|
دردشة عن الفراغ
سيومي خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3991 - 2013 / 2 / 2 - 22:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الكاتب : سيومي خليل دردشة عن الفراغ --------------------------------------------------------------------- لا أدري كيف أُعرف الفراغ ، فالتعريفات المعروفة جدا ، هي في الواقع مبتذلة جدا ،وجد ساذجة، ولا تعني إلا التوجه العام لمعرفة المفاهيم . تعريف الفراغ-مثلا - بأنه عدم الإشتغال بشيء معين ، ليس إلا تعريفا إقتصاديا ،أو عمليا للفراغ؛ تعريف بسيط لمفهوم جد معقد .
الفراغ احسه الآن ، رغم أني أشغل نفسي بأشياء كثيرة . الفراغ أحسه الآن ،لذا أوشك على الغثيان ... رواية الغثيان للفيسلوف جون بول سارتر لا شك أنها كانت نتيجة إحساسه بالفراغ ، الفراغ الوجودي أقصد، الإحساس بالعدمية كرقم بارز يفرض نفس .
لست عدميا ، لكني أحس بالفراغ والغثيان معا ؛ فما معنى كل هذه الأشياء التي يريدونها أن تكون ممتلئة في حياتنا ؟؟؟ ما معنى هذا السيل الجارف من الأحداث غير المترابطة ، وغير المفهومة ، والمتجهة حتما صوب اللامعنى ؟؟؟.
إني أكاد أصاب بالدوار ، كلما أردت أن أنفي الفراغ عن الوجود ، لأن الفراغ هنا هو فراغ المعنى لا فراغ الشكل ؛ألم يقل أرسطو أن الطبيعة تخشى الفراغ ، لكنه إمتلاء الشكل فقط ، أما المعنى فكله فراغ .
وأنا في المقهى كعادتي ،إنتابني إحساس لست معتادا عليه في شكله التام ، فأنا كنت أحسه كضياع المعنى فقط ، أما في شكله التام ، فله نفس عبارة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر *رمي في...* التي تعني أن لا حول ، ولا قوة ، للإنسان في عالم غريب عنه ...
إني أحسست بكل هذا بشكل فارغ ؛ إننا نعيش إمتلاء من الفراغ .
أحسست وأنا في المقهى بلا جدوى أي شيء ؛ لا جدوى أن تكون أنت أو غيرك لا جدوى أن تحب أو تعشق لا جدوى أن تتكلم أو تصمت لا جدوى أن تفعل الخير أو تفعل الشر ... كلمة لا جدوى غير معبرة إطلاقا عن الإحساس بالفراغ .
رأيت الإيمان وابتسمت ، رأيت الكفر وابتسمت ؛ ماجدوى أن تؤمن أو تكفر، والجميع يرون الأشياء من أوضاع جلوسهم المختلفة، تماما كأسطورة الفيل عن إدراك الحققية ؛ هل سنحاسب لأننا أخطانا معرفة الفيل ، أم لأننا فكرنا في تغيير أوضاع جلوسنا ؟؟؟
إنني أصيح داخلي هراء ... هراء أن تقذف في .. ويطلب منك في نفس الوقت الإستئناس بالقدف هراء أن تطالب بالثبات وقدماك تحت مرجل مشتعل هراء لذا أقول أنه وجب علينا الرقص ،يجب أن نرقص مع أنغام الأفكار ،لأنها هي الحل الوحيد لتحمل هذا الفراغ، هي وحدها التي تجعلك تقبل على المغادرة دون أن تلوح لأحد بالوداع ، فما معنى أن تلوح لمن لايرى أبدا؟؟؟ .
إن إحساسي في المقهى شبيه برمي عقب سيجارة على الأرض ، والوطأ عليه بالقدم ؛هكذا هو الفراغ الذي يملأ الوجود .
الوجود ليس أكثر من فضاعة مكرهين عليها .
وأنا أحس بالفراغ ، تدخل المقهى متسولة، لن أقول شيئا عن أوصافها ، يكفي أنها متسولة ،ونحن نعرف كيف يكون المتسولون في أوطاننا .
قلت في نفسي ؛ هذه المتسولة عنوان الفراغ ... لن أحس إتجاهها بالشفقة ، فعنوان الفراغ يجب ألا يقرأ ، لن أشفق حتى وإن كسر عنقها بدل قدمها المتورمة ؛ فما معنى أن توجد الصورة من الأصل ؟؟؟ وما معنى أن يقدم للصورة البائسة تبريرات دينية ساذجة ؟؟ وما معنى أن نضخم أنانا النرجسية بالشفقة على مثل هذه المتسولة ؟؟؟.
أسئلة هي الآخرى فارغة ؛ فالناس توقفوا عن السؤال ، فقد تعلموا مد أياديهم للأسفل .
أسئلة لن تمنحني عطفا على المتسولة ، إذن ما فائدتها ؟؟؟ فقط ليعلم الفراغ أننا لسنا كسالى مثله .
أريد أن أشير تحديدا للفراغ ، أفكر في وضع أصبعي على المكان الذي يختبئ فيه ، أريد أن أضع مجهرا لتوضيحه أكثر ... إلى ما سأشير يا ترى ؟؟؟.
من الممكن أن أشير إلى اختلاف الوجوه والمظاهر ، من الممكن أن أشير إلى تعدد الأديان والحقائق والأفكار ، يمكنني أن أشير أيضا الى تفاهة الإيمان و الكفر ، أيضا من الممكن ان أشير إلى تعدد الأرزاق ...يمكنني أن أشير الى أشياء كثيرة ، لكني في الواقع أفضل أن أشير إلى هناك حيث وجدت الجميع يشيرون إلى هناك لكن بمعنى الإمتلاء .
لن أنسى أني من أهدى الفراغ لجام التحكم في نفسي ؛ كيف كان ذلك ؟؟؟.
لقد وحدتني أول الأمر منسجما مع نفسي ، مطمئنا ، هادئا ، الآخرون هادئون أيضا ، ولا وجود للفراغ ،تماما كاستئناس الكرسي بوجوده المعدوم، ثم تحركت قليلا ،كتحرك الكرسي بسبب الفراغ على جوانبه ، هنا اكتشفت الفراغ بشكل أولي ، حرت ،كما حارى الكثيرون ، وكما فعلتم أيها القراء حين حرتم بدأت بالبحث عن وسائل تصريف حيرتي ، أنتم تعلمون هذه الوسائل أيها القراء -أذا كنتم لم تنقرضوا بعد - ربما منكم من توقف عند إحداها ، لكن لسوء حظي لم أتوقف عند وسيلة تصريف واحدة ،فكنت نهبا للفراغ ؛ لو جعلت الإيمان وسيلتي لتوقفت الحيرة ،لوجعلت الكفر لتوقفت الحيرة ، لو جعلت الإدمان ...لكني لم أختر شيئا من هذا ... هكذا كنت أمنح لجامي للفراغ .
أخاف أن يفهم القارئ الفراغ كما يحسه ، فهو سيكون صاحب الفر اغ وليس أنا ، واخاف أكثر أن تنمطني أيها القارئ ، فأنت سيمنع عني الفكرة الأساس التي أناقشها .
في المقهى كان الإحساس على شكل التالي ؛ ليست هناك إلا أشكال فقط ، هناك الكراسي، والجثث، وبعض الزهور ،ومقاعد من خشب رخيص ،ومرمدات فخارية ، الجثث كانت تحمل هواتفا نقالة ، وتنظر لدخان سجائرها ، وتلعب في حواسب محمولة ،أمامها كؤوس شاي وبعض من الحلوى ،الجثث تخرج أصواتا حين تريد أن تتواصل ،كما تخرج السيارات أصواتا ، وكما تخرج الكراسي أصواتا حين تحتك بالأرض ... هذا ما أسميه الفراغ ؛ الإمتلاء الكبير بالأشياء والخلو التام من المعنى .
كل من تحدث معي في المقهى ، ربما ، بل أكيد، أحس بالفراغ ، لكن بمعناه البسيط غير المركب ؛ لما كانوا كل يوم يجلسون في المقهى ؟؟؟ لما كانوا يعيدون نفس الأحاديث الفارغة ؟؟؟لما كانوا يخوضون نمنمة غبية ؟؟؟ لما كانوا يحدقون إلى بعض نظرات شك ؟؟؟ لما كانوا يحدقون في التلفزة ، وفي كؤوس القهوة التي يرتشفونها ، وفي دخان السجائر الذي يبتعد عنهم ، وفي مؤخرة فتاة بدينة ؟؟؟... إنهم كانوا يحسون الفراغ دون أن يعرفوا ذلك ، وفي أحسن الأحوال ، يحسون به حين يربطونه بالعمل .
حتى في أعمالهم ، وفي مشاريعهم ،وفي مسؤولياتهم العظيمة ، ألم يكونوا منذورين للتجسس في لحظات سهوهم ، أو لحظات تأملهم ،للفراغ الكبير الذي يملؤهم ، والذي يملأ العالم .
والمتدينون منهم ، ألم يعملوا على سد فتحة النظر إلى الفراغ بالإمتلاء الروحي ؟؟؟ لو فكروا قليلا لوجدوا الإمتلاء الروحي هو إقرار كبير بوجود الفراغ ، هو أحد تلك الوسائل الناجعة لنر أنفسنا بشكل مخالف على المرآة ، نرى أنفسنا في شكل جميل ، رائع ، ترتاح إليه الأعين ... ربما نجحوا في وسيلة هروبهم من الفراغ ، لكنها وسيلة لا تلغي الفراغ ، إنهم أنانيون لأنهم فكروا في وسائل ذاتية ، بدل تعليم الناس مواجهة الفراغ .
الآن ، أنا لا أخوض معركة ضد الفراغ، لأني لا أهوى الهرب ، ولا أفضل إستعمال وسيلة فرار ... أنا ، الآن ، في معركة من أجل التعايش مع الفراغ ؛ أتعايش معه وأنا مجد في عملي أتعايش معه وأنا أحب الحياة بلا كلل وبشكل يملأ الكيان أتعايش معه وأنا أخوض نضالات العيش الكريم أتعايش معه وقدماي على الأرض ورأسي أيضا ...
يجب أن أتعايش مع الوجود الفارغ كي يكون وجودي ممتلأ .
#سيومي_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشرعية التاريخية والديمقراطية وآخرى غيرها
-
تعلمك العتمة
-
الوجود أم الفكر أي تجاوز ممكن ؟؟؟
-
من يراهن على القمر ولا يحترق ؟؟؟
-
المحلي والكوني في كتابة العقد
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|