|
سياسة الروح
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1158 - 2005 / 4 / 5 - 10:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رغم إغواء الوقوف عند «الأرقام القياسية» المدهشة التي حطّمها البابا يوحنا بولس الثاني (1920ـ 2005)، في ما يخصّ بابويته ومواقفه وأسفاره وإنجازاته، فإنّ ما يغريني أكثر في شخصية هذا الراحل أنه أفلح في جمع سلسلة عجيبة من النقائض ضمن مصالحته الفريدة بين قطبين يتوجّب أن يتنافرا منطقياً: قطب النزعة المحافظة، بل والرجعية المتشددة، في شؤون الإجتهاد اللاهوتي والإنشقاق الإيديولوجي داخل الصفّ الكاثوليكي، والإنضباط المسيحي في مسائل تنظيم العيش والحياة؛ وقطب التزعة التقدّمية، بل و«الثورية» أحياناً، في مسائل العدل الاجتماعي، ونظام العلاقات الدولية والهيمنة الغربية، ومناهضة الحروب (أي: معاداة السياسة الأمريكية جوهرياً)، والوقوف في صفّ المستضعفين (كما في مواقفه من حقوق الشعب الفلسطيني)... لكنني هنا أستحضر مثالاً واحداً، أرى فيه خلاصة بليغة ــ ومفارقة صارخة، استطراداً ــ على اجتماع تلك النقائض، وأقصد مبادرة الكنيسة الكاثوليكية إلى تنظيم اليوم العالمي للشباب في العاصمة الفرنسية باريس، سنة 1997. وبالطبع، لم يكن مصدر المفارقة أنّ الكنيسة حكر على متوسطي الأعمار أو الكهول أو مَنْ بلغوا من العمر عتياً، بل أن الحكاية تتصل مباشرة بمدى ما يمكن أن تتوافق عليه أجيال الشباب من أفكار روحية أوّلاً، وبينهم وأنفسهم ثانياً، وبينهم والكنيسة ثالثاً، ثم الكنيسة الكاثوليكية رابعاً وتحديداً. ولم يكن من المدهش، ربما، أن يسهر ذلك البابا الطاعن في السن (كان يومها في السابعة والسبعين) حتى ساعة متأخرة أمام مئات الآلاف من الشباب القادمين من أربع رياح الأرض، وأن تتصالح في أذنيه موسيقى الجاز والروك والبلوز والريغاي مع ترانيم باخ وهايدن ومونتيفردي. المدهش بالتأكيد كان أن تتصالح عقول هؤلاء الشباب مع مواقف البابا من مسائل الحياة الجنسية المشتركة خارج مؤسسة الزواج، والإختلاط بين الجنسين، وتحديد النسل، والإجهاض ومرض الإيدز، وما إلى ذلك من قضايا باتت تخصّ الصحة الجسدية قبل الصحة الروحية والإيمانية. وكان الأمر سيهون لو أن ائتلافاً ما للكنائس المسيحية هو الذي وقف وراء تنظيم ذلك اليوم العالمي، فالمرء في حالة كهذه ما كان سيعدم العثور على سابقة هنا أو موقف إفتائي هناك، عند الكنيسة البروتستانتية أو الأنغليكانية أو الروم الشرقيين على سبيل الأمثلة فقط. أمّا الفاتيكان فهو أكثر الكنائس تشدداً في مسائل الحياة اليومية للشباب، وأمّا البابا يوحنا بولس الثاني فقد كان بين الأكثر تشدداً طيلة نحو ألفي عام من تاريخ المسيحية بأسرها. كان شديد الإيمان بالمبدأ الذي جاء في الإصحاح الأوّل من سفر التكوين: «وباركهم الله وقال لهم اثمروا واكثروا واملأوا الأرض واخضعوها ...»، وكان من أشدّ المدافعين عن مبدأ البابا بيوس الحادي عشر في «الزواج الطاهر»، أي الزواج الذي لا بدّ أن يثمر الولادات دون انقطاع أو تنظيم «دنيوي». وكان ذلك المبدأ قد صدر عام 1391، ومثّل الإنعطافة الأبرز في تاريخ موقف الكنيسة من تحديد النسل وتنظيم الأسرة، لأنه ببساطة لم يقتصر على التأثيم الروحي للعاصي، بل على وصمه بالجرم الجنائي وقتل النفس البشرية أيضاً. وعلى العكس مما قد يلوح للوهلة الأولى، لم تكن الكنيسة الكاثوليكية مناهضة دائماً وأبداً لفكرة تحديد النسل أو الإجهاض، وكانت المسألة موضع أخذ وردّ، وخضعت لنقاشات فلسفية عويصة بين «الحياة في المفهوم»، أي ولادة الحياة الجنينية منذ لحظة الإتصال الجنسي، و«الحياة في المادّة»، أي اكتساب صفة الجسد والروح بعد اليوم الأربعين من عمر الجنين. والبابا غريغوري الثالث عشر (1572ـ 1585) اعتبر أنه ليس في باب الجناية قتل جنين لم يتجاوز عمره الأربعين يوماً. لكن خليفته سكستوس الخامس اعتبر الحالة ذاتها جناية صريحة وفرض على مرتكبيها عقوبة التحريم والطرد من الكنيسة. خليفة هذا الأخير، غريغوري الرابع عشر، أعلن أنّ هذا التفسير بالغ القسوة، فألغاه وأبطل نتائجه بمفعول رجعي أيضاً... هل دارت أفكار كهذه في خلد مئات الآلاف من الساهرات والساهرين مع قداسته حتى ساعة متأخرة، في قلب باريس... دون سواها؟ الأرجح أنهم لم يفعلوا، ولعله لم يكن مطلوباً منهم أن يفعلوا في الأساس. الأرجح أنهم أدركوا حقيقة أن حياتهم ستسير على المنوال المألوف ذاته يوم غد حين ينفضّ السامر، وستكون الغلبة لإيقاع الحياة الطبيعية داخل المجتمعات الطبيعية، وفي سياق الشروط الموضوعية للعمل والبطالة والحبّ والكره والتواصل والعزلة والإنتماء والإغتراب: في روما مثلما في لاغوس، وفي بيروت مثلما في ريو دي جانيرو، وفي الساحات المكشوفة حيث تتعالى عذابات بوب مارلي وحشرجات مايكل جاكسون مثلما في الصالات المخملية حيث تُعزف كلاسيكيات يوهان سباستيان باخ وكلاوديو مونتيفردي. ذلك كلّه لم يكن يلغي ما حققّه قداسته من اختراق مثير أُضيف سريعاً إلى سجلّه الحافل الذي أشار ويشير إلى أنه البابا الأكثر تسيّساً وتسييساً في تاريخ الكنيسة. والأرجح أنه سيستأثر، حتى زمن بعيد مديد، بالكثير ممّا حطّم من أرقام قياسية!
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيّ تغيير «من الداخل» تريد واشنطن في سورية؟
-
«أشغال» الوكالة
-
قمّة الجزائر: هل يمكن للنظام العربي الرسمي أن ينحطّ أكثر؟
-
سطوة الحكاية
-
عروس مجدل شمس
-
يهود سورية: «التطهير العرقي» وصناعة الخرافة
-
غلطة السيد... بألف ممّا نعدّ
-
تظاهرة دمشق «الشبابية» واستئناف الهستيريا القديمة ـ المقيمة
-
هويات غير قاتلة
-
زائر غير منتظر في انتفاضة لبنان: رفعت الأسد
-
واشنطن وحقوق الإنسان: لا عزاء للدالاي لاما و-الثورة الصفراء-
-
إيهاب حسن وعذابات إدراك الأدب ما بعد الحديث
-
خصال رجاء النقاش
-
جمال مبارك بعد بشار الأسد: ما جديد الجمهورية الوراثية؟
-
صمت بنات آوى
-
دمشق إزاء اغتيال الحريري: اشتدّي أزمة تنفرجي
-
موت أمريكي عاق
-
شجرة فقراء الله
-
فرانكنشتاين الكويت الذي ينقلب اليوم على خالقه
-
قصيدة محمود قرني: غوص بالمعنى إلى قيعان الحسّ المحض
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|