عبد السميع جِميل
الحوار المتمدن-العدد: 3993 - 2013 / 2 / 4 - 05:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كنا قد توقفنا فى المقال السابق عند ذكر الأساليب الغريبة التى يستخدمها الأهالى فى التربية , لإيضاح مدى تحمل الأباء مسئولية المشاكل التى يعانون منها فى أبناءهم , إيماناً منا بأن معرفة تلك الأساليب الفاشلة هى أولى الخطوات لتجنبها وعدم الوقوع فيها مرة أخرى .
لكن قبل أن نخوض فى الحديث عن تلك الأساليب الفاشلة , يجب أن ننتهى أولا من التعامل مع التربية بأعتبارها أمر يخص الأخلاق فقط , لأن الأخلاق أسهل وأبسط شيئ فى موضوع التربية هذا أصلاً , بينما الأمر الأكبر والأكثر أهمية وخطورة هو ما يتعلق بالصفات والسمات الشخصية للأبن قبل أن يكون له علاقة بقضية الأخلاق هذه .
إن الصدق أمر يخص الأخلاق , ومن السهولة غرسه فى وجدان الأبن بالترغيب والترهيب , بينما الخجل والثقة بالنفس وأستقلال الشخصية وغيرها من الأمر التى تتعلق بالسمات الشخصية للأبن فهى كلها أمور ترتبط أرتباطاً وثيقاً بطريقة التعامل مع هذا الأبن .
إن الأسلوب الذى يُتبع فى التعامل مع الأبناء هو الذى يشكل تكوين شخصياتهم بشكل أساسى ورئيسى .
أسلوب التربية الإستبدادى الديكتاتورى المتسلط المتجبر الفظ الغليظ مع الأبناء هو أسوء الأساليب فى التربية ولا شك , وهو الأسلوب الذى يرى الأب فيه نفسه عالم بكل شيئ , ويظن إنه الحق والحق هو ولا حق سواه ! , ويعتقد أن الأمور لا يمكن أن تسير بدون إشارته وأوامره ونواهيه , وهو فى ذلك لا يعرف شورى ولا مشورة ولا نقاش ولا جدال , ومعياره الوحيد لنجاحه هو الطاعة التامة والمطلقة من الأبن , وهو فى سبيل ذلك يستخدم أى سلاح ! , والضرب طبعاً من أول قائمة هذه الأسلحة الفتاكة التى يتفنن فى إستخدامها ويبريرها بكل ما هو مقدس , وبجوار هذا الضرب أسلكة شائكة وقائمة طويلة عريضة من الممنوعات تمنع الأبن من الخروج للشارع , ومن اللعب داخل البيت , ومن الملابس التى يحبها , ومن المأكولات التى يشتهيها , ومن تسريحة الشعر التى يفضلها , ومن مشاهدة التليفزيون , ومن اختيار أصحابه , وممنوع من الغياب خارج المنزل أكثر من وقت محدد , ومُحرم مُجرم أن يحاول الأبن بينه وبين نفسه أن يعترض على هذا الأسلوب الجهنمى الذى يتبع معه , ولو حدث واستطاع أن يواجه أهله مرة واحدة وقال لهم : «ليه كل ده» ؟ يسمع فوراً تلك القنبلة التى تنفجر فى وجهه مباشرة بلا تردد : «هو كده» ! . ثم تتوالى على رأسه أسلحة الدمار الشامل من إهانات وشتائم وسخرية وإستهزاء أمام زملائه وجيرانه وأقاربه , وحتى وإن فعل هذا الإبن شيئ جيد - كحصوله على درجات مرتفعة فى الإمتحانات مثلاً - يتم تجاهل مجهوده والتحقير من شأن أفعاله ! .
إن هذا الأسلوب فى التربية يجعل أى طفل فى العالم يشعر دائماً بعدم التقدير وعدم الإهتمام ويحس إنه غير محبوب ومنبوذ ويعيش حياة سوداء مظلمة , وربما يتحول إلى جاسوس إسرائيلى ! .
إن نتيجة هذا الأسلوب ببساطة هى صناعة مجموعة من الناس الخاضعين التابعين الخانعين الذين يفتقدون الثقة بأنفسهم ولا يملكون أى قدرة على تحمل أى مسئولية ولا يستطيعون تحقيق أى نجاح فى حياتهم على الأطلاق .
لا أنكر حسن نية الأهالى فى إستخدام هذا الأسلوب ولكن هذه النية الحسنة ليست مبرر اطلاقاً لإستخدام هذا الجرم الفادح .
لكن على أى حال , إن هذا الأسلوب يجعلنا نصر على قولنا بأن تلك المشاكل التى يعانى منها الأهالى فى أولادهم هم أنفسهم السبب فيها , وهذا الحكم ليس من خلال هذا الأسلوب الوحيد فقط , فهناك أسلوب أخر نقيض لهذا الأسلوب وهو أسلوب قائم على المغالاة فى الدلال , فإن كان يتم ضرب وإهانة ولسع وجلد الإبن فى الأسلوب السابق فها هو هنا لا يعرف ولا يسمع ولا يوجد فى حياته أياً من هذه الأمور على الإطلاق , فلا يوجد فى حياته شيئ إسمه "لا" من الأصل , وإن رفض له طلب ولو حتى على سبيل المزاح يبكى ويصرخ ويكسر أى شيئ أمامه وربما يُضرب عن الطعام حتى يجعل أهله يخضعون لطلبه وينفذون أمره فى إستسلام تام وهم يرفعون راية «حاضر .. طيب .. من عنينه .. اللى أنت عاوزه هيجيلك» مهما كانت الظروف ! , والغريب أن إستسلام هؤلاء الأهل يتم حتى إذا قام هذا الأبن بالكسر أو بالإعتداد أو بالإهانة لأحد , فلا يتم عقابه إطلاقاً بل إنهم يعتبرون قلة أدبه تلك شقاوة وشطارة لابد منها ! , ولذلك تجدهم لا يعبئون بتلك الممارسات المستفذة بل ويبتسمون له فى سعادة شديدة وفرح عجيب وتباهى غريب بهذه السلوكيات ! , والأكثر من ذلك إنهم يحمونه دائماً من أى شخص يحاول تأديبه على أى خطأ يصدر منه , حتى وإن كان هذا الخطأ جريمة كبرى تستحق السجن فتجدهم دائماً يبذلون كل ما فى وسعهم من كوسة ومحسوبية وغيرها من الوسائل المشروعة وغير المشروعة ليخرجوه منها كالشعرة من العجين , وكلما يقع فى مشكلة كبيرة يسمع منهم إنه «مفيش مشكلة» أصلاً ! , وطبعاً الأغبياء فقط هم من يتم توفير سبيل للدلع والدلال لهم ولا يرتعون فيه , ولذلك فإن اسلوب التربية هذا يجعل الأبن بطبيعة الحال يشبع بعاطفة أهله حتى إنه يصبح لا شعورياً ليس فى حاجة إلى عاطفة وتقدير وإحترام من الأخرين ولا حتى بالإهتمام بشكل صورته أمام هؤلاء الأخرين ! .
إن هذا الدلال المفرط مع الأبن يجعله يشبع تماماً بعاطفه أهله عن عاطفة الأخرين , فلا يعبأ بإخراج كل ما فيه من أنانية وتسلط وغرور وغطرسة , فيجعله ذلك مكروه وغير محبوب من زملاءه ولا حتى ممن هم أكبر منه سناً , وذلك بسبب سلوكياته وتصرفاته الشاذة التى تعبث ولا تحترم حقوق وحريات وممتلكات وخصوصيات الأخرين وتستبيحها وتفشى أسرارهم ولا تحترمها , فهذا الدلال المبالغ فيه يصنع شخص أنانى ومُحب للسيطرة والتملك , ولديه إحساس دائم بالتميز والكمال التام فى كل تصرفاته , ولديه قناعة بإنه منزّه عن الخطأ بسبب الإفراط من قبل الأهل فى الحب والدلال , فضلاً عن كثرة أسئلته المبالغ فيها فى حصص المدرسة التى لا تمس المادة الدراسية من قريب أو من بعيد , إلا إنها تهدف إلى إضاعة الحصة وإلهاء المعلم فقط , وذلك كله بخلاف فشله فى الدراسة والتعليم لعدم شعوره بأى أهمية لهذا التعليم _فقد تبرمج من صغره على الحصول على كل شيئ بدون هذا العلم أو غيره ! , وتبرمج على الإستجابة الفورية دائماً لجميع طلباته وأوامره دون قيد أو شرط بل وإزالة أى قيد أو شرط فى طريقه ويسمع دائماً :«حاضر .. طيب .. من عنينه .. اللى أنت عاوزه هيجيلك» ولم يسمع "لا" أبداً , ويستعجل الأمور بقلق دائم , فحين يخرج إلى الدنيا ويجد فيها "لا" وأثنين وثلاثة وعشرة يصدم ولا يستطيع أن يتعامل , ويفاجئ بأنه غير قادر على تحمل المسئولية وغير قادر على الإعتماد على نفسه فى مواجهة تحديات الدنيا وصعوبات الحياة , وحين يتزوج يُحمل زوجته كافة المسئوليات دون أدنى مشاركة منه ! , وتكون النتيجة النهائية الغير متوقعه هى ببساطة معاناته وشعوره بإنه وحيداً متروكاً مكروهاً منبوذاً ! .
لكن كل هذه الأساليب كوم وغياب الأهل تماماً من حياة أبناءهم كوم أخر ؛ فعدم اهتمام الأهل بتشجيع أو معاتبة أو تدليل أو توجيه أبناءهم يجعل الأبناء أكثر عرضة للتأثير السلبى من المجتمع الخارجى , هذا فضلاً عن ترك الأبناء للأخرين من الناس ليقوموا هم بتربيتهم نيابة عنهم , فإن نتيجة هذا فى النهاية هى مفاجأة الأهل بأن أولادهم غرباء عنهم !! , وخلق فجوة سحيقة بينهم تؤدى إلى عدم التفاهم طوال العمر .
هذا بالإضافة إلى كثيراً من الممارسات التى لا تقل خطراً وخطورة أيضاً من تلك الأساليب الفاشلة فى التعامل مع الأبناء , كتمييز الأهل مثلاً وتفضيلهم لأحد من الأبناء على الأخر دون النظر إلى ما يتركه هذا فى نفس الأبن المنبوذ من غيرة وحقد ولجوء إلى العنف والعدوان تجاه الأبن المدلل وتجاه الأخرين , أو محاولة إدخال الأبناء فى المعارك والحروب الزوجية التى تضطر الأبن للإنحياز إلى أحد الطرفين لإرضاءه وأخذ موقف عدائى من الطرف الأخر وتشويه صورته فى عقله ووجدانه , ويورثه ذلك شعور كبير بعدم الأمان والأستقرار لأعتقاده إنه من الممكن أن يخسر أحد المهتمون به وبرعايته , وكلامنا هذا ليس معناه أننا ننكر الأثر الإجابى للخلافات الزوجة بالتأكيد , ولكن هذا عندما تكون مجرد خلافات وليست حروباً ومعارك ! , فنحن نؤمن بإن الخلافات العادية هذه تقوم بدور هام فى عرض صورة حقيقة للحياة الواقعية للأبناء وإعطاءهم خبرة فى التعامل مع مثل هذه الخلافات , هذا إذا دارت هذه الخلافات فى جو من الإحترام والحرية الطبيعة .
وهنا فى نهاية هذا الحديث عن تلك الأساليب الفاشلة التى يستخدمها الأهل فى التعامل مع الأبناء , نريد أن نؤكد على شيئ فى غاية الخطورة والأهمية وهو اختيار شريك الحياة وتأثير ذلك على الأبناء , وهو الأمر الذى يخص تعليم وتفهيم وتوجيه ومتابعة الأبن ؛ حيث أن هذا الشريك هو الشخص الذى يتأثر الأبناء بشخصيته ويأخذون منه طباعه وتصرفاته وسلوكه , فإن لم يكن اختياره دقيق فلا يلوم المرء إلا نفسه ! .
إذن من خلال كل ما سبق نستطيع أن نقول بكل أريحية أن كل هذه الأمور هى سبب معظم المشكلات التى يعانى منها الأباء والأبناء على السواء , والتى كما نقول ونؤكد ونكرر أن الأباء يحتلون فيها المرتبة الاولى وتقريباً الأخيرة فى المسئولية عنها !! .
لكننا فى النهاية لا نريد فقط أن نعقد الأمر دون البحث عن حلول لها , ولذلك لدينا معادلة بسيطة جداً لتحقيق تلك التربية السليمة التى تنتج لنا أناس ينيروا الدنيا وسط هذا الظلام والعتمة التى نحياه...
يتبع...
#عبد_السميع_جِميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟