|
تجربة لاهوت التحرير بنكهة الربيع العربي!
علاء اللامي
الحوار المتمدن-العدد: 3995 - 2013 / 2 / 6 - 00:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم تدخل تجربة "لاهوت التحرير" المتحف كما دخلته تجارب تاريخية تقدمية أخرى كالتجربة المشاعية القرمطية وغيرها، بل هي ما تزال تمارس فعاليتها الحياتية وتشكل جزءأ متأصلا من الصيرورة الفعلية التي يعبر عنها الجنوح نحو اليسار الاشتراكي في بلدان أميركا اللاتينية، بعد بضعة عقود على انطلاقها في سوح النضال السلمي والمسلح. يمكن أنْ نُذّكر بالمآل الحياتي لأحد رموز هذه التجربة الفريدة وهو الأب ميغيل دسكوتو بروكمان الذي فصل من الكنيسة بسبب انحيازه لصالح الثورة اليسارية الساندينية في نيكاراغوا كأحد قادتها، ثم أصبح وزير خارجيتها بعد الانتصار، وحاز على جائزة لينين سنة 1985 من الاتحاد السوفيتي قبل تدميره. الحَرَم الكنسي الذي صدر ضده آلَ إلى النسيان، و راح العديد من الجهات من بينها كنائس ومؤسسات دينية تتسابق لتكريمه بالأوسمة والدرجات العلمية التشريفية. وقد بلغ تكريمه ذورته بترشيحه لرئاسة الدورة 63 للجمعية العامة للأمم المتحدة من قبل دول اليسار اللاتيني وفاز بها سنة 2008. الأمثلة المشابهة كثيرة، ولكننا، وبهدف التعريف والاستدلال، سنكتفي بمثال آخر هو الراهب الكولومبي الشهيد كاميليو توريز والذي حمل السلاح وقاتل إلى جانب الثوار الماركسين حتى قتل في إحدى المواجهات مع جيش الطغمة العسكرية العميلة للولايات المتحدة تاركا خلفه عددا من الراهبات والرهبان المقاتلين من أجل الاشتراكية ذات الوجه الإنساني. الشهيد توريز هو مؤلف كتاب "المسيحية والثورة" وفيه اعتبر الثائرَ الشيوعي الأممي تشي جيفارا جوهر وروح اللاهوت العالمي! لقد صاغ هذا تيار لاهوته الثوري من رؤيته وفهمه لشخصية يسوع المسيح كما تتبدى في تجربته الفلسطينية، في خضم مواجهته روما الامبراطورية وعملائها من أحبار وتجار يهود ذلك العصر. لعل من أهم مداميك هذا التيار الفكرية تلك الآيات الإنجيلية التي يستمد منها نسغه الثوري ومنها: مَنْ لم يكن لديه سيف فليبعْ رداءه ويشتريه (لوقا 22/36). لم آتِ لألقي سلاماً بل سيفاً (متي 10/24). ويلٌ لكم أيها الأغنياء (لوقا 6/24). ما أعسر دخول ذوي الأموال ملكوت الله (لوقا 18/24). لا تكنزوا لكم الكنوز على الأرض.. لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك ( متي 6/19و 21) ومعلوم أن الآية الانجيلية الأخيرة كررتها الآية القرآنية "التوبة/ 34 :35 " بشكل شبه حرفي ولكن بتنديد وتهديد بعقاب أشد وأقسى "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" ولكن أغنياء الإسلام نجحوا في اعتبار هذه الآية منسوخة حكماً باقية تلاوةً إلا الصحابي أبو ذر الغفاري الذي ظل متمسكا بسريان حكمها حتى آخر يوم في حياته. إذا أمعنا النظر في المبادئ المركزية التي تقوم عليها ممارسة وتنظير هذا التيار الثوري فسنجد أنّ أهمها تتلخص في التالي: ـ يجب ألا يلجأ رجل الدين للعنف حباً بالعنف، بل عن ضرورة واقتناع تام في أنّ ذلك سيضع حداً للظلم، بعد استنفاد كافة المساعي السلمية. ـ في عالمنا الحالي يسيطر القانون الرهيب لاقتصاد السوق الليبرالي المتوحش والذي يجعل من الغني أكثر غنىً والفقير أشد فقراً، وفي هذا الوضع الجديد من الصراع الطبقي على المستوى العالمي ينبغي الكلام عن مجتمعات غير عادلة جذريا، يجب تغييرها جذريا أيضاً عبر الثورة، لتكون مجتمعات عادلة. ـ على الكنيسة أن تكون في خدمة المناضلين المقاومين في سبيل إنشاء مجتمع أفضل، لتشارك الأصوات المرتفعة، المدافعة عن الإنسان المسحوق، بغض النظر عن دينه لأنه مخلوق مكرم من قبل الله خالقه. ويجد هذا المبدأ تعبيره في الآي القرآني القائل (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا / الإسراء:70). ـ يجب الإقرار بأن الأسس التي يقوم عليها نشاط الثوار هي الرغبة في إقامة عالم أكثر عدالة عبر كافة أشكال النضال المتاحة من سياسية واقتصادية، إضافة إلى العسكرية متى اقتضت الحاجة الموضوعية لها. نكتفي بهذا الضوء الذي سلطناه للتعريف بهذه التجربة وننتقل الى صلب موضوع عنواننا. و لنذكِّر بدءاً بأننا كنا قد أشرنا في مساهمتنا ضمن ملف "الآداب" البيروتية، حول الانتفاضات العربية/ عدد صيف 2012، إلى أنّ (الأمل في بزوغ حركات إسلامية ديموقراطية لا تخلو من المضامين والصبوات الطبقية الثورية، بما يذكرنا بتجربة "لاهوت التحرير" في أميركا اللاتينية، التي ناضل فيها، إلى جانب الثوار اليساريين، رجال دين كاثوليك، كان في مقدمتهم رئيس أساقفة البرازيل هيلدر كاماراو، والراهب الكولومبي الشهيد كامليو توريز الذي حمل السلاح وقاتل إلى جانب الثوار الماركسيين حتى قتل في مواجهة قوات الدكتاتورية، ورئيس أساقفة السلفادور أوسكار روميرو الذي اغتاله عملاء المخابرات المركزية الأميركية، أما هذا الأمل فيبقى معقودا في رحم الغيب!) فالواضح أننا كنا نجهل الوقائع التي تؤكد أن هذا الأمل قد بزغ فعلا، أو على الأقل، ولد كمؤشرات واعدة، في ميادين الإعلام والتواصل الاجتماعي وخصوصا في الساحة المصرية. في دراسة مهمة وموثقة "الطليعة 21 العدد 2 ربيع 2012 "، يرصد الكاتب هاني فوزي فقه ولاهوت شباب الثورة المصرية عبر العديد من الشهادات في مواقع التواصل الاجتماعي كفيس بوك وتويتر و المدونات الشخصية، إضافة إلى ما يرسمه الشباب الثائر من رسوم الغرافيك على الجدران والأغاني التي ينشدونها، فيستنتج "أنّ هناك نمطا جديدا للتدين يبزع الآن ...تدين أكثر ملائمة لزمنه وإيقاعه، تدين يرى أنّ الدين، أي دين، يساعد البشر على أن يكونوا أكثر حباً للآخر وللحياة، رغم الاستعداد السامي للتضحية بالحياة ذاتها من أجل الوطن/ الحلم... إنه تدين مؤمن إلى أقصى حد بالـ"حرية" التي تبدو قيمة مرجعية لا تفاوض عليها، ونقطة انطلاق أساسية لما هو ديني وحياتي واجتماعي وسياسي أيضا). ومع أن الكاتب يسجل مفارقة تفيد بأنّ أصحاب وحملة ومبدعي هذا التدين الجديد ليسوا متدينين جميعاً، ولكنه، ربما قصد أنهم ليسوا متدنيين طقوسيين، آخذين بالطريقة التقليدية التي تفهم الدين ضمن دائرة العبادات الفردية الواجبة والمنفصلة عن هموم المجتمع، والهادفة لبناء علاقة عمودية تنتهي بدخول جنة الميتافيزيق بوصفها الخلاص النهائي للفرد. يسرد الكاتب العديد من المؤشرات على هذا الميل الجارف لنمط التدين الجديد والمقارب لظاهرة لاهوت التحرير معبرا عنها بفعاليات وكتابات سطّرها الشباب المصري الثائر على صفحات التواصل الاجتماعي ومن ذلك: - يستشهد أحد ثوار ميدان التحرير بالإمام الغزالي: الإكراهُ على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل كما أنّ الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن فالحرية هي أساس الفضيلة. شاب آخر يكتب : قدِّسوا الحرية حتى لا يحكمكم طغاة الأرض. شابة تعنون صفحتها بعبارة : لأ مش مطلوب زعيم! - شيخ أزهري ينقل عن الأفغاني : ملعون في كل الأديان من يسجن شعباً.. من يخنق فكراً.. من يرفع سوطاً..من يسكت رأياً.. من يبني سجنا، من يرفع رايات الطغيان .. ملعون في كل الأديان من يهدر حق الإنسان حتى لو صلى أو زكى وعاش العمر مع القرآن .. - مجموعة من شباب حركة الإخوان المسلمين ينشقون على حركتهم خلال الانتفاضة المصرية رفضاً لمبدأ الطاعة العمياء الذي تلزمهم به الحركة ويؤسسون أكثر من صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي. - شاب مسيحي يدخل الكنيسة ليلة عيد الميلاد وبحضور ممثلي العسكر ويرسل بواسطة هاتفه النقال الرسالة التالية الى حسابه على التويتر "حاهتف : يسقط ..يسقط ..حكم العسكر، حتى لو هتفت وحدي! ويعلق الكاتب هاني فوزي "ربما كانت هذه المرة الوحيدة التي تسمع فيها قيادات المجلس العسكري هذا الهتاف بآذانهم مباشرة، وهي أيضاً وبالقطع، الحادثة الأولى من نوعها أثناء قداس العيد الذي اعتاد مَن يحضرونه التصفيق لكل من يمثل الدولة". - مجموعة من طلبة وعلماء الأزهر يشكلون مجموعة "أزهريون بلا حدود" ومجموعة "ائتلاف شباب الأزهر" وينتقدون رفض المؤسسة الأزهرية لدعوة العصيان المدني بتاريخ 11 شباط فبراير. و يكتب أحدهم تأصيلا فقهيا ونظريا للاعتصامات والعصيانات المدنية والمظاهرات الشعبية في الشريعة الإسلامية. - مجموعة شباب مسيحيين على الفيس بوك تتشكل على أساس فكرة رفض دعوة ممثلي العسكر لقداس عيد الميلاد وتستعمل في صورة البروفايل الخاص بها جزء من الآية الإنجيلية ذائعة الصيت والتي تقول " بيتُهُ بيتُ الصلاة يُدعى .." و لا تكتب تكملة الآية لأنَّ المؤسسة الكنسية تعرفها دون ريب وتقول "وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" . يسجل الكاتب أنّ فقه ولاهوت التحرير الذي انتجه شباب ميدان التحرير يتعلق بنوع جديد من العلاقة بين المتدينين وغير المتدينين قائم على التعايش بوصفه تفاعلا واندماجا بين كافة ألوان الطيف المجتمعي والإيماني، وليس تجاورا بين كيانين منغلقين على الذات، يضم الأول المتدينين والآخر غير المتدينين. يجد الباحث مبررات هذه العلاقة الجديدة في فشل المؤسسات الدينية التقليدية ( في تقديم أطر قيمية تنادي بالعدالة وتقف في وجه الظلم بل أنّ من تحدثوا باسمها ربما شاركوا في تكريس الظلم، فأبناء الزمن الجديد مصرون على وجود اجتهادات دينية جديدة للخروج من المأزق الحالي قادرة على تلبية ذلك الجزء الروحاني داخل البشر دون تحويله الى "تابو"، اجتهادات تبشر بإنسانية الإنسان وتناضل من أجلها ومن أجل وطن حر). ونسجل من جانبنا، أن التشابه والتناظر القائم بين التعبير اللاتيني لتجربة لاهوت التحرير لا تختلف إلا في الشكل عن تجليها الفاغم بنكهة الربيع العربي فهي جاءت ممهورة بمقتضيات الظرف اللاتيني الذي أوجب على الثائرين امتشاق السلاح واعتماده أسلوباً أولاً في النضال التحرري والطبقي، أما في مصر وغيرها فقد جاء موسوماً بالطابع السلمي الشجاع للانتفاضات المليونية "المستعدة لاقتحام السماء بقبضات عارية" بعابرة ماركس الشهيرة. نختم بضرورة التأكيد على عدم خلط تجربة لاهوت التحرير ببعض تجارب رجال الدين التقليديين – في العراق مثلا- الذين انحازوا الى نوع من "العلمانية الفاقعة" التي وجدت تعبيرها العملي في تحول بعضهم إلى مستشارين للحاكم الأميركي بول بريمر خلال فترة الاحتلال المباشر للعراق، فصار بعض أدعياء اليسار والشيوعية من حملة الفكر الإلحادي المراهق مروجين وحاملي مباخر لهؤلاء المشعوذين ناسين أو جاهلين بأنّ العلمانية ابتكار وإنجاز للبرجوازية في طورها التقدمي، ولا علاقة لها بالصراع الطبقي وتحقيق المساواة الاجتماعية و لا بالانحياز الطبقي الثوري، لا بل أن تجربة "لاهوت التحرير" اللاتينية، في إحدى ثيماتها الجوهرية، هي دعوة إلى المواجهة بالسلاح للاحتلال والهيمنة الإمبريالية الأميركية المتحالفة مع الطُغم العسكرية المحلية الحاكمة هناك.
#علاء_اللامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عناصر خطة شاملة دفاعاً عن وجود دجلة والفرات
-
معنى الدكتاتورية والفاشية بين العلم والسجلات الحزبية!
-
كتاب جديد لعلاء اللامي : -القيامة العراقية الآن .. كي لا تكو
...
-
العراق: التيار الصدري بين مآلَين!
-
-شيعة- جيمس جيفري المدجّنون!
-
التحالف «الشيعي الكردي» ليس كذبة بل سبب البلاء!
-
على مَن يضحك السفيرالأميركي بيكروف ؟
-
إطلاق سراح أوجلان..إطلاق سراح أمتين!
-
السدود والبحيرات كمسبب للزلازل في تركيا وشمال العراق/ج2 من 2
...
-
قضية الهاشمي: شهادة ليست للقضاء العراقي!
-
احتمالات انهيار السدود التركية بسبب الزلازل
-
توظيف العامل -الديني- في قضايا المياه
-
كافكا الآخر.. رصد الاغتراب الروحي /ج2
-
كافكا الآخر : رصد الاغتراب الروحي
-
التيّاران اليساريّ والقوميّ بين الفشل وقصور الأداء
-
شط العرب اليوم : إنها الكارثة!
-
فرانز كافكا بعيون عربية
-
شط العرب في معاهدة أرضروم وما بعدها
-
شط العرب بعد قرن من الأطماع الإيرانية
-
نصف قرن من التجاوزات المائية الإيرانية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|