|
جنون الاستهداف والعقل السياسي البعثي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1156 - 2005 / 4 / 3 - 20:10
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
كان الاعتصام الذي دعا إليه وقام به معارضون وناشطون سوريون في العاشر من شهر آذار احتجاجا على بلوغ حالة الطوارئ سن الثانية والأربعين مناسبة إضافية كي يجدد إيديولوجيو الحكم السوري طرح سؤال استنكاري عريق: لماذا الاعتصام الآن؟ لماذا في هذا الوقت بالذات؟ يطرح السؤال في كل مرة يعلو صوت أحد ما "فوق صوت المعركة" التي يفترض أننا نخوضها، وأن حالة الطوارئ هي سلاحنا الرادع للعدو فيها، وأن الإيديولوجيين هؤلاء ناطقون باسمها. ومثل جميع الأسئلة الاستنكارية، يصاغ السؤال انطلاقا من معرفة الجواب وبهدف إظهار سطوعه وبداهته. الجواب، بالطبع، يفيد أن الوقت غير مناسب الآن للاحتجاج على حالة الطوارئ، مثلما هو غير مناسب لمناقشة أوضاع الحريات وحقوق الإنسان، أو لإثارة مطالب الأكراد، أو حتى لاعتصام تضامني مع الفلسطينيين. لكن الجواب يتضمن شيئا آخر: إن طرح مثل هذه المطالب هو تشويش على "المعركة"، بل قد يكون تواطؤا مع "المخططات المعادية"، المتربصة دائما بالوطن حسب اللغة المعتمدة. والآن زمن حرج بالتعريف، والخارج حيز شرير ومنبع أخطار بالتعريف أيضا. وهما (آنات الزمان وحيزات المكان) معا إحداثيا ذهنية القلعة المحاصرة: اسيرة حاضر مؤبد كل آناته للمعركة (أي للسلطة كما سنرى)، وداخل أليف متجانس محاصر بالمخططات الأجنبية الخارجية، لكنه "صامد"، لا يغيره الزمان ولا يتزحزح من موقعه. ولا مجال للاختلاف أن يشغل من "قلعة الصمود" ولو بضعة أمتار مربعة في شارع، ولو ساعة واحدة في السنة. يتضمن الجواب شيئا ثالثا: إنه لا يمكن القيام بأكثر من شيء واحد في الوقت الواحد، لا يمكن الجمع بين "الصمود" وسيادة القانون، لا يمكن للدولة ان تواجه المؤامرت وتصلح التعليم أو تعالج قضية المحرومين من الجنسية، ولا مجال لتزامن اعتراض السلطة على المعايير المزدوجة على الصعيد الدولي واعتراض المواطنين على التمييز بينهم على الصعيد المحلي. التضمين الرابع لنظرية "لماذا الآن؟" هو أن المطالب الحقوقية والسياسية مشروعة أو قد تكون مشروعة، لكن ليس الآن. متى؟ حين يأتي الوقت المناسب. والوقت المناسب لا يأتي أبدا. وفي الأصل ليس الوقت ما يعني نظرية "لماذا الآن؟"، وهو ليس موضوعا لها بحال. وتساؤلها عن "هذا الوقت بالذات" خطابي أو بلاغي، منقطع الصلة باي مفهوم للعقلانية السياسية قد يهتم بحسن توقيت الأفعال وملاءمتها وجدواها. فهدف النظرية لا يعدو المرواغة، اي تشويش شرعية المطالب بإبراز عدم ملائمة الوقت والأسلوب. تستثمر نظرية "لماذا الان؟" ما قد نسميه "جنون الاستهداف"، العريق في الثقافة السياسية السورية. المقصود بجنون الاستهداف هو الاعتقاد المستقر بأن سوريا مستهدفة من قبل قوى شريرة وجبارة، وان ثمة مؤامرة تحاك في الظلام لتركيعها، وأن قدر سوريا ان تواجه المؤامرات نيابة عن الأمة كلها، وأن صمودها هو الصخرة التي تتحطم عليها مخططات الأعداء ومؤامراتهم، وان أول مقومات الصمود هو "الوحدة الوطنية"، وأن هذه تعني الوقوف صفا واحدا خلف "القيادة التاريخية". الذئب في الخارج، تراصوا ونفذوا أوامري! والقيادة وحدها من تحدد "الآن" المناسب والتوقيت الصحيح. فإذا لم تهتم بقضايا الحريات والمساواة بين السوريين ورفع حالة الطوارئ المدمرة للدولة...فلسبب وحيد: لم يحن الوقت بعد. لكن ما الذي يضمن أن تجد القيادة أي وقت مناسبا لإصلاح اي شيء؟ هذا ما تسكت عليه نظرية "لماذا الآن؟". كل شيء مصمم لطرد الاختلاف والتعدد وتجريم الاحتجاج وتسييج الداخل ومنع التغيير و.. تركيز السلطة. وحين لا يغرق "صوت المعركة" الجميع في الصمت، فإن الحاجة إلى سماع دبيب المؤامرة يقوم بالواجب. فالواقع أن النظام محتاج إلى المعارك أكثر مما هي مفروضة عليه، وهو بحاجة إلى المؤامرات أكثر مما هو مستهدف بها. وكما المعركة ليست موقعة حربية يمكن سماع "صوتها"، فإن المؤامرة ليست فعلا "دُبِّر بِليْل"، في غفلة عن المستهدفين، بل هي نظرية أو فلسفة للتاريخ ورؤية للعالم، طورها هؤلاء بالذات. وهذه النظرية هي التي تنتج الخارج والداخل والحدود وتوزع الهويات والقيم والمشاعر الصحيحة عليها. إن مفهوم الخارج حصيلة نظرية المؤامرة، وليست المؤامرة فعل "الخارج". تضمن الرؤية التآمرية (أو البعثية، في سياقنا) للعالم تجانس الداخل والخارج وإضفاء الذاتية والغرضية عليهما. فالخارج الذي تنتجه المؤامرة ليس إلا داخل الآخرين، أي تجانسا قابلا للغرض والذاتية مثل داخلنا.
غير أن أول ما يخفق جنون الاستهداف فيه هو التنبه للاستهدافات الملموسة التي تتعرض لها سوريا كدولة ملموسة في سياقات سياسية وجغرافية ملموسة، يلعب فيها فاعلون سياسيون هادفون ومستهدِفون، ملموسون بدورهم. وبالمثل، أول ما تخفق نظرية المؤامرة في كشفه هو الأفعال التآمرية الحقيقية التي تشكل عنصرا اساسيا من كل سياسة حديثة. هنا أيضا ليست الاستهدافات الملموسة ولا الأفعال التآمرية الموصوفة مواضيع واضحة ومتميزة لجنون الاستهداف ونظرية المؤامرة. فبكل بساطة لا موضوع لهذين الاضطرابين الهوسيين. والشيء الوحيد الذي نجحت فيه النظرة التآمرية للعالم هو رد الداخل المحلي المركب إلى ذات بسيطة، تعي وتريد و..تتآمر، مع ما يعنيه ذلك من حذف التعدد والاختلاف، بل والحياة من المجتمع. والواقع أن ما تتضمنه نظرية "لماذا الآن؟" من إيحاء بأنه لا يمكن القيام بأكثر من شيء واحد في الوقت الواحد هو ثمرة اختزال المجتمع والدولة إلى ذات او إرادة واحداة لا تطيق أن يعكر صفوها شيء، ولا تشعر بوجوب ان تحدد اولوياتها بصورة يفهمها الناس، وقد يرتضونها. كان من المألوف ايام الرئيس حافظ الأسد ان يسوغ إيديولوجيو نظامه تداعي الخدمات وانتشار الفساد وتدهور التعليم وانعدام النمو الاقتصادي ...بأن المواجهة مع الخارج تستهلك كل وقته. كانوا يقولون ذلك بكل جدية واقتناع. وكان اهتمامهم موجها نحو تبرئة النظام ونحو ترويض الناس على قبول هذا الواقع لا نحو معالجة المشكلات الخدمية والتعليمية والاقتصادية. غير أن ضيق الوقت إدانة للنظام وليس تبريرا له. فهو، أعني ضيق الوقت أو عدم ملاءمته، هو ثمرة نظام السلطة الواحدي وليس العكس. وتوفير الوقت يقتضي بالضرورة تحرير الدولة والمجتمع من سلطة الواحد. تشير الإخفاقات الدراماتيكية المتكررة للسياسة السورية خلال العامين الأخيرين إلى عطب اساسي في العقل السياسي المسير للدولة. فبكل بساطة، لا يصلح جنون الاستهداف أساسا لعقل دولة وطنية حديثة. إن تهافت العقل السياسي وصفة للتدمير الذاتي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في استقبال التغيير: ليس لسوريا أن تتخلف!
-
ما بعد لبنان: سوريا إلى اين؟
-
على شرف حالة الطوارئ: حفلة لصيد -الخونة- بين قصر العدل وساحة
...
-
نحو تملك عالمي للحداثة والتغيير تأملات حول شيوعية القرن العش
...
-
نقاش حول الدين والثقافة وحرية الاعتقاد
-
تسييس العلاقة السورية اللبنانية
-
ما بعد الحقبة السورية: تحديات الوطنية اللبنانية الجديدة
-
أمام الأزمة وجهاً لوجه
-
من يقتل رفيق الحريري؟
-
الإعلام الفضيحة: ماذا فعلت جريدة -تشرين- بالحوار مع الأسير ا
...
-
السجناء السوريون في إسرائيل أو موقع الجولان في الوعي السوري
...
-
دولة مؤسسات أم دولة أجهزة؟
-
في ذكرى انتفاضة الجولان: الشجاعة وحدها لا تكفي!
-
موجتان لنزع العقيدية في الثقافة السياسية السورية
-
نظام اللاسياسة: العنف الطليق والعقيدة المطلقة
-
ضد الحرية وليس ضد -الحرة-
-
عشر أطروحات حول السلطة والندرة
-
موقع الثقافة في مشروع الإسلاميين السوريين
-
من يهين سوريا؟
-
اصول تناقضات السياسة الخارجية السورية
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|