الجمعة 18 أكتوبر 2002 05:21
ينبغي العلم أن الحماسة لنشر التنوير كانت متوافقة ولزمن طويل مع الأرثوذكسية الدينية والسياسية، بمعنى أن فلاسفة التنوير الأوائل لم يفتحوا المعركة مع رجال الدين المسيحيين أو مع الحكم المستبد الإطلاقي في المرحلة الأولى. فالكثيرون كانوا يصفقون للتقدم الذي يحرزه العلم، والتكنولوجيا، والتاريخ في ذلك العصر، دون أن يعتبروا ذلك موجهاً ضد الدين أو معادياً للروح الدينية بالضرورة. صحيح انهم كانوا ينادون بتطبيق المنهجية النقدية العقلانية، وإجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، بل ويطالبون بالتسامح في مجال الشؤون الدينية، ولكن دون أن يعني ذلك انهم كانوا يريدون هدم النظام القائم أو تقويض الإيمان التقليدي. وكان أفضل ناطق رسمي باسم هذا التيار شخص يدعى تورغو (1781 - 1727 = Turgot)، وهو عالم اقتصاد ورجل سياسي فرنسي مشهور. وقد اصبح وزيراً فيما بعد، ولكنهم اسقطوه بعد ان نادى بالإصلاحات التي هددت امتيازات الطبقة العليا في المجتمع الفرنسي أثناء النظام القديم.
وكان تورغو في البداية موجهاً لدراسة اللاهوت والدخول في سلك الاكليروس المسيحي، ولذلك انخرط في الدراسات اللاهوتية حتى تخرج في السوربون عام 1750. ينبغي ان نعلم ان السوربون كانت آنذاك جامعة دينية وتسيطر فيها كلية اللاهوت المسيحي على بقية الكليات الاخرى لأن اللاهوت أم العلوم وأشرفها بحسب المنظور القديم الذي سبق الثورة الفرنسية. ونحن المعاصرين لا نكاد نتخيل أن السوربون كانت تدرس أصول الشريعة المسيحية والعلوم الدينية التي لا وجود لها فيها حالياً. فمن كثرة ما تَعَلْمَنَت السوربون، ومن كثرة ما ابتعدت عن كل ما له علاقة بالدين، نجد صعوبة في التصديق بأنها كانت معقل المحافظين والأصوليين يوماً ما!... مهما يكن من أمر فإن تورغو ألقى خطابين في السوربون ـ وباللغة اللاتينية ـ عام 1750. الأول بعنوان: ميزات سيادة المسيحية والفوائد التي جناها الجنس البشري من جراء ذلك، والثاني هو: انجازات التقدم المتتابعة التي حققها الجنس البشري حتى الآن. وهذا الربط بين الدين المسيحي والتقدم لم يكن يدهش الناس آنذاك، فقد كان الكثيرون يعتقدون بأن الدين لا يتعارض مع التقدم والتنوير، وحده حزب الفلاسفة، أي الحزب الموسوعي، كان يعتقد باستحالة ذلك.
في البداية كان تورغو يعتقد إذن بأن المسيحية كانت تمثل النور الجديد وهو نور أعظم بألف مرة من نور الآداب والفلسفة لأنه نور الهي لا نور بشري. ولكنه بعد ثلاث سنوات فقط من ذلك التاريخ (أي عام 1753)، راح يفصل التنوير عن الدين! فماذا حصل؟ حصل أنه راح يتأثر كغيره بافكار الفلاسفة ويشاهد اعمال التعصب التي ترتكبها الأصولية الكاثوليكية. وعندئذ، ترك الكنيسة وراح يتوجه نحو اعتناق الدين الطبيعي، أي العقلاني، الذي دعا إليه في كتابه الجديد: "رسائل حول التسامح"، وراح ينقلب على مواقفه السابقة ويقول مثلا: "يُخشى ان يحصل صراع دائم بين الخرافات والتنوير". والمقصود بالخرافات هنا ايمان العامة في وقته، وكذلك ايمان معظم رجال الدين، ويقول ايضا: "ان الدين الذي يبدو خاطئا على ضوء أنوار العقل، والذي يتبخر امام تقدمه، كما تتبدد الظلمات أمام الأنوار، لا يستحق ان يكون مقياساً للتشريع".
ان التطور الذي طرأ على فكر تورغو خلال ثلاثة أعوام فقط (أي بين عامي 1750 ـ 1753)، يبدو لنا مدهشاً حقاً، ولكنه لم يكن حالة معزولة، كما يقول البروفيسور رولان مورتييه، الذي نعتمد عليه في إعداد هذه الدراسات. فالواقع ان الصورة كانت آنذاك على النحو التالي: اليسوعيون كانوا يخلعون على مفهوم التنوير المعنى المسيحي والارثوذكسي (أي الأصولي). واما معظم الكتاب والفلاسفة الكبار فكانوا يميلون الى فصل التنوير عن المذهب الكاثوليكي الذي كان يمثل القلعة الصامدة للتزمت الديني. وبالتالي فالمعركة كانت محتدمة بين الطرفين، اما عاجلاً واما آجلاً. فاليسوعيون، أي "الاخوان المسيحيون" إذا جاز التعبير، كانوا يسيطرون على النظام التعليمي الفرنسي بمدارسه الثانوية وجامعاته، وما كانوا مستعدين للقبول بمنافسة الفلاسفة لهم على هذه الأرضية بالذات. فالرهان كبير جداً، ويتلخص في الشيء التالي: السيطرة على عقول الملايين وتوجيهها في هذا الاتجاه أو ذاك.
وقد أحسّ الأصوليون بالخطر عندما رأوا الفلاسفة يشيعون فكراً جديداً يهدّد مشروعيتهم التاريخية وهيمنتهم المزمنة على الأرواح والعقول.. ويمكن القول بأن الطفرة الكبرى حصلت بين عامي (1750 ـ 1760)، فعندئذ أصبح التنوير ينحو باتجاه العداء للاكليروس المسيحي وحتى للمسيحية ذاتها. ومعلوم انها كانت تمثل قدس الاقداس بالنسبة للشعب الفرنسي المتديّن وللشعوب الأوروبية بأسرها. وكانت المسيحية تقف فوق النقد لأنها تمثل دين الله أو دين الوحي السماوي. ولكن هذه الطفرة لم تحصل بشكل صارخ، وفي وضح النهار. فأبطالها الأساسيون ـ أي فولتير وديدرو ومونتسكيو وسواهم ـ كانوا يتهيّبون الدخول في معركة مكشوفة مع الدين المسيحي الراسخ في العقلية الجماعية منذ مئات السنين.
وكانت موازين القوى غير متكافئة على الاطلاق، فالفلاسفة كانوا يمثلون أقلية، أي النخبة المثقفة، هذا في حين ان جحافل الشعب كلها كانت تقف وراء رجال الدين، ولهذا السبب فإن الفلاسفة كانوا يتقدمون مقنّعين إذا جاز التعبير، ففولتير لم يكن يوقّع معظم كتبه، بل وكان ينكرها بمجرد صدورها ويحلف بأغلظ الأيمان بأنها ليست له!.. واما ديدرو فكان يخبئها في أدراج مكتبه لكيلا تنشر إلا بعد موته.. فبطش "الاخوان المسيحيين" كان مرعباً، وسيفهم مسلّطاً على الأرواح والعقول.
يضاف إلى ذلك، أنه ينبغي التمييز بين الأعمال المنشورة على الملأ، وبين الرسائل أو النصوص الموجهة إلى الاصدقاء الحميمين فقط. وفولتير كان بارعاً في استخدام هذه الاستراتيجية. فعندما كان يوجه رسالة الى صديق موثوق فإنه كان يعبر عن مكنون فكره بدون أي تحفظ. وعندما كان يكتب للجمهور العام كان يأخذ احتياطاته ويستخدم أسلوب التلميح المبطّن، وفي كلتا الحالتين نلاحظ ان فولتير كان يتحدث عن التنوير بصيغة المفرد (Lumiere)، لا الجمع (Lumieres)، وكان يريد بذلك إقامة تمييز بين المعنى التقليدي والحيادي للكلمة (أي تجميع المعارف والعلوم) وبين المعنى النقدي الحديث (أي نقد العقائد الدينية المسيحية).
وهناك ملاحظة اخرى مهمة ايضا وهي: ان فولتير لم يتجرأ على شنّ حربه الشعواء على الأصولية الدينية الا بعد عام (1764)، أي خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياته، وهذا دليل على مدى تهيّبه للمسألة وخوفه من عواقبها.
لندخل الآن في التفاصيل، في كتبه المطبوعة والموقعة باسمه، كان فولتير يستخدم مصطلح التنوير للدلالة على عصره ولمعارضته بالعصر السابق له مباشرة: اي القرن السابع عشر. صحيح انه كان يشيد بالذوق الأدبي للقرن الماضي وبخاصة راسين وكورني، لكنه يعطي الافضلية للقرن الثامن عشر فيما يخص الروح الفلسفية والعقلانية. يقول في رسالة خاصة الى سيدة ارستقراطية مقربة من حزب الفلاسفة هي "مدام دوبيني": "التنوير ينتشر شيئاً فشيئاً يا سيدتي، وينبغي أن نترك العميان العجائز يموتون في ظلامهم!". وفي رسالة اخرى الى صديقه الشخصي "دارجنتال" يقول: "ليس الذنب ذنبي إذا كان هذا القرن مستنيراً، وإذا كان العقل قد تغلغل حتى إلى الكهوف والمغارات!".. وفي مكان آخر يقول: "يبدو لي ان التنوير يشع وينتشر في كل الجهات، ولكن المستنيرين لا يتواصلون فيما بينهم بما فيه الكفاية، انهم فاترون، هذا في حين ان نار التعصب لا تزال مشتعلة".. ثم يقول: "واصلوا عملكم في تنوير العالم.. الشبيبة تتعلم، والأرواح تستنير.. لماذا تظل باريس وحدها في الظلام؟!".. ثم يقول الى صديقه "دالامبير" فيما يخص سبب عدم توقيعه لاسمه على الكتب التي ينشرها ضد الأصوليين: "لا ينبغي إطلاقاً الكشف عن اسماء المؤلفين، ذلك انه لا يهم من أي طرف تجيء الحقيقة، المهم ان تجيء".. ثم يقول عن العصور الوسطى ومحاكم التفتيش: "انها ثمرة العقلية الخرافية الاكثر بشاعة في تاريخ البشرية.. ولم نخرج من تلك الظلمات الا منذ فترة قصيرة، وحتى الآن لم يستنر كل شيء".. وفي مكان آخر يدين بشدة "توجيه" عميد كلية اللاهوت في السوربون لأنه صرح بمعاداته للفلسفة ودعا الملوك الأوروبيين إلى قمعها بحجة أنها خطرة على الدين، يقول فولتير: "ان الفلسفة هي المشعل الذي ينبغي ان يضيء الطريق للبشر، وهي لم تستخدم ابدا هذا المشعل لحرق المفكرين كما فعلت محاكم التفتيش..".
بمعنى آخر فإن الفلسفة لم تقتل احداً ولم تأمر بتصفية اي جماعة بسبب عقائدها الخاصة، أو أفكارها وميولها. الفلسفة لم تستبح دماء الناس ولم تكفرهم بشكل عشوائي، وإنما احتكمت الى العقل والمنطق والحجة البرهانية من اجل الكشف عن الصح والخطأ في الاقوال والافعال، واعترفت الفلسفة بتعددية الآراء والعقائد الى درجة ان فولتير قال كلمته الشهيرة التي أسست فلسفة الديمقراطية في الغرب: قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن اضحي بنفسي من اجل ان يتاح لك ان تعبر عن رأيك وقناعتك.
الشرق الأوسط اللندنية