أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سليمان سمير غانم - ضياع الحقيقة المادية في المصادر التاريخية بين الأدلجة الدينية و الأدلجة السياسية (سوريا، الإمبراطور قسطنطين و المسيحية، علي بن أبي طالب، مثالًا)















المزيد.....



ضياع الحقيقة المادية في المصادر التاريخية بين الأدلجة الدينية و الأدلجة السياسية (سوريا، الإمبراطور قسطنطين و المسيحية، علي بن أبي طالب، مثالًا)


سليمان سمير غانم

الحوار المتمدن-العدد: 4020 - 2013 / 3 / 3 - 22:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


على مر التاريخ كانت الحادثة التاريخية مجالاً للأخذ و الرد بين الأطراف المشتركة فيها و المشكلة لها. كل طرف كان يرى الواقعة من وجهة نظره. بعضهم يتعاطى معها بشيء من الموضوعية، آخرين كانوا يرونها بطريقة متحيزة، بعضهم كان يحاور الحادثة خارج زمنها محاكمًا إياها بظروف و أحكام زمانه، لا الزمن الذي وقعت فيه. هنا يجب علينا أن نوضح بأن الأقصوصة التاريخية؛ يجب أن تؤخذ ضمن إطارها الموضوعي و ظرفها المكاني و الزماني فقط، لا تستجلب إلى زمان غير زمانها لمحاكمتها بمعاييره، أو تتعرض للتجيير عبر أهداف مستخدميها في الزمن الحالي، فتتعرض للظلم عندما تحاكم خارج معايير اللحظة أو الزمن الذي صاغها و الظروف الموضوعية لذلك الزمن الذي تشكلت أو حدثت فيه.
في الواقعة التاريخية ثلاثة مكونات أساسية؛ الزمان، المكان، الشعب. أي إخلال بهذه المكونات يخرج الشاهد أو الراوي للتاريخ من المنطق العلمي للتاريخ إلى التجديف البعيد عن الموضوعية.
إذا تكلمنا هنا عن دور الذاتية والموضوعية في الحادثة التاريخية، سنصل في النهاية إلى تعريف مفهومي الذاتية و الموضوعية بكونهما يلعبان دورًا في شخصية أو مصداقية المؤرخ إن تم استجرار التاريخ إليهما. إذا بدأنا مع مصطلح الذاتية سنرى أنه: مختلف الميول و الإنفعالات و الأهواء و الرغبات الشخصية التي يميل إليها الانسان، هنا تعتمد الذاتية على رغبة الإنسان و أهوائه و عواطفه كدور رئيسي في الحكم على القضية أو الحادثة التاريخية.
أما الموضوعية: فهي نقل الظواهر أو اعطاء الحكم في قضية ما بالاعتماد على العقل، عبر نقل الظواهر كما هي في الطبيعة أو الواقع من دون زيادة أو نقصان. هنا يمكننا أن نصف الذاتية بأنها حقيقة شخصية و الموضوعية بأنها حقيقة عامة. مع الكم الكبير من التداخل بين المصطلحين في الفترات التاريخية المختلفة، فالمدون للأحداث التاريخية يمكنه التخلي عن الموضوعية بسهولة، بينما لا يمكنه التخلي عن الذاتية بنفس السهولة، لأسباب عديدة تتعلق بعدم القدرة على الحيادية في مواضيع تخص أحياناً المؤرخ نفسه الذي يدون الحادثة. هنا كانت المشكلة على مر التاريخ في نقل الحادثة، مثلاً عندما يقوم عدة علماء بتجربة علمية سوف يتوصلون إلى نفس النتائج، لأن الموضوع علمي و إن كان هناك ثمة أخطاء فسوف تكون عائدة إلى التجربة، أو إلى المنهج. في الفن أيضًا يمكن أن يعطي كل منا رأيه الفني في أي عمل بتجرد بذاتية أو بموضوعية، من دون أن يترتب عليه نتائج مضرة بالإنسان. لكن هل فكرنا بكمية الضرر الذي سببته هذه النزعات في التاريخ أو نقل الوقائع التاريخية حسب مصلحة أتباعها و حسب غاياتهم، للتوصل في النهاية إلى التزوير لمصلحة هذا الطرف أو ذاك. السؤال؛ كم كان هذا التحوير في الأحداث مؤثراً في بناء الشخصية الإنسانية و درجة عقلانيتها و إتزانها ؟
هنا سنؤكد على أهمية الموضوعية في صياغة الحادثة التاريخية علميًا وماديًا، بالاعتماد على الواقع المادي والمنطقي المشكل لظروف الأقصوصة التاريخية، عبر محاولة إظهار كيفية اعتماد المصادر الدينية التأريخية على العاطفة الدينية والوهم في صياغة الواقعة لناحية الغيب. نستطيع القول هنا أيضًا؛ أن العاطفة الدينية تعتمد الذاتية لتأكيد وجهة نظرها في التاريخ.
بنفس المسار، لعبت الأدلجة السياسية للنصوص التاريخية الدور نفسه الذي لعبته العاطفة الدينية، لكن على المقلب الآخر. مجسدة نظرة نستطيع أن نصفها بالنظرة الذاتية المتأثرة بالمصالح السياسية للحدث. في النهاية سنقوم بوضع رأينا البسيط المعتمد على الموضوعية و العقلانية في الأمثلة التي سنطرحها كنماذج عن شرحنا و لبرهان حديثنا في المقدمة التي تناولت الموضوعية و الذاتية.
سنبدأ بالمثال الأول؛
سوريا: في سوريا و العراق ولدت المدنيات الأولى، أو كما يقول الغربيون بين سوريا و العراق ولد العالم. كانت سوريا و لا زالت مع العراق بلداً للأعراف الثقافية المبكرة، و التقاليد التاريخية الراسخة من وجهة نظر علم الآثار المادي. عظمة سوريا و آثارها، ليست بحاجة لا إلى المبالغة ولا إلى التحجيم أو التجاوز، لأنها بحد ذاتها كنز قيمي و حضاري راقي لا يقدر بثمن. لكن إذا نظرنا اليوم إلى إنسان هذه الأرض أو بالأحرى وجهة نظر إنسان هذه الأرض في إرثه. ما الشئ الذي سيغلب على رؤيتنا للموضوع ؟ سيغلب على رؤيتنا بالتأكيد وجهتي نظر؛ الوجهة الأولى: دينية تعتبر سوريا أرضًا مقدسة و أرضًا للميعاد، تبدأ مع أول كتب الديانات التوحيدية التوراه اليهودية التي اعتبرتها أرض الله المقدسة التي وعد الله بها إبراهيم و بني إسرائيل. خطورة التوراه هنا على سوريا، ليست فقط بسبب الأدلجة الدينية التي يتبناها، إنما عبر طبيعته ككتاب دون الشاردة و الواردة على حد زعمه فيما يخص تاريخ المنطقة، من أسماء مدن و شخصيات تاريخية سورية، حتى أن كثير من الباحثين اعتمد على خرافاته في التعاطي مع سوريا و قصصها التاريخية و شخصياتها. أتى بعده العهد الجديد الإنجيل، لكنه لم يشكل خطرًا تزويرياً على سوريا تاريخيًا كما كان التوراه، لأنه كان كتابًا وعظيًا أكثر من كونه كتاب يختص لنفسه بالتاريخ كما فعل التوراه من قبل في تبنيه للقصص التاريخية و أسماء المدن السورية في الألف الثالث و الثاني قبل الميلاد، فحتى اليوم لم يستطع علم التاريخ و الآثار المادي تأكيد ما إذا كان بنوا إسرائيل كأنبياء موجودين كحقيقة في التاريخ المادي أم لا. لم يستطع أحد أن يعيد أو يؤكد قصص التوراه، إلا القرآن الذي أعاد كل قصص بني إسرائيل و أنبيائهم و أكد تواجدهم و دعم تزويرهم و أحقيتهم في الوجود على الأرض السورية. لكن الذي حصل عن طريق العلم، خصوصًا علم الآثار و التاريخ المادي في سورية كان له وجهة نظر أخرى في الموضوع، فلقد أدت الإكتشافات الأثرية الجديدة في سوريا إلى سقوط التوراه و من بعده الكتب الدينية التي تعتمد عليه سقوطًا مدويًا لناحية رواية التاريخ السوري المادي. فهذه الكتب الدينية كالتوراه و القرآن التي ادعت عبر بني إسرائيل و الأنبياء معرفة قصة سورية بكل تفاصيلها، اتضح فيما بعد أنها سرقت قصص شعوب سوريا الأصلية و ممالكها التاريخية الحقيقية المادية، فكتاب كالتوراه عمل على تزوير تاريخ المنطقة مدعياً بامتلاك الحق الحصري في الحقيقة، لكنه ذهب أدراج الرياح باكتشاف أوغاريت الأثرية، فلقد ذكر التوراه كل شاردة و واردة في تاريخ سوريا القديم لكنه (نسي) لم يذكر اسم مدينة أو غاريت مع أنه يدعي أن أحداثه حصلت في نفس المنطقة التي وجدت فيها أوغاريت، ليتضح فيما بعد أنه سرق كل إرث الفينيقيين و أخفاه، و هو ما أدى إلى سقوطه المدوي مع اكتشاف المدن السورية الأثرية في مطلع و أواخر القرن العشرين؛ أوغاريت، ماري، و إيبلا، التي لم يذكرها التوراه عن قصد، و كل الضجيج الذي أحدثه في المنطقة كان بسبب تجييره لتراثها الديني و التاريخي، بعد أن قام بنسب هذا الإرث أو التراث لشخصيات بني إسرائيل و لشخوص توراتية أخرى. المشكلة الثانية التي أسقطت التوراه تكمن في أن هذا الإرث السوري سابق لتدوين التوراه و التزوير الذي اتبعه بقرون عديدة تجاوزت الألف عام على أقل تقدير. هنا تصدعت الرواية التاريخية التي يتبناها التوراه و القرآن و انهارت أمام مادية العلم كنتيجة طبيعية لأحقية العلم في تأكيد الوجود المادي، الشئ الذي لا تستطيع الغيبيات مجاراته لا أخلاقيًا و لا علميًا. لكن بقيت المشكلة مع هذه الكتب الدينية تكمن في تعاطيها مع التاريخ السوري أو العراقي و الصورة الزائفة التي رسمتها لعقود في عقل إنسان هذه المنطقة، مع كل ما تحمله العاطفة الدينية من سيئات عبر التبني لها في فترات الجهل أو النكوص الحضاري. استغلت العاطفة الدينية هذا التخلف و شوشت صورة التاريخ السوري المادي الحقيقي أثناء عملية غرسه بطريقة مشوهة في أدبيات المنطقة، عبر جعل اللوحة أو المشهد التاريخي مشبع بالغيب و اللامنطق و هي جريمة تاريخية أخلاقية بامتياز لناحية تشويه الوعي التاريخي.
في موضوع المراجع السياسية؛ نلاحظ أن رؤية المصادر ذات الجانب السياسي لموضوع سوريا، كانت دائمة التركيز على العامل الخارجي في سوريا؛ سواء عبر نظرة الكتب الدينية، أو عبر الأدلجة السياسية التي حكمت سوريا. كان الإصرار دوماً على إقحام الواقع المادي السوري في امتدادات خارجية أكبر من الإهتمام بالداخل و الواقع المعاش. نراه واضحًا في التركيز على موضوع الإسلام أو صبغ سوريا بصبغة إسلامية بالقوة و الذي تعود خلفيته إلى المصادر الدينية سواء في القرآن أو الحديث. فالنظرة الإسلامية كانت و لاتزال دائمة التأكيد على أن سوريا أرض مقدسة، عليه تحاول فرض أحقيتها بسوريا. على الرصيف المقابل كانت المصادر السياسية القومية، عبر الناصرية و البعث أدوات الفكر القومي العروبي تعمل على جر سوريا بالقوة إلى الرابطة العروبية، لتلعب نفس الدور الذي لعبته الأدلجة الدينية ولكن على مقلب آخر، هو مقلب العروبة أو القومية. فأقحمت الأدبيات القومية سوريا في موضوع العروبة و جعلتها المركز العربي، متناسية بعد واقع سوريا عن مفهوم العروبة البحت، ومفهوم الإسلام البحت. في سوريا حضارة عصية على الهضم من قبل العروبة و الإسلام، فالحضارات السابقة للعروبة و الإسلام في سوريا كالفينيقية و الحضارة الآرامية السريانية؛ كانت من المكونات الطاغية و الأساسية للإرث السوري العريق، أثرت هذه الحضارات في التقاليد و الأعراف الثقافية لكل شعوب العالم، فكيف ستستطيع ثقافة بسيطة كالإسلام أو العروبة لم تخرج من إطار البداوة و الأدبيات الصحراوية حتى اليوم من تذويب هذه الأعراف و التقاليد الراسخة ؟ إن مقارنة الثقافة العروبية بالثقافة السورية، فيه الكثير من الظلم للثقافة العروبية أولاً، عدا عن الإجحاف بحق الإرث السوري الثقافي، ليس لناحية العنصرية، بل لأسباب عائدة لمقارنة أدبيات مدنية استيطانية منذ فجر التاريخ الأول بثقافات غير مستقرة و غير متمدنة حتى يومنا هذا. أو لناحية مقارنة حضارة رعوية بحضارة زراعية. المشكلة أن الأدبيات القومية ركزت جهدها في توكيد الهجرات العروبية إلى سوريا من جزيرة العرب، لتتقاطع مع نظريات سياسية تاريخية غربية أخرى؛ تؤكد على النظرية السامية و أن أصول الساميين و هجراتهم إلى سوريا بدأت من جزيرة العرب، لناحية زعمهم في عدم قدرة سورية على بناء حضارة محلية مركزية، لكونها معبر على شرقي المتوسط، متناسين علمياً صعوبة إثبات نظرية أن الهجرات كانت السبب لخلق الحضارة، لناحية تعقيدات و صعوبة الاستيطان لشعب ما في منطقة جديدة بسهولة وبناء حضارة عظيمة بسرعة بعد هذا الإستيطان مباشرة ! تطرح أيضاً أسئلة لناحية؛ لماذا لم يستطع هذا الشعب بناء هذه الحضارة أو على الأقل حضارة و لو مشابهة في موطنه الأصلي ! هنا نستطيع القول بأنه؛ بين أدلجة الدين و العاطفة الدينية الغيبية المتمثلة بالتوراه و القرآن و بين الأدلجة السياسية المتمثلة بالعروبة و القومية، ضاعت سوريا المادية الحقيقية. هذه الصورة شوشت على سوريا التاريخية المادية بكل ما تحمله من تراكم للإرث الثقافي وما تشكله من أساس متين لحوض ثقافي كبير كان بوتقة لأعراق و مدنيات انصهرت و صاغت في عملية تواصل طويلة شكل ثقافي مميز للحضارة، من الصعب تواجده في أي منطقة أخرى من العالم، لناحية حضور نفس الظروف الموضوعية التي توفرت لتشكيله. سوريا المادية التاريخية، ليست بحاجة لا إلى التهويل ولا إلى التحجيم، بل بحاجة إلى فرد متزن بسيط، إنسان يعتمد على النظرة العقلانية العلمية في التعاطي مع الإرث الثقافي السوري، هذا الإرث الثقافي السوري العميق و الهاضم، هضم ثقافات و أدبيات دينية كثيرة قبل العروبة و الإسلام، سيهضم العروبة و الإسلام. مع التأكيد على أن المشكلة لم تكن يوماً مع المصطلحات نفسها من عاطفة دينية و قومية، بل كانت المشكلة مع من ينفخون هذه المصطلحات لأهداف و استراتيجيات تحاول تغييب الأصيل لمصلحة الدخيل. فينفخون المفهوم الدخيل و يغيبون الأصيل، إن تحميل الواقع في بلد ما لمصطلحات وهمية أو بعيدة عن منطق البلد و النفخ فيها سيؤدي إما إلى تفجير الواقع الذي هو البلد أو تفجير المصطلح، في الحالتين سيدفع المجتمع الثمن باهظاً. لقد قام القوميون العرب بتلبيس العروبة زي الإسلام فقتلوا العروبة، وعندما تدهور الإسلام اصطدم بالعروبة فأشعل حريق لا يعرف أحد أين من الممكن أن ينتهي. تلبيس الإسلام للعروبة قتل العروبة، بينما بقي المسيحيين و اليهود العرب أشبه بكائنات معلقة في الهواء مع أنهم أصلاء في تاريخ المنطقة، لم يستطع اليهود و المسيحيون العرب الإنتساب إلى عروبة الإسلام أو للعروبة التي سلمها القوميون للإسلام، لأسباب دينية نعرفها جميعاً، تتعلق بانغلاق الأديان على نفسها، بينما لم تستطع هذه المجموعات العربية الخروج من العروبة. العروبة؛ المفهوم الذي كان من الممكن البناء عليه في موضوع العلمانية العربية لو تم التعاطي معه بواقعية أو كرابطة حقيقية بعيدة عن ربطها بموضوع الدين. لم يحمل القوميون العرب أنفسهم مسؤولية انهيار العروبة، بل تراهم يحملون المسيحيين أو اليهود العرب مسؤولية انزياحهم أو توجههم للإرتباط بالغرب أو الكنيسة و ما شابه، معتبرين ذلك انزياحًا عن العروبة، بينما لم يرو ماذا فعل ربطهم للعروبة بالإسلام ! إن خلاص الشعب السوري اليوم يكمن في الإنتماء إلى الواقع، الواقع هنا هو الهوية الوطنية السورية، لكون الهوية السورية انتماء واقعي معاش بشكل يومي بل و كواقع فطري متداخل مع الجينات، فمهما حصل من أخطاء في التوجه لهذا الإنتماء، لن تكون نتائجه كارثية على الشعب السوري، لخياره الواقعي في الإنتماء للمشرب الثقافي للمنطقة التي يسكنها. سيكون خياراً أكثر واقعية و جدوى من عودة المجتمع إلى انتماءات ما قبل الدولة في ظل الضياع الحاصل اليوم في موضوع الإنتماء السوري، بالعودة إلى الطوائف و المذاهب و غيرها من الإنتماءات المتخلفة الغير عصرية العاكسة للجهل على مر العصور. إن أي أثمان ستدفع اليوم في العودة إلى الهوية السورية ستكون أخف من الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوري لمشاريع و مفاهيم امتداداتها خارج الحدود كالعروبة و الإسلام. ملجأ السوريين الحقيقي هذه الأيام يجب أن يكون الهوية الوطنية السورية لا غير. الهوية المنفتحة على الجميع، لكن المهتمة بنفسها أكثر من الاهتمام بمواضيعهم. اليوم يعود المنطق إلى وضع كل مفهوم في حجمه الحقيقي، و إن كان نفسياً فقط لدى البعض، لكنه سيتفعل داخلياً بقوة لدى السوريين في الأيام القادمة، فسيرورة التاريخ هي الحكم دوماً، الأصيل يبقى و الدخيل عليه أن يتماهى ثقافياً مع الأرض القديمة المتجددة، أرض المعبر، و شرق المتوسط سوريا.

الإمبراطور قسطنطين و المسيحية: كان الإمبراطور قسطنطين من أهم شخصيات العصر الروماني في القرن الرابع الميلادي، أيضاً كان من أكثرها جدلية و تضارب في وجهات النظر و الآراء. فكان نقطة مفصلية في التاريخ الروماني؛ لناحية كونه الإمبراطور الذي خلق عاصمة امبراطورية جديدة في الشرق، أيضاً لناحية تحول الإمبراطورية الرومانية معه من الوثنية إلى المسيحية. استلم الحكم بعد فترة من الحروب الأهلية و السلطوية، وقعت هذه الحروب بعد عهد الإمبراطور ديوكليسيانوس الذي اخترع النظام الرباعي Tetrarchia في الإمبراطورية الرومانية، لتفادي أزمات القرن الثالث الميلادي الاقتصادية و السياسية، التي كانت النتيجة المنطقية لإتساع الإمبراطورية و المشكلات المرافقة لهذا الاتساع عبر النظام المركزي. بعد هذا النظام الذي فرضه الإمبراطور في حياته، أصبح لدينا إمبراطوران و قيصران يحكمان الإمبراطورية؛ إمبراطور في الشرق، و أخر في الغرب و كذلك كان عدد القياصرة. كان والد الإمبراطور قسطنطين، كونستانتيوس كلوروس أحد هؤلاء و حكم في القسم الغربي و بريطانيا، عند وفاته انقلب ابنه قسطنطين على النظام الرباعي الذي كان سائداً و خاض عدة حروب ضد الأباطرة و القياصرة الذين كانوا يحكمون باسم النظام الرباعي الذي ذكرناه سابقًا، استطاع الإمبراطور قسطنطين في النهاية السيطرة على الامبراطورية كحاكم وحيد في الشرق و الغرب. الحدث المهم الذي سنناقشه هنا؛ هو قصة اعتناق الإمبراطور للمسيحية أو قصة الإمبراطور مع المسيحية. يشار إلى أن الامبراطور كان مع القيصر الآخر ليكينيوس صاحب إعلان براءة ميلانو L’Editto di Milano الشهير في تاريخ المسيحية عام 313 ميلادي، الذي سمح بالحرية الدينية في الإمبراطورية الرومانية و أوقف الإضطهاد السابق بحق المسيحيين. جاء في نص البيان ما خلاصته: ( نحن قسطنطين أوغسطس و ليكينيوس أوغسطس، بعد تبادل الرأي في ميلانو، تبين لنا أن مصلحة الدولة تقتضي تنظيم أمور التعبد و منح المسيحيين و جميع الرومانيين حق اتباع الدين الذي يختارونه، و ذلك ليرضى الإله أياً كان عنا و عن جميع الخاضعين لنا. و بعد التبصر في هذا الأمر قررنا عدم التعرض لحرية المعتقد. و هكذا فإننا لا نمنع أيًا كان من الناس من اتباع دين المسيحيين أو اتباع أي دين آخر يختاره هو لنفسه، آملين أن ننال بذلك رضى الله الأعلى و بركته). بعد صدور هذا المرسوم أمر الإمبراطور بإعادة الكنائس و الأملاك المصادرة إلى أصحابها المسيحيين و بالتعويض من صندوق الدولة لكل المتضررين من ذلك. بهذا التشريع الجديد انتهى عصر الإضطهاد و اعترفت الدولة بشرعية الديانة المسيحية، كما أصبحت الكنائس تتمتع بحرية العبادة و حق التملك و حصل رجالها على نفس الإمتيازات التي كان ينتفع بها الكهنة الوثنيون. لكن المسيحية لم تصبح في ذلك الحين ديانة رسمية للدولة الرومانية، بل صارت متساوية مع الأديان الوثنية. أيضاً قام الإمبراطور بعد ذلك التاريخ بالبدء بتأسيس مدينة روما الجديدة Nuova Roma (بيزنطة) Bisanzioعام 324 ميلادي عبر اختيار الموقع الحصين المعروف على البوسفور و المسمى بالقرن الذهبي و البدء بالبناء الذي انتهى في 330 ميلادي، كانت المدينة قد سميت باسمه بعد وفاته القسطنطينية.
في قصة اعتناق الإمبراطور للمسيحية؛ تشير المصادر إلى أنه في سنة 312 ميلادي، شن القيصر قسطنطين حرباً ضد الإمبراطور مكسنتيوس بن مكسميانوس فانتصر عليه في معركة دارت رحاها قرب روما Bonte Milvio على أحد جسورها الذي سميت المعركة بإسمه، فر الإمبراطور مكسنتيوس بعد المعركة، لكنه سقط في نهر التيبر و غرق. الشائع الذي كتبه المعاصرون هو أن الإمبراطور قسطنطين قبل أن يخوض المعركة مع خصمه الإمبراطور مكسنتيوس شاهد فوق قرص الشمس الجانحة للمغيب صليباً من نور كتبت عليه عبارة in hoc signo vinces (بهذا تغلب)، كما تشير نفس المصادر إلى؛ أن المسيح بن مريم ظهر لقسطنطين في تلك الليلة حاملاً الإشارة المذكورة نفسها و أوصاه أن يتخذها راية له في المعركة فينتصر على خصمه. تتابع المصادر بأن قسطنطين في الصباح التالي استدعى ضباطه و قص عليهم ما رآه في حلمه و أمرهم أن يتخذوا راية الصليب لهم، ففعلوا و خاضوا المعركة و انتصروا. أصبحت هذه الراية في سنة 326 شعاراً للإمبراطورية البيزنطية، و كانت تتألف من صليب تعلوه صورة الإمبراطور مع إكليل بلون ذهبي يتوسطه منوغرام المسيح (أي الحرفان اليونانيان X P اللذان يرمزان للمسيح). شاعت هذه القصة كثيرًا في التاريخ المسيحي، و حملت بعد أيديولوجي عقائدي ناسبة للإمبراطور الفضل الأكبر في انتشار المسيحية و دعمها واعتبرته الممثل الأول لرعاية الكنيسة، عبر أول مجمع كنسي رسمي في نيقية؛ الذي أكد على الأرثوذوكسية. طورت المسيحية هذه النظرة لترجع أسباب تأثر الإمبراطور بالمسيحية إلى فترة طفولته عبر أمه هيلانة المسيحية التي نصبت كقديسة في التاريخ المسيحي. حتى أن المسيحيين فيما بعد أدلجوا أسباب بناء العاصمة الجديدة في الشرق، مؤكدين أنها تمت لأسباب دينية أراد بها الإمبراطور القطيعة مع روما الوثنية، و اعتبروه السبب الأول متناسين الأسباب الاستراتيجية و الاقتصادية التي عصفت بالإمبراطورية في القرن الثالث و نظام الحكم و أهمية الشرق بالنسبة للرومان، معتمدين على أن الصراع بين الإمبراطورين قسطنطين و مكسنتيوس كان صراعاُ بين الوثنية و المسيحية، انتصرت فيه المسيحية. كان من أكثر المروجين للعاطفة الدينية في هذه الحادثة المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري، حيث دخلت هذه الحادثة في المراجع و التقاليد التاريخية و كأنها حقيقة مادية. هنا كرست العاطفة الدينية الواقعة التاريخية كحقيقة مادية مطلقة، جاعلة من الإمبراطور شخصية دينية مقدسة، أيضاً كرست انتصاراته و أفعاله كانتصارات دينية و إلهية ناجمة عن الرضا الإلهي عن الإمبراطور في مواجهة الخصوم، و الأساس في التفوق الأرضي.
في مقابل هذه الأحادية الدينية؛ كان هناك مراجع إمبراطورية وثنية أخرى، تؤكد على أن الامبراطور لم يكن مسيحياُ، بل كان وثنياُ ميثرائياً. تعتمد على قصص و مراجع أخرى تكرس نظرتها للإمبراطور كشخص وثني، تدعم حجتها عبر عدم تلقي الإمبراطور قسطنطين لطقس العماد إلا في آخر ليلة قبل وفاته بساعات، على اعتبار العماد المسيحي طقساً أساسياً للدخول في الدين المسيحي. تؤكد هذه المصادر أيضاً؛ أن تأسيس بيزنطة لم يكن مرحلة للقطيعة مع روما الوثنية السياسية، بل كانت امتداداً لها، في حياتها و تقاليدها، لم تكن امبراطورية مسيحية المنشأ كما تصور المراجع الكنسية المسيحية، ذاهبة إلى أن الإمبراطور قسطنطين كان سياسيًا وثنيًا، مشيرة إلى أنه توجه بالقرابين لإله الشمس ميثرا قبل معركته الفاصلة بأيام مع الإمبراطور مكسنتيوس. و تؤكد على أنه استمر حتى آخر أيام حياته في تقديم قرابين في معابد إله الشمس. هنا بين النظرة المضادة في هذه المراجع و بين النظرة الدينية للمراجع المسيحية، ضاعت الحقيقة التاريخية المادية لقصة الإمبراطور، فغابت صورة الإمبراطور كقائد سياسي و حلت محلها رؤيته كقائد روحي أو كشخص مقدس. بالعودة إلى الواقع المادي و إلى النظرة العقلانية المحايدة و الواقع المتحكم بظروف الحادثة على الأرض؛ نستطيع الوصول إلى أن الامبراطور استغل المسيحية في صراعه مع خصومه، ليس من باب الإيمان، بل من باب الاستراتيجية، فهو كان يعلم أن المسيحية منتشرة بنسبة لا بأس بها بين جنوده، و أيضًا بين جنود خصومه، و في معركته للسيطرة على روما كان يعرف أن أغلبية أهل روما قد اعتنقوا المسيحية في القرن الثالث الميلادي، هنا من الممكن أن يكون الإمبراطور استخدم أو اخترع قصة الرؤية للصليب و للمسيح في الحلم، لكسب تعاطف المسيحيين التي كانت نسبتهم كبيرة في الجيش، لا يعني قطعاً أن هذه القصة المكرسة للغيب صحيحة في عالم الواقع المادي كأنها حصلت حقاُ، أو أنها غير موجودة أصلًا كما تدعي المراجع المعادية للمسيحيين في الإمبراطورية. والحقيقة التاريخية للقصة لا تتجاوز هذا الإطار؛ أي الأدلجة السياسية لمشاعر الناس الغيبية، أي استغلال العاطفة الدينية في الصراع السياسي، لتحقيق شعبية أكبر على الخصوم، في ظل هذا الصراع السياسي ضاعت الحقيقة المادية بين المراجع الدينية المسيحية و المصادر الوثنية و تحول الإمبراطور إلى ممثل للذات الإلهية على الأرض و غابت النظرة الواقعية له كحاكم سياسي تحكمه ظروف السياسة و شروطها.

علي بن أبي طالب: أكثر شخصيات الإسلام جدلية. صاحب الإشكالية الأولى و الأخيرة في التاريخ الإسلامي، فعبره انشق الإسلام أفقياً و عمودياً، بين متبع لفكره و بين معارض له، و بين خارج عن الفكرين معاً. دوماً كانت البداية في هذا الانشقاق تحكمه النظرة لعلي بن أبي طالب إن كانت إيجابية أم سلبية. المتبعين لفكره، أسسوا مدارس و مذاهب تحسب نفسها عليه، بينما المعارضين له، أسسوا مذاهب و مدارس للرد على فكره، متكئين على قصص الإسلام الأول و القرب و البعد عن الرسول في تشكيل جبهة إسلامية تواجه فكره و مدرسته التي شكلها أتباعه على مر العصور، و التي عرفت بحركات التشيع. عبر المدارس التي أنشأها أتباعه أو خصومه؛ انقسم الإسلام إن كان يصح القول أو التشبيه إلى: أرثوذوكس و كاثوليك. يحمل موضوع علي بن أبي طالب كشخصية إنسانية إشكاليات كبرى بحاجة للكثير من النظر و البحث، لناحية كونه من أوائل الشخصيات التي خلفت أدباً و كتباً بين شخصيات الإسلام الأول التي لم تكن كذلك، فموضوع الكتابة أو الأدب و الفلسفة كان محصوراً في تلك الفترة في الدين و السيرة النبوية فقط. أما علي بن أبي طالب كان مختلفأ، فعبر ما وصلنا عنه سواء ديوانه الشعري أو كتابه نهج البلاغة و غيره الكثير من الخطب و المواقف و الأقوال، نستطيع تكوين فكرة عن شخصية مختلفة عن بقية المسلمين. هذه الشخصية إذا أردنا البحث عنها بموضوعية في المراجع التاريخية نلاحظ فيها أنه؛ كان يجمع في صفاته فكرة الثنائية الإيجابية؛ البطل المتواضع، الشجاع الهادئ، المقدرة الزهد، العلم و البساطة، و أهمها كان البعد عن التكبر. من الممكن أن تكون هذه الصفات من أكثر الأسباب التي أثرت في نظرة المسلمين له كمثال نموذجي عن الشخص الروحاني. المتابع لقصصه و سيرته يستطيع عبر المقارنة بسير شخصيات قريبة منه لدى شعوب أخرى كاليونان أن يصل إلى مواصفات تعطيه صورة نمطية تشبه شخصيات فلاسفة اليونان و منهجهم في تقديس الحكمة. أيضاً عندما ننظر إلى مقدرته الخطابية و فصاحته المعترف بها من خصومه قبل أتباعه، نقرأ في التاريخ أنه كان خطيباً مفوهًا، يصفه العرب بسيد المتكلمين، أو سيد أرباب الفصاحة، هنا يذكرنا بشخصيات أخرى لدى الرومان كشيشرون أو بلوتارك أكبر الخطباء المفوهين في فقه اللغة و الكلام اليوناني و اللاتيني. تحمل طباعه الشخصية أيضاً الكثير من الملاحظات حول فكره، فعندما تقرأ أخباراً عن حياته اليومية؛ تلاحظ أنه كان أقرب إلى الراهب النباتي في مسلك و تفاصيل حياته، أو ربما أقرب إلى تقاليد الرهبنة المسيحية البيزنطية في التقشف في الملبس و المأكل، نعرف أن الزهد و الرهبنة كان تقليدًا راسخاً في القرن السابع الميلادي، سواء في بادية سوريا أو صحاري الجزيرة العربية. فلسفياً؛ كان له خط فلسفي وسطي، عقلاني بعيد عن فكر المسلمين المتحيز و المتطرف المنغلق داخل النص. سئل مرة عن كيفية العبادة أو كيف يجب أن تكون نظرة الإنسان إلى الإيمان بالله، فأجاب بجواب إشكالي يعكس وجهة نظر عقلانية في محاكمته للأمور. أجاب بما معناه؛ لا تعبدوا الإله خوفاً من بطشه، و لا طمعاً في جنته أو رغبة بمكاسب يمكن أن تحققوها من الإيمان به، لكن إن رأيتموه أهلاً للعبادة فاعبدوه. عبر عبارته (ربي ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، لكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك). تعكس هذه النظرة لموضوع الإيمان تقدم فلسفي كبير سابق لعصره، نراه لدى إله نيتشه بشكل أو بآخر و الذي يدعو إلى انتحار الإله إذا كان أتباعه من الرعاع و يفتح آفاق بعيدة في اللجوء إلى العقل أو التعقلن في موضوع الإيمان، عبر عدم الإنقياد إلى العبادة العمياء التي تسلم بالإله كائنًا ما كان شكله الفكري من دون تفكير. فيكون أتباعه عبارة عن قطيع خنوع لا يحوي بين جنباته من يفكر أو يستخدم عقله. فبينما يحاكي نيتشه الموضوع من ناحية الإله؛ أي من الأعلى إلى الأسفل، يعالجه علي بن أبي طالب من الأسفل إلى الأعلى، أي ينطلق من الإنسان العاقل الدي يحاكم الأمور كلها بالعقل والمنطق حتى في موضوع الإيمان و شكل الله الفكري.
إذا نظرنا إلى علي بن أبي طالب إسلامياً اليوم. ماذا سنشاهد ؟
المتابع للموضوع اليوم سيلاحظ وجهتي نظر إسلامية أو دينية تخص علي بن أبي طالب؛ وجهة النظر الأولى؛ تخص مدرسة أتباعه و حلفائه في الدين و السياسة (الفرق الشيعية)، وجهة النظر الأخرى؛ تخص الخصوم الأعداء في الدين و السياسة (الأمويين و أتباعهم). في وجهة النظر الأولى نلاحظ مدارس دينية كالعلويين و الشيعة الإثني عشرية و تفرعاتها، نلاحظ عند هذه المدارس عاطفة دينية تخص علي بن أبي طالب و سلالته و صحبه اختلط فيها الديني، بالظلم السياسي، بالشطحات الغيبية، وصلت حد اللامعقول و التأليه فأسأت إلى علي بن أبي طالب الحقيقي المادي، حيث مسحت شخصيته و إرثه الفكري بخلطه بالغيب، و استجداء الثأر، و المظلومية التاريخية عبره في آخر الزمان، فضاعت الشخصية الحقيقية بين مطرقة الإله و مطرقة تكذيب الألوهة من الخصوم.
وجهة النظر الثانية: كانت وجهة النظر التي تخص خصومه التاريخيين المعروفين و المشكلين لوعي المدرسة الأموية تاريخياً، وقفت المدرسة الأموية و أتباعها بكل شراسة ضد فلسفة على بن أبي طالب، خصوصًا أنها كانت فلسفة متفوقة أخلاقياً و بعيدة عن مظالم السياسة، التي كانت هوس بني أمية. هذا الصدام بين المشروعين؛ المشروع الأخلاقي الروحي لدى بني هاشم ممثلًا بعلي، و المشروع السياسي البراغماتي للأمويين ممثلًا بمعاوية، أنتج مدرسة الصدام الإسلامي الطاحن، و كما قام أتباع علي الإنسان بالإساءة له عبر تأليهه و خلط الغيب بالحقيقة، استخدمت المدرسة الأموية الإساءة نفسها لعلي بن أبي طالب، لكن على المقلب الآخر، محاولة الرد على مدرسة أتباعه بطريقة عكسية، فعملت المدرسة الأموية كل ما في وسعها لتحطيم هذه الصورة المتقدمة له، و التأكيد على أنه لا يختلف عن بقية المسلمين، وصلت الصورة في أبشع مراحلها إلى الازدراء بشخصه و مقارنته مع شخصيات إسلامية سياسية لا تملك لا فلسفته و لا أخلاقيته، كمن يضعونه مع معاوية اليوم في نفس الصف و في مرتبة واحدة. هنا بين نظرة الأتباع المتطرفة (التضخيم) و بين ازدراء الخصوم (التحجيم) ضاع علي بن أبي طالب الفيلسوف و الشاعر كأهم شخصية من شخصيات الإسلام، ليتحول إلى وهم إله لم يكن بحاجة له لإثبات الذات على المقلب الأول، و إلى شخص مكروه على المقلب الآخر، ليتحول إلى درع في يد أتباعه و ليتلقى هذا الدرع نفسه ضربات أعدائه الفكريين.
أيضاً؛ نلاحظ في الفلسفة التي أورثها لأتباعه اختلافاُ عن العرب في موضوع الإعتراف بالآخر المختلف و حقه في الوجود في مراحل الخلاف الفكري. ففي خلافه مع الخوارج، خصوصاً المرحلة الأولى، التي كان قادراً فيها على إزالتهم من الوجود بالقوة العسكرية، لم يفعل، و عندما طلب أصحابه منه ذلك و سألوه ماذا يتوجب عليهم فعله إزاءهم أجاب؛ (اتركوهم، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه). لم يصطدم معهم إلا في الفترة التي كفروا بها الناس و أمروا بقتلهم، فحاججهم و أخبرهم بأنه مستعد لتقبلهم في أي مسألة و مناقشتهم في أي موضوع، إلا مسألة تكفير الناس، فلقد رأى فيها كبيرة من الكبائر، على ما يبدو كان يعرف مقدار خطورتها على الإسلام و على الإنسان على السواء.
بالرغم من كل الذي حصل مع علي بن أبي طالب في حياته، إلا أنه لم يتنازل عن فلسفته الأخلاقية الوسطية، المتمثلة في الوقوف إلى جانب العقل حتى اللحظات الأخيرة من حياته. نراه حتى في آخر ساعاته، بعد ضربه من عبد الرحمن بن ملجم بالسيف، لم يطلب من أولاده وأتباع مدرسته القتل والأخذ بالثأر كعادة العرب، بل أمرهم بإطعامه من نفس الطعام الذي كان يأكل منه، حتى عندما سأله الحسن و الحسين في موضوع الوصية للوراثة أو الخلافة أو ماذا يريد أن يقول: أجاب؛ (ما أنهاكم و ما آمركم فأنتم أبصر). هنا بالرغم من كل فلسفته و ثقافته المتقدمة على معاصريه، أصر على العقل و لم يحتقره لدى الآخرين، لم يأمر أحدهم بالتقيد بنص يكتبه كوصية، مكرسًا احترامه للعقل على النص. وعندما أجابهم بأنه لا ينهاهم ولا يأمرهم، كان يؤكد على أنه يكن احترامًا لفلسفته في تبني العقل لدى الإنسان، واضعاً إياه فوق كل شيء، معتبراً إياه الميزان الوحيد في محاكمة الشر والخير و ليس العاطفة أو الغريزة.

اليوم في العالم العربي؛ علينا العودة إلى عقلنة التاريخ، فحتى تاريخنا مبني على الدين و الرؤية الدينية للواقعة أو للشخصيات التاريخية، هو أمر خطير في تشكيل الشخصية العربية و العقلية العربية، فعقلية مبنية على الغيب و تتعاطى معه على أساس أنه العلم هي شخصية يحكمها الوهم. و الوهم لا ينتج إلا الوهم، فالدين دين لا يمكن أن يكون علم، و التاريخ علم فقط. أي علينا أن نميز بين الدين و العلم، فلكل منهما مجاله. و إن كان الدين عامل مؤثر في التاريخ، لكنه ليس التاريخ. إن عقلنة التاريخ و نصوصه اليوم في العالم العربي ستكون خطوة متقدمة على طريق العلمنة، من الممكن أن تكون عملية أسهل حالياً و أقل تكلفة من عقلنة النص الديني، لسهولة التعاطي بموضوعية مع النص التاريخي أكثر منه في التعاطي مع النص الديني و أكثر تسامحاً. فان استطعنا خلق فرد متزن وعقلاني في محاكمة التاريخ و النص التاريخي، سنفتح بابًا للدخول إلى عقلنة و محاكمة النص الديني. يبدو أنها ستكون فرصة في بناء فرد متزن متحرر من العاطفة الدينية و من التجييش السياسي على السواء، هذا الفرد المتزن سيصل إلى مرحلة تشكيل الواقع حسب الظروف الموضوعية و عندما تبنى المجتمعات على العقلانية و الموضوعية لن نصل إلى منزلقات خطيرة كما يحصل اليوم في العالم العربي من انزلاقات سياسية و دينية.



المعلومات التاريخية الواردة في المقال:
1. عباس محمود العقاد، عبقرية الإمام، بيروت 1967.
2. طه حسين، الفتنة الكبرى 2 علي وبنوه، القاهرة 1953.

1.“la scoperta di Ugarit” la città-stato ai primordi della Bibbia [Massimo Baladacci] ed piemme1996.
2. Manilo Simoneti: Costsntino e la chiesa, mostra tenutasi a Rimini nel 2005, p.57.
3. George Ostrogorsky, Storia dell’impero bizantino, Torino 1993.



#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيب ...
- شخصيات فكرية من التراث السوري قبل الاسلام (الهوية السورية ال ...
- انعكاسات مرايا الشرق
- نظرية الله المتهم البرئ.
- الإله المتناقض في الإسلام (الله)
- حكم المرتد بين وحشية المسلمين وهشاشة و تناقض عقيدتهم
- معيار الأخلاق بين الثابت و المتحول (الدين و المجتمع)
- يحصل في الشرق
- المنتصر في التاريخ هو المقدس ( بيزنطة مثلا)
- أبو لهب، أبو جهل، أصوات العقل في قريش و المصير المأساوي للأم ...
- ملاحظات بسيطة على العلمانية في العالم العربي
- ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية
- بين اقرأ واسأل يوجد قبر الأمة الفكري
- عندما يصبح دين الشعب أهم من وجود الشعب (من نحن،عرب أم مسلمون ...
- حنين إلى عقل القرن الثاني و الثالث الهجري (المعتزلة)
- أدلجة المجتمع و عبثية الاسلام السياسي
- الإله المتجسد بين الوسط الاغريقي الهيليني و الديانة المسيحية
- الشرق الأدنى من عبادة المرأة الى استعبادها


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سليمان سمير غانم - ضياع الحقيقة المادية في المصادر التاريخية بين الأدلجة الدينية و الأدلجة السياسية (سوريا، الإمبراطور قسطنطين و المسيحية، علي بن أبي طالب، مثالًا)