أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سليمان سمير غانم - شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيبة).















المزيد.....



شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيبة).


سليمان سمير غانم

الحوار المتمدن-العدد: 3997 - 2013 / 2 / 8 - 22:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تثار اليوم الكثير من الإشكاليات حول الإسلام كدين عبرعدة نقاط؛ أشكاله، تطرفه، قابليته للعيش، صلاحيته للحكم السياسي و غيرها الكثير من الأمور الخلافية أو الجدلية. المتابع للموضوع يلاحظ؛ أن وجهات النظر في أغلبها تتمحور لدى طرفين أساسيين يتقاسمان التطرف؛ الأول: المتدينون الذين يتمسكون بإسلام عصور الإنتكاسات االمعتمد على الخيارات المغلقة و الذي وصلنا من عهود الإنحدار التركية و المملوكية و سيطرتها على العقلية الدينية سواء في القاعدة الشعبية العوام أو في المؤسسة الدينية الرسمية العريية من خلال تحجيم القدرة على الاجتهاد و الإبتكار عبر الجمود داخل النص الديني بشكل قاتل، غير ملائم للزمن الحالي الذي نعيشه. تراهم يريدون إستحضاره في الحياة الحالية المعاصرة. بينما الطرف الآخر: هو من ينتقد الإسلام بطريقة متطرفة و فجة لا تحمل أي نوع من فهم للمشكلة و لا تملك أي مقولة لتقديمها، تراه يتمسك بقشور من الممكن أن تسمى علمانية سطحية مع كامل الإبتعاد عن العلمانية المعرفية المطلوبة، أساس التقدم. هذا الواقع أدى إلى الكثير من التشويش مع عدم إيجاد فهم يساعد على حل ما للمشكلة. هذا الطرف تراه لا يجيد سوى نسف ما يعتقده متخلفا كليًا، فيحكم على منظومة فكرية بكل تاريخها الطويل بحكم واحد، فيتطرف في نظرته إلى أقصى حدود، تصل حد الشتائم و التجريح. في الحالتين المذكورتين أعلاه كان الجهل بقضية الإسلام كدين جديد، أو بالأحرى؛ ما حصل في موضوع الإسلام هو السبب.
قبل الحديث عن شخصيات مشرقة فكريًا من التراث الإسلامي، سنتطرق لعدة نقاط إشكالية تواجه الدارسين لتاريخ بداية الإسلام، تلك النقاط ستوصلنا إلى السؤال الأكبر: ما الذي حصل في بداية القرن السابع الميلادي ؟
النقاط الإشكالية المطروحة في موضوع الدراسات الإسلامية أو البحث في بدايات الإسلام ؛
أًولا: موضوع المراجع التاريخية: في موضوع أي حادثة تاريخية، هناك دومًا الراوي أو الشاهد التاريخي، الذي يدون الحادثة أو الواقعة التاريخية المشار إليها، لتتبلور فيما بعد على شكل وثيقة تاريخية شاهدة على الذي حصل، تسمى مرجع أو مصدر تاريخي، غالبًا تقترن مصداقيته باقترابه من الحدث و معاصرته له، أيضًا موضوعيته.
في موضوع بدايات الإسلام؛ هنالك إشكالية كبيرة حول موضوع الوثيقة التاريخية، مشكلة حقيقية تواجه الباحثين المختصين في التاريخ الإسلامي، فأين المراجع التي وثقت للإسلام الأول ؟ تدور المشكلة حول ظهور الإسلام كدين في بداية القرن السابع الميلادي، على يد مؤسسه النبي محمد بن عبد الله، ليتزامن الحدث مع فترة صمت تدوينية توثيقية مطبقة، تشكل فراغا تاريخيًا كبيرًا بعد وفاة النبي، أي بين بداية القرن السابع الميلادي و منتصف القرن التاسع الميلادي. أي بين ظهور النبي و ظهور أول مرجع عربي توثيقي للإسلام. فأول مرجع مكتوب ظهر لدى المسلمين إن كنا نستطيع وصفه بالمرجع، أو الاعتماد عليه كمرجع، كان سيرة ابن هشام التي تؤرخ لسيرة نبي الإسلام و حياته، يقول فيها ابن هشام بأنه سمعها شفهيًا عن ابن اسحاق، الذي تذكر المصادر بأنه كان أول من كتب السيرة النبوية للرسول، لكنها فقدت، ليأتي ابن هشام فيما بعد و يجمع ما سمعه منه، لتظهر أول سيرة مكتوبة باللغة العربية على يد ابن هشام المتوفي في عام 833 ميلادي، أي بعد مئتي عام تقريبا على وفاة نبي الإسلام. هي مجرد سيرة، فالمراجع الدينية لم تكتب للتوثيق التاريخي بل للطابع الدعوي للدين نفسه، أي كما يقول المفكر هادي العلوي إن المصادر الدينية كتبت للدعوة و ليس للتأرخة. فكيف إذا حاولنا البحث عن مصدر تأريخي كالطبري مثلا، كواحد من أهم و أول المصادر التاريخية في الإسلام (مع عدم غياب الطابع الديني فيه)، خصوصا أنه توفي في 923 أي في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، أي أننا أصبحنا على بعد ثلاثمائة سنة من مؤسس الإسلام محمد بن عبد الله. هنا يكمن الفراغ الذي يجب أن يحل عبر البحث و التفكير الموضوعي العقلاني. فما هي قيمة وثيقة تاريخية كتبت بعد موت المؤسس للواقعة التاريخية بثلاثمائة عام ؟ أيضا الأثر الأكبر الذي لا نستطيع تجاوزه في هذه القرون الثلاثة، هي قصص الإرث الشفوي للصراع الذي وصلنا بعد وفاة النبي محمد المؤسس للدين الجديد، هذا الصراع الذي يتجسد فيه: الصدام الإسلامي الإسلامي، متمثلا بالفتنة الكبرى بداية زمن الخليفة عثمان، من ثم عبرالصراع الأموي الهاشمي، الأموي العباسي، العباسي الهاشمي. هنا بعد قرون من البعد عن الحادثة التاريخية، و كمية الصراعات الكثيرة بين أطراف إسلامية شتى، من يستطيع ضمان عدم تحوير النصوص و الأحداث كل طرف تبعًا لمصالحه ؟ ! هنا تكمن المشكلة الأكبر اليوم، التي تسببت بعدم الوضوح أو الضبابية لناحية عدم القدرة، على تشكيل فهم لما حصل في موضوع الإسلام كدين جديد، ظهر في المنطقة العربية في بداية القرن السابع الميلادي. لدينا مشكلة أخرى تخص أيضًا المراجع الإسلامية غير تأخرها بالزمن عن الواقعة التاريخية هي؛ أن هذه المراجع الإسلامية على الرغم من أنها تبدو كثيرة و متنوعة المصادر، إلا أنها تعاني من مشكلة كونها تعود بأغلبها لمصدر تاريخي واحد يتمحور حول سيرة الرسول و اعتمادها بأغلبيتها على شهادة ابن اسحاق، أو سيف بن عمر في الإسناد التاريخي و التوثيق. هنا نرى أن المصادر العربية تعود إلى مصدر واحد لا غير، هو عيب يشوبها لناحية المصداقية في ظل عدم وجود مصدر آخر، أو وجهة نظر أخرى. هذا الموضوع ترتبت عليه أيضًا أسئلة أخرى أدت إلى الكثير من اللغط في كيفية التعاطي مع الإسلام، هي أسئلة بحاجة إلى إجابة، أتت لناحية عدم وجود مرجع أو وثيقة تاريخية حقيقية لفترة الإسلام الأول يمكن أن نعتمد عليها علميًا. هنا نعتقد أن الإسلام سيظل كاليهودية، بالرغم من تأثيره فيما بعده و مكانته العالمية اليوم، يبقى تراثًا شفويًا لا يؤكده شئ كاليهودية تمامًا، التي تدعي امتلاك التاريخ، فيما عجز علم الآثار الحديث عن تأكيد ما إذا كانت شخصيات بني إسرائيل موجودة أم لا ؟ هنا الإسلام أيضا بكتابه المقدس، يقدم نفس المشكلة من الغيبيات و عدم القدرة على ربطها مع الواقع المادي العلمي. المشكلة اليوم أثريًا هل يتجرأ أحد على التنقيب في مكة و المدينة بجانب الحرمين، ليقول علم الآثار كلمته في الموضوع ؟ هل يرتجى الكثير من النتائج في التنقيب عن المخلفات الحضارية للجماعات البدوية ؟
ثانيا: المشكلة الثانية هي موضوع اللغة العربية؛ أي لغة المصادر الإسلامية، ففي فترة ظهور الرسالة الجديدة الإسلام، كانت اللغة السريانية هي المحكية و المكتوبة في المنطقة العربية لمدة 16 قرنًا خلت، لم تكن العربية المكتوبة التي نعرفها قد ظهرت بعد إلا شفهيًا. أيضا مشكلة رسم و تحوير حرفها عن الحرف السرياني أو النبطي و تغيير أشكاله عدة مرات، حتى وصلنا بالصيغة التي نعرفها اليوم. لدينا موضوع آخر فيما بعد و هو تنقيط و تشكيل اللغة العربية في مرحلة متأخرة بعد ظهور القرآن و الرسالة الجديدة، على يد أبو الأسود الدؤلي أولاً، فيما بعد على يد الفراهيدي. هذا التطور المرافق للغة العربية، ترك إشكالات كبيرة، لناحية مساحة الخطأ لمن ينسخون الكتب و كيفية الاشتباه عليهم في تدوين الأحرف المتشابهة، التي لا يميز بينها إلا النقطة، و كيفية تغيير معنى الكلمة عبر تغيير موضع النقطة؛ فلدينا أغلبية الأحرف لا تتغير في الكتابة بحسب موضعها في الكلمة و متشابهة لا يفرقها بالكتابة، إلا موضع النقطة كأحرف؛ ب، ت، ث، ن، ي. أيضا ج،ح،خ. أيضا ق، ف. هذه إشكالية مضافة للمراجع العربية، في مراحل نسخها المتعددة، حتى للنص المقدس نفسه القرآن، فلقد تعرض لمشكلة التنقيط و التشكيل. أيضًا من المفروغ منه تعرضه لفروقات في الحجم و عدد الآيات بين مرحلة قرآن النبي محمد المحفوظ شفهيًا و الموجود مع المؤمنين أو حفاظ القرآن المتفرقين في أجزاء الدولة الإسلامية قبل تدوينه لزمن طويل نسبيًا بعد موت النبي محمد، و بين مرحلة مصحف عثمان المدون المكتوب، الذي هو مصحف اليوم. أيضًا هناك الكثير من الإشكاليات النحوية في القرآن اليوم، لناحية الكلمات أو الصياغة النحوية قواعديًا، فمن غير الممكن أن يخطئ الله قواعديًا في عدة مواضع في القرآن ! هي مشكلة متعلقة بمراحل تطور اللغة و تشكيلها و تنقيطها فيما بعد، فوقع الناسخ و المدون للنص بتحويرات للغة آتية عن عدم فهم أو اشتباه ناتجة عن مشكلة تطور شكل الحرف العربي. كلها أمور بحاجة للبحث العلمي بروية، مع عدم التكلم بكمية كبيرة من التطرف تدل على عدم الفهم و الجهل بالقضية. فاللغة العربية قبل التنقيط، ليست العربية نفسها بعد التنقيط، فكلمة جنب في اللغة العربية ليست جيب و الفرق موضع النقطة. يضاف إليها مشكلة أكبر تتعلق يترتيب سور الكتاب المقدس القرآن؛ أي عدم ترتيب الآيات في المصحف الحالي بحسب الترتيب الزمني لنزولها، بل رتبت بشكل عشوائي، لا يساعد في إعطاء صورة أو فهم واضح لتسلسل الأحداث، بشكل منطقي يحتوي تسلسل زمني يمكن ربطه بالواقع المادي و بالوقائع المؤثرة في الحدث القرآني على الأرض، لفهم أسباب أو موجبات النص، مما ساهم بضبابية الرؤية من جديد فيما يخص النص المقدس القرآني. هنا لدينا مشكلة معقدة لناحية تطور الحرف العربي و تنقيطه و تشكيله و نسخه مع ما رافقه من مشكلات أخرى طرحناها.
ثالثا: المشكلة الثالثة هي موضوع المنطقة: أين توجد المنطقة التي دارت فيها أحداث الإسلام الأول بالتحديد ؟ فالنص القرآني لا يعطي إحداثيات لأماكن الرسالة الأولى، لا يذكر مسميات واضحة لا لشخصيات إسلامية و لا مدن عربية، فمكة لم تظهر كتابة في القرآن إلا في موضع واحد غير واضح المعنى، موجود في سورة الفتح: 24 ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) التي لا يعلم معناها كجملة، خصوصًا أنها جاءت كوصف لانتصار على فئة أخرى حصلت في منطقة ببطن مكة ! لم تأت كتأكيد على أن مكة هو المسرح الذي دارت فيه أحداث الرسالة الجديدة، أم أنها منطقة لجأ إليها المؤمنون الجدد ليهربوا من بطش أعدائهم، فكانت منطقة لمعركة حصلت بين الطرفين كان النصر فيها للمسلمين. أيضا نرى في الٌقرآن أن أول بيت لله بني في مدينة ذكرت بصيغة (بكة) لمرة واحدة في القرآن و التي لا يعرف أحد إن كانت مكة أم لا، أو أين تقع ؟ ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)(سورة آل عمران: 96). أيضا مدن الحجاز لم يشار إليها بنص مباشر، أو بكلمات محددة، بل يذكر دوما أو تستخدم صيغة المسجد الحرام ! بالإضافة الى أن إشارات كثيرة جغرافية و نباتية واردة في القرآن مغايرة للوسط الجغرافي للحجاز و تدل على وسط جغرافي آخر يمتلك قاعدة جغرافية زراعية من وجهة نظر العلم المادي؛ تشير إلى احتمالية وقوع الأحداث في أرض أقرب بطبيعتها إلى سوريا الجنوبية كفلسطين أو الأردن مثلا، فالتين و الزيتون غير متواجد في أرض الحجاز، بل متواجد في البيئات المتوسطية. أيضًا لدينا موضوع آخر لناحية توضيح منطقة حصول الأحداث الإسلامية الأولى، هو موضوع؛ الصراع الظاهر في موضوع القبلة الأولى بين المسلمين الأوائل، عندما اعتبرت القدس كقبلة أولى، و مكة كقبلة ثانية، هذه الحادثة، التي ظهرت بوضوح في صراع عبد الملك بن مروان و عبد الله بن الزبير على الخلافة و تمسك كل خليفة بقبلة تخصه، مع التأكيد على أسبقيتها و أحقيتها، فما هي قبلة المسلمين الحقيقية في ذلك الزمن ؟ أيضا لم يكن هناك ذكر للمسلمين في الزمن الإسلامي الأول، فحتى الخلفاء الراشدين لقبوا بأمير المؤمنين، لم يلقب أحد منهم بأمير المسلمين. فهل كلمة مسلم أطلقت عليهم من قبل الشعوب التي سادوا عليها في تلك الفترة، أم أنها كلمة أطلقوها على أنفسهم. و هل كلمة إسلام في الأدبيات الاسلامية تدل على صفة لدين معين كاليهودية أو المسيحية، أم أنها فقط تشير إلى فئة مؤمنة تميل إلى تسليم الأمر لإله الدين الجديد الله ؟ هنا علينا التدقيق في الموضوع و البحث بشكل جدي لحل هذه الإشكاليات المذكورة و فهمها بشكل علمي.
السؤال الذي لا يتجرأ أحد على الإجابة عليه هو: ما هو الإسلام ؟ هل هو دين مستقل ؟ أم هو اليهودية المكتوبة بالعربية ؟ أو الفهم و التصور العربي لليهودية ؟ فالمراجع البيزنطية المعاصرة للقرن السابع الميلادي، تشير إلى خروج نبي في غربي الجزيرة العربية، تصفه بالإسماعيلي و تصف أتباعه بالإسماعيليين نسبة إلى أولاد النبي إسماعيل. نعلم أن قريش مع قبائل أخرى في الجزيرة العربية و حسب علماء الأنساب العرب تنسب نفسها إلى فرع من الفروع العربية يسمى بالعرب المستعربة؛ أي إلى جزء من بني إسرائيل أو الآراميين الناطقين بالعربية أو المستعربين، المنحدرين أو المتبعين دينيًا لإسماعيل داخل الفرع الإبراهيمي، فليس إسماعيل، إلا الولد الأكبر لإبراهيم، كان يكبر إسحاق ب 11 عام، نعرف كشرقيين كيفية ترتيب الوراثة في العائلة الشرقية لناحية الولد الأكبر في الزعامة و النبوة. هنا يجب التمحيص في هذه النقطة، عبر ربطها بتسمية المصادر البيزنطية للمسلمين بالإسماعيليين. هل كان الإسماعيليين طائفة متمايزة من بني اسرائيل و متكلمة للعربية ؟ لا نعرف. لكن يبقى السؤال الأهم؛ ما هو الإسلام ؟ سؤالا معقد أو صعب لناحية الإجابة، سؤال بحاجة للكثير من الدراسة و الفهم بالمسألة. لكن المفروغ منه؛ أن الإسلام وجهة نظر خاصة، أو روؤية طرف ثالث متمايز عن اليهودية و المسيحية، له وجهة نظره الخاصة بالأحداث، خصوصا اللاهوت الديني الموجود في المنطقة في بداية القرن السابع الميلادي. فبينما نرى المصادر الإسلامية تصف الوسط الذي وقعت فيه الأحداث بالوثني، نرى الأدبيات الإسلامية متشبعة بالتصورات التوراتية و الأدبيات المسيحية، هنا تجدر الإشارة لتأثير الوسط بشكل طاغي، فعلى عكس ما تصفه المصادر أو تتهمه بالوثنية، يبدو أنه كان وسطًا متمتعًا بوجود طوائف يهودية و مسيحية مختلفة.
بعد ما مررنا عليه من نقاط إشكالية موجزة، ترى اليوم بعض الباحثين، يشن هجومًا مقززًا ضد الإسلام، دون ذكر أي نقطة من النقاط الإشكالية المطروحة في الأعلى، متساويًا بذلك منهجيًا مع المتدين الذي ينتقده فكريًا لإيمانه بهذه القصص على أنها حقيقة مادية قائمة !
بعد هذا التمهيد عن مشاكل علمية و توثيقية في الموضوع الإسلامي، سنقوم بالإطلاع على فكر بعض الشخصيات الإسلامية صاحبة الفكر الفلسفي المتقدم، في عصور إسلامية متأخرة عن زمن النبي و الإشارة لها و لفت الإنتباه إلى فكرها العلمي، لأخذ الموضوع من ناحية علمية بعيدة عن التطرف و الأحكام المسبقة فيما يخص منظومة فكرية معينة، و النظر لكل تاريخها عبر زاوية واحدة و عدم القدرة على الخروج منها. هنا سنقوم بالنظر إليها بميعار آخر، يفتح مجالًا لإعمال العقل في الفكر الذي شكلته في عصور مختلفة و مراحل متعددة؛
عمر الخيام : غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام. ولد في مدينة نيسابور عام 1048 و توفي عام 1113 ميلادي. شاعر و فيلسوف مسلم. اشتهر في العالم الإسلامي لناحية شهرة رباعياته الشعرية الفلسفية و الصوفية في الذاكرة العربية، بعد ترجمتها عن الفارسية من قبل الشاعر المصري أحمد رامي. على الرغم من الشهرة الشعبية العربية للخيام كشاعر و هذا عائد إلى طبيعة تعلق العرب بالأدب و حب الشعر، إلا أن شهرته العالمية لافتة لناحية كونه عالم رياضي كبير، و باحث رياضي تجريبي. باستعراض القليل من شهرة الخيام في المراجع نصل إلى أنه؛ عالم رياضي تصدى إلى إشكاليات الجبر و الهندسة في العصور الوسطى. خصوصًا حساب زوايا المثلثات و حل المعادلات الجبرية عبر استخدام المخروط الذي وصل عبره إلى حلول جزئية لمشاكلها. تصفه المراجع الأوروبية المعاصرة؛ بأنه أحد مطوري الهندسة الإقليدية و الشارح الأكبر لها في العصور الوسطى. كما تنسب إليه اختراع أو البدء باستخدام كلمة (شي) التي انتقلت إلى البرتغالية عبر الأندلس على شكل Xay و تستخم اليوم كرمز X وهو رمزعالمي في الرياضيات للدلالة على العدد المجهول. أيضا اشتهر عنه تقويم فارسي وضعه للسلطان الفارسي ملكشاه كان قمة في الدقة و التنظيم. من أبحاث الخيام الأخرى أبحاث في الكيمياء، فلقد كتب رسائل في الكثافة النوعية للمواد، اشتغل بشكل خاص على دراسة نسب الذهب و الفضة الموجودة في الأشياء المختلطة.
النفري: محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري. مواليد نفر في العراق، لا يعرف على الضبط تاريخ ميلاده الدقيق، لكن أغلب المصادر ترجح النصف الأول من القرن الرابع الهجري، القرن الذي كان قمة ما توصل إليه الفكر الإسلامي من رقي. يعتبر النفري من أكثر الشخصيات الصوفية غموضًا في تاريخ الإسلام. و التصوف: هو فلسفة فكرية لا تعتمد على قرائن العقل و الشريعة، بل تتجاوزها إلى ما يسمى بالكشف الصوفي لإيجاد أو لرؤية ما ليس موجود. جمعت كتاباته التي من أشهرها كتاب المواقف و المخاطبات في مخطوطات متعددة، وصلت إلى ست مخطوطات. تشير المصادر إلى أن كتاباته جمعت من قبل تلاميده فلشدة تواضعه و غزارة معرفته، لم يكن يكتب ما يقول. تأثر الكثير من المسلمين الصوفيين اللاحقين بفكر النفري، الذي دارت حوله مجادلات فكرية و نقاشات كثيرة في العصور الإسلامية. اليوم في العصر الحالي حاول الحداثويون العرب اعتبار كتابات النفري نوعًا من قصيدة النثر الفلسفية، معتبرين أن فكر النفري من الممكن التأسيس عليه لاستقدام التراث الإسلامي في تجربة الحداثة. تأثر أيضًا العديد من الكتاب بتجربته الفلسفية، لا سيما التنويريين العرب اليوم الذين رأوا في عبارته (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) الواردة في كتاب المواقف، أساس فلسفي في الوصول إلى المعاني المفيدة و المقتضبة في الحضارة، لناحية التأسيس لتغيير الراكد في الثقافة المعاصرة. ففي مكاشفته هذه أثيرت قضايا كثيرة اختطت له منهجًا مميزًا في التصوف و شهرة ثقافية مستحقة، استمرت بعد وفاته بقرون عديدة، لا زالت مستمرة إلى اليوم. كان النفري يفتتح كتبه بعبارات تمهيدية مميزة على شاكلة (يا عبدي) أو (أوقفني و قال لي) كانت مقدمات لمكاشفات و أقوال يريد أن يطرحها أو يقدمها، ليغير الجامد و المتكلس في ثقافة زمانه. بلغت مكاشفاته حدًا فلسفيًا مرتفعًا، وضعه على قائمة الشخصيات الإشكالية في الفكر العربي. في نهاية حديثنا المقتضب عنه نستذكر عبارته الفلسفية الشهيرة التي تحث على الخروج إلى حيز الفعل و الحركة: بين النطق و الصمت برزخ فيه قبر العقل و قبور الأشياء الأخرى.
النظّام: بتشديد حرف الظاء؛ إبراهيم بن هانئ بن سيار النظام البصري. مفكر و فيلسوف إسلامي كبير. ولد سنة 801 ميلادي. تتلمذ على يد أبي هذيل العلاف في الإعتزال، ثم انفرد عنه و كون مذهبًا خاصًا في الفلسفة يدعى (النظامية). كان أستاذًا للجاحظ، توفي في الخامس و الثلاثين من العمر سنة 836 ميلادية في بغداد. كانت صفات النظام تتمحور حول حدة الذهن، استقلال التفكير، سعة الإطلاع. يصفه الجاحظ بقوة الحجة المعتمدة على المنطق و العقل فقط من دون غيرها، حتى أنه كان قد نقل ذلك إلى عقول العوام محاربًا الأوهام و الخرافات المنتشرة بينهم في عهده كالتطير و التشاؤم. امتلك النظام في حياته العلمية المفاتيح الأساسية للنهضة العلمية الحديثة؛ الشك و التجربة، فكان يعتبر الشك أساسًا للبحث عنده، يقول فيه: (الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن من يقين قط حتى صار فيه شك، و لم ينتقل أحد من إعتقاد الى إعتقاد غير يكون بينهما حال شك ). أما التجربة العلمية، فقد استخدمها في حياته، كما يستخدمها الطبييعي أو الكيماوي، فلقد أجرى العديد من التجارب لمواد طبيعية و كيميائية و تأثيراتها على الجسم، عبر تجاربه على الحيوانات و أثر هذه المواد فيها. كان النظام ممن يقدسون العقل و العلم فقط. يقول في العلم: (العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك) الأهمية الفكرية العالمية للنظام تأتي من أهمية فلسفته الخاصة الغير متأثرة بفلسفات أخرى، كاليونانية التي تأثر بها الفلاسفة المسلمون في وقت لاحق. في مسائله الفلسفية الكثيرة السابقة لزمنه سنمر على مسألتين مميزتين أوردهما في رأيه العلمي المنعكس في الفلسفة؛ الأولى: هي مسألة الطفرة؛ التي اخترعها في مجمل حديثه عن تشظي الجزء من خلال حديثه في النظرية الذرية، فقال بمسألة الطفرة؛ و هي مصطلح يتعلق بإمكانية قطع جسم متحرك لمسافة ما من دون المرور بكل الأجزاء نفسها للمسافة المقطوعة، على مبدأ السرعة، و ضرب مثل النملة التي تعبر مسافة ما لصخرة من جهة إلى الجهة الأخرى، مؤكدا أنها تقطعها من دون المرور بكل الأجزاء حسب شكل الصخرة. و ضرب أمثلة أخرى كدلو البئر الذي إذا علق به خطاف يستطيع الوصول إلى نصف البئر و انتشال حبل آخر يصل إلى الدلو و الماء، بذلك يكون قد وصل إلى الهدف من دون المرور بكل أجزاء مسافة البئر. كانت مسألة الطفرة قد أثارت الكثير من الجدل بالنسبة لمنتقديه لناحية صحتها و إمكانية إثباتها. المسألة الثانية التي أثارها النظام؛ هي مسألته في الحركة، فلقد درس النوعية الكمية و الكيفية للحركة و السكون و حلل سبب حركة الأجسام، خصوصًا حركتها الأفقية عند تساوي الضغط عليها من الأسفل و الأعلى، فوصل إلى نتائج و مقولات لم يسبقه إليها أحد و هي: (أن السكون: هو شكل من أشكال الحركة) فالجسم يتحرك بسبب قوة تدفعه حسب تفسيره للحركة، فيقول أيضًا؛ أنه عندما يتوقف الجسم عن الحركة تكون قوة القوة التي تدفعه قد تساوت مع مقاومة القوة التي تمنعه من الحركة، و هذه المقاومة هي نوع من الحركة أو الممانعة الثابتة. أيضًا بحث في إثبات حركات الكيف و الكم و الموضع و الأين و المتى، وقدرة الأشياء على الحركة، حسب الطبيعة التي خلقت عليها. فالحجر بالنسبة له مخلوق، محدود القدرة، إن دفعته تحرك حسب وجهة الدفع، و عندما تبلغ قوة الدفعة أقصى مداها، يسقط و يعود لوضعه. و هذا عائد إلى القدرة أو الطبيعة الموضوعة فيه عند الخلق. كانت تلك، بعضًا من أهم الإضاءات على فلسفة النظام و مستواه الفكري، مع إغفال غيرها من النقاط الكثيرة التي لا يمكننا التوسع فيها هنا.
الرازي: أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي، طبيب و فيلسوف مسلم، ولد في مدينة الري عام 864 ميلادي و توفي عام 923. تصفه المراجع الأوروبية بأعظم أطباء العصور الوسطى، تقول عنه المستشرقة الأوروبية زيغريد هونكه؛ بأن كتابه الحاوي في الطب، كان المرجع لعلوم الطب من عهود الإغريق حتى عهده، أي بداية القرن العاشر الميلادي. بقي أيضًا المرجع الأول في الطب لأوروبا في العصور الوسطى قرابة 400 عام بعد أن ترجم إلى اللاتينية في هولندا و إيطاليا. حيث ظل حتى بدايات القرن السابع عشر من المراجع الأساسية في الطب. في كتبه الكثير من المقالات الدقيقة في تشريح أعضاء جسم الإنسان، أهمها موجود في مخطوط في مكتبة بودلي في جامعة أكسفورد بعنوان تجارب. كان أول من استخدم الخيوط في الجراحة، و ركب المراهم . له تجارب كثيرة أيضًا في تركيب العقاقير و الأدوية و علم الصيدلة الطبيعي و الكيماوي، كتب الكثير من الكتب و المقالات في مختلف مجالات العلوم. يتم دوما التركيز على الرازي الطبيب و ذلك لعظمته و شهرته كطبيب، لكننا هنا سنتطرق إلى الرازي الفيلسوف و نطرح فلسفته الخاصة ذات المذهب الراقي و المستقل. فلقد ظهر الرازي بفكره قبل ابن سينا و الفارابي، أي قبل ازدهار الفلسفة اليونانية في الوسط الإسلامي. لقد كان الرازي معاصرًا أصغر للكندي أول الفلاسفة العرب. جاءت فلسفة الرازي مستقلة عن الفلسفات التي كانت سائدة في زمانه، من علم الكلام إلى الفلسفة اليونانية التي كانت منتشرة في زمنه في الأوساط الثقافية. لكن نظريته في الفلسفة و الوجود، جاءت خاصة و إن كانت تحمل جذورًا شرقية هندية أو فارسية، لكنها كانت رؤية خاصة منه للكون و الوجود، تقوم نظرية الرازي، على ما يسمى مذهب الخمسة القدماء و هم : الباري، النفس، الهيولى المطلقة، الدهر (الزمن المطلق)، الخلاء (المكان المطلق). المطلقات الخمسة لدى الرازي مختلفة عن الرؤية الإسلامية و الشرقية للموجودات الخمسة، حيث نرى في نظريته أن المطلقات الخمسة موجودة معًا و بالتزامن، يتميز من بينها الباري بالعقل و الفعل، النفس بالفعل دون العقل، بينما الهيولى منفعلة، و تشترك المطلقات الخمسة لديه في الأزلية واللا تناهي، و في كونها لم تكن متحركة في البداية، أما وصف الباري و النفس بالفعل فالمقصود به فيما يخص الباري؛ القدرة على الفعل، فيما يخص النفس؛ الإستعداد للفعل. و المطلقات الأربعة لديه غير مخلوقة، و يرجع ذلك إلى استحالة الإبداع، فالله بالنسبة للرازي لا يخلق شيئًا من لا شئ. و قد مر على هذه المطلقات زمن كانت فيه مع الباري في حالة سكون تامة لا حركة فيها، و الباري لا فعل له، و هو في لا فعله يبدو في انسجام مع سكون الكون و لا رغبة له في تكدير سكونه بالحركة، لكن النفس تحركت تدفعها رغبة جامحة للتجبل بالمادة الهيولى. و النفس فاعلة و الهيولى منفعلة. لم يكشف الرازي إذا كان الفاعل و الإنفعال يحويان في ذاتهما قوة انجذاب نحو الإتحاد، لكن العلاقة بين الفعل و الإنفعال ضرورية للوجود، و ما جرى من الخلق للوجود كان بسبب رغبة النفس و هو نفسه أي الباري لم يكن يرغب في تكدير السكون الكوني. بالنسبة للرازي الباري لم يكن راغب بالخلق و هو الذي استشرف عواقبه فآثر البقاء في حالة سكون مطلق، لأن تحريك الهيولى بدمجها بالنفس سيحدث الصراع و الصراع كما يفهمه و يشرحه الرازي هو الشقاق: الفساد في الأرض و سفك الدماء. أي كان يرى في المادة شرًا و يعتبر عالم المادة عالم للأهواء و الشر بسبب طبيعة المادة، بينما اعتقد بنقاء الفكر و التفوق الأخلاقي لعالم الفكرة. كان هذا شرحًا بسيط لنظرية الرازي في الفلسفة و الوجود. لديه أيضا؛ نظريات أخرى في غاية الأهمية في الفلسفة حول النظرية الذرية و الخلاء المطلق، بالإضافة لكونه أحد الربوبيين العرب، و الربوبية: هي مذهب فلسفي يعود إلى أبيقورس الذي لا يؤمن بالدين، لكن يؤمن بوجود اآلهة. كذلك كان الرازي يؤمن بوجود إله، لكنه لم يكن يؤمن بفكرة النبوة أو اتصال هذا الإله بأشخاص معينين كالأنبياء بشكل خاص، فكان يرى في ذلك قمة الظلم، فالعلم بنظره يجب أن يكون متاحا للجميع و لا يختص به أحد دون غيره فبالنسبة له، كل الناس سواسية في حق المعرفة و القدرة على التعلم. يشار إلى أن فلسفة الرازي انتقلت إلى أوروبا عن طريق الفيلسوف اليهودي الإسباني حسداي بن قرسقاس، الذي كان متواجدا في بلاط قشتالة في نهاية القرن الرابع عشر و نهاية الاحتلال الإسلامي لإسبانيا، فهو من اطلع على نظرية الرازي و هو من قام بترجمتها ونقلها إلى الفلسفة الأوروبية .
كان الهدف من استعراض جانب من فكر هذه الشخصيات، الإطلاع على رؤوس أقلام من فلسفتها و طبيعة فهمها، عبر إلقاء الضوء على جانب أو جوانب من الفكر لشخصيات إسلامية مختلفة و متأخرة زمنيًا عن بدايات الإسلام، مع التأكيد على ذكر؛ أن هناك الكثير من الفكر في التاريخ الإجتماعي و الفلسفي الإسلامي يتمتع بنواحي إيجابية يعتد بها؛ فالمعتزلة ظاهرة مشرقة كانت من أوائل الفرق الفكرية التي عملت على نقد النص الديني في العالم العربي، بعد فترة زمنية قصيرة نسبيًا على بدايات الإسلام، عبر وضع النص على مذبح العقل و محاكمة النصوص المقدسة على أساس العقل و ليس النقل. أيضا؛ لدينا التصوف في الإسلام، أنجب فلسفة مميزة لا يمكن تجاوزها ببساطة أثرت في التاريخ الإنساني و حملت الكثير من الخصوصية. الفلاسفة المسلمون بدورهم و الفلسفة الإسلامية المتأثرة منها بالثقافة اليونانية، أو غير المتأثرة، هي ثقافة دخلت في الإرث الثقافي العالمي؛ فليس Averroes إلا الاسم اللاتيني لابن رشد المصنف بفلسفته الإسلامية ضمن فلاسفة النهضة للقارة الأروبية. نجد أنفسنا هنا مضطرين للإعتراف بأنه في الإسلام؛ يوجد إرث ثقافي بمستوى راقي لا يجب تجاوزه، بل يجب على المفكرين العرب أو المسلمين اجتراحه من التراث و اظهاره بصورته الإيجابية و العلمية و البناء عليه عبر توريثه للأجيال على قاعدة أنه إرثهم الفكري العلمي المتقدم و هم الأحق باتصال النسب إليه و تطويره، عبر تجارب محلية نابعة من قاعدة المشكلة نفسها. ليس عبر ترك الأجيال ضحية لرجال الدين، الذين لا يعيشون إلا على الجهل و استعداء الآخر، عبر تعليم الأجيال الغيبيات الدينية فقط. لذلك عند اتباع المنهج العلمي إلى حد مقبول في مواجهة الفكر الغيبي، يمكن بناء فرد متزن قادر على إعطاء محاكمات عقلانية للأمور المطروحة عليه، لن يستطع أي فكر مهما كان سلبيًا التأثير على عقله أو فهمه الحضاري للأمور. علينا أيضًا ترسيخ قاعدتين أساسيتين للأجيال المسلمة، سواء كان ذلك على صعيد التعليم، أو على صعيد المؤسسات الدينية كالأزهر مثلًا، فيجب تعليم الأجيال الإسلامية محرمتان لا ثالث لهما؛ التكفير و القتل أي تحريم التكفير و القتل، فعندما تترسخ هاتان القناعتان في ذهن الفرد المسلم شرعيًا، سينهض الحوار الإسلامي و يتطور تلقائيًا. هنا يجب أن نوضح و نقول؛ بأن بنية العقل العربي أو المسلم خلال العهود السابقة كانت مختلفة عن مسلم اليوم، عندما توضع في إطار الظروف الموضوعية لذلك الزمن، لأن المجتمع كان يتمتع بالرقي بمقاييس ذلك الزمن. أيضا هامش حرية الفكر كان أكبر بكل تأكيد عن الإسلام الحالي الذي وصلنا من عصور الإنحطاط التركية المملوكية. التي ساد فيها الركود الفكري قرابة ثمانية قرون، فكثير من المسائل الفلسفية التي تعاطى بها فلاسفة الإسلام في الأزمنة الأولى كان من غير الممكن أن تمر في عهود الإنحدار آنفة الذكر، أو أن تمر اليوم للأسف، على الرغم من تطور الزمن، لأسباب عائدة لجمود النص الديني و ترفعه عن النقد. لذلك فالحكم الشمولي أو التعميم على أي منظومة و تاريخها الطويل، فيه الكثير من التجني، خصوصا المنظومة الفكرية، فلم تكن المنظومة الفكرية لزمن من الأزمنة، إلا قمة ما وصل إليه الفكر في زمنها، لكن العيب فيمن يريد العودة بهوية الفكر المعاصر إلى مرحلة العصور الوسطى، أو نهاية التاريخ القديم. هنا مصدر المشكلة و قمة العيب. هل نستطيع اليوم أن نقول بأن الأموي الذي حكم الأرض من الصين الى الأندلس، كان بنفس البنية العقلية للإنسان العربي اليوم ؟ لا، لم يكن بنفس البينة العقلية، حتى الظروف الموضوعية لذلك الزمن لم تكن نفسها، فلا يلام أموي العصور الغابرة على فكره اليوم، بل يلام رجل اليوم الذي يريد اتباع أفكار أموي العصور الغابرة.
اليوم؛ هل يجب رفض كل الإرث الإسلامي ؟ أعتقد لا، لا يجب رفض الإسلام بكل ما جاء به، فهو ثقافة شعب و إرثه و ضوابطه المجتمعية لقرون عديدة. هل يجب تنقية الإرث الإسلامي من خرافاته و تخلفه ؟ نعم، يجب رفع المجتمع و تطويره دون جعل الإصطدام بالإسلام هدفًا، لأن الصدام بين المجتمع و دين المجتمع من دون خطة، أو من دون معرفة الهدف، انتحار يدفع نتيجته المجتمع، بينما لا يؤثر على الدين بشئ فيموت أتباع الدين الذين هم جزء من الطبيعة المادية نتيجة اصطدامهم ببعضهم من أجل الدين، بينما لا يموت الدين الذي هو روحاني غير مادي. فالمجتمع المتقدم هو الذي يرفع من قيمة أفراده و أديانه و ليست الأديان و الغيبيات من ترفع من مستوى مجتمعاتها. فمجتمع متحرر، متطور، يستطيع تغيير وجهة نظر الناس و الأمم الأخرى بالدين، إن كان أفراد هذا المجتمع من المسلمين أو من غير دين، فحال المجتمعات واحد، أما مجتمع متدهور و متخلف، لن يحسن صورة الإسلام أو أي دين آخر يعتنقه في نظر الآخرين. من هنا نعتقد بمنطقية اتباع مقولة مارسيل غوشيه في الحداثة التي يذكرها المفكر جورج طرابيشي في إحدى مقالاته بعدم تفسير “الخروج من الدين” ب مقولة “الخروج على الدين” و هو المطلوب في العالم العربي الإسلامي، لا يجب الصدام مع الدين، فالخروج من الدين لا يعني بشكل أو بآخر الخروج على الدين، بل بناء المعرفة و الوجود على أساس العلم، بذلك نصل إلى إنسان متعلم حر لم يصطدم مع الدين بل جعله شيئًا شخصيًا في مسيرته العلمانية الجديدة. إن مشكلتنا اليوم هي مشكلة نكسة أو انتكاسة معرفية، ليست انتكاسة إيمانية كما يدعي المتدينين مستغلي جهل المجتمعات المتخلفة الفقيرة. ليست أيضا؛ مشكلة انتكاسة سببها الوحيد الإسلام كما يدعي من يهاجمونه عن جهل و لا يبحثون عن حل. و إن كان الإسلام سبب من أسباب عدم التقدم في المجتمع، فلن يكون السبب الرئيسي، فالسبب الأساسي بالدرجة الأولى عائد لنكوصنا الحضاري؛ الذي هو: تعليمي معرفي، فنحن كمسلمين لدينا تخلف معرفي كبير، و تراجع تعليمي كبير، خلفنا عن الأمم الأخرى بدرجات كبيرة، فبينما تجاوزت الأمم الأخرى مرحلة معرفة المعلومة و تبحث اليوم عن كيفية الحصول على المعلومة بالسرعة القصوى و في الوقت المناسب، لا زلنا للأسف في مرحلة الصراع على سبب المشكلة، لم نصل لمرحلة معرفة المعلومة حتى .
اليوم في العالم العربي الإسلامي، ينقسم الرأي العام إلى فئتين رئيسيتين؛ الفئة الأولى: تضم المتدينين الذين يرون في العودة إلى عصر الخلافة و الإسلام الأول حلًا لكل القضايا الوجودية، متذرعين بموضوع الإيمان و أن الله يعز فقط من يخلصون الإيمان له. أما الفئة الثانية: تضم الناس الذين يريدون نسف الإسلام و استعدائه و الإنفصال عنه، دون النظر أو العمل على تحليل المشكلة، هذه الفئة تتجه بكليتها إلى استيراد ما تراه حلًا خارجيًا عبر تجارب علمانية، حدثت خارج الوسط الجغرافي الإسلامي، متناسين أن الشروط العلمانية في الغرب، لم تكن في استجلاب حلول خارجية، بل كانت نتيجة تطور المجتمع، لأن الشروط الخارجية أو الموضوعية لجماعة بشرية معينة، من الممكن أن تكون غير متوافقة مع الشروط الموضوعية لجماعة بشرية لا تعيش في الوسط نفسه. فما يناسب الإصلاح الديني الإسلامي اليوم، ليس بالضرورة أن يكون نفسه صالحًا لدين آخر. هنا تلعب طبيعة المجتمع و ثقافته دورًا كبيرا في نتائج الموضوع، فالأوروبيين اجترحوا الحل الإصلاحي من الداخل بمعالجة النص الديني المسيحي و اللغة مع استحضار النواحي المشرقة من التراث العقلاني و تفعيلها و ترك السلبي و هجره لصالح العقل، عبر العمل على تحجيم سلطة الكنيسة و الروحانيات، داخل الكنيسة، و جعل مسافة الإيمان بين الفرد و خالقه فقط. من دون جرها إلى الحياة الاجتماعية في التعامل مع الآخرين أو استقدامها إلى الحقول السياسية و الاقتصادية. اليوم في اعتقادي الشخصي؛ لن يكون هناك حل للنكوص الحضاري في العالم الإسلامي، إلا عبرالحامل الإقتصادي، أي عبر العمل على خلق ما يسمى بالطبقة الوسطى في المجتمع و التي لن تخلق لوحدها، فهي مسؤولية سياسية بحتة، تأتي عبر تبني النخبة السياسية الحاكمة لسياسة إقتصادية حقيقية، تؤدي إلى إنتاج، أو ترسيخ ما يسمى بالطبقة الوسطى الحاملة لكل تفاصيل نهوض المجتمع لدى الشعوب، عبر حيويتها و ديناميتها و هي القاعدة الأساس لأي استحقاق تقدمي تنويري لدى التجمعات البشرية، فهذه الطبقة عندما تتواجد بفاعلية في المجتمع، سيتوفر لها حتما مستوى اقتصادي معين، سيتيح لها تربية و تعليم أبنائها بشكل جيد. عبرعملية التعليم وحدها، ستنهض الحوامل الإجتماعية الجديدة للمجتمع من خلال جيل جديد متعلم، متنور معرفيًا و قادر على الخروج بالمجتمع من محنته و مشاكله بكل أصنافها، دينية كانت، أم سياسية، فوجود البرنامج التعليمي الحقيقي بالضرورة سيحرر الإنسان. هذا الإنسان المتعلم المتحرر، لن تحكمه الغيبيات، و لن يحكمه الإستبداد بفروعه الدينية و السياسية. فثقافة الاستبداد هي بشكل أو بآخر أحد منتجات الجهل و التجهيل في المجتمعات. و الجهل: هوعدو حقوق الإنسان الأول.

مراجع المقال :
1. الطبري، تاريخ الرسل و الملوك، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1997.
2. هادي العلوي، شخصيات غير قلقة في التاريخ الإسلامي، بيروت، 1995.
3. عبد الرحمن بدوي، تاريخ الإلحاد في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، 1980.
4. زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب ، بيروت ، 2000.
5. قاسم محمد عباس، كتاب النطق و الصمت للنفري، عمان ، 2001.

Bibliography:

F. Rosenthal, A History of Muslim Historiography , Leida 1968.
C. Luxenberg, The Syro_Aramaic Reading of the Koran, Verlag Hans Schiler, Berlin 2007.
J. Healey, The Early History of the Syriac Script a Reasseement, Oxford 2000.
G. Ostrogorsky, Storia dell’impero bizantino, Torino 1993.



#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصيات فكرية من التراث السوري قبل الاسلام (الهوية السورية ال ...
- انعكاسات مرايا الشرق
- نظرية الله المتهم البرئ.
- الإله المتناقض في الإسلام (الله)
- حكم المرتد بين وحشية المسلمين وهشاشة و تناقض عقيدتهم
- معيار الأخلاق بين الثابت و المتحول (الدين و المجتمع)
- يحصل في الشرق
- المنتصر في التاريخ هو المقدس ( بيزنطة مثلا)
- أبو لهب، أبو جهل، أصوات العقل في قريش و المصير المأساوي للأم ...
- ملاحظات بسيطة على العلمانية في العالم العربي
- ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية
- بين اقرأ واسأل يوجد قبر الأمة الفكري
- عندما يصبح دين الشعب أهم من وجود الشعب (من نحن،عرب أم مسلمون ...
- حنين إلى عقل القرن الثاني و الثالث الهجري (المعتزلة)
- أدلجة المجتمع و عبثية الاسلام السياسي
- الإله المتجسد بين الوسط الاغريقي الهيليني و الديانة المسيحية
- الشرق الأدنى من عبادة المرأة الى استعبادها


المزيد.....




- مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
- ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح ...
- أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سليمان سمير غانم - شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيبة).