|
التفسير التاريخي لظاهرة الايمان بالله
أحمد القبانجي
الحوار المتمدن-العدد: 3992 - 2013 / 2 / 3 - 15:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التفسير التاريخي لظاهرة الدين والاعتقاد بالله تقدمت به المدرسة الماركسية على أساس أن التفكير بوجود إله وراء الطبيعة معلول الانحطاط الاجتماعي والاقتصادي للشعوب الفقيرة. فمثل هذه الشعوب وبسبب الحرمان والفقر تحاول جبران هذا النقص بتخيل أن هناك قدرة عظيمة سوف تمدّ يد العون لها وتنقذها مما هي فيه سواء في هذه الحياة أو في حياة اخرى ينعدم فيها الألم والبؤس والحرمان ويعيش فيها الانسان حياة سعيدة خالية من المنغصات، ومن هنا سعى الحكام وأعوانهم الى ترسيخ هذه الافكار الخيالية في أذهان الطبيعة المحرومة على اساس انها دين الهي ليأمنوا ثورتهم عليهم وليشغلوهم عما هم فيه من المحنة ولهذا تحركوا لتحقيق هذا الهدف على مستوى الدعوة الى الزهد في الدنيا وتشجيع مظاهر الرهبنة والتقشّف والعزلة والعبادة وامثال ذلك.
المناقشة: وهذا التفسير بدوره لا يمثل دليلاً على المطلوب. بل هو تحليل اجتماعي وتاريخي قد يكون له بعض الصحة ولا يخلو من شواهد ومؤيدات على مستوى الواقع التاريخي من قبيل حكومة بني امية وبني العباس في الشرق الاسلامي وحكومة الكنيسة في القرون الوسطى في الغرب المسيحي حيث كانت مثل هذه الحكومات مصاديق لسوء الاستفادة من عقيدة الناس بالله وبالآخرة وتحكيم سلطتهم على رقاب الشعوب المضطهدة باسم الدين، ولكن مثل هذه الموارد لا تشكل دليلاً على أن الاعتقاد بالله أو الالتزام بالدين من بنات افكار الطبقة الحاكمة أو المحكومة وأنه لا يحكي عن واقع موضوعي خارج ذهن الانسان، فيبقى مثل هذا التفسير مجرد احتمال تنقصه الاثباتات العلمية القطعية ولا يمكنه أن يشكل دليلاً مقنعاً على أن الظاهرة محل البحث ليست لها حقيقة في دائرة الاثبات العلمي والفلسفي. مضافاً الى أن شواهد كثيرة تحكي عن وجود هذا الاعتقاد لدى بعض المتمولين وأبناء الطبقة الحاكمة مما لا يؤيد الفرض المذكور من أن الطبقة المحكومة والمحرومة فقط هي التي تخيلت مثل هذا الوهم لتجبر به حرمانها وبؤسها، أو أن الطبقة الحاكمة استغلت هذه العقيدة كأداة لتطويع الطبقة المحكومة أما ما نراه من توجّه غالبية الطبقة المحرومة للدين وغالبية الطبقة المتمولة للدنيا فهذا لا يعني صحة التفسير المذكور بل يمكن أن يقال أن أفراد الطبقة الحاكمة والمتمولة يتحركون غالباً في سلوكهم الفردي والاجتماعي من موقع المحافظة على مكانتهم الاجتماعية وتفوقهم على الاخرين مع ما يلازم ذلك من ظلم وتكالب على الماديات واحتفار للاكثرية المحكومة وبالنتيجة يتسبب مثل هذا السلوك اللا أخلاقي في ابتعادهم عن الفطرة السليمة ويورث محجوبيتهم عن الله تعالى بعكس الطبقة المحرومة التي يدفعها حرمانها الى الاتصال بالله اكثر والتوكل عليه وطلب المعونة منه. الخطأ الاساس في مثل هذه التفسيرات لظاهرة الدين والاعتقاد بالله هي أن كل واحد منها يفترض حصر العلّة في بعد واحد دون أن يجعل للفرضيات الاخرى سهم في تكوين هذه الظاهرة. فعلماء النفس يفترضون التفسير السيكولوجي هو المصيب دون غيره وكذلك علماء الاجتماع في تحليلهم السيولوجي والماركسية في تحليلها الطبقي والتاريخي. ولكن لو قلنا بأن كل هذه التفسيرات مجتمعة كفيلة بايجاد تفسير معقول لهذه الظاهرة وأن الاعتقاد بالله لدى الأفراد أما أن يكون وليد جهلهم بقوانين الطبيعة. أو لشعورهم النفسي بالضعف والفاقة. أو من تلقينات المحيط والثقافة وايحاء الاسرة والمدرسة، أو لعوامل وراثية ممتدة في الماضي البعيد كما هو الصحيح من انتقال العقائد ايضاً عن طريق الوراثة معقولاً في مقابل تفسير الالهيين لهذه الظاهرة. وببيان أوضح: إن الاعتقاد بوجود الله لدى الافراد كما يمكن أن يكون حقيقياً ويحكي عن وجود إله في الواقع كما هو مدعى الالهيين ونظريتهم في تفسير هذه الظاهرة، كذلك يمكن أن يكون بفعل ايحاءات الاسرة والمجتمع والعوامل النفسية والوراثية وامثال ذلك، وليس بالضرورة أن يكون الايمان بوجود الله لدى جميع الافراد على السوية من حيث المنشأ والمضمون ولذلك ورد قوله تعالى: (وما يؤمن اكثرهم بالله الاّ وهم مشركون) وعلى سبيل المثال فان ايمان الاطفال بالله لا يمكن أن يكون بمعزل عن المؤثرات النفسية والاجتماعية، وكذلك ايمان من يحكم باسم الدين في الغالب كخلفاء بني امية وبني العباس وأمثالهم، فالايمان بالله لدى هؤلاء يتوافق مع مصالحهم الدنيوية، ولا يعني هذا أنهم يدركون هذا المعنى، بل قد يكونون من المتحمّسين للدين والعقيدة واقعاً، ولكن اي دين، وأي إله؟ إنه الدين الذي يدعو الناس الى طاعة الحكام ويحرم الخروج عليهم.. والاله الذي فوّض اليهم الحكم وجعلهم نوّابه وخلفاءه في تقرير مصير الناس وسلّطهم عليهم.. وفي المقابل ليس كل منكر لوجود الله لا يعتقد بوجود الله على نحو الحقيقة، فاكثر المنكرين والملحدين يؤمنون بالله في سلوكهم العملي وإن انكروه بعقولهم وألسنتهم من حيث ما اُلقي في اذهانهم من أن الله له ابن وانه ثالث ثلاثة كما في الديانة المسيحية، أو أن له جسماً ويدين وعينين ويعاقب عباده على أدنى سهو وخطأ وقد فضل قوم بني اسرائيل وجعل سائر الناس مسخّرين لهم كما هي عقيدة اليهود بالله. أو أنه سلط حكام الجور على رؤوس الناس وأمرهم بطاعتهم وحرّم عليهم الخروج على هؤلاء الحكام وجعل من طاعتهم طاعته كما هو مذهب بعض الفرق الاسلامية. فالكافر بمثل هذا الاله ليس كافراً على نحو الحقيقة وإن ظهر منه ذلك، فالايمان ليس هو العقيدة الذهنية كما يراه الفلاسفة، بل هو عمل وسلوك وعواطف انسانية ومكارم اخلاقية ومثل نبيلة.
#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حقيقة الوحي
-
دور المرجعية في عصر الحداثة
-
العقلانية في الفقه
-
محاضرة العقلانية في عصر الحداثة
-
محاضرة العقلانية في الاخلاق
-
محاضرة اعرف نفسك
-
نقد الحر العاملي ومصنفاته
-
محاضرة كيف نعرف الدين الحق؟
-
محاضرة المنهج الهيرمنيوطيقي للمثقفين
-
محاضرة العقلانية في الشعائر والطقوس
-
القراءة المنسية ... مراجعة لنظرية «العلماء الأبرار» القراءة
...
-
نقد أحاديث تفسير القرآن
-
نقد الشيخ الصدوق وكتبه
-
نقد العلامة المحدث محمد باقر المجلسي
-
الشيخ الكليني وكتابه الكافي
-
القرن التاسع عشر وإستقلال علم النفس ... المدرسة التجريبية
-
الديمقراطية والمعنوية
-
قراءة في البلورالية الدينية او الصراطات المستقيمة
-
الايمان, السياسة, الحكومة
-
العلم الالهي وحرية الانسان
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|