|
عن الانتقال الديمقراطي والثورة الديمقراطية...
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4007 - 2013 / 2 / 18 - 08:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
راج في العقود الأخيرة تصور لعملية الانتقال نحو الديمقراطية غير صراعي، ويكاد يكون إجرائيا. ينشغل هذا التصور كثيرا بدور النخبة السياسية وبالثقافة السياسية ومستوى الدخل والمؤسسات القائمة والظروف المساعدة، وقليلا بالقوى الاجتماعية والصراع الاجتماعي والعنف والحرب. كان التحول الديمقراطي في أوربا الشرقية سهّل شيوع هذا التصور. لكن الأمر يتعلق هنا ببلدان متوسطة الدخل، اقتصادها إنتاجي، تتماهي مجتمعاتها بيسرٍ بأوربا الغربية بحكم القرابة الثقافية والقرب الجغرافي والتاريخي. كان الاندماج بالغرب الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي أو الاقتراب منه مصلحة عامة لها، لا يكاد يوجد في تلك المجتمعات من ينازع فيها. عزز من ذلك أنها كانت واقعة تحت هيمنة روسية فظة، فصار الاقتراب من الغرب فعلا تحرريا. لكن هذا التحول ذاته، وانتهاء الحرب الباردة بهزيمة الشيوعية، معسكرا وإيديولوجية، قاد إلى شيوع عالمي لتصور ضعيف فكريا للديمقراطية ذاتها، وغير صراعي أيضا. وهو ما فاقمته في سياقاتنا العربية الغربة اللغوية لمدرك الديمقراطية. الحدس المرتبط بالكلمة يحيل إلى صورة "اللعبة" الانتخابية، يتنافس فيها رجال أنيقون ونساء قويات، وليس إلى مفهوم "الشعب" والثورات الشعبية والصراعات الاجتماعية الكبرى. وهذا التصور الذي شاع عربيا في ربع القرن الأخير على يد نخب محبطة، لم تعد لديها فكرة قائدة أو مشروع تغييري من جهة، ولا هي مرتبطة بقوى اجتماعية حية من جهة أخرى (ولا يندر أن يجري تحويل ذلك إلى فضيلة فكرية باسم رفض الشعبوية). قبل سنوات قليلة كان معارضون سوريون يعبرون بما يشبه التسول عن تطلعهم إلى "تغيير وطني ديمقراطي سلمي تدريجي آمن". كان النظام يعتقلهم بين حين وآخر، ويقضون في السجن سنوات! الثورات تعيد مجتمعاتنا من ما بعد التاريخ (أو "الأبد") إلى التاريخ، إلى صراعاته العنيفة وإلى عمليات إعادة تشكل اجتماعي وثقافي وسياسي كبيرة، يتعذر علينا نحن المعاصرين تطوير غير إدراك سطحي لجوانب منها. الناس يعيشون حاضرهم بوعي ساذج، يقول هيغل بحق. لعله أنسب هنا، مؤقتا، الكلام هنا على "ثورات ديمقراطية" رغم غموض المفهوم. يتعلق الأمر بصراعات اجتماعية عنيفة، يشارك فيها "الشعب"، "الطبقة الثالثة"، تدخل الحياة العامة بقوة وخشونة، واحتجاجها موجه أساسا ضد الحكم الامتيازي الذي تترابط فيه عضويا السلطة غير المقيدة والثروات الكبيرة. وتتنوع أساليب اقتحامها للمشهد العام، لكنها يمكن أن تكون عنيفة جدا في وسائلها، وانتقامية جدا في دوافعها. مسوغ الكلام على ثورات ديمقراطية هو بالضبط هذه الاقتحام الواسع من قبل الشعب للمشهد وتمرد على حكم الإقطاعيين الجدد. أما تمخض الثورات عن أوضاع سياسية وحقوقية ديمقراطية فهو أمر نادر إن استندنا إلى الأمثلة التاريخية المعروفة. بعد قرن كامل من الثورة، صار يمكن الكلام على أوضاع شبه ديمقراطية في فرنسا. الثورة الأميركية، وهي أيضا حرب استقلال، أدت إلى ديمقراطية للبرجوازية البيضاء، ولزمت حرب أهلية وحشية (قتل فيها فوق 600 ألف، ثلثهم في الحرب) بعد أقل من قرن من أجل تحرير العبيد، وقرن آخر قبل انطلاق حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي. وبعد نحو قرن من الثورة الروسية لا وجه للتكلم على أوضاع ديمقراطية في روسيا. لكن في صراعاتنا الجارية، والصراع السوري منها بخاصة، ما قد يشكك حتى بصلاحية تصور ثورة ديمقراطية بالمعنى الذي ذكرنا. إذ أن المشترك بين الثورات الديمقراطية أن الإطار الوطني للصراعات الاجتماعية ثابت أو يكاد. يبدو بالمقابل أن الصراع السوري قد يطاول الكيان نفسه، وربما يؤدي إلى انقسامه أو زجه في عملية إعادة تشكل قاسية، لا نستطيع قول شيء عنها اليوم. لكن ظاهر أن الاجتماعي والسياسي يتقاطعان مع الديني والطائفي والإثني، وأنه إذا كان الشعب يدخل المشهد السياسي من مدخل الطبقة وكسر النخبة الإقطاعية، فإنه يخرج منها من باب الانقسام الديني والطائفي. لكن "الشعب" لا يوجد نقيا في أي مكان، وهو مختلط في كل حال بالجماعة الدينية والإثنية. لا شيء يخصنا أو يفردنا عن غيرنا في الأمر. نحتاج في سورية إلى توسيع أفق تفكيرنا الاجتماعي والتاريخي، والخروج من مقاربات مغلقة لا تتيح فهم هذه العمليات التاريخية المفتوحة ولا التأثير فيه، بما فيه المقاربة الديمقراطية الشائعة في أوساطنا (لا شعب فيها). وبما فيها بالطبع المقاربة الوطنية التقليدية التي تريد تحكيم ضرب من الإجماع الوطني الموهوم في عملية صراعية بالغة العنف والجذرية. ومنها أيضا مقاربة ليبرالية وحقوق إنسانية تنتظر من الصراع أن ينضبط بقيم سابقة عليه ومكتملة من دونه، وعمرها في أوربا أقل من نصف قرن. فإن لم يحصل ذلك تنكفئ إلى تشاؤمها العريق، وتغني نفسها عن التأمل في المصائر البشرية بإلقاء اللوم على ما يبدو طبيعة خاصة للبشر في منطقتنا، طبيعة مريضة محمولة على العقيدة الدينية لأكثريتهم. ليس هناك فكر أكثر رجعية سياسيا وتفاهة معرفيا من هذه العقيدة الرثة المنتشرة في أوساط النخب العليا في مجتمعنا منذ ربع قرن، والتي لا نشك في أن انتشارها مرتبط بالأوضاع الامتيازية والإقطاعية الجديدة التي نشأت في ربع القرن الأخير. إن كان من عائق فكري وسياسي يحول دون تجديد التفكير والفعل السياسي في أوساطنا فهو هذا المزاج الخائر، القانط، المغرور رغم ذلك والمكتفي بعلمه الشحيح. شحيح بالضبط بسبب إهمال عالم الممارسات الاجتماعية، والتسرع في إصدار أحكام سلبية متعالية، بدل محاولة فهم شيء ما من وقائع اجتماعية وثقافية سياسية لا اختلاف أساسيا فيها عن أية وقائع مماثلة في تاريخ البشر في أي مكان من العالم. هذا التعارض بين عقول ناجزة وعمليات تاريخية متفلتة وعنيفة لا يختلف في شي عن التعارض بين هذه العمليات ذاتها وبين البنى السياسية المغقلة التي تتفجر ضدها الثورات. فعلى نحو ما تقصي البنى السياسية "الشعب" من الحياة العامة، تقصي تلك البنى الفكرية الخبرات والممارسات الاجتماعية من نطاق التفكير والتعقل كي تصون استقرارها وراحة بال أصحابها. وكما أن الثورات موسم للإطاحة بتلك الهياكل السياسية القاتلة للبشر، نرجح كثيرا أن تطيح بهذه الهياكل الفكرية القاتلة للحس والمعاينة والشهادة، الإقطاعية فعلا. كم هذا جميل!
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثورة أكثر، سياسة أكثر
-
سورية الفلسطينية... -النظام- الإسرائيلي
-
... ولكن أين هو -الحل السياسي-؟
-
هل هناك عرب في سورية؟
-
تحطيم متعدد الأشكال للمجتمع السوري
-
اقتراح معاذ الخطيب: خطأ إجرائي وصح سياسي!
-
ما هي مشكلتنا مع -جبهة النصرة-؟
-
المرحلة الأخطر في الثورة السورية
-
الأسد أو لا أحد/ الأسد أو نحرق البلد: نظام العدمية السياسية
-
المراقب المثالي والصراع السوري
-
المنسى السوري... المنساة السورية
-
في شأن -جبهة النصرة- والسياسة الملائمة حيالها
-
ليس لدى -السيد الرئيس- من يشاركه!
-
قبول -الحل الإبراهيمي-، وليس رفضه، هو ما يؤدي إلى -الصوملة-؟
-
الثورة، الإسلام، وامتلاك السياسة: في نقد -التيار المدني- وال
...
-
تحولات صورة الأميركيين أثناء الثورة السورية
-
خوارج الثورة السورية و-خوارجها-
-
ثلاث قوى منظمة و...ثورة
-
تكوين سورية وتاريخها و...الثورة
-
الثورة السورية ووضع الثورة المطلقة
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|