وثقوها، وهذا التوثيق لا يقع في خانة التقليد، وإنما يقع في خانة توثيق المشاعر الصادقة بعد سنوات الغربة الطوال والتي تختلف من شخص إلى آخر. هذه هي أهم لحظة يواجهها المنفي عندما يصل إلى أهله حيث يشرع الجميع بالبكاء، والعناق، والانهيار في كثير من الأحيان.
*كيف تنظر إلى فكرة التجريب في بعض الأفلام المشاركة في المهرجان، مثل فكرة الكابوس التي عالجها قيس الزبيدي، هل تعني شيئاً بالنسبة لك؟ وكيف تنظر إلى فيلم " الليلة الأبدية " لرانية محمد توفيق، هل أن التقنيات الصوتية والبصرية كان لها دور في تقديم شيء إبداعي مغاير للنمط السائد من السينما الواقعية أو سينما الحقيقة؟
- فيلم " الكابوس " يشعرك أن القائم عليه محترف يتعامل مع لوحات وقصائد لأنه خلق كابوساً من خلال العمل التشكيلي الذي تلمس فيه تقنية مونتاجية ومؤثرات صوتية دقيقة جداً. أنا لم أكن ميالاً لهذا النوع من الأفلام. أنا أحترم امكانية قيس الزبيدي الفنية باعتباره مخرجاً ومونتيراً. وعمله هذا فيه مونتاج هائل جداً لأنه عندما يكون فيلمك 9 دقائق فقط، وليس فيه ناس، و ليس فيه حركة، والأشياء التي تتحرك كانت هي الرسومات والقصائد، وإن الإنسان متوارٍ في تضاعيف اللوحات. كان في الفيلم كثير من التفاصيل والشخوص والتكوينات التي تتقاطع داخل اللوحة وتتحرك من حيّز إلى آخر حتى تخلق تفاصيل وعلاقات حركية وتدعمها المؤثرات الصوتية لكي تعطيك إيحاء بالحركة. هذه العملية تقنية وتؤكد براعة المخرج والمونتير الزبيدي. أما بالنسبة لي فيبقى الإنسان هو الأهم. هذه التفاصيل الأخرى التي شاهدناها من لوحلت وقصائد ومؤثرات صوتية تؤكد أنه أكاديمي و محترف، ولكن ماذا بعد؟ بينما نرى في " سمفونية " قاسم الذي انطلق من الطبيعة والعمل الفني وذهب إلى الإنسان، ولم يبق سجين اللوحة، وإنما ذهب إلى الإنسان، وهذا هو الأهم. أعتقد أن هذين تجربتين مختلفين يمكن للناقد أن يعقد بينهما مقارنة ناجحة.
* ما رأيك بفيلم " الليلة الأبدية " لرانية محمد التي دخلت في فضاء مسنّن موضوعه الإنسان الأعمى وهو خيار صعب، هل تعتقد أن طريق هذه المخرجة الشابة ممكن أن تكون سالكة عبر هذه الرؤى التجريبية؟
- بالتأكيد لقد قدمت رانية محمد توفيق فيلماً جيداً لأنه كان معمولاً بطريقة الـ " Out focus من البداية للنهاية ولكن فيه موضوع، وفيه إدارة للممثل، وفيه إدارة للقطة، وفيه مونتاج. لم أرَ لها ، مع الأسف، أفلاماً سابقة. أنا اشعر أن واحداً يمكن أن يقدم فيلماً فيه " Out focus" من بدايته إلى نهايته، والذي يجعلك تراقب هذا الفيلم من البداية إلى النهاية دليل على أن القائم على الفيلم مخرج جيد. كانت هي مخرجة تبشر بخير، و أنا سعيد أن تكون مخرجة شابة بهذا العمر، وعندها طموح في أن تستمر كمخرجة، مدعومة من قبل أبيها المخرج محمد توفيق أولاً وبعض النقاد المنصفين ثانياً. أنا شعرت أن كل هذه الأفلام التي عرضت هي أفلامي، الجيدة منها والرديئة، لأنني لست أنانياً أبداً، وأنا مقتنع بأن أي مخرج عراقي يقدم عملاً سينمائياً وينجح فيه، فهذا النجاح هو نجاح لي أنا شخصياً. أنا أشعر أننا شخص واحد علينا أن نتماسك حتى نخلق سينما عراقية جديدة.
*خلال إقامتك في استراليا التي استمرت عشر سنوات، ولا بد أنك شاهدت أفلاماً أسترالية، هل أضافت لك شيئاً محدداً، و هل أثار انتباهك مخرجون آخرون؟ وهل أن تجربة الغربة تركت بصماتها عليك، وعلى طريقة تفكيرك، وعلى ذهنيتك الإخراجية؟
- هناك سينمات مختلفة، هناك سينما معلنة، وهي تابع للسينما الأمريكية، و لا تختلف عن بشيء، مثل سينما الأكشن وسواها، وهناك سينما المخرجين المستقلين. هؤلاء تجاربهم مهمة بالرغم من امكانياتهم الفقيرة، ويحصلون على دعم قد لا يتناسب مع رؤيتهم الفنية الراقية، ولكن هذه الامكانيات البسيطة يصنعون منها أفلاماً فيها رؤى تجريبية، أشكالاً فنية خاصة. أنا أشعر أنني أنتمي إلى هذه السينما المستقلة. لم أشاهد أفلاماً كثيرة لمخرجين أستراليين بحيث أنهم تركوا بصماتهم وتأثيراتهم عليّ.
*نرجع إلى السينما العراقية والأفلام المميزة. ما هي تصورات عن السينما العراقية الجديدة التي قلنا بأن محورها الإنسان، تتوقع هل سنتقدم خطوات باتجاه الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي الحقيقي؟ وهل هناك أسماء مخرجين محددين يدورون في هذا فلكك ورؤيتك الإخراجية؟
-طبعاً، أنا أعتقد أن النظام السابق لم تكن لديه نية لصناعة سينما حقيقية، لأن السينما تحتاج إلى خطة متكاملة تبدأ من معهد الفنون الجميلة وتنتهي بالجهات الإنتاجية الكبيرة جداً. هذه الخطة لم تكن موجودة، أما الآن وبعد أن انهار النظام وانهار كل شيء، وهناك إعادة بناء، فيجب أن يعاد بناء السينما العراقية من جديد. حتى هذه اللحظة الأشياء نفسها تتكرر، ليست هناك أية خطوة باتجاه صناعة سينما، والذي شاهدته في المهرجان هذا هو محاولات شخصية لمخرجين من الخارج صنعوا أفلاماً عراقية. السينما لا يمكن أن يصنعها الموظفون. في العراق هناك مؤسسة اسمها السينما والمسرح، وأنا حتى عندما كنت في العراق، كنت من الداعين لإلغائها لأنها مؤسسة موظفين وبطالة مقنعة، يأتي الموظف يوقّع يوم الاثنين ولا تدري أين يذهب بقية أيام الأسبوع. الإدارات فيها متخلفة جداً. في المؤسسة كان المدير هو ضابط أمن المؤسسة. والذي حدث الآن هو أن الوجوه نفسها ظلت على ما هي عليه. نفس هؤلاء الناس الذين ليست لديهم خبرة، بل أن خبرتهم لا تجتز حدود العراق، بقوا في أماكنهم. المطلوب هو نسف هذه المؤسسة، لتصبح مثل المؤسسات الموجودة في هذا العالم، مؤسسة رسمية حقيقية تدعم الإنتاج العراقي. هذه المؤسسة تقدم دعماً مادياً،أي أنها راعية للإبداع ليس إلا.وهذه المساعدات تأتي على وفق أشياء أساسية، أي ألا أنتج فيلماً فيه إسفاف. يجب أن تعطى هذه الإمكانيات لصناعة فيلم مهم ملتزم يعنى بالإنسان. يجب على الحكومة ووزارة الثقافة أن تحرض جهات أُخَر على دعم الفيلم بحيث يحصل المنتج على دعم من مؤسسات أخر. وهذه الأستوديوهات يجب أن تتحول إلى مؤسسة تؤجر بلاتوهاتها وكاميراتها وعددها الفنية إلى المخرجين والمنتجين المستقلين. أعتقد أن من المهم أن يزداد سعر تذكرة الدخول إلى الفيلم وتنتظم هذه العملية، وتدخل هذه الزيادات في صندوق دعم السينما بحيث تقدّم منحاً للمخرجين والمنتجين. المنتج سوف تأتيه في هذه الحالة مصادر دعم متعددة، وسوف يصبح كم الإنتاج كبيراً. وهذا الكم لا بد أن يخلق نوعاً جيداً من الأفلام، ولا بد أن يفرز خبرة جديدة، وتلاقحاً مثمراً. يجب أن يحصل الكل على فرص ومصادر تمويل. ثم تنخلق سينما جديدة، وتتأسس مهرجانات مهمة ومفيدة. مدير السينما الآن هو مصور ناجح جداً، ولكنه لا يمتلك فكراً إستراتيجياً لصناعة سينما. هل يصنع السينما العراقية مصور، أم أنها تحتاج إلى عقلية سينمائية فذة جداً، ويخطط بشكل فذ لصناعة سينما حقيقية؟ حتى الآن، وبعد مرور سنتين، لم نرَ نية حقيقية لصناعة سينما من قبل الحكومة. نحن في الخارج قرأنا أن هناك فكرة لاستضافة السينمائيين العراقيين في الخارج وقد وضعوا عنوانهم على الإنترنيت، وقلت لهم شخصياً، أنا مستعد للحضور، لكنني لم أتلقَ حتى رد بسيط على رسالتي. هذه العملية ليس فيها ذوق. و يبدو أنهم بين فترة وأخرى يقولون أننا سوف نقيم المهرجان الفلاني، أو اللقاء الفلاني، ولكننا بالنتيجة لا نحصد سوى هذه الوعود الزئبقية التي تتبخر في الحال. علينا أن نقاتل لكي نخلق سينما عراقية.
* بعد سنوات الحرب الطوال هل تعتقد أن الفيلم التسجيلي العراقي لا بد أن ينتعش خلال السنين القريبة القادمة على اعتبار أن كل الجهود منصبّة في إطار التسجيل والتوثيق؟
-أنا أعتقد أن الفيلم الروائي يحتاج إلى استقرار، ووضع العراق منذ الحرب إلى الآن استثنائياً، و يجب أن يستثمر السينمائي العراقي لتوثيق هذا الواقع الاستثنائي، لأنه لو أنهينا الإرهاب، وعملنا حكومة، وبدأنا عملية بناء العراق الحقيقي فسوف يحدث رخاءً حقيقياً لا محالة، والنفوس تتغير. هذه المرحلة الاستثنائية تصبح تاريخاً، وهذا التاريخ يجب أن يوثق. أعتقد يجب أن تستثمر هذه الحقبة لصناعة أفلام وثائقية، أما حلم الفيلم الروائي فيجب أن يؤجل. أنا أحلم أن اشتغل أفلاماً روائية، ولكن حتى لو توفرت لي فرصة لصناعة أفلام روائية فأنا سأؤجل هذا الموضوع لأنني بالنتيجة سوف أخرج أفلاماً روائية لاحقاً. أنا علي الآن أن أستخدم كاميرتي لأوثق هذا الوضع الاستثنائي. وأن أي شخص يحمل كاميرا يجب أن يساهم بتوثيق هذا الوضع الشاذ.
*علاقتك بالنقد السينمائي العراقي هل تعتقد بوجوده وكيف رصدت تجربتك السينمائية هل أنت راض عنهم. وهل أخذت أفلامك الروائية والتسجيلية حقها من الرصد والدراسة والتحليل. أين الخلل من وجهة نظرك، هل وهناك استرخاء لدى الناقد العراقي؟
-لا، لم تأخذ حقها من النقد والدراسة، المشكلة أنك تشتغل ولكنك لا تستطع أن تصل إلى الناقد. الآن توفرت فرصة في هذا المهرجان، إذ شاهد النقاد فيلمي الآن، وصار بإمكان الناقد أن يكتب عنه، أما عندما أكون منفياً في أستراليا فالنقاد لا يعرفون ماذا أعمل، وأنا لم أستطع أن أصل إليهم عبر أفلامي. المطلوب أن نلتقي ونتحاور بعمق. الآن قالوا عن فيلمي أنه أهم فيلم في المهرجان، ولكن هذا ليس كافياً ما لم تتوثق هذه الآراء. أنا سعيد بهذه التفاصيل، وأفرح عندما أرى ناقداً أو مشاهداً يحلل تجربتي الفنية. أنا الآن لأول مرة أُستفز من قبلك بحيث تدفعني للكلام، وفي النتيجة أنا أقرأ نفسي وأعرفها من خلالك. إن النقد مهم جداً بالنسبة لي. فأن تنقدني بقوة وتريني نفسي، لأعرف أين وصلت وكيف أفكر، وهل وصلت أنت لموضوعي، وتعرفت على هواجسي أم لا؟ هذا هو جوهر ما أصبو إليه. أنت أشرتَ من خلال أسئلتك لتفصيلات أنا سعيد بها فعلاً، وهي موجودة، لكن لم ينتبه إليها أحد. أنت تستفزني بهذا الحوار، وهذه المسؤولية أنا أعتبرها مشتركة بين الفنان والناقد. المهم أن اشتغل أنا، وأنت تراقبني، وتحلل أبعاد تجربتي الفنية.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخرج هادي ماهود: الإنسان البسيط يتحدث على سجيته، ولا يتصنّ ...
- المخرج هادي ماهود: لم أكن سعيداً بفيلم - جنون - الذي فاز بجا ...
- الفنان ستار كاووش لـ - الحوار المتمدن -: أحب الموضوعات التي ...
- الشاعرة التونسية زهرة العبيدي لـ - الحوار المتمدن -: القصيدة ...
- موفَّق السواد في (أسرَّة الفتنة): مُخيّلة مشتعلة تستقطر عسل ...
- هادي ماهود في فيلمه التسجيلي الجديد - العراق وطني -: كوميديا ...
- مدخل إلى نصب الحرية - لعدي رشيد: تفتيت الحبكة، وتشتيت الأحدا ...
- الفنان الهولندي خيرت يان يانسن: أكبر مزوِّر في القرن العشرين ...
- فيلم - فيزا - لإبراهيم اللطيف الحاصل على التانيت الذهبي لعام ...
- المخرج عدي رشيد في فيلمه الجديد - غير صالح للعرض -: بنية الت ...
- - الرحلة الكبرى - للمخرج المغربي إسماعيل فروخي: عدسة مُحايدة ...
- فيلم - الأمير - لمحمد الزرن: يجمع بين النَفَس الكوميدي والوا ...
- - بغداد بلوجر - لسلام باكس:الفيلم الذي وُلِد مكتملاً، والمخر ...
- القصّاص الدنماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون: في سيرة ذاتي ...
- السلاحف يمكن أن تطير لبهمن قباذي: مرثية موجعة للضحايا الصامت ...
- البرلمان الهولندي يعلن - الحرب - على التطرّف الإسلامي، ووزير ...
- في الدورة الـ - 55 - لمهرجان برلين السينمائي الدولي: جنوب إف ...
- الرئيس الأمريكي في خطابه الإذاعي الأسبوعي يؤكد على دحر الإره ...
- العميان سيشاهدون مباريات كرة القدم في ألمانيا
- الأميرة ماكسيما تؤكد على رؤية الجانب الإيجابي في عملية الاند ...


المزيد.....




- “فنان” في ألمانيا عمره عامين فقط.. يبيع لوحاته بأكثر من 7500 ...
- -جرأة وفجور- .. فنانة مصرية تهدد بمقاضاة صفحة موثقة على -إكس ...
- RT العربية توقع مذكرة تعاون في مجال التفاعل الإعلامي مع جمهو ...
- عاجل | معاريف عن وزير الثقافة الإسرائيلي: نأمل التوصل إلى صف ...
- نزلها سريعًا!!.. واتساب يُطلق ميزة الترجمة الحية في الدردشة ...
- أعلان الموسم 2… موعد عرض مسلسل المتوحش الموسم 2 الحلقة 37 عل ...
- من كام السنادي؟؟ توقعات تنسيق الدبلومات الفنية 2025 للالتحاق ...
- الغاوون:قصيدة (نصف آخر) الشاعر عادل التوني.مصر.
- واخيرا.. موعد إعلان مسلسل قيامة عثمان الحلقة 165 الموسم السا ...
- الغاوون:قصيدة (جحود ) الشاعرمدحت سبيع.مصر.


المزيد.....

- الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة / محمد الهلالي
- أسواق الحقيقة / محمد الهلالي
- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرج هادي ماهود: علينا أن نستثمر هذه الحقبة لصناعة أفلام وثائقية، أما حلم الفيلم الروائي فيجب أن يؤجل