ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1152 - 2005 / 3 / 30 - 12:54
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
إن الإصلاح الكبير هو انقلاب كبير. وبهذا المعنى لا يمكنه أن يحدث دون تأسيسه بمعايير المرجعية الثقافية. وذلك لان حقيقة الإصلاح تحتوي في ذاتها على فكرة البدائل العقلانية. إذ الإصلاح هو تأسيس للعقلانية أو الوسط المعقول الذي يتضمن بالضرورة نفي الراديكالية، أو القطع الجذري مع الماضي. وهي حالة عادة ما تولدها الانقلابات الكبرى. مما يعطي للرؤية العقلانية ومشاريعها المتعلقة بالبدائل أهمية قصوى. وبالأخص فكرة ضرورة التأسيس لهذه البدائل استنادا إلى مرجعيات ثقافية تقفل على النفسية الراديكالية فاعليتها في توجيه القوى الاجتماعية والسياسية وتعزلها عن التأثير الحاسم في بناء الدولة ومؤسساتها.
وهي الحالة التي يقف أمامها العراق حاليا في مواجهته تحديد ماهية الانقلاب الهائل الذي تعرض له بأثر سقوط التوتاليتارية والدكتاتورية. وإذا كان الإجماع الظاهر يصب في اعتبار ما جرى هو ثورة وعدالة واستقرار وروضة، فإن القوى التي لم تجرأ على القول بنقيضه، هي التي وجدت في الإرهاب الفعلي والشامل أسلوبا "للبرهنة" عليه. وهي ظاهرة ليست غريبة. بل انها "طبيعية" من حيث حوافزها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن ثم فإن قوة الإرهاب و"التحدي" هو دليل على قوة الانقلاب التاريخي الذي حدث في العراق. وهي قوة آخذة في الذبول والأفول بسبب هامشيتها التامة.
بعبارة أخرى، إن مواجهة هذه القوة الهامشية وتحديها للاحتمالات الهائلة في ماهية الإصلاح الشامل في العراق هو الذي يجعل منها قوة تفور في نزوعها الهمجي. وهي حالة ضرورية فيما يبدو من اجل أن تنفث لهاث زمنها الغريزي لكي تتوفر للعراق إمكانية العمل بمعايير ومقاييس التاريخ الفعلي، أي العمل حسب قواعد التراكم الضروري لحقيقة الدولة والمجتمع المدني والنظام الديمقراطي. فهي العملية الضرورية الملازمة لكل انقلاب تاريخي هائل يسعى للعيش حسب معايير الحق وقواعد القانون. وذلك لان الانقلابات الأصيلة تعكس في كلّها متضادات الوجود والوعي في بحثهما عن توازن أمثل باعتباره تجليا للبحث عن نظام امثل لوجود الدولة والمجتمع. وهو بحث يعكس الإدراك المتنامي لقيمة الفعالية الضرورية في التوازن نفسه. بمعنى توزن الدولة في تكاملها الحقوقي (الشرعي) والمجتمع في تقاليده المدنية والنظام السياسي في فصل وتوحد سلطاته الثلاث والثقافة في وحدتها المتنوعة. وهي ديناميكية مرهونة بالتوازن، كما انه مرهون بها. وكلاهما مرهونان بمنظومة المرجعيات الثقافية. إذ لكل انقلاب مرجعياته الثقافية. وهو الأمر الذي يحدد عند الأفراد والأحزاب والأمم قيمته في التاريخ (والصيرورة) ومعناه في الروح (والثقافة) وأثره في المصير (الفردي والاجتماعي والقومي).
وعندما نضع "تاريخ" العراق المعاصر على محك هذه الفكرة، فإننا نتوصل إلى أن تاريخه كان مجرد زمن خارج كينونته السياسية – الثقافية. من هنا ضحالة قيمته بالنسبة للوجود (والتاريخ) وسطحيته في الروح (والثقافة) وأثره المخرب في المصير (القومي). كل ذلك يبرهن على أن قيمة الانقلابات ومعناها وأثرها مرتبط بمدى وعمق المرجعيات الثقافية الخاصة وكيفية ومستوى التأسيس عليها. وهو أمر يكشف عن أهمية التأسيس الثقافي للعقائد (الأيديولوجيات). من هنا قيمة الانقلابات الفكرية (كالتجديد والإصلاح) في حال استنباطها من تاريخ التجارب الخاصة للأمم نفسها. إذ ليس للانقلابات الفكرية قيمة حقيقية واثر جوهري فعال في التاريخ السياسي للأمم ما لم تتكامل في ترسيخ التقاليد التاريخية نفسها وتتصير في منظومات واعية لذاتها. فهو الأسلوب الوحيد لديمومة فعلها الإيجابي في السلوك (الاجتماعي – السياسي) والوعي (الثقافي – القومي في مختلف ميادينه)، وإلا فإنها تصبح مجرد تجريبية تندثر بموت أصحابها.
إن غياب المرجعيات الثقافية الخاصة، أو عدم إدراك الواقع بمعايير التجربة التاريخية ومقولات الثقافة الخاصة للأمة يجعل من الوعي السياسي للأفراد والنخب والأحزاب والمجتمعات تعاليم مدرسية قابلة للتبخر والنسيان نتيجة لافتقادها تاريخها الخاص. فالتاريخ الحق هو سلسلة وعي الذات في العقل والوجدان. وليس هذا الوعي بدوره سوى أسلوب ومظهر التاريخ السياسي نفسه. كما أن التجانس الدائم (أو التوازن الديناميكي) بين وعي الذات الثقافي والتاريخ السياسي هو مقدمة الاستمرار الدائم للإبداع في مختلف نواحي الحياة. وعندما نضع هذه الفكرة على محك التاريخ العراقي المعاصر أو ننظر إليها من خلال موشور الوعي الذاتي التاريخي العراقي، فإننا سوف نقف أمام فقر مدقع في العلم والعمل. بمعنى غياب الرؤية التاريخية الواعية لذاتها بهذا الصدد. بمعنى وقوفنا أمام ضعف شبه شامل فيما يتعلق بحقيقة المعاناة الفعلية المتعلقة بصياغة فلسفة وطنية تعي مشاريع البدائل ضمن حدودها التاريخية وإمكانياتها الفعلية. وهو ضعف تشترك فيه القوى الوطنية والقومية والشيوعية والليبرالية والإسلامية.
إن النقص الجوهري في التأسيس النظري والعملي لفكرة الإصلاح على أسس المرجعية الثقافية الخاصة عند جميع القوى السياسية في العراق على امتداد تاريخه المعاصر يكشف عن ضعف معاناتهم الفعلية بهذا الصدد. وليس اعتباطا أو مصادفة أن يستحوذ التيار الراديكالي على العراق المعاصر ويجعل من تاريخه مجرد اجترارا للزمن وسحقا لمكونات وعناصر وعيه الذاتي. وهو واقع يبرهن على استحالة تأسيس منظومة للإصلاح في العراق المعاصر دون وجود منظومة من المرجعيات الثقافية. بعبارة أخرى، إن العراق بحاجة إلى فلسفة للإصلاح تستمد مقوماتها من حقائق تاريخه الكلي. وهي حقائق متراكمة في خصوصية تكونه التاريخي الثقافي. ومنها فقط يمكن بناء منظومة مرجعياته الثقافية القادرة على توجيه مشاريع البدائل الواقعية العقلانية الفاعلة في بناء الدولة العصرية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني والثقافة الإنسانية. وهي مهمة يمكن أن تنجزها ما ادعوه بفلسفة الاستعراق. وهي فلسفة تستند إلى عشر مبادئ عامة وهي: إن العراق ليس تجمع أعراق، وانه هوية ثقافية سياسية، وانه غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافدينية - العربية – الإسلامية، وان العربية – الإسلامية هي جوهر ثقافي، وإن الاستعراق هو مضمون الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية، كما انه الحد الأقصى للقومية في العراق، والبيت الذي تتعايش فيه جميع القوميات في العراق بصورة متساوية ومنسجمة، وهو ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية الذاتية له، وبالتالي فإن الخروج على الاستعراق هو رجوع إلى العرقية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية، كما أن الخروج على الاستعراق هو خروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، ومن ثم فهو خروج على القانون أيضا.
إن هذه المبادئ العشر هي سلسلة مترابطة تشكل في كلها وحدة تتضمن الأبعاد التاريخية والثقافية للعراق في أبعاده الواقعية والواجبة. انها تتضمن الصيغة العقلية والوجدانية للوحدة التاريخية والثقافية وتتعالى في نفس الوقت على كل الصيغ والنماذج الجزئية فيه دون أن تطردها أو تخضع لها. مما يعطي لها إمكانية تذليل مختلف الصيغ القومية والعرقية والدينية والطائفية الضيقة، مع الإبقاء عليها بوصفها هويات جزئية في الهوية الوطنية العراقية، أي الهوية الأم. كما يجعل من هذه الهوية مرجعية كبرى تحدد الرؤية النظرية والسلوك العملي فيما يتعلق بمنهج البحث عن الحلول الواقعية والعقلانية للإشكاليات التي يواجهها العراق في مختلف الميادين وعلى كافة المستويات.
بهذا المعنى تصبح فكرة الاستعراق فلسفة الحد الأدنى الضروري والعام للوحدة الوطنية، التي يمكنها أن توفر دوما الشروط الضرورية لوحدة الدولة والمجتمع وبالتالي احتواءها على القدر الضروري لتجسيد الإجماع التام على المبادئ الكبرى المتعلقة بإقامة دولة القانون والمؤسسات الشرعية، والعمل بالدستور الثابت والفعل حسب قواعد المجتمع المدني. وهو الأمر الذي يجعلها فلسفة قادرة على توجيه مضمون الإصلاح ضمن مسار الرؤية الاجتماعية والوطنية العراقية. كما انها تحتوي على آلية صنع ما يمكن دعوته بديناميكية التوازن الضروري للعراق من اجل قطع دابر الراديكالية بمختلف أصنافها. وذلك لأنها تؤسس لأسلوب المشاركة الفعلية للجميع في صنع آلية التكامل التلقائي للدولة الشرعية والمجتمع المدني، ومن ثم إرساء أسس الأوزان الضرورية للإصلاح الدائم.
إن صنع آلية التكامل الضروري للإصلاح الدائم تفترض في ظروف العراق الحالية تحقيق جملة مرتكزات عامة مثل تلقائية المبدأ والغاية في بناء الدولة والمجتمع والثقافة، ووضع حقائق الهوية الوطنية العراقية (الاستعراق) في أساس التخطيط العلمي والرؤية السياسية، وان يجري بناء الدولة على أساس الهوية الثقافية القومية وليس العرقية، وان تكون الدولة البديلة هي الدولة الشرعية، أي الدولة التي تبني مرتكزاتها المادية والروحية حسب قواعد الشرعية ومتطلبات القانون.
غير أن هذه المرتكزات شأن كل ما هو فاعل في ميدان التخطيط السياسي لا يخلو من احتمال للتغير والتبدل. من هنا ضرورة الموازنة بين الأبعاد الثابتة والمتغيرة فيها، أي بين الأبعاد الاستراتيجية والتكتيكية، على أن يكون كل تغيير نابع من رؤية منهجية ترى فيه جزءا من منظومة متكاملة. بمعنى أن يكون التغير المحتمل مندمجا في منظومة التوازن ومستجيب لحركتها الدائمة، أي كل ما يصنع في نهاية المطاف توازنا ديناميكيا في البناء الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي والثقافي.
إن تحقيق هذه الرؤية هو الذي يكفل اعتدال الإصلاح الدائم ويعطي في الوقت نفسه للبحث عن مشاريع البدائل جهدا ذاتيا يستمد مقوماته ومعاناته الحقيقة من إدراك وحدة التاريخ في صيرورته السياسية ومن ثم بلورة معناه في الروح الثقافي للامة وأثره في المصير الفردي والاجتماعي والقومي للعراق والعراقيين.
***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟