نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 4027 - 2013 / 3 / 10 - 17:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن إعادة كتابة تاريخ العراق الحديث وفق رؤى حداثوية جديدة وعلى أسس علمية, فما زال لدى العراقيين الكثير من الذكريات عن يهود العراق الذي انحسر وجودهم ودُرّست الكثير من معالمهم المادية , عندما ندون تاريخ مجموعة أثنية أو دينية , يعني إننا ندون تاريخ العراق كله نظراً لأن طوائف العراق وأقوامه يرتبطون بوشائج التاريخ و جغرافية الحياة المشتركة .
صدرَ عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر ضمن سلسلة بغداد عاصمة الثقافة العربية للكاتب مازن لطيف كتاب "دورة القمر القصيرة ليهود العراق ..البزوغ والأُفول في تاريخ العراق الحديث" المتضمن (192) صفحة من الحجم المتوسط, احتوى الكتاب مواضيع شتى تخص الطائفة اليهودية في العراق وهي مقالات بعضها نشر للكاتب في الصحافة العراقية وبعضها مقابلات مع كتاب عراقيين عايشوا أبناء هذه الطائفة, الكتاب يُعَد مصدر مهم لتاريخ مغيب بقصد أو بدون قصد لمرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث , فكانت حقبة منصرمة حريّ بالكتاب والباحثين وطلبة الدراسات العليا الغوص في أعماقها لتؤرخ وتدون التراث العراقي وتدون الذاكرة العراقية وكان من بين هؤلاء الكاتب والباحث الغيور مازن لطيف عاهد نفسه وضميره أن يظهر الحقائق المغيبة لعراقيين عاشوا حقبة من الزمن من خلال ذكرياتهم عن يهود العراق الذي انحسر وجودهم ودرسّت الكثير من معالمهم, فكان باحث شجاع في الزمن الصعب والذي تحمل الكثير , فقد أصبح في الوقت السابق كل من يبحث في هذا المجال يتهم بالعمالة أو التجسس أو الخيانة للوطن , والغرض من ذلك التعتيم والتشويه لأبناء العراق الذين ساهموا في البناء بجميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية , فدون الكاتب الكثير عن أبناء العراق من الطائفة اليهودية فهم يرتبطون بوشائج التأريخ والجغرافيا والحياة المشتركة.
لقد عاصروا أبناء الديانة اليهودية فترة طويلة تجاوزت (2500) عام , عاشوا الحقبة الزمنية المنصرمة حتى فترة الخمسينات التي أدت لانحسارهم , وقد طرح الكاتب مازن لطيف السؤال التالي (لماذا يهود العراق بعد العام 2003) ولماذا الآن يتم الكتابة عن تاريخهم ومساهماتهم الفعالة في بناء الدولة العراقية ودورهم الاقتصادي الكبير ومساهمتهم في ترسيخ اقتصاد العراق وتأسيسهم المصارف والصيرفة والاستيراد والتصدير وبناء المعامل وغيرها , ثم صدر قانون رقم (1) لسنة 1950 لاسقاط الجنسية العراقية عن يهود العراق , لكن بعد سقوط النظام البعثي في نيسان 2003 بدأت الكتابة عن تأريخ أبناء هذه الديانة لتكون خطوة جريئة نحو انصافهم , حيث كان يصف كل من يكتب عنهم بالعمالة للصهيونية وولائهم لدولة اسرائيل , و من تجرأ بالكتابة عن يهود العراق فقد حاولوا تشويه صورتهم والتقليل من دورهم في بناء العراق الحديث, كما أشار الكاتب مازن لطيف في ص15 " بعد أن تخلص الشعب من أعتى سلطة دكتاتورية كانت تحرم وتمنع أية محاولة لتناول يهود العراق , وبعد تحرير العراق من القمع السياسي الفكري , شرح الكثير من الباحثين في تدبيج المقالات والدراسات والرسائل الجامعية عن يهود العراق", فقد تحرر الأديب العراقي من سياسة القطيع , وتجرأ الطلبة والأكاديميون والصحفيون بأن يكتبوا الحقيقة عن تاريخ يهود العراق فهم جزء من تراث العراق وماضيه ,وفي ص 16 يؤكد الكاتب" هم عراقيون أصلاء اكتوت قلوبهم بفراق العراق ومعظمهم يحبوّن العراق والعراقيين إلى درجة الهوّس".
تضمن الكتاب مجموعة من المواضيع المتفرقة والتي تخص أبناء العراق من الديانة اليهودية , والكتاب خالي من الأخطاء المطبعية واللغوية وجميل في إصداره لكن تعوزه بعض صور الشخصيات لتدعم المواضيع ,وقد تضمن أسماء أهم الصحفيين اليهود ودورهم المهم في تأسيس واستيراد الورق والطباعة , وكانت اسم عائلة (دنكور) لها الدور في ذلك , فقد لعبت الصحافة اليهودية العراقية دوراً مهماً في حراك المجتمع العراقي والارتقاء في الجانب الثقافي والاجتماعي ليهود العراق منذُ صدور أول صحيفة (هادوبير) عام 1963 أي ستة أعوام قبل ظهور جريدة الزوراء على يد مدحت باشا عام 1869 كما يذكر الكاتب مازن لطيف عن دور اليهود العراقيين في ترأس تحرير الصحف لأسماء يهودية لمعت في الذاكرة العراقية , لكن من جراء الدعاية القومية ضد يهود العراق والتي كان يقودها الطابور النازي , فقد توقفت في ثلاثينات القرن الماضي لاسباب تتعلق بالتوتر في الوضع العالمي, فقد أصدرت أكثر من (14) صحيفة ومجلة في شتى المجالات , وعمل العديد من الصحفيين العراقيين اليهود في الصحف العراقية باخلاقيتهم المهنية وبحرصهم المثالي , ويذكر الكاتب مازن لطيف منهم " منشي زعرور, مراد العماري, نعيم قطان, سليم البصون, مير بصري" إضافة دور المطابع اليهودية والتي قدر عددها بقرابة(15) مطبعة توزعت انشطتها بين طباعة الكتب والصحف والمجلات العلمية والأدبية وغيرها من المطبوعات , ويؤكد الكاتب في ص24 إن " يهود العراق أول من استورد الورق الطباعي , وادخل مهنة الطباعة والنشر إلى العراق" فأسست باكورتها في بغداد عام 1884 وهي مطبعة بيخور , كان قد أسسها الحاخام يهودا بيخور, فتاريخ هذه الديانة يمتد لأكثر من 2500 عام , نخبة العراق تمكث في وجدان هذه الطائفة بين الفيصل والميزان في عشق طين وادي الرافدين , فأبناء هذه الديانة والمعروف عنهم بكاؤهم معنا على كل نائبة تصيب عراقنا الحبيب , يؤكد الكاتب في ص38" لم نجد يهودياً تشفى بحرب أو دمار أو احتلال , ولم نجد مثقفيهم إلا نفحات الانتماء تتدفق بين سطور كتاباتهم" , فقد شكل ادبائهم ومثقفيهم رابطة أسموها (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق )والتي أصدرت أكثر من (44) كتاباً حول ماضيهم في العراق , ويترأس الرابطة الأديب البروفسور شموئيل( سامي) مورية , كما صدرت هذه الرابطة "قاموس اللهجة اليهودية البغدادية" بـ(350) صفحة من القطع الكبير ( لغيلا سويري ) وهو مؤرخ للهجة العراقية البغدادية التي حافظوا عليها منذُ العصر العباسي الزاهر وهي لهجة مزيج من الأرامية (النبطية) والعربية.
تضمن الكتاب " مذكرات طفلة في عهد عبد الكريم قاسم" , الذي يعد عهدة عصراً ذهبياً ثانياً, بالنسبة ليهود العراق , إذ أن عهد الملك فيصل الأول هو العصر الذهبي الأول لهم, فكانت ذكريات السيدة الفاضلة التي رمز لها الكاتب (ر.خ) المولودة في العراق عام 1951 , تتذكر ساعة قيام ثورة تموز 1958 , أشار الكاتب في ص42" فقد أصبحت تعني بأنها وطائفتها أصبحوا أحراراً ولا توجد تفرقة بينهم وبين باقي أفراد الشعب ..بعد أن كانت مسلوبة منهم في العهد البائد, وهي إعادة حق التعلّم في الجامعة , واعادة جواز السفر لخارج العراق" , فدخلوا جامعة بغداد وتعلموا الطب وكافة الدراسات العليا بدون أي قيد أو شرط" , كما تروي السيدة (ر.خ) ان مدرستها فرنك عيني كانت تقيم في عهد الثورة كلّ سنة حفلة لتوزيع الجوائز على الطلاب الممتازين في دروسهم , وكانت الحفلة تقام في بداية كل شهر حزيران" ولكن بعد رحيل الزعيم بتغيير النظام ومجيء نظام قومي جديد تدهورت أوضاع اليهود وبدأت المضايقات وأجبر من تبقى منهم على الرحيل من العراق في أول فرصة تتاح لهم.
كان التسامح الديني لهُ مناخاته المنوطه بطبيعة التسامح منذ فترة العهد العثماني , أو تصعّب الولاة العثمانيين في بغداد وعُدّ داود باشا من أقسى الحكام في معاملة اليهود , واشتهر بواقعة الطوفان العرمرم والطاعون المبيد الذي ضرب بغداد وأحالها إلى ركام بشري,أما في العهد الملكي فقد اقترن هذا الحكم بجريمة التسفير ضد اليهود العراقيين عام 1950 , ويذكر الكاتب يوم وصول الملك فيصل إلى العراق ليكون ملكاً دستورياً صباح يوم 18 تموز 1921 " قدم فيها الحاخامات اليهود في العراق إلى الأمير الحجازي نسخة مذهبة من التوراة ومعها لوح ثمين كتبت عليه آيات توراتية" , والدور الكبير الذي لعبه وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل في فترة الحكم الملكي" يعدّ أشهر وأنزه وزير عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة" , فكان لليهود العراقيين الدور الكبير بعد تأسيس الدولة العراقية في العمل التجاري منذ انتخاب أول غرفة لتجارة بغداد عام 1926 , فكان أغلبها من يهود بغداد , كما ساهموا في وجودهم كأعضاء في البرلمان وانخراطهم في الحركة الشيوعية ابتداء من أول تجمع لها عام 1922 , كما شارك يهود العراق في التظاهرات والثورات الوطنية.
الكتاب يعد مصدراً مهم وجيد لتأريخ يهود العراق ودورهم البارز في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهو الانجاز الثاني للكاتب في هذا المجال المنسي لأبناء هذه الديانة , كما أن الكاتب معروف بمقالاته ومدوناته الدقيقية في نقل المعلومة , فقد أرشف الأحداث والأخبار بمنهج علمي على ضوء الزوايا المنسية من تأريخ العراق .
كانت هنالك نقطة سوداء في تأريخ العهد الملكي أبان أحداث الفرهود في حزيران عام 1941 , حيث شمل الفرهود محلات ودور العراقيين اليهود بعد سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني وعودة القوات البريطانية من الأردن , مع العلم كان لأبناء هذه الديانة في العراق الدور الكبير في تسيير الصناعات العراقية والمهن الحرّة ودورهم في الأدب والفن والشعر والغناء والصحافة والقانون, ثم واكبت الحكومة الملكية محاربة أبناء هذه الديانة بمشروعها التعسفي (تسقيط الجنسية) فقد هُجرّ أكثر من (100) ألف عراقي يهودي بعد قيام دولة اسرائيل عام 1947 وحملت هجرتهم الجماعية اسم (عملية عزرا ونحميا) , مع هذه القسوة والتهجير يذكر الباحث والأكاديمي د. سامي موريه " إن العراق قدري الذي يلاحقني في كل مكان أحلّ به في هذا العالم الذي أصبح صغيراً ... بل ابقى على لهجتي العراقية بكل لغة اتكلم بها" أما العراقية اليهودية نيران البصون ابنة الصحفي العراقي سليم البصون فتذكر في ص 55" الحقيقة انني لا اعتقد انه يوجد أي يهودي عراقي لا يحب العراق " فترى اليهودي العراقي يتلهف لرؤية أي عراقي كان مسلماً أو مسيحياً , ويذكر الكاتب في ص 57 دور اليهود العراقيين في مجال الزراعة والتجارة في مدينة الديوانية , ومن العوائل المتميزة في هذا المجال عائلة خلاصجي وعائلة ساسون معلم وعائلة موسى , حيث كانت عائلة خلاصجي من أشهر العوائل اليهودية التي نزحت من ناحية الكفل عام 1890 وكان جدهم عزرة داود خلاصجي من المهتمين في مجال الزراعة وانتاج الشلب في الديوانية , وقد لقب الياهو خلاصجي بـ( ملك الديوانية) .
أما في مجال الأدب و الصحافة فقد وضع الكاتب مازن لطيف فصل كامل عن دور الشخصيات اليهودية العراقية في مجال الصحافة فكان من أهم هذه الشخصيات القاص بار موشيه وصالح نعيم طويق وسليم البصون ومراد العماري والأديب والصحفي مير بصري والصحفي والأديب أنور شاؤول فكان لهُ الدور في توعية الجماهير العراقية من خلال مجلة الحاصد التي كان يصدرها وهو في مرحلة الثانية كلية الحقوق , حيث اصدر العدد الأول في 27-7-1930, يؤكد الكاتب مازن لطيف في ص105" من خلال اطلاعنا على المجلة وجدنا إن(مجلة الحاصد) جمعت ونشرت لأغلب أدباء وشعراء يهود العراق وحاولت لمّ شملهم لأن أغلبهم كانوا ينشرون في صحف مختلفة ...إن الحاصد وصاحبها ما زالا خالدين في الثقافة العراقية ومدرسة الصحافة العراقية " .
في نهاية الكتاب كان ملحق لباحثين عراقيين يتحدثون عن يهود العراق حاورهم الكاتب , منهم من رمزَ له( زأ.ق) الذي يؤكد على أن الشعب العراقي خسرَ" خسارة فادحة باجبار اليهود على الرحيل من وطنهم العراق , وهي مؤامرة امبريالية صهيونية رجعية غرضها تغذية اسرائيل بدم حار من أبناء العراق من اليهود العراقيين " واللقاء الثاني كانَ مع الكاتب والسياسي عزيز الحاج حيث يؤكد الحاج في لقاءه على أن " شغلً يهود العراق مناصب هامة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة بعد ثورة العشرين وأول من يتصدر اسمه في هذا الشأن هو ساسون حسقيل الذي كانَ مع جعفر العسكري حاضراً في مؤتمر القاهرة الذي قررّ قيام دولة عراقية ملكية وتتويج فيصل الأول ملكاً على العراق " , كما يؤكد الحاج " عند اسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين عام 1950 كنت في السجن حين صدور قرارات تسفير اليهود العراقيين ...إن المثقفين العراقيين الموضوعيين المنصفين تألموا للغاية واعتبروا القرارات خطة أو مؤامرة بين الحكومة وبريطانيا وبين المنظمات الصهيونية لاجبار يهود العراق على السفر لاسرائيل ".
من هذا يعتبر الكتاب مبادرة من الكاتب على القيام بمشاريع مستقبلية للخوض في تدوين مواقف تاريخية واحياء سير وحوادث سوف يكون بالاعتماد على جمع شتات الكلمات في الصحف والمجلات والروايات الشفوية التي تؤرخ الأحداث كي يكون مصدر تاريخي مهم في تدوين الذاكرة العراقية المغيّبة , ويعد مشروعاً لا بدَ منهُ لاعادة كتابة تاريخ العراق الحديث وفق رؤية حداثوية جديدة , ومن خلال هذا المقال والقراءة أشد على يد الكاتب الجريء ماز ن لطيف لجرأته على تقديم السفر الثاني بحق هذه الديانة وأبنائهم التي ظلمت وأغبن حقها وحرمّت من حقوقها كمواطنين ففرطت بهم الحكومات العراقية وارسلتهم هدية ثمية لدولة إسرائيل.
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟