* ما الذي يحدث هذه الأيام بين أبناء الشعب الفلسطيني
الواحد؟ هل أصبح الدم الفلسطيني رخيصاً إلي هذا الحد حتى يراق هكذا بسهولة ويقُتل
الفلسطيني أخاه بدم بارد في تصعيد خطير في التعامل بين الفلسطينيين وخرقاً لمبدأ
حرمة الدم الفلسطيني؟!
وكيف نجح العدو الإسرائيلي في
دفع الشرطة الفلسطينية لإطلاق النار علي أبنائهم وإخوانهم- بدلا من إطلاق النار على
هذا العدو- لتحقيق ما كان يحلم به منذ اتفاق أوسلو في (أفغنة الأراضي
الفلسطينية)؟!
ومن هو القائد الفلسطيني الذي حشد
قواته حول مخيم النصيرات تمهيدًا لاقتحام المخيم لإعتقال من قاموا بقتل العقيد راجح
أبو لحية ..؟! ألا يعرف هذا القائد البطل بأن هناك فرق بين مخيم النصيرات ومستوطنة
نتساريم؟!
ألم يسمع هذا القائد بالمذبحة التي قام بها
العدو الإسرائيلي في خانيونس والتي سقط فيها ستة عشر شهيدًا وأكثر من مائة وثلاثين
جريحـًا في نفس اليوم الذي حشد فيها القائد الفلسطيني قواته لاقتحام مخيم النصيرات
..؟!
وألم يسمع هذا القائد وغيره في الأجهزة الأمنية
الفلسطينية تهديد مجرم الحرب شارون باستمرار مذابحه "الهامة والمكللة بالنجاح" في
قتل الأطفال والنساء في قطاع غزة ..؟!
تساؤلات كثيرة
تلح بإجابات ضرورية لتأطير المرحلة الفلسطينية الراهنة ليتحقق الفهم المطلوب وليتم
استيعاب تفاصيلها علي أساس واقعي .
ففي الوقت الذي
تتطلب فيه القضية الفلسطينية بصفة عامة والسلطة الوطنية بصفة خاصة صفاً فلسطينياً
متراصاً أكثر من أي وقت مضى، وذلك بالحفاظ على وشائج الوحدة الوطنية داخل الصف
الفلسطيني، هذه الوحدة التي عمدت بشلال الدم الفلسطيني على مدار أكثر من عامين،
وتغليب المصلحة الوطنية على كل الاحتمالات والرؤى الجانبية - مع التأكيد على أن
خلاف المواقف الفلسطينية يعود إلى الاختلاف في الرؤيا المستقبلية - ظهر شبح الصراع
الداخلي الفلسطيني من خلال أحداث غزة الأخيرة والتي تثير الشعور بالدهشة والألم
والغضب لما تحمله من متناقضات قد تؤثر على مسار النضال الفلسطيني المتواصل منذ
بداية هذا القرن للوصول إلى تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني لإقامة دولته المستقلة على
ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف، وتحقيق الغاية الإسرائيلية التي دأبت أجهزة
مخابراتها على ترسيخها بإشعال فتيل حرب أهلية فلسطينية - فلسطينية خطط لها منذ
سنوات عديدة، ومهدت لها قبل انسحابها بكل الوسائل والسبل .. بجيش من العملاء
المعروف منهم وغير المعروف، وبالأسلحة التي تركتها خلفها، بالإجتياحات اليومية
للمدن والقرى والمخيمات وإعادة إحتلالها، وبالحصار الذي تفرضه على الأراضي
الفلسطينية التي وصلت إلى حد المجاعة، وبالتحريض على السلطة الفلسطينية وإظهارها
بمظهر العاجز عن حماية شعبها، وذلك للقضاء على منجزات وطموحات هذا الشعب، وهو ما
تريده إسرائيل لتقدم للعالم أجمع مبررات للمذابح التي قامت بها ضد الفلسطينيين عبر
السنوات السابقة ، والمذابح اليومية ضد المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية.
ألم يقل شمعون بيريز بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة
(لقد نفضنا أيدينا من دم الفلسطينيين وستتولى شرطتهم هذه المهمة من الآن فصاعداً ..
ولتغرق غزة في الدم)؟!!
ولتغرق الأرض الفلسطينية في
الدم ..!!
وليستمر شلال الدم الفلسطيني ولكن هذه
المرة بأيدي فلسطينية ..!!
ألم يتمنى رابين ذات يوم
أن تغرق غزة في البحر؟!
للتاريخ فإن القائد الفلسطيني
الراحل خالد الحسن "أبوالسعيد" الذي نفتقده في هذه المرحلة كأحد أعمدة الفكر
السياسي الفلسطيني، كان أول من حذر من ظاهرة قتل الفلسطينيين بأيدي شرطتهم بعد دخول
هذه الشرطة مناطق الحكم الذاتي بعد توقيع اتفاق القاهرة بين الفلسطينيين والحكومة
الإسرائيلية في مايو 1994، وفي لقاء مطول مع "أبوالسعيد" تنبأ بما يجري هذه الأيام
في اراضي السلطة الفلسطينية، وعندما أبديت استغرابي لهذا الطرح مذكرا إياه بالوحدة
الفلسطينية والتلاحم منذ انطلاقة الرصاصة الأولي في يناير 1965 وحتى الآن ، ذكر
"أبوالسعيد" القصة التالية:
عندما استلم شارل ديغول
رئاسة فرنسا ، كانت الشبهات تحوم حول أحد كبار الموظفين في قصر الرئاسة بأنه يعمل
لمصلحة دولة كبرى ، وقد عجزت كل الأجهزة الأمنية المختصة عن الوصول إلي دليل مادي
لتحويل التهمة من شك إلي قضية مادية ، وفي النهاية رفع الأمر إلى ديغول حيث قام
باستدعاء المشتبه به إلي مكتبه ، وحال دخوله استثمر الرئيس الفرنسي عنصر المفاجأة
وهيبته الرئاسية فطرح على الموظف بشكل مباشر وصريح السؤال التالي :
منذ متي وأنت تعمل لمصلحة دولة (…) ؟
فأجابه الموظف برد فعل سريع : منذ عشر سنوات ..!!
واستمر الحوار كالتالي ،
ديغول: كيف تتلقى
التعليمات؟
الموظف: لا أتلقي تعليمات.
ديغول: وكيف ترسل تقاريرك؟
الموظف: لا أرسل أية تقارير.
ديغول: كيف يتم
بك الاتصال إذن؟
الموظف: لا يوجد أية اتصال
ديغول: كيف تعمل إذن لصالح دولة (…)؟
الموظف: إن مهمتي تنحصر من خلال موقعي بأن اختار دائماً أسوأ الموجودين من
حيث الفهم والاختصاص إلي عضوية اللجان التي تبحث المواضيع المطلوب دراستها وتقديم
التوصيات بشأنها لتكون التوصيات ابعد ما تكون عن الصواب وقد قمت بهذه المهمة منذ
ذلك الوقت حتى الآن ..!!
وهنا أحسست بعمق الألم الذي
يعانيه كل أولئك الذين ينادون بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعد أن وعىّ
هؤلاء الظاهرة الممتدة في وطننا العربي التي تعطي فيها الأولية للولاء الشخصي بدلاً
من الولاء والانتماء الوطني القومي، وإلي حسن الحديث في المديح والإعجاب بدلاً من
الكفاءة وشجاعة إبداء الرأي، وكان "أبو السعيد" يخشى من أن يكرر البعض تجربة
الفاكهاني في أراضي الحكم الذاتي ..!!
إن ما حصل في
غزة ومخيم النصيرات يشكل تصعيدًا خطيرًا في التعامل مع الفلسطينيين وخرقـًا لمبدأ
حرمة الدم الفلسطيني، هذا الدم المستباح إسرائيليـًا ويحاول البعض من أبناء جلدتـنا
استباحته أيضـًا!!
فعندما تتحول وجهة البنادق
الفلسطينية لتصوب في اتجاه الصدور الفلسطينية فهذا يعني أن حامل هذه البندقية إنما
يمسك بالبندقية الإسرائيلية هذه المرة، ويوفر عليها مشقة إكمال مهمتها الأزلية في
هدر المزيد من الدم الفلسطيني ... كل الدم الفلسطيني، وأيـًا كانت الأسباب التي أدت
إلى ما حدث فإن دم الشعب الفلسطيني أقدس من أية قضية يزعم البعض الدفاع عنها !
إن علي الفلسطينيين الذين عرفهم العالم بأنهم رواد في
الدراسات التأصيلية التي تضع القضايا مهما تشابكت وتعقدت أو تفرعت وتشعبت ـ في
إطارها وحجمها الصحيح أن يدركوا بشكل جلي أن المستفيد الوحيد من تناحرهم علي أرض
وطنهم هو العدو الإسرائيلي، كما كان المستفيد الوحيد من علاقاتهم المضطربة في
الخارج قبل تأسيس السلطة الوطنية، وأن أية اضطرابات في الشارع الفلسطيني لن تصب في
مصلحة أي طرف سوي إسرائيل التي ستستثمر ما يجري علي الأراضي الفلسطينية لتحقق مكاسب
سياسية تدعم الموقف الإسرائيلي في كل اتجاه، حيث أن كل المؤشرات والمعطيات والدلائل
التي تؤكد أن إسرائيل تعمل بكل جهد للقضاء على السلطة الفلسطينية، وبالتالي القضاء
على إنتفاضة الأقصى ..!!
وأن أمل إسرائيل بجميع
أحزابها هو قيام بحرب فلسطينية أهلية شاملة ، ليس بين السلطة والفصائل المعارضة
للتسوية وإنما بين كل هو ما هو فلسطيني و فلسطيني ..!! وأن أمنية إسرائيل أن تتحول
مناطق الحكم الذاتي إلي مناطق للقتل الذاتي الفلسطيني ..!!
يجب علي الفلسطينيين أن يقتنعوا بأن أية فتنة بينهم بأي وجه وتحت أي مبرر
إنما هي خدمة لإسرائيل حتى وإن كان المخططون والمنفذون لا علاقة لهم بإسرائيل، وان
يعملوا أيضاُ علي عدم تكرار أحداث غزة حتى لا تتحول أهداف الشعب الفلسطيني عن
مسارها الطبيعي إلي اتجاهات أخري تزيد في الإحباط القائم حالياً.
لقد جاءت أحداث غزة الأخيرة بمثابة دق جرس تنبيه لرؤية
الظلال القاتمة على مسيرة الحوار الوطني الفلسطيني التي طالما تشدق بها الجميع بعد
إفراغ هذا الحوار من محتواه ومن الأسس التي بني عليها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: كيف نتجنب تكرار هذه المأساة في المستقبل
والبعد عن الإحتكام إلى السلاح بين أبناء الشعب الواحد الذي سيجر إلى ويلات كثيرة
على رأسها إغراق أرض فلسطين في حمامات دماء قوامها الثارات والثارات المضادة ،
إضافة إلى إتاحة المجال للعدو الإسرائيلي في تحقيق حلمه بالتصفية التامة لقضية
فلسطين أرضـًا وشعبـًا ومصيرًا؟!
إن أمام السلطة
الفلسطينية طريق واحد للخروج من المأزق الحالي وهو إعادة فتح الحوار بين مختلف
القوى والفصائل الفلسطينية لتوحيدها على قاعدة جديدة ، وذلك لقطع الطريق أمام أجهزة
المخابرات الإسرائيلية لإستغلال ما حدث للقيام بإغتيالات للقيادات الفلسطينية أما
داخل السلطة أو لقادة فصائل المقاومة الإسلامية والوطنية ، وذلك لتمهيد الطريق أمام
الحرب الأهلية الفلسطينية ولدفع الوضع في الأراضي الفلسطينية إلى مزيد من التآكل كي
تستطيع التفاؤض في المرحلة النهائية مع وفد فلسطيني محبط ومؤهل لقبول بتسوية تفرضها
الحكومة الإسرائيلية والقبول بفتات عملية التسوية، هذا إن بقي فتات نفاوض
عليه..!!
*كاتب وصحفي فلسطيني - الرياض.