|
حادثة الربع قرن ـ الاستثمار العقائدي
يعرب العيسى
الحوار المتمدن-العدد: 1154 - 2005 / 4 / 1 - 11:02
المحور:
الادارة و الاقتصاد
الخطأ كان لغوياً، وبفارق حرف واحد لا أكثر خسرنا سنيناً طويلة من عمر الوطن، ببساطة شديدة وبتبديل طفيف في ترتيب حروف الكلمة ضيعنا عمرنا، كان علينا أن ننتبه (ولطالما لم ننتبه) أن الاستثمار والتوريد والتعهد والاستيراد والتصدير والتصنيع والبيع والشراء والتركيب والصيانة، أمور يجب أنت تتم تعاقدياً...وليس عقائدياً. لنعد ربع قرن للوراء.. ولنتذكر: تختار مديرية حوض البادية سكاناً محليين من أبناء المناطق التي تقع فيها السدود السطحية المنتشرة في صحراء تشمل 80 % من مساحة سوريا، وتعينهم حراساً لهذه السدود، مهمتهم الوحيدة نصب خيمتهم قرب السد والعيش بجواره، وكإجراء إداري إضافي تكلفهم بكتابة تقرير شهري يذكرون فيه ما جرى من أحداث هامة ويبينوا منسوب الماء ووضع جسم السد، ويمكن لهذا التقرير (وهو باستثناء الأسماء صورة طبق الأصل) أن يشكل نموذجاً لمرحلة هامة من تاريخ بلادنا: (حضرت الاستاذ محمد جوري رئيس دائرة الموارد المحترام نعلمكم أننا والحمد لله بألف حال وأننا على الدرب سائرون خلف قيادتنا الحكيمة حتى تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية وهي والله أهداف امتنا كلها الكبير والصغير والمقمط بالسرير وتحرير كافة الأراضي المحتلة وحقوق العامل والفلاح وأهداف أمتنا في الوحدة والحرية والاشتراكية والخلود لرسالتنا حارس سد كضيم خلف صالح البوجاسم ملاحظة المنسوب: لا يوجد السد: فارغ) بعد هذا التقرير بأعوام كتب رئيس تحرير صحيفة رياضية سورية عن منتخبنا العقائدي لكرة القدم وكفاح لاعبينا النضالي وانسجام أداءهم مع مدرسة الحزب القائد، وعلق رئيس قسم رياضي في صحيفة أخرى على فوز غادة شعاع بأول ذهبية أولمبية لسورية قائلاً: (يعتبر ما حققته بطلتنا إنجازاً تاريخياً، ليس الفوز بأول ذهبية لسوريا، وليس لأنها أول امرأة عربية تفوز ببطولة السباعي أصعب الألعاب النسائية، بل حققت انجازاً أكبر من ذلك بكثير وهو أنها كانت عند ظن القيادتين السياسية والرياضية وتذكرت في كل لحظة ونفذت في كل دقة توجيهات القيادة، وهذا الإنجاز يضعنا جميعاً أمام مسؤولياتنا...) لسنوات طويلة كان على كل متفوقي الشهادة الثانوية أن يجروا لقاءات تلفزيونية وصحفية وأن يهدوا ال256 علامة التي حصلوا عليها للقيادة السياسية، فيما يحق لهم الاحتفاظ بالعلامات الأربع المفقودة لهم ولأسرهم. هكذا كان على كل منا أن يعبر عن وطنيته بطريقة واحدة وبمفردات ثابتة وبأشد حالات البلاغة نفاقاً. في التجارة والأعمال كان التعبير عن الوطنية أشد واقعية وأكثر بساطة وجدية، فمنذ اختراع دفتر الشيكات (1923) لم يعد من معنى لعبارة (لا أعرف كيف أشكرك) وصار العمل ـ مجرد اتاحة الفرصة لممارسة العمل ـ أمراً يستوجب الشكر، وبالطبع تطور التعبير عن الشكر من طريقة الهدية الثمينة بمناسبة ولادة المدام إلى جرأة المبلغ المقطوع، إلى شجاعة النسبة الثابتة، ثم إلى وقاحة الشراكة الكاملة العلنية والمسترخية. وشاع في السوق نمط العمل الذي يلخص المثل الشعبي المتداول (طعمي التسعة لتاكل العشرة) ولا يعرف أحد حتى الآن من كان الأسبق بينهما (البيضة والدجاجة)، هل كان هذا الشكل الطفيلي من الاستثمار تطبيقاً لمثل أم جاء المثل نتاجاً لمجموعة القيم والمفاهيم الثورية، وأدى هذا المثل ـ النمط ـ إلى فرز علاقات ومهن جديدة، وطفو أسماء غامضة على السطح، وخمود أسماء عريقة، وحدوث مفارقات أقرب إلى النكتة، وصلت في إحدى المرات أن اختارتني (أنا القادم من قرية على تخوم البادية) لجنة فض عروض لتنفيذ عمل طباعي، وفضلتني على رجل اسمه الثاني الكتبي (والاسم يعني أن جده الخامس على الأقل كان يعمل في صنعة الكتب) وهو نفس الرجل الذي يملك مطبعة اسمها الهاشمية ارتبط اسمها في أذهان السوريين عبر قرن كامل بمفهوم مرور الأيام من خلال مفكراتها التي لم يكن جدار على امتداد سوريا يخلو منها. تشكلت أيضاً ثروات خرافية خلال زمن قصير، ثروات لا تحتاج لشجرة نسب، وستستغني قريباً عن الشركاء العقائديين لأنها تكاد تصبح أكبر وأقوى منهم. تقول الحكاية أن موظفاً حكومياً صغيراً يسكن في بيت العائلة الموروث في أحد أحياء دمشق الراقية، شاء القدر أن يجاوره مسؤول كبير، احتاج هذا المسؤول لتوسيع المساحة المخصصة لحرسه، لأن أمنه الشخصي ضمانة لأمن ومستقبل الوطن (ثبت فيما بعد أنه كان من الأفضل لمستقبل الوطن لو أنه مات بالحصبة في سن الرابعة أو بالتيفوئيد في السابعة). قدّم الجار عن طيب خاطر حديقة منزله الخلفية لتكون مركزاً للمرافقة المدججة بالسلاح، في جلسة المجاملة التي تمت بها هذه التقدمة تحول الرجلان لشريكين، منح أحدهما خلال السنوات التالية الحق الحصري لاستيراد كل المواد المتعلقة بقطاع كامل (وليكن التجهيزات الكهربائية مثلاً) للآخر الذي صنف على أنه شخص جيد (عقائدياً) أوفى كل من الشريكين بالتزاماته، فسدد الشريك المتضامن كامل التزاماته المالية والعقائدية، مضيفاً على النسب المتفق عليها اسهامات ومبادرات مالية ومعنوية في كل المناسبات الخاصة بالشريك الموصي، وأحياناً في المناسبات العامة المجيدة والسعيدة والتليدة والمباركة والعظيمة، وسدد الشريك الموصي كامل التزاماته أيضاً، فصنف المنافسين كدخلاء يقتربون من حدود التآمر على الاقتصاد الوطني، وكبلهم وحاصرهم ودفع بعضهم للهجرة إلى منطقة مهجورة وقاحلة اسمها (جبل علي) ليس من منطلق (الله يسعدهم ويبعدهم) بل (درب يسد ما يرد) مع مرور الأيام كبر الشريك المتضامن وتوسعت أعماله وازدهرت بمقدار ما سدد من التزامات وبمقدار ما اضمحل الاقتصاد الوطني وتلكأ، وحصل على وكالات جديدة وعديدة، جعلته فارس الانفتاح الاقتصادي حين أتى (يقول مسؤولون حكوميون أنه أتى، ويقول مراقبون أن طلائعه تلوح في الأفق، ويقول استطلاع للرأي ننشره في هذا العدد أن الناس سمعوا من التلفزيون بشيء كهذا). بعد سنوات أقيل المسؤول الكبير وغادر البلاد، أو على الأقل غادر حياتها العامة، فما الذي حصل؟ لا شيء، فالرجل غادر ونكاد جميعاً ننسى أسمه، وشريكه صار اسماً راسخاً يملأ لوحات الإعلان الطرقي ونسينا جميعاً حكايته التي عمرها ربع قرن، ربع قرن فقط، خصوصاً أنه يقدم عبر منابر مختلفة رؤية عصرية لما يجب أن يكون عليه العمل الاقتصادي، مضمناً رؤياه (وليس رؤيته) بعض قطرات من سم الانتقاد اللاذع لهؤلاء الطفيلين الذين طرأوا على العمل الاقتصادي ويكادون يخربونه. فالمال يحتاج للسلطة كي يكبر، لكنه حين يتجاوز سن الرشد (بالقيمة الرقمية) يصبح هو السلطة المباشرة ولا يعود بحاجة لشيء يختبئ وراءه. في الدنيا كلها يبدأ المال تعاقدياً ثم يصبح عقائدياً (بمعنى أنه يقوم بدور وطني)، إلا هنا، فالتوريد يبدأ عقائدياً لكنه يصبح مع الزمن تعاقدياً.
#يعرب_العيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذكرى ثورة آذار البعث....حدث في مثل هذا اليوم
-
حادثة الربع قرن ... متفقون على الوطن؟ لنختلف على ما تبقى
-
إصلاح الإصلاح الزراعي...كان النقاش ممكناً إذاً
-
عنّا: أولئك الذين نحب ممدوح عدوان
-
هل رفعت قصة نبيل فياض سقف الصحافة السورية؟
-
تحديثيو التلفزيون السوري يسلبونني موفق الخاني
-
جمال سليمان ..نجم محبوب بموجب المادة 8 من الدستور السوري
-
ولا نتقن دور الضحية أيضاً؟
-
الاسلام متخرجاً من مدرسة أحمد عدوية
المزيد.....
-
وزير الخارجية: التصعيد بالبحر الأحمر سبب ضررا بالغا للاقتصاد
...
-
الشعب السويسري يرفض توسيع الطرق السريعة وزيادة حقوق أصحاب ال
...
-
العراق: توقف إمدادات الغاز الإيراني وفقدان 5.5 غيغاوات من ال
...
-
تبون يصدّق على أكبر موازنة في تاريخ الجزائر
-
لماذا تحقق التجارة بين تركيا والدول العربية أرقاما قياسية؟
-
أردوغان: نرغب في زيادة حجم التبادل التجاري مع روسيا
-
قطر للطاقة تستحوذ على حصتي استكشاف جديدتين قبالة سواحل ناميب
...
-
انتعاش صناعة الفخار في غزة لتعويض نقص الأواني جراء حرب إسرائ
...
-
مصر.. ارتفاع أرصدة الذهب بالبنك المركزي
-
مصر.. توجيهات من السيسي بشأن محطة الضبعة النووية
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|