|
القرد و الجنّية و الغول
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4007 - 2013 / 2 / 18 - 12:18
المحور:
الادب والفن
كان يا ما كان في قديم الزمان ، و سالف العصر و الأوان ؛ قرد وسيم و مثقف ، هرب من حديقة الحيوان بعد أن تضوَّر جوعاً إثر مقتل جميع القيّمين على تجهيز و توزيع أرزاق حيوانات الحديقة بصاروخ أمريكي ذكي ، فراح يسرق عذوق الموز خلسة من حوانيت البقّالين ، ثم يهرب بها إلى شاطئ نهر دجلة ، حيث يجلس على شجرة سنط عملاقة منحنية على النهر ؛ فيأكل الموز هناك ، ثم ينزل ليشرب الماء من النهر ، ثم يتسلق الشجرة من جديد للنوم و الحلم بالمزيد من الموز ، و بالذكريات الجميلة لرعاية و عطف أبويه عليه و هو صغير . و في يوم عصفت فيه الريح و أشتد فيه هطول المطر ، سقط عذق الموز من بين يدي القرد في النهر ، فجلس يبكي على ضياعه . سمعت الحوريّة بكاءه ، فخرجت إليه ، و سألته : لماذا تبكي أيها القرد الجميل المثقف ؟ أجاب القرد : سقط موزي بالنهر ، و هو طعامي الوحيد الذي لا أملك غيره . فطمأنته الحوريّة قائلة : كفكف دموعك ، و أبشر ، فأنني سأعيد لك موزك ! غطست الحوريّة في النهر ، و أخرجت له عذق موز من ذهب ، و سألته : - أهذا هو موزك ؟ - لا . غطست مرة ثانية ، و أخرجت له عذق موزه الطبيعي ، و سألت القرد : - أهذا هو موزك ؟ - نعم . فأعطته إياه . فرح القرد لاستعادته موزه ، و راح يتقافز و يغني و يرقص . و لكي يستطيع الإقلاع عن عادته السيئة في سرقة الموز ، فقد فقامت الحوريّة بإهدائه عذق الموز الذهبي ؛ و أبلغته وجوب عدم قيامه بسرقة الموز مستقبلاً إذ أصبح الآن بمقدوره شراء الموز الذي يريد بالذهب الذي بين لديه.. ثم ودّعته ، و غطست في النهر . في اليوم التالي ، حمل القرد على عاتقه عذق موز الذهب ، و توجّه به إلى السوق ليشتري الموز الطبيعي . شاهده الباعة و السابلة و المتبضّعون و رجال الجيش و الشرطة يحمل الذهب الأصفر الرنان ، فهجموا عليه ، و أوسعوه ضرباً و ركلاً حتى انتزعوا منه عذق الموز الذهب ، فولّى القرد هارباً لا يلوي على شيء ؛ و تملكه الإعتقاد بأن الناس قد أصابهم وباء وبيل ، و هَوَس حب الطلاسم و التخاصم و الحواسم . ثم طفق السرّاق يهاجم بعضهم بعضاً لانتزاع حصّة الأسد من الذهب ، و اختلط الحابل بالنابل ، و قُتل الكثير من الناس ، و جُرح عدد أكبر . و ما لبث و أن إمتد العراك من سوق إلى سوق ، و من شارع إلى شارع ، و من محلّة لأخرى حتى عمّ أرجاء المدينة كلها . و لكون الذهب بدأ يتنقَّل بسرعة خاطفة من يد إلى يد بفعل أعمال النهب و السلب المستشرية ، فقد عمّت الحروب الأهلية مدن البلد كافّة ، و أصبحت عشائر كل مدينة تؤكد أحقيتها بالذهب المغتصب منها . و إحقاقاً منها للحق الذي يعلو و لا يُعلى عليه ، فقد راح أعيانها يُبْرزون الفرمانات و السندات العثمانية الأصيلة التي تثبت تملكهم للذهب الموزي أباً عن جد و على نحو قاطع لا يسمح لا بالجدال و المعارضة ، و لا بالطعون و المشاكسة ، و لا بالمشاغبة و المشاحنة . لم يفهم القرد سبب كل هذا القتال ، و لا دواعي تفجر نجيع الدماء أنهاراً على الطرقات ، و لكنه أنتهز فرصة انشغال الناس بقتل و سرقة بعضهم – و هو الأمر أبعدهم عن التحرز على أملاكهم – فسرق عذق موز صومالي ، وعلّقه على شجرة السنط . خرج له غول يلبس العمامة من النهر ، فشاهد عذق الموز المعلق على الشجرة ، فطمع به . - السلام عليكم ، يا عبد الله ! - و عليكم السلام ! من تكون ؟ - أنا الشريف العفيف النظيف العالم الجهبذ النحرير الهادي المهدي الصادق الكريم العزيز المتقي الغول رضي الله عني و أرضاني ! - و لماذا أسمك بهذا الطول ؟ - لأنني غول كريم المحتد ، و عميق الإيمان ! - و ما هذا الكتاب الذي بيدك ؟ - إنه جامع العبادات و الأدعية . - همم . و ما هذه القبّعة التي تقبِّع رأسك بها ؟ - هي تاج العلم ! - و هل أنت عالِم ؟ - نعم ! - و بأي العلوم تتخصص ؟ - بكل العلوم ! - عظيم ! و ما هذه الدعابل التي تلعب بها ؟ - إنها سبحة ، أسبّح بها لربي . - و لماذا تسبِّح ؟ - كي أرضى ربّي ، فيدخلني جنّته . - و ما الجنّة ؟ - أنها مكان تستطيع أن تحصل فيه على كل ما تريد و تشتهي بلا كدٍّ و لا عمل و لا تعب . - هل تقصد أنني أستطيع أن أجلس مكاني هناك في الجنة ، فيأتيني ما أشتهي من الطعام و الشراب إلى فمّي حسب الطلب ، مثل حديقة الحيوان في الزوراء قبل غزو الأمريكان للعراق من أرض الكويت الشقيق ؟ - نعم ! - عظيم ! خذني إلى الجنة ، أرجوك ! - ليس الآن ! - متى ، إذن ؟ - بعد الموت ! - و ما فائدتي من الجنة و أنا ميت ؟ - كل المخلوقات تُبعث من جديد بعد الموت ! - صحيح ؟ و هل أستطيع رؤية أبي و أمي هناك من جديد ؟ - هل كانا متّقيين ؟ - كانا في سرنديب ! - هل كانا يعبدان ربّهما ؟ - إمــمــ ؟ نعم ، نعم ، و بكثرة ! - و كيف ؟ - كانا يرقصان متعانقين ، و يحبّان بعضهما ، و يفلّيان و يمسّدان شعري ، و يحبّاني جداً جداً ! - مأواهما جهنّم و بئس المصير ! - و ما جهنّم ؟ - تشبه الشعبة الخامسة لمخابرات صدام ! - إذن ، خُذني لجهنّم كي أرى أبويّ من جديد ، فقد إشتقت للعب معهما ، و النوم في حضنهما ؛ أرجوك ! - و لماذا لا تتعبّد لهما ، فيدخلان الجنّة ، بدلاً من الإشتواء كالكباب و التكّة ليل نهار بعذاب النار ؟ - و كيف ؟ - تصلّي و تصوم لهما ، و تكثر الدّعاء عند ربِّك لهما ، فيشفع لهما الرحمن ! - و ما الشفاعة ؟ - واسطة خير ! - علّمني الصلاة و الصوم و الدعاء كي أتوسّط لأبوي ، فيتم نقلهما من النار ، و تعيينهما في الجنّة ! - خذ هذا الكتاب و أقرأه ليل نهار ، فهو جامع العبادات ! - أشكرك ، يا سيدي الغول المحترم ! - و لكن هذا الكتاب ثمين و غال ! أنه مفتاح الجنة : أغلى الكنوز ! - و ما ذا تريد لقاءه ؟ - أنا مستعد لإهدائه إليك مقابل طنٍ من الموز الصومالي ! - ليس لدي سوى عذق موز واحد . - سأقبل به ، إكراماً لك ، و الله يحب المحسنين ! - كم ينبغي لي التعبد كي تأخذ الواسطة مجراها عند الرب ؟ - كلما تعبدت أكثر ، و انقطعت أطول ، و أعمق ، كان أفضل ! فكر القرد : إنقطاع ، و عبادة أكثر ، و أطول ، و أعمق : ذلك هو الفوز العظيم ! إنقطع القرد مدة ستة آلاف عام متواصلة يتعبد جالساً في قاع بئر عميقة و مهجورة كائنة عند الشط و تستمد مياهها منه . في السنة 6003 من العبادة ، أحس بشيء ثقيل يسحبه ، فتنبّه لأول مرة لنفسه ، و لما هو كائن حوله . كان جسده قد تصلّب ، و كتاب العبادات الذي أكلت جله الأرضة قد تيبست بقاياه و تفحمت ، و شَعْر لحيته قد طال كثيراً حتى إمتدَّ من البئر إلى النهر . تمسّك القرد بمكانه بقوة ، و هو يحسّ بشيء يتسلق شَعْر لحيته كما لو كانت حبلاً صاعداً إلى العلا . و بعد شدٍ و جذبٍ طويلين منهكين و مؤلمين ، طلعت عليه جنيّة الموز الذهبي . - السلام عليكم ! ماذا جرى لك ، أيها القرد الجميل المثقف ؟ لقد كدت أموت بسبب إلتفاف شعر لحيتك الطويل بزعنفتي و عنقي ! لِمَ أنت ساكت ، و لا تتكلم ؟ لاحظت الجنيّة أن عيني القرد وحدهما تتحركان ، في حين كل بقية أعضاء جسده شديدة التيبس من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه ، فراحت تدلّكه بزيت حراشفها حتى لان بعض تيبسه . و لكن القرد لم يعد يستطيع الوقوف على قدميه . حملته الجنية كالأم الرؤوم ، و أخرجته من البئر إلى شاطئ النهر ، و راحت تمعك أطرافه ليل نهار ، و تدرِّبه على المشي ، حتى استطاع أخيراً الوقوف وازناً على قدميه ، و إجالة النظر حواليه إلى الأشجار الشامخة و المهملة لشارع أبي نؤاس . فجأة ، سُمِع الزعيق الرهيب لمكابح سيارة أوپل سوداء منزوعة لوحة الأرقام . توقفت السيارة إزاء القرد و الجنيّة ، و انطلقت منها نيران الرشاشات عليهما ، فقتلتهما في الحال . ترجَّل من السيارة رجل معمَّم ، متمنطقاً رشاشته البيكَيْسي ، و دار حول الجثتين يتفرّس فيهما بجذل و حبور و هو يسبّح بمسبحته بيد ، و يحمل كتاب جامع العبادات و الأدعية بيد أخرى . ثم رفع يديه المتّقيتين إلى السماء ، و هو يقول : - حمداً لك يا ربّي الكريم على نعمائك عليَّ - أنا عبدك الفقير - إذ مكَّنتني أخيراً من الإنتقام لعار عشيرتي بقتل هذين السارقين الفاجِرَيْن الكافِرَين ؛ فلقد أكد لي والدي أن الموزة الذهبية لجدِّنا الأعلى قد سرقها منه قرد زنديق كافر ، تعاونه جنيّة عاهرة مُلحدة !
بغداد ، 18 / 2/ 20013 ق . م
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رد على د. مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
...
-
أبا الصّفا / مرثاة للشهيد الشيوعي الدكتور صفاء هاشم شبر ، أس
...
-
الإمتحان
-
الفيل و الضبع و البغل
-
طرزان و ذريته
-
رد على د. مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
...
-
رد على د . مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
-
شيخ المتقين و الخنازير
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 3-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 2-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 1-3
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 11
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 10
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
المزيد.....
-
-متحف البراءة-.. بوح باموق من الصفحات إلى أعين الزائرين
-
ترددات قنوات الكرتون .. تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 على
...
-
اطلع على موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 165 مترجمة عبر ق
...
-
أغنية مصرية للأطفال تحقق مليار مشاهدة (فيديو)
-
أثارت جدلا.. ليلى عبد اللطيف تتوقع مصرع فنان وتورط ممثل عربي
...
-
إنزو باتشي: حرب إسرائيل هي تطهير عرقي، ونعيش مرحلة تاريخية م
...
-
الليبي سعد الفلاح يهزم البلجيكي ساجورا بالضربة الفنية القاضي
...
-
غارديان: هل كانت محاولة الانقلاب في بوليفيا مسرحية نظمها الر
...
-
مصر.. تفاعل ومطالبات بمحاسبة المسؤولين عن إقامة حفل ابنة مذي
...
-
شاومينج بيغشش.. تسريب امتحان اللغة الأجنبية الأولى ثانوية عا
...
المزيد.....
-
نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح
...
/ روباش عليمة
-
خواطر الشيطان
/ عدنان رضوان
-
إتقان الذات
/ عدنان رضوان
-
الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد
...
/ الويزة جبابلية
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
-
سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان
/ ريتا عودة
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
المزيد.....
|