عبد السميع جِميل
الحوار المتمدن-العدد: 3995 - 2013 / 2 / 6 - 03:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حل أى مشكلة فى الدنيا يبدأ من معرفة تلك المشكلة أولاً , وها نحن بعدما تحدثنا غن المشكلة فى المقالين السابقين نبدأ الحديث بأول الحلول التى نقترحها لتلك المشكلة , وهى معادلة بسيطة وسهلة جداً وشافية ومخلّصة وتحقق لنا أحسن تربية بحق كما نزعم , وهى معادلة تتكون من أربع أطراف , ولا غنى لطرف فيها عن الأخر أبداً .
إن الطرف الأول من هذه المعادلة هو الحب , ولن تجد كتاب يتحدث عن التربية إلا وتقابلك فيه تلك الجملة : «حب الأبوين لأبنائهما عاطفة فطرية» . والناظر المدقق الى المجتمع المصرى بجد نفسه يشكك فى هذه الجملة شكاً عظيماً , فالعاطفة هذه التى يقولون أنها فطرية أصبحت وأمست وباتت عاطفة مشروطة وغير خالصة لوجه الله ! , فلا يمل الأهالى من معايرة أبناءهم قائلين :
- دا أنا اللى طلع عينى فى حملك .. دا أنا اللى خلفتك .. دا انا أبوك .. دا أنا شغال فى ساقية علشان تعيش .. دا أنا ضيعت شبابى عليك .. يا أبنى حس على دمك شوية .
هذا الاستفزاز العاطفى وتلك المعايرة وذل أنفاس الإبن من قِبل الأهل ليس دليل إطلاقاً على حب ومحبة حقيقة لله فـ لله ! , فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءً ولا شكُوراً ﴾ وهذا هو جوهر المحبة الحقيقة , وهو المعنى الذى لا يستقيم مع هذه الكلمات التى لا يمل الأهالى من ترديدها على مسامع أبناءهم , بالإضافة إلى الضرب واللسع والربط فى أرجل السرير والسخرية والشتائم والتحقير :
- أنت حمار وغبى وأهبل ومش نافع .. كان يوم أسود يوم ما جيت للدنيا .
إن الضرب والعنف والتحقير والشتائم لا يمكن أن يكونوا حلاً سليماً ومضموناً 100% لصلاح الأبناء , ولا يمكن أن يجتمع الحب والضرب فى مكان واحد بحجة أنك تخشى علي أبنك من الإنحراف وبحجة أن فى ذلك الضرب مصلحة له , لأن الضرب والإهانة والسخرية والإستهزاء لا يمكن أن يؤدوا إلى تقدم الأبن ونجاحه وفلاحه أبداً بل إن هذه الأمور كأسلحة الدمار الشامل التى تكسر البقية الباقية من أمل وهمة وعزيمة الأبن وتحطم حياته , فهذه الأسلحة حتى وإن أدت إلى صلاح سلوك فاسد عند الطفل فإنها تترك أثاراً جانية سلبية خطيرة أكثر فساداً عند نفس هذا الأبن , وهى وإن كانت قد أصلحت سلوك فهى تفسد أخر ! , وهذه الأسلحة شئنا أم أبينا هى صورة عكسية للحب وتتنافى مع جوهر العلاقة التى يجب أن تقوم بين الأب وأبنه على التشجيع والمساعدة والحب والمحبة الحقيقية , وهى دليل على فشل وعجز الأب فى تعديل شخصية ابنه , ولنا مع الضرب هذا حديث أخر يطول...
هناك عدد كبير من الأهالى يظنون أن كلمة «بحبك» و«أنا فخور بك» حرام ! , ولم يقوم أحد منهم بتقبيل أو إحتضان أبنه أو حتى اسماعه كلمة حلوة أبداً ! ؛ إنهم يخشون أن يصدر منهم أى مشاعر حب فتتحول مع الوقت إلى دلال ويتحول الدلال إلى دلع مفرط وتكون النتيجة فى النهاية أن يرتع الأبن ويصعب توجيهه مرة أخرى , ولكن هذه حجة واهية وفاسدة وتفتقد كثيراً من المنطق والتعقل والرحمة أيضاً ! , وهؤلاء موجودين فى كل مكان وزمان حتى أيام النبى محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام ! , فقد كان هناك رجلاً له عشرة من الولد , لم يُقبل ولم يحتضن أحد منهم أبداً , وهو عندما رأى النبى محمد يلاعب الحسن والحسين ويحضنهما ويقبلهما قال :
- أتلاعبون أبناءكم !! .. إن لى عشرة من الولد ما لاعبت واحد منهم ! .
فقال له النبى صلى الله عليه وآله وسلم :
- من لا يرحم لا يُرحم .
إن غياب الحب من حياة الأبن هو أمر فى منتهى الخطر على تكوينه النفسى والوجدنى والسلوكى وحتى الجسمانى ! , ولا أظنه أن هناك شيئ يضر الأب إذا أعطى أبنه ما يكفيه من الحب , فالحب للأبناء كالملح للطعام تماماً , الطفل أساساً يقوم بأفضل ما عنده حتى ينول هذا الحب ! , وإلا فما هو الشيئ الذى يجعل الطفل أكثر سعادة وفخراً بنفسه أكثر من أنه يشعر بحب وتشجيع ومكافأة المحيطين به عندما يقوم بعمل ما أو حتى بدون أن يقوم بأى عمل ؟!
إنظر إلي الأباء عندما يجلسون فى البيت مع ضيوفهم وأصدقائهم ويحاول الأبن أن يدخل ليجلس معهم , فينتفض الأب من مكانه وعينيه "تطق" شرار ويصرخ فى وجه أبنه بكل غطرسة وفظاظة قائلاً :
- أطلع بره يا ابن الـ تيييييت .. طلعوه .. ابعدوه .. موتوه !! .
قارن هذا المشهد الذى لا يمل الأباء من تكراره كل يوم بمشهد عبد المطلب جد النبى محمد عندما كان يجلس على فراش خاص به عند الكعبة ويجلس معه على هذا الفراش كبراء قريش , وكان يجلس أبناءه حول هذا الفراش من بعيد إحتراماً وإجلالاً له , فإذا بالنبى محمد وهو طفل صغير يجرى متسللاً بينهم ويقفز على هذا الفراش ويجلس بجوار جده ! , فحاول بعض أعمامه أن يبعدوه , فإذا بجده عبد المطلب يصيح فيهم وكأنه يريد أن نأخذ من هذا الموقف درساً وهو يضم النبى إلى صدره ليجلس معه على الفراش ويمسح ظهره ويقول لأبناءه :
- دعوا أبنى هذا فوالله إن له لشأناً .
ويسره ما يراه يصنع ! .
هذه الجملة الموجودة فى كل كتب التاريخ «يسره ما يراه يصنع» جملة جميلة وبليغة وعظيمة وملخّصة , وربما تكون هذه الجملة هى التى دفعت النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يترجمها فى سيرته ! ؛ فها هو يقف نفس الموقف بل أعظم من هذا الموقف عندما كان على المنبر ويخطب فى المسلمين , فإذا به يرى أبناءه الحسن والحسين وهما أطفال وعليهما قميصين أحمرين يلبسوهما ويمشيان ويعثران ويقومان فقطع خطبته وكلامه ونزل إليهما وحملهما ثم عاد إلى منبره ! .
هذا المشهد من سيرة النبي الأكرم لم يأخذ حقه فى التأمل ولم نجده يتكرر مرة أخرى فى واقع المسلمين ! .
النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً جداً ما كان يمازح الحسن والحسين ويلاعبهما ويحملهما على ظهره وعنقه ! , وكان يفعل ذلك حتى فى أهم الأوقات والاماكن قدسية ! ؛ فهو يفيض عليهما بمحبة وارفة وجارفة وفياضة حتى وهو يصلى ! , فكان يأتى إليه الحسن والحسين ويركبان على عنقه مرة ويركبان على ظهره مرة ويمران بين يديه ومن خلفه وكان هو يتأخر فى السجود حتى لا يغضبهما , حتى أنه ذات مرة عندما أنهى الصلاة سًئل عن ذلك فقال : «كرهت أن اقوم من السجود حتى يقضى نهمه من الركوب» ! . وفى الحديث الذى ذكره ابن سعد فى الطبقات : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما - الصحابة - أشار إليهم أن دعوهما ، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره ثم قال : «من أحبني فليحب هذين» . وكان يقول عنهما دائماً : «الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا» . و«الحسن والحسين أبنائى , من أحبهما فقد أحبنى» . وكان يضع الحسين على قدمه وهو نائم ويرفعه حتى يجلسه على صدره ويقبله من فمه ويقول : «اللهم إنى احبه فأحبه» ! . وفى مرة من المرات عندما كان النبى ذاهب إلى تلبية دعوة للطعام وهو فى طريقه وجد الحسين يلعب مع الأطفال فتقدم على من معه من الناس وأخذ يبسط يده ويلاعبه , والحسين يفر هاهنا مرة وهاهنا مرة وظل النبى يضاحكه حتى أخذه ووضع احدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه ثم قبله من فمه وقال : «حسين منى وأنا من حسين , أحب الله من أحب حسين , حسين سبط من الأسباط» . فهكذا كان يتعامل النبى مع "الشقاوة" ؛ فلا ضرب ولا ركل ولا رفس ولا صفع ولا لكمات كما أعتاد الأهالى مع أبناءهم فى أتفه الأمور .
كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يفيض على أبناءه حباً وعشقاً ومحبة وحنان فى جمال وعظمة مبهرة ؛ كان يلقب أبنته فاطمة الزهراء بأم أبيها وأم نبيها ويقول : «فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» . فكانت فاطمة تستحوذ على قلب النبى وعلقه ! , حتى إنه كان لا يخرج من المدينة إلا إذا ذهب لرؤيتها ! , ولا يعود إلا المدينة إلا وكانت هى أول من يذهب إليه ! , ولم يدخل عليها البيت مرة إلا وقبلها على جبينها ! , وكان كلما دخل عليها البيت مهموماً خرج مسروراً منطلق الأسارير ! .
كل هذا الحب كان يفيض به النبى على أبنائه بلا حدود وبلا بخل ! , فهل من متبع ؟!
لا يمكن أن تكون هناك تربية صحيحة سليمة حسنة إلا ومعها وحولها وفيها وبها حب ومحبة .
يتبع...
#عبد_السميع_جِميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟