على هامش "الفوضى" ... يتطور العلم
تهدف هذه المقالة إلى التعرض إلى ما اتفق على تسميته "بعلم الفوضىChaos theory " و تسعى إلى تقديم بعض الاجابات على ما آثار ظهور وتطور هذا العلم على الرؤية العلمية للواقع , و الثورة التى تحدثها فى تعميق الرؤية الانسانية على وجه العموم .
موجز تاريخي
مفهوم الفوضى التقليدي " غياب النظام على الإطلاق " بدأ في الانهيار عقب اكتشاف لورنز في بداية الستينيات و أثناء دراسته لمنظومة خاصة بالتغيرات المناخية كان قد عبر عنها بمجموعة من المعادلات الرياضية و ذلك عندما نتج عن حل معادلاته حلولا غريبة ذات مظهر فوضوي واضح . و في تطور تحليل لورنز لتلك الحلول الغريبة بدأ مفهوم "الفوضى المحددة Deterministic Chaos " في الظهور و انطلقت معه إمكانات هائلة لمزيد من الاقتراب من الواقع و فهم أنماط السلوك الفوضوي التى يطرحها علينا في كل لحظه . و قد كانت الحلول الغريبة للمعادلات و التى تتسم بالفوضى غير مجهولة تماما قبل لورنز , لكن مصيرها في جميع الأحوال كان سلة المهملات بعد أن يرفضها يقين منتجها و يرجعها إلى خطأ في طريقة الحل أو ما شابه . و رغم صراخ الواقع بأمثلة لانهائية للسلوك الفوضوي , فا العقلية العلمية حتى ذلك الحين لم تنج بعد من اسر الحتمية على الرغم من مرور عدة عقود على اكتشاف مبدأ عدم اليقين لهيزنبرج ( استحالة معرفة سرعة ومكان الإلكترون في آن واحد ) . يبدو أن هذا الاكتشاف لم يكن كاف لزلزلة مزاعم أنصار الحتمية و ذلك لافتقاده العمومية . فالعقلية العلمية حتى ذلك الحين كانت أسيرة نمطين أساسين من الحلول لا ترى ثالث لهما : أولهما و هو الحل الثابت مع الزمن ( أي الحل الذي تستقر عليه المنظومة ولا تتغير قيمته مهما امتد الزمان أو تبدل المكان , مثل انتظام سرعة المركبة أثناء الحركة ) , وثانيهما و هو الحل الدوري الثابت مع الزمن ( تتغير القيمة في نطاق زمني محدود مع تكرار النتائج كل فترة زمنية ثابتة , مثل دوران الكواكب وغيرها حول مركز ثابت ). في إطار هذه الأنماط الثابتة من الحلول وجدت الحتمية مقومات استمرارها ولم يتجاوز الزمن دوره الهزلي والذي لا يختلف كثيرا عن الدور الشائع في معظم الأعمال المسرحية : رجل يعبر خشبه المسرح .
و كعادة الاكتشافات الثورية في العلوم مر عقد من الزمان تقريبا قبل أن تتواري الحيرة في المجتمع العلمي و يتم إدراك أهمية هذا الكشف الثوري : المعادلات الرياضية التى يمكن أن تصف مختلف المنظومات تنتج حلولا غريبة تتسم بالفوضى , أو باختصار , القانون ينتج فوضى - القانون ينتج حلولا غريبة لكنها اكثر حيوية واكثر اقترابا من واقع الأشياء - الحلول الغريبة ترد الاعتبار للزمان والمكان , للتاريخ و الجغرافيا - الحلول الغريبة تعيد الحياة للصدفة و تدمجها في نسيج الضرورة . في بداية السبعينيات أتى روبرت ماى و باستخدام معادلة جبرية بسيطة (من نوع معادلات الفروق المنطقية Logistic Difference equation ) باكتشافه لواحدة من آليات التحول من النظام إلى الفوضى و ذلك خلال سعيه لوصف عملية انتشار وباء ما . وفى نفس العام قدم فايجن باو إضافته الهامة ليشق بها الطريق الطويل : البحث عن الانتظام في الفوضى و يكتشف واحدة من أهم سمات السلوك الفوضوي وهى العمومية و يؤكد أيضا على أخرى من ابرز آليات التحول من النظام الدوري إلى الفوضى و العكس ( نقصد بالنظام : التغير الإيقاعي الثابت مع الزمن و الذي يأخذ شكل الدورات المنتظمة مثل دورة الأرض حول الشمس وغيرها - كما يقصد بالفوضى عدم انتظام الإيقاع و عدم تكراره , كأن يتغير الليل والنهار بإيقاع غير ثابت وغير منتظم وغير متكرر و بالتالي غير متوقع ) . و الطريف في الأمر أن روبرت ماى و فايجن باو وزملائهم قد وصلوا إلى إسهاماتهم هذه عبر ملاحظة مرت على الكثيرين , فمن ممن عاصروا هذه الفترة كطلبة أو دارسين أو أساتذة لهم علاقة بالرياضيات لم يستخدم الآلة الحاسبة في حل معادلة رياضية بسيطة بطريقة الصواب و الخطأ : افتراض قيمة للحل و اكتشاف صحته بالتعويض قي المعادلة و عندما تنتج المعادلة قيمة قريبة من الفرض نسمى هذا اقترابا وعندما تبتعد القيمة عن المفروضة نسمى هذا ابتعادا و نعاود الكرة بفرض جديد . الجميع باستثنائهم كان يبحث عن الاقتراب من الحل , أما هؤلاء الباحثين فقد ذهبوا إلى كشف ما وراء الابتعاد عن الحل و إذا بهم يقعوا على غنيمة كبرى وهى بالتحديد سلوك مشابه للسلوك الغريب الذي اكتشفه لورنز منذ عقد من الزمان : ابتعاد واقتراب وابتعاد وهكذا بإيقاع غير ثابت ودون تكرار للنتائج . هكذا وقع في اليد أداه غاية في البساطة لدراسة هذا النوع من السلوك , استطاعوا معها أن يقدموا إسهاماتهم المتميزة في الكشف عن واحدة من أهم آليات الانتقال من الفوضى إلى النظام والعكس وهى الآلية المعروفة باسم " تضاعف الدورة Period Doubling " بالإضافة إلى اكتشاف عمومية هذا النوع من السلوك . وفى 1975 صدر كتاب ماندلبرو Mandelbrot والذي اسماه هندسة الجزئيات Fractal Geometry ليعلن عن تبلور علم جديد في الهندسة تجاوز عجز الهندسة الاقليدية في التعبير عن أشكال الطبيعة عبر تساؤل يبدو ساذجا حول طول الشاطئ الإنجليزي . الطول سوف يختلف تبعا لطول المقياس ( المسطرة ) . كلما قل طول المسطرة ازداد الطول . و باستخدام علاقات منطقية بسيطة تعتمد بدرجة كبيرة على التكرار استطاع ماندلبرو أن يحصل على أشكال غاية في التعقيد وتبدو شديدة العشوائية , كان لا يظن أن لها ضابط , مثل تكون السحب و أوراق الشجر وغيرها . واصبح ممكنا مع هندسة الجزئيات التعبير عن العديد من الظواهر و الأشكال التى فشلت فيها الهندسة الاقليدية : الانقطاع - القفزات - وغيرها من متدفقات الحركة غير المستمرة . وبالتالي وجد السلوك الفوضوي تعبيره الهندسي في هندسة الجزئيات وامتلك العلم أداة جديدة للاقتراب من الواقع وفهمه . منذ ذلك الحين انطلقت الطاقات البحثية المتحررة من اسر اليقين والحتمية في الكشف عن المزيد من سمات السلوك الفوضوي و آليات الانتقال من النظام إلى الفوضى و العكس , و بدأت المجالات العلمية المختلفة في اكتشاف دور وأهمية هذا السلوك في الظواهر و الأنظمة التى تعنى بدراستها و بدأت مع هذه الجهود تجلى هذا السلوك في مختلف التخصصات : الميكانيكا - الفيزياء - الكيمياء - البيولوجيا - و الاقتصاد و الاجتماع و الإنسانيات . و الملاحظ حتى الآن أن تجلى هذه الأنماط من السلوك الفوضوي يزداد اتساعا وعمقا وشمولا كلما تعقدت أشكال الحركة ويكاد يكون السمة الأساسية في أشكال الحركة التى تتميز بالقدرة على التنظيم الذاتي مثل الحركة البيولوجية و الاجتماعية وحركة الوعي الإنساني . و معضلة تعقد أشكال الحركة ومستويات التعقد و علاقته بهذا الطور الثرى من السلوك هي موضوع دراسة علم جديد بدأ منذ سنوات قليلة وهو علم "التعقد Complexity Theory " . و ما تزال نتائج البحوث تقدم الجديد يوميا في فهم هذه الأنماط من السلوك على كافة المستويات كما بدأ هذا التيار الجارف في إبداع تخصصات أخرى جديدة منها على سبيل المثال " التحكم في الفوضى Chaos Control" والذي احدث تغيرات جذرية في مفاهيم التحكم الآلي التقليدية في العمليات والنظم و الظواهر . وعلى أنقاض عرش اليقين والحتمية تطورت نظرية المنظومات الديناميكية غير الخطية بفضل انضمام السلوك الفوضوي " المحدد " إلى ترسيمة الحلول الممكنة لتلك النظم . و استعادت نظرية المنظومات مكانة مرموقة وفاعلية مأمولة في فهم ودراسة مختلف المنظومات المعقدة .
سمات السلوك الفوضوي :
بالإضافة إلى أن الفوضى "المحددة" محكومة بقانون يصف منظومة بعينها , وان السلوك الفوضوي يتطور أساسا من سلوك دوري ثابت مع الزمن ’ يمكن إيجاز ابرز سمات السلوك الفوضوي فيما يلي : عدم تكرار النتائج - الحساسية المفرطة للبدايات . في السطور التالية سوف نتعرض لتلك السمات و التى اغتنى محتواها عبر السنوات الماضية من خلال مثال قطرة المياه التى تسقط من صنبور غير محكم الإغلاق :
لقد ظهر أن صوت قطرة المياه الساقطة من صنبور غير محكم الإغلاق تماما يمكن أن يسلك سلوكا فوضويا ( إيقاع غير ثابت و غير منتظم و بالتالي غير متوقع ) في بعض الأحيان ( يبدو أن هذا السلوك لقطرة المياه كان سبب نجاح طريقة التعذيب القديمة و التى تعتمد على إسقاط القطرة بإيقاع غير ثابت على رأس المستهدف تعذيبهم ) . هذه التجربة البسيطة التى يمكن لكل منا أن يجريها في منزله والتى لا تحتاج لغير مكبر صوت و مسجل , تقدم لنا الكثير من الإجابات عن خصائص السلوك الفوضوي . فعند إحكام الصنبور بحيث يسمح بسقوط قطرة من المياه كل عدة ثواني و بدأ التسجيل للصوت الصادر من ارتطام القطرة مع سطح معدني ملائم , نلاحظ بعد فترة وجيزة عدم ثبات مدى سقوط القطرة ( إيقاع السقوط ) : أي عدم ثبات الفترة بين سقوط قطرتين متتاليتين على السطح المعدني . كما يمكن أيضا ملاحظة عدم ثبات قوة الصوت الناجم عن ارتطام القطرة بالسطح المعدني والتى يمكن تمييزها عند سماع الشريط المسجل . و استخدام أدوات أدق في الرصد والقياس سوف يظهر بوضوح عدم تكرار كل من الإيقاع و قوة الصوت . وهذه تعد واحدة من السمات الأساسية للسلوك الفوضوي : عدم تكرار النتائج خلال الامتداد ألزماني للحركة .
من خلال هذه الخاصية يتجلى الامتداد ألزماني بوضوح كشرط ضروري للحركة ويظل يحتفظ بدوره وحيويته طالما استمرت الحركة و التغير ( نتيجة مختلفة عند كل لحظة ) , و لم يعد دور الزمان قاصرا على فترات بداية الحركة قبل أن تستقر وتثبت و يتلاشى بالتالي دوره ( مثل الحلول المستقرة الثابتة مع الزمن ) , لقد تجاوز دور ه الرجل الذي يعبر بالصدفة خشبه المسرح ليصبح شرطا ضروريا لتطور المسرحية . وعندما يكون التغير زمكانيا ( أي تغير في الزمان والمكان معا ) فان المكان يستعيد خصوصيته ودورة الحقيقي كشرط ضروري لتطور الحركة ( لكل زمكان نتيجة مختلفة ) . وباختصار تصبح الحركة أسيرة زمانها ومكانها .
و خاصية عدم تكرار النتائج لاتقتضى بالضرورة تغيرا غير ثابت فى الايقاع و القوة معا ( ايقاع سقوط القطرة و قوة الصوت فى المثال السابق ) بل يكفى ان يحدث عدم الثبات فى احدهما : الايقاع او قوة الصوت . كأن تسقط القطرة بنفس القوة و لكن على فترات مختلفة وغير منتظمة .
وعودة إلى المثال السابق للتعرف على خاصية أخرى على درجة كبيرة من الأهمية وهى ما يمكن تسميتها ب" الحساسية المفرطة للبدايات Sensitivity to Initial Conditions" - فعند إعادة فتح الصنبور ثم إعادة إحكامه من جديد محافظين على نفس درجة الإحكام السابقة ( إن كان هذا في مقدورنا ! ) و رصد صوت قطرة المياه الساقطة , ثم مضاهاة هذه النتيجة مع سابقتها من حيث الإيقاع و قوة الصوت . فان النتيجة سوف تختلف عن سابقتها ( لحظة سماع الصوت في الشريط الأول قد تقابل لحظة سكون في الشريط الثاني ) . و عند إعادة التجربة عدة مرات محاولين مراعاة ثبات إجراءاتنا في إحكام الصنبور و بقية العناصر الأخرى , لن نستطيع الحصول على أي من النتائج السابقة : أي باختصار لا نستطيع إعادة إنتاج نفس النتائج مهما حافظنا على ثبات ظروف تجاربنا المختلفة . وعمل خلط أو ما يسمى في تقنيات الإنتاج الصوتي بالمكساج للأصوات الناتجة من عشرات التجارب السابقة , فسوف يصبح لدينا شريط تسجيل لصوت يكاد يكون مستمر ( تبعا لعدد التجارب ) و إن تباينت قوته . ما حدث هنا و ما أدى إلى اختلاف النتائج في مختلف التجارب هو نتيجة تغيرات غير محسوسة في شروط البدايات : كأن لا يتساوى بالضبط درجة إحكام الصنبور في كل مرة وان اختلفت اختلافات طفيفة للغاية وغير محسوسة على الإطلاق ( حتى بالنسبة لأدق أجهزة الرصد ). هذا ما يعرف بالحساسية المفرطة للبدايات والتى تميز السلوك الفوضوي عن غيرة من أنماط السلوك الثابت مع الزمن . و تعرف هذه الخاصية أيضا باسم " تأثير جناح الفراشة " والتى يقصد بها أن حركة بسيطة لفراشة في هواء البرازيل مثلا قد تؤدى إلى تغير كإرثي في جو أوربا .و يمكن استدعاء المأثور التراثي عميق الدلالة عن هذا التأثير وهو " القشة التى قسمت ظهر البعير " . إن هذه الخاصية ترتبط أيضا بالخاصية الأولى " عدم تكرار النتائج في الزمكان " من حيث أن كل "لحظة" في الامتداد الزمكانى هي بداية للحركة التالية وبالتالي أي تغير طفيف للغاية وغير محسوس في شروط الحالة عند هذه اللحظة سوف يؤدى بالضرورة إلى تغير كبير في سلوك الحركة التالي . من هنا تستعيد اللحظة خصوصيتها من حيث كونها نتاج لتاريخ سابق عليها وأيضا بداية لمستقبل تلعب دورا هاما في تحديده .
ومن زاوية أخرى فان هذا التأثير الكبير للبدايات يطرح على بساط البحث و التفكير العلمي قضية السببية من منظور أغنى و آفاق ارحب تسمح بقبول أسباب تافهة - لا تذكر - كأسباب حقيقية ومباشرة لتغيرات كارثية وعميقة . كما يطرح أيضا قضية الصدفة أو العارض وعلاقته بالضرورة . فالسلوك الفوضوي - كما بدت سماته الأساسية في المثال السابق - يمكن اعتباره نسيجا خاصا تشكل الوانه الصدفة ( تغير غير محسوس في البدايات أو في شروط الحالة ) و بالتالي تندمج في صلبة ولا يمكن فصلها عنه .
و بالضرورة حتى يمكن أن ينتج سلوكا فوضويا فلابد من تفاعل اكثر من آلية لخلق عدم الاستقرار في الظاهرة أو المنظومة محل البحث ( نقصد بعدم الاستقرار ، عدم الثبات فى الزمان والمكان ، اى التغير) . فلا فوضى بدون هذا التفاعل و بالتالى يتغير دور الصدفة , لكنة لا يتوقف وهذا ما سوف نتعرض له عند تناول موضوع الفوضى و التشعب Bifurcation فى وقت لاحق.
إن عدم تكرار النتائج و الحساسية المفرطة للبدايات وأيضا الحساسية المفرطة لأي تبدل طفيف في شروط الحالة أثناء الحركة و غيرها من السمات الهامة للسلوك الفوضوي يرتبط بالضرورة بفقدان القدرة على التنبؤ اليقيني بالنتائج ويضع حدودا نسبية لمعارفنا عندما يتعلق الأمر بالسلوك الفوضوي . و من جانب آخر فأن القدرة على التنبؤ قد أضحت اكثر غنى بما لا يقاس بعد أن تضمنت الزمكان كشرط للحركة وردت الاعتبار للخصوصية و الصدفة , لقد اصبح العلم أغنى وأكثر عمقا في الإحاطة بالمنظومات و الظواهر بعد أن تخلى عن اليقين الساذج و تحلى بروح الواقع المرنة و غناها . ففي مثال قطرة المياه السابق لا يمكن توقع موعد سقوط القطرة التالية , لكن تكرار السقوط " بحدود" لقوة الصوت و الإيقاع يمكن التنبؤ بهما من دراسة سلوكها الفوضوي ( نقصد بتلك الحدود أن قوة الصوت لها حد أدنى و آخر أقصى كما أن للإيقاع قيمة صغرى وأخرى كبرى تقع فيما بينها جميع النتائج الممكنة في سياق تطور الحركة مع الزمن ) . فمن منظور هندسي يمكن أن يشغل هذا السلوك حيزا محدودا في فراغ الحلول الممكنة لحركة المنظومة لابد أن تنجذب إليه الحركة مهما كانت البداية التى انطلقت منها ( طالما لايوجد حلول اخرى منافسة ) . فتأثير الفراشة او الحساسية المفرطة للبدايات تتلاعب بالحركة فى نطاق هذا الحيز المحدد .
الفوضى و الحيوية
هل يعكس السلوك الفوضوى اضطراب او تفكك فى عناصر الظاهرة المنتجة له أم العكس ؟ تأتى أهمية هذا السؤال من الخلط الحادث بين سلوك الظاهرة و ماهيتها ، فالسلوك الفوضوى الذى يميز حركة منظومة أو ظاهرة لايعنى على الاطلاق خلل او اضطراب او بمعنى ادق تفكك عناصر المنظومة المترابطة ، بل يعنى العكس فى معظم الاحيان ، يعنى مزيدا من الترابط والتأثير المتبادل بين عناصر و آليات المنظومة أو الظاهرة . و السلوك الفوضوى – كما هو ثابت – لايبدأ فى الظهور الا عند تفاعل اكثر من آلية من آليات خلق عدم الاستقرار فى الظاهرة او المنظومة و تعبير الفوضى (CHAOS) من جانب آخر لا ينسحب على مجمل الظاهرة او المنظومة بل يعبر فقط عن سلوك او نمط حركتها ، اما ما نقصده بماهية الظاهرة او المنظومة فهو النسق الذى تنتظم فيه عناصر الظاهرة و آليات تفاعلها ( التأثير المتبادل).
ومن أهم المعاير التى تحدد مدى انتظام عناصر و آليات المنظومات ، معيار الانتروبيا (ENTOROPY) ، و الانتروبيا – فى الحقيقة – هى معيار ذو دلالة معكوسة - ، هى معيار لتفكك النظام (DISORDER) ، زيادتها تعنى نقصان انتظام عناصر و مكونات المنظومة و بالتالى زيادة تفككها ونقصانها يعنى زيادة انتظام العناصر وآليات تفاعلها فى المنظومة .
ونقصان الانتروبيا من جانب آخر يعكس زيادة حيوية المنظومة ، او بمعنى آخر زيادة الطاقة المتاحة للتبادل بين المنظومة ووسطها (محيطها المؤثر) . وتعبير الانتروبيا السالبة يعد تعبيرا مرادفا لمزيد من الانتظام والفعل المتبادل لعناصر المنظومة ، مرادفا للتطور ، مرادفا للحيوية. و اذا كانت الانتروبيا تتجه للزيادة فى الانظمة المعزولة تماما – القانون الثانى للدناميكا الحرارية – فان كسر العزلة هو الشرط الاساسى لاكتساب الانتروبيا السالبة ، او بمعنى آخر اكتساب الحيوية و التطور.
وقد اثبت العلم فى الآونة الأخيرة العلاقة بين السلوك الفوضوى و الانتروبيا السالبة ، واكد على ارتباط ظهور السلوك الفوضوى فى كثير من الاحيان باكتساب انتروبيا سالبة للمنظومة . و من الجدير بالذكر ان ابرز العلماء الذين قاموا على كشف هذة العلاقة وهو بروجوجين ، كان قد حصل على جائزة نوبل بسبب هذا الاسهام العلمى الهام .
و دون أن تجرفنا جاذبية التهويل او التهوين من أمر هذا الاسهام الكبير . فإنه قد احدث زلزالا في الرؤية العلمية للواقع و أخرجها دون رجعة من اسر اليقين والحتمية .
أ.د/ جمال ابراهيم محمد على
كاتب هذا المقال واحد من المتخصصين فى دراسة المنظومات الكيميائية الحيوية غير الخطية والتى يقع السلوك الفوضوى بين تصرفاتها . ولة العديد من الابحاث فى هذا المجال . يعمل حاليا استاذا للهندسة الكيميائية و رئيسا لقسم العلوم الاساسية الهندسية فى كلية الهندسة - جامعة المنوفية
e-m: [email protected]