|
لغة النص المسرحي الاحتفالي بين ثقافة المحاكاة وثقافة الحكي
هاني أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 3985 - 2013 / 1 / 27 - 15:31
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
تمهيد : تباينت لغة التعبير ما بين فنون المحاكاة وفنون الحكي ، بين لغة الفعل الحاضر المتفاعل ، المشتبك بين إرادات بشرية في حالة صراع متنام في حيز من المكان والزمان – وفق نظرية المحاكاة – اعتماداً على لغة حوار يشف عن جوهر ما تشعر به الشخصيات المتصارعة ويصرح كما يلمح – في الآن نفسه – إلى جوهر إراداتها – كل على حدة – كما تنمي الحدث والشخصيات في آن واحد ؛ بغية المشاركة الوجدانية المتوحدة للجمهور المتلقي ، للنص أو لعرضه . أو بين لغة إعادة تصوير الفعل الماضي ، دون حرص الكاتب أو المبدع على خلق حالة اكتمال فني ، مع حرصه على خلق حالة اكتمال معرفي يميل إلى بناء الصورة لغة وأسلوباً على دعم الفعل الدرامي بأسبابه ودوافعه؛ وفق نظريتة الحكي . وما بين لغة الفعل الدرامي الحاضر المتفاعل الذي يقتضيها الأسلوب في نظرية المحاكاة تورية واستشفافاً ، أكثر منه تصريحاً ومباشرة في خلق إبداعي مكتمل اكتمالاً درامياً وفنياً ولغة إعادة تصوير الفعل الدرامي الذي مضى ؛ استنهاضاً لحالة التلقي المدرك في نظرية الحكي الدرامي السردي باللغة الكلامية أو باللغة غير الكلامية ، أو بهما معاً في نسيج حدث درامي مستعاد في قالب أسطورة أو حدوتة يعيد الكاتب الدرامي إنتاجها متوالدة مع ثقافة عصره ، دون أن تنفي هويته الوطنية والقومية ؛ تبرز أمام الكاتب الدرامي المسرحي ومن ثم أمام نقد إبداعه إشكالية ، لا تبتعد كثيراً عن ثنائية (الإرادة والاستطاعة) – حيث ضرورة تسلح كل من الكاتب وناقد إبداعه بالنظرية البيثقافية ، نظراً لطبيعة بناء المنظومة المعرفية في نصه أو إبداعه على نسج الأحداث بعد جدل خيوط ثقافته بخيوط الثقافة الأجنبية ، وبذلك يكون قد فعّل إضاءات تراثه بإشعاعات الفكر الحداثي، القائم على تعدد دلالات التعبير الواحد في خطاب النص الإبداعي ، هذا بالإضافة إلى إشكالية تداخل النسج المحاكي ذي الطبيعة التحاورية مع النسج الحاكي ذي الطبيعة السردية ؛ بين قدرة الكاتب على ابتكار أسلوب ممتع ومقنع في آن ، ومدى قابلية جمهور التلقي المعاصر لأسلوب كتابة ما اصطلح على تسميته في بلدان المغرب العربي (المغرب – تونس) بالمسرحية الاحتفالية ، التي ينفي كتابها في تنظيراتهم التي صدروا بها طبعات نصوصهم أو ذيّلوها ، أية علاقة لإبداعاتهم الدرامية بنظريتي (المحاكاة) و (الحكي) ؛ لذلك يقف هذا البحث وقفة تحليلية وتأملية نقدية لفكرة المسرح الاحتفالي وتجلياتها في النصوص المسرحية المغاربية العربية . ودوره في استعادة بلاغة الحكي السردي بوصفه أسلوب الكتابة الأدبية والتاريخية العربية ومدى توفيق كتاب تلك النصوص المسرحية الاحتفالية في التمسك بالهوية وإعادة إنتاجها متوالدة مع ثقافة العصر النافي للهوية متمسحا بشعارات العولمة .
المسرح في زمن الحكي: الحكي والمحاكاة وجهان لعملة واحدة هي : (التعبير) غير أن فن الحكي أقدم من فن المحاكاة، لأنه أكثر ميلاً إلى السكون منه إلى الحركة والتحريك ، وذلك لارتباطه بالصوت والكلمات أكثر من ارتباطه بالحركة أو بالتعبير الحركي، ولارتباطه الزمني بالماضي – ماضي الفعل ومستقبله – على العكس من المحاكاة التي ترتبط بالفعل الحاضر وحركة رد الفعل الحاضر وإن اتخذت من الماضي ما يظلل الفعل الحاضر أو يذيّله – يعقب عليه – ومن المستقبل ما يمهد للحاضر في تشوّفه للمأمول . أما قدم فن الحكي فهو موغل في تاريخ الشعوب بدءاً من المجتمع المشاعي الأول، القائم على فطرة التعبير ، دون حاجة إلى المداراة والمواربة ، عندما انقسم عالم المشاعية البدائية الذي اعتمد على الصيد توفيراً للطعام فكانت لقسم من رجاله القادرين حيلة العقل التي تمكّنهم من التغلب على الفرائس والحيوانات المتوحشة ، ولم تكن للقسم الآخر الأضعف من الرجال قوة البدن والقدرة على مواجهة أخطار الغابات والأحراش في سبيل مشاركة الآخرين الأقوياء في جلب الفرائس طعاماً للقبيلة فتدرّعوا بالخيال الذي وهبته الطبيعة لهم ، فراحوا في تفعيل خيالاتهم وإعمال الحكي عن خوارق زعموا أن رأوها أو شاركوا فيها – على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة – تعويضاً عن عجز بدني وتقاعس عن مواجهة عنيفة لم يؤهلوا لها؛ فنشأت في جلسات ما بعد طعام العشاء حكايات التعويض النفسي عند هؤلاء المخايلين ، لوناً من ألوان السمر ، والترفيه عن القبيلة ، بمحاكاة صامتة لمحاولة الصائد في اقتناص فريسته ، مصحوبة بشرح قولي وصفي ، موازٍ لحركة الصائد حركة الصيد ما بين الهجوم والهجوم المتبادل والمضاد وأصبح ذلك أول لون من ألوان الحكي الكلامي المصاحب للحكي التشكيلي : ( بالأداء الحركي الصامت : القنص) في عصور المشاع والقبلية. ثم استقل فن الحكي الكلامي ، عندما تمكن المخايل الحكّاء في تلك العصور الغابرة ، من نسج قصة ما عن بطولته الخارقة، استنقاذاً لنفسه من هجوم وحش كاسر باغته في رحلة صيده ، فإذا بحصان طائر له جناحان يهبط من السماء ويحط أمامه ، فيقفز فوق ظهره ؛ ليطير به متجاوزاً ذلك الوحش الكاسر . ثم يحط به الحصان الطائر في أرض العشيرة وكهوفها . هكذا استقل فن الحكي الكلامي عن فن الحكي التشكيلي (المحاكاة الصامتة) وأصبح فناً قائماً بذاته . ومن الملاحظ أن فن الحكي يلزم الحكّاء والمستمعين لحكيه بجلسة ليلية على أضواء نارٍ مشتعلةٍ تحيط بحلقة الحكي للإنارة من ناحية وللحماية من ناحية ثانية ، باعتبار الحكّاء يعيد سرد قصة يتباهى بها على الآخرين ، ويصنع من نفسه نداً وبطلاً يطاول أبطال صيد الوحوش والقنائص ، حتى لا ينتقص أحد منه. فالحكي عندئذٍ هو إعادة تصوير لفعل مضى – في تخييله وليس في الحقيقة الواقعية المعيشة-. ولقد قام الخيال والتخييل الصوتي في فن الحكي تصويراً ؛ مقام الحركة إلى جانب قيامه مقام القول. فالحكّاء يشخص بحكيه الحركة كما لو كانت ماثلة أمام عين الخيال عند السامع . وقد برع العرب في فن الحكي ، ومن يقرأ كتابي (الحيوان) و (البخلاء) للجاحظ و"مقابسات" (أبي حيان التوحيدي)( وحكايات الأصفهاني في كتاب الأغاني) وحكايات الإسكندري عند بديع الزمان الهمذاني في مقاماته أو حكايات أبي زيد في مقامات الحريري) يجد فن الحكي متوهجاً ومشعاً، بوصفه فن القص في عصور الأدب العربي الأولى في المقامات وفي (التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي وفي (رسالة الغفران) و(الصاهل والشاحج) للمعري . والأولى فن حكي في أتباع الشياطين وهم الشعراء .. فكل شاعر يتبع زوبعة شيطانية يبدع عن طريقها أو يستلهم شعره. أما الثانية فهي فن حكي عن رحلة (ابن القارح) الأديب الماكر المراوغ إلى العالم الآخر بعد موته، حيث لا تقبله جنة ولا تقبله نار – حسبما صوّره أبو العلاء المعري بعبقرية درامية وملحمية . ولأن العرب منذ أن انتظموا في مجتمعات وشكلوا منظومات مؤسساتية لدولة أو أمة ، حكّموا أمرهم لواحد منهم يختارونه ويمنحونه السمع والطاعة ، تلك التي أصبحت سنّة من سننهم الشرعية بالحديث النبوي "إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم عليكم " ؛ لذا تجد مسرحهم يحتفي بالراوي في مقابل الكورس عند اليونان فالراوي الفرد يتحكم في حياة الشخصيات المسرحية وفي موتهم في ظهورهم واختفائهم. فإذا كان الكورس تعبيراً عن جماعية الرأي العام في مجتمع الإغريق الديمقراطي، فقد كان الراوي تعبيراً فردياً في المسرح العربي عن فردية الرأي في المجتمع العربي الذي أُمر المسلمون فيه بأن يؤمّروا على رقابهم رجلاً واحداً له السمع والطاعة . يختارونه بالشورى ويذعنون لأمره . على أن الحكي وإن كان فعلاً فردياً في التعبير العربي ، فهو فعل جماعي في التعبير الأوروبي اليوناني القديم منذ ألفي عام ونيّف . فعل مشاكلة لفعل الطبيعة ، لأن الطبيعة لم تعط الإنسان الحذاء أو الدراجة ليسرع في سيره ولكنه اخترع وسيلة توظف فيها حركة تسريع سيره . إذاً ففن الحكي ، فن عربي أصيل . والعودة إلى توجه نحو التمسك بلون من ألوان التعبير عن الهوية في عصرٍ نافرٍ من الهويات ونافٍ للقوميات وثقافة الثبات والرسوب المدني والحضاري ، دور مطلوب ويجب الحرص عليه ، غير أنها ليست تلك الهوية التي نظّر لها فكر أرسطو عندما قال : (أنا هو أنا) ولكنها هوية (الأنا في وسط متغير) فأنا في طفولتي لست أنا في شبابي ولست أنا في كهولتي أو في شيخوختي . وأنا في مطالع 1952 لست أنا في عصر الانفتاح الاستهلاكي ولست أنا في عصر الترويض الثقافي الأمريكي الحالي للدول المتخلفة التي تحكمها العسكرتارية المزمنة . وإذا نظرنا لمجتمعنا منذ 1973 نجد الروح الفردية تسيطر على كل مناحي النشاط الاقتصادي، السياسي ، الديني ، الفكري ، الثقافي والفني . ولو توقفنا فيما يتعلق بالمسرح عند عرض مسرحية (مدرسة المشاغبين) سنجد كل ممثليها – الآن- نجوماً ، ولكل دور ما يكشف عن زعامة فنية متفردة تتفاعل مع غيرها – باستثناء الدور الذي لعبه أحمد زكي – عبقري التمثيل المصري – فإذا كان عصر الانفتاح ؛ نصب كل ممثل منهم نفسه زعيماً للتمثيل العربي في المسرح والسينما فهو كل شيء في المسرحية أو في الفيلم أو في المسلسل ومن حوله (السنّيدة) الممثلون جميعهم يخدّمون عليه– بطانته-. فإذا وقفنا عند فن الحكي الفردي قياساً على ظاهرة الزعامة الفردية في التمثيل التي يعلن الممثل النجم فيها أنه خاتم المسرحيين ، سنجد فنان الحكي مبدعاً حقيقياً، لأنه لا يستعين بغير قدراته وموهبته لذلك يُعد فناناً متفرداً لأنه يبدع دون بطانة، ودون إمكانات تأثيرية مصاحبة ، وهو بذلك يحقق تفرده بما له من مهارات ومقدرة فائقة على التشكل الإبداعي عبر أدوارٍ متعددة في الدوافع وفي العلاقات والمشاعر والصور . إن صحوة الحكي في ظل ظروف تشرذم الأنشطة في مجتمعنا العربي هي حصن وملاذ لفن الأداء الدرامي واحتماء أو ارتماء محمود في حضن الهوية الثقافية من ناحية ، وهي تفعيل لمهارات العزف المنفرد بالصوت والحركة الدرامية والجماهيرية في زمن الحكي عن أمجاد الماضي في عصر خلا من الأمجاد . وقد وعى كتاب المسرح الاحتفالي في بلدان المغرب العربي (المغرب – تونس) - على وجه الخصوص – تلك الحقيقة ، فحصّنوا كتاباتهم الدرامية بفنون الحكي في محاولة إعادة إنتاج الهوية الثقافية في نسيج مسرحي متفاعل مع متغيرات العصر . وقد تجسد ذلك الوعي الثقافي المتجدد في كتابات عز الدين المدني – تونس – وكتابات د.عبد الكريم برشيد – المغرب -. وهذا البحث محاولة للكشف عن إشكالية التداخل بين ثقافة الحكي الشرقية وثقافة المحاكاة الغربية ومدى قدرة النص المسرحي على التوفيق بين الهوية الثقافية العربية وتيار نفي الهوية فهو إذن دراسة بيثقافية. وسوف يركز البحث بالتحليل والنقد على نصين مسرحيين احتفاليين لعبد الكريم برشيد هما : (الحكواتي الأخير) و(امرؤ القيس في باريز) .
• الدلالة الإطارية لنص (الحكواتي الأخير) : كتبت هذه المسرحية بعد مرور سنوات علي أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وارتفاع شعار ما يعرف بالنظام العالمي قبل ذلك ،علي إثر سقوط الاتحاد السوفيتي و ظهور الكتابات التي تتحدث عن موت التاريخ ، خاصة كتاب (هننجتون) وفكرته عن صراع الحضارات . ويبدو أن هذا النص قد تأثر بذلك كله ، خاصة وأن الأحداث المتتابعة التي تلت ظهور تلك الكتابات والآراء بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية وانهيار المنظومة الاشتراكية من داخلها بفعل بنيتها البيروقراطية –من ناحية - والدفع الخارجي المكثف و ضراوته وفق سياسة (ريجان) – الرئيس الأمريكي السابق – من ناحية أخرى – من هنا استشعر المؤلف عبد الكريم برشيد أن استمراءنا للحكي غير المنقطع عن أمجاد ماضي أمتنا العربية لم يعد له محل من الإعراب في عصر تفكيك الأمم والإنسان ونقض الخطاب القومي وهدم خطاب الهوية، مما حدا به أن يحضنا علي وقف الحكي عن أمجاد الماضي ومن ثم ، دعا إلى أن نلقي بآخر فقرة حكي في آخر حكاية نحكيها في تمجيد ماضينا ، الذي نتحصن خلفه متشبثين بوسائلنا أو عناصر ثقافتنا التراثية ، وهو ما استشفه مصمم غلاف نص هذه المسرحية، حيث رسم الحكّاء (الراوي) قابعا وراء حواجز التراث التي تحول دون خروجه ومواجهة واقعه واستشراف مستقبله . وفي رأيي فإن كلا من عنوان النص ورسوم غلافه يتضافران معا علي تأكيد دلاله النص وحض خطابه لنا علي الكف عن اجترار أمجاد ماضي أمتنا التليد ،الذي مات بموت التاريخ السابق علي انهيار المنظومة الاشتراكية و عسكرة العولمة ووقوع العالم في قبضة اليمين الأمريكي المحافظ المؤتمر بأمر المنظمات الصهيونية . وبذلك أستطيع أن أقول : إن العنوان والغلاف كليهما يشكلان دلاله إطاريه خارجية تشي بمضمون خطاب النص.
* دلاله فضاء النص : من المعلوم أن فن الحكي هو الأكثر حميمية من فن التجسيد المحاكي للصفات الذاتية الداخلية والخارجية وفق نظام ستانسلافسكي الأدائي للتجسيد الإبداعي الذي يجعل الممثل مطية للشخصية التي يقوم بتجسيدها صوتا وحركه وباعثا وعلائق . فهي إلى جانب كونها طريقة احتفاء أكبر بالذات الداخلية للشخصية ، فإنها اقرب إلي ما اعتدناه من دفء المشاعر ، إلا أن الاحتفالية تقف منها موقف التباعد ، لأن الحكي فن نابع من الثقافة الشرقية ، لصيق بتاريخ ثقافتنا العربية. حيث التحام أطراف إرساله و تلقيه في احتضان حلقة الحكي للحاكي واقتراب أسلوب السرد من اتجاهات تعبيرنا في الكتابات التاريخية وفي فنون السير الشعبية من ناحية ، واستشعار المؤلف ( برشيد) بأن لغة الحكي بلغة السرد هي الأنسب في التعبير عن خطاب حضه لنا علي هجر الحكي عن الأمجاد ، والعمل علي تخليق لغة جديدة صالحة . وقادرة علي إيصال خطابنا المعاصر للعالم .
* التباس مفهوم الفضاء بين المكان والفعل : لاشك أن خواء الحيز المكاني من مظهر موجودات مادية تشغله أو تشغل جزءً منه يمنحه وصف الفضاء ، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة لخواء الحيز الزماني من المظاهر المادية للصوت - بصرف النظر عن فحوي ذلك الموجود - ذلك أن فحوي الموجود أو هويته ، التي لا تكتسب إلا عبر التشابك المتفاعل مع ما جاوره مجاورة أفقية أو مجاورة رأسية فنتج عن ذلك التفاعل المتشابك والمتناقض في وحدة ذلك الفضاء المكاني والزماني فضاء جديد ، تولد عن اشتباك مظاهر الفضائين المكاني والزماني. علي ذلك يمكن القول إن النص المسرحي من حيث هو تعبير في شكل تشابكت فيه المادة القولية أو الموازية لها بعضها بعضا في أفعال متعارضة و متصارعة في حيز الشكل ، قد اشتملت علي فضائين ، أحدهما يتمثل في الشكل الذي هو بمثابة الإطار الخارجي للمادة الفكرية ، أما الثاني فيتمثل فيما يقوله ظاهر النص و باطنه : (الأثر الدرامي والجمالي ودلالات المسكوت عنه . ولأن (الكلمة علي المسرح ليست في المقام الأول نصاً ، أي ليست شيئا يقرأ أو يفصح عن شيء ، بل هي لغة تسمع ولها رنين، وهذا يعني أن لها تأثيرا عند الاستخدام ) ولأنها (في ذلك تشبه الموسيقي والرقص ، فهي تحدث تأثيرا عند سماعها، وهي تتقدم الزمن . فمن الممكن تكرارها ويمكن تحويلها إلى أخرى ، وفق ذلك يمكن أن تحدث تأثيرا دون أن يكون لها نتيجة أو معني " ولأن النص المسرحي إبداع لا يكتمل إلا بعرضه علي جمهور لذلك يعد النص فضاء دراميا لفضاء العرض المسرحي فكما أن الفضاء المعماري لمنطقة العرض المجسد أو المشخص لنص مسرحي أو لتجربة مسرحية ، هو فضاء " يقف صامتا و فارغا وخاملا، وينتظر الانطلاق في حياة الدراما" لذلك " يجب غزو الفضاء بأي حجم أو شكل أو نسبة، كما يجب تسخيره وتغييره من قبل صناع الرسوم المتحركة قبل أن يصبح ما يسميه "مينج تشولي"ساحة تلتقي فيها أو تتصارع القيم والأخلاقيات والشجاعة والأمانة والإنسانية " ولقد أوجز شكسبير علي لسان (لورد باردولف) في أحد مشاهد مسرحية ( الملك هنري) مراحل تشكيل الفضاء تشكيلا معماريا وسينوجرافيا بلغة مباشرة : " لورد باردولف: حين ننوي البناء نمسح أولا المكان ثم نرسم النموذج وحين نري شكل المنزل نحسب تكاليف البناء وإذا ما وجدنا تكاليف البناء فوق طاقتنا ماذا نفعل سوي الرسم من جديد؟ " فهذا التوصيف الذي يوصفه (اللورد باردولف) في مشهد يصور مؤتمراً عسكرياً في (يورك) حول بناء منزل باسترتيجية الحرب يعد توصيفا سينوغرافيا يعبر عن فضائين: الأول : مكان خالٍ ، والثاني: دراسة جدوى لفضاء حربي. تقول باميلا هاورد : "الفضاء بالنسبة للمصمم المسرحي أن يبدأ بفهم النصوص ، التي سيتم تقديمها والاستجابة لها " . إن تشكيل الفضاء وإعادة تشكيل حجم الفضاء ،يستهدف ملاءمة المشهد ليصبح فضاءً تعبيرياً يشارك فيه الممثلون والقطع والأثاث ، بحيث تلتقي عين المشاهد بالمشهد التقاء حميمياً مباشراً ، فتتوثق الصلة بينهما . ومعني ذلك أن " الهيكل العاري للفضاء مهم جدا لأنه أول وسيلة من وسائل الاتصال المباشر بين المخرج والمصمم المسرحي عند بدء العمل معا " كذلك يوجد " ارتباط وثيق بين السينوغرافيا والهندسة المعمارية " فالفضاء إذن مكون حيوي من مكونات السينوغرافيا و الفن المسرحي .تقول باميلا : " بإضافة اللون والصورة والكلمات يصبح الفضاء مشحونا بالحياة و الحدث اللذين يلتقيان معا من خلال الخطاب المباشر والحوار مع الجمهور" فإذا كان النص المسرحي للعرض الذي يجهد السينوغرافي نفسه في "أن يتشمم ويستشعر الإمكانات المحتملة ، ويتخيل ما يمكن خلقه من داخل الفضاء نفسه " فلابد أن يدرس إمكانات النص دراسة تحليليه والإمساك بمستويات الحضور المكاني وعناصر تجسداتها المرئية ولاستكشاف مناط استجاباته لها حتى يعمل خياله في تحويل المسرح من مجرد مكان نذهب إليه إلى مكان نذهب من خلاله . ذلك أن النص المسرحي بوصفه فضاء معماريا دراميا فإنه بحكم عدم امتلاكه لكل إمكانات تحقيق الأثر الدرامي والجمالي بداخله، لذلك يحتاج بوصفه أدباً ( نصاً مسرحياً أو سيناريو حركيا ) إلى فنون أخري مثل التمثيل ، السينوغرافيا ، وفنون الموسيقي وغيرها تقول باميلا هاورد: " كل فضاء معماري له طلباته الخاصة ، ولكن لا يوجد فضاء يمتلك كل إمكاناته في داخله ، وكل عرض جيد التجهيز وجميل إذا ما نظرت إليه وغير جميل عند عرضه بإمكانه اختراق مكان عادي وليكن ديناميكيا و مثيراً، كأي عمل آخر تم تقديمه في فضاء مخصص لإقامة العروض عليه " فما هي يا تري لحظات الحضور المكاني وتجسداتها المرئية في فضاء نص (الحكواتي الأخير) أو فضاء نص (امرؤ القيس في باريز)
*الحكواتي الأخير ودلالة الفضاء : إن مفتاح دلالة فضاء النص في الإهداء الذي صدّر به المؤلف نصه هذا " إلى كل الحكاوتيين المجانين بعشق الحقيقة ، إلى أخوتي أحفاد شهرزاد . ضحايا سيف السياف وسوط الجلاد. إلى المتكلمين من زمن منع الكلام وإلى المفكرين في زمن منع التفكير ، والي المختلفين المخالفين في هذا الزمن الصعب ، زمن منع الاختلاف الحكيم" برشيد هنا يخاطب المعارضين بالحكي وبالفكر حضاً ووسيلة للمراوغة أو للمكاشفة والمواجهة حماية للنفس في زمن التسلط فإن الفضاء الدلالي المستشف عنه في النص يتمحور حول علاقة الحاكم بالمحكوم لذا فإن دلالته سياسية حيث غياب الحريات في فضاء البلاد ، من ذلك يمكن استشفاف الناقد للانتماء الأسلوبي للنص من حيث دور الفكر فيه ومن حيث المضامين ، و لأن إطار ذلك الفضاء من حيث الدراما هو إطار الحكواتي استلهاماً من تراث الحكي العربي ، الذي عرفناه في مقامات بديع الزمان الهمذاني ، ومقامات الحريري ، ومن مقابسات أبي حيان التوحيدي ، وحكايات البخلاء ، والحيوان الجاحظية ، وكتاب الأغاني للأصفهاني وإبداعات الأدب الحكائي التي تبعث مسارات روائع الحكي في العصر العباسي بدءاً من القرنين الثاني متواصلاً مع الثالث والرابع . لذلك فإن مسارات معمار فضاء العرض تحدد خطواتها في اتجاه الأداء التشخيصي ، الصوتي ، الذي يقف موقفاً نقدياً من الحدث الذي يحكيه من خارج إطاره .
* السرد بين المؤلف و المؤلف الضمني : لأن فضاء الإهداء يشي بدلالة خطاب النص الإطاري من حيث كونه يتخذ شكل الرسالة التي يوجهها المؤلف عبر فن الحكي ، لذلك فإن فضاءه اللغوي يتخذ مسار السرد بين المؤلف بوصفه صاحب الرسالة والمؤلف الضمني: وسيطه الحامل لعبء تحقيق فضاء الإتصال بين مضامينها المتعدده بتعدد مواقف الحكي و تعدد الأزمنة و تخلخلها . وسواء أكان الوسيط (المؤلف الضمني ) بشراً أم كان مجرد دمية ، فإننا أمام وسط قصر الفعل فيه علي الدمي وعلي أشباه الدمي ... يقول باربود Barbaud ( 1804 ) " إن أحد فوائد التقنية في الشكل الرسائلي ، بالإضافة إلي جدته ، أن الرسائل ، علي نقيض السرد ، تستخدم صيغة المضارع محدثة في القراء ، بناء علي ذلك إحساساً بالانهماك المباشر و التوقع ، يجعل العمل درامياً مادامت جميع الشخصيات تتكلم شخصياً " ويقول د.أبو الحسن سلام " دراميات السرد بالحكي في قالب تمثيلي ، تعتمد علي السارد الثالث في تحليله للنظرات الداخلية للشخصيات التي ينسجها في حكاياته الدرامية بأسلوب الترتيب الزمني القائم علي الاحتمال وليس علي الضرورة ، وذلك بنقل عقدة الحكاية ومناطق اهتمامها للجمهور" . والسارد الثالث قائم في النص السردي حيث " يشير الكاتب إلي جميع الشخصيات بصيغة الشخص الثالث ، ويمكن أن تتضمن هذه الفئة سرداً بوساطة المؤلف ، ولكنها تشير عموماً إلي سرد لا إشارة فيه إلي "أنا" الذي يكتب وهذا بالمعني الأخير يدعى سرداً تصويرياً . ويري د.أبو الحسن سلام : أن " الحكي والمحاكاة وجهان لعملة واحدة هي ( التعبير ) " غير أن فن الحكي أقدم من فن المحاكاة أنه اكثر ميلاً للسكون منه إلي الحركة و التحريك ، وذلك لارتباطه بالصوت والكلمات أكثر منه ارتباطاً بالحركة أو بالتعبير الحركي ، وارتباطه بالماضي – ماضي الفعل ومستقبله – علي العكس من المحاكاة التي ترتبط بالفعل الحاضر وحركة رد الفعل الحاضر ، وإن اتخذت من الماضي ما يظلل الفعل الحاضر أو يذيله – يعقب عليه – ومن المستقبل ما يمهد للحاضر في تشوقه للمأمول. ولما كان السارد الثالث هو المؤلف الضمني الذي يتحمل مشاق رحلة سرد الحكاية سرداً تمثيلياً ، حاملاً بداخله كل شخصيات حكايته ، لذلك فإنه يتحمل ضمنياً رحلة كل منهما في طريق رحلته، لذلك يقف د.عبد الرحمن بن زيدان عند مقطع من حكي الحكواتي (نور الدين ) : " أنا الحكواتي . رجل منكم ، ومن هذا الزمان ، ولكني أملك أن أرحل بعيداً ، وأن أعايش كل المخلوقات ، وأن أساكن كل الناس ، وكل الأزمنة وأدعوكم لأن تركبوا معي بساط الريح " ليدلل علي سكن شخصيات الحكواتي ( نور الدين ) بداخله ، محمولة علي أنفاسه فيقول : " إن مسار تعدد الأنفاس و تكونها واشتغالها باللغة هو في حقيقته تعدد في أزمنة الرحلة في حياة كل شخصية حكواتية احتفالية وهو سفر بين أصالة فن في طريق الزوال ، وحضارة معاصرة هي في طريق التكون ، وبين الزمنين تحضر " أنا " الحكواتي صوتاً درامياً يريد أن يحيط بكل وظائف الحكي ليحيط بمهام الحكواتي الذي هو الكاتب نفسه صانع الأحلام والأوهام والكلمات والحوارات والجمال بوظائفه الجديدة يريد أن يكون معاصراً بإبداعه حين يربط الماضي بالحاضر." علي عكس ذلك يمكن القول إن محاولات برشيد هي محاولات لاستعادة التراث في عملية وجود حية تبرهن دائماً عن روح العصر " بتثمير تقاليد الفرجة المسرحية في الأبنية الثقافية القومية بتجلياتها الأنثروبولوجية والإثنوغرافية والاجتماعية و الدلالية الرمزية لمعني الثقافة الاتصالي لدي الجماعات البشرية " ويتمثل تثمير تقاليد الفرجة المسرحية العربية أو ما يتمثل في افتتاحية نص (الحكواتي الأخير) شأن كل دراما شعبية عربية بالبسملة والتثنية والصلاة علي النبي ، غناء يسترشد بنقرات الدف : " رضيت بما قسم الله لي وفوضت أمري إلي خالقي كما أحسن الله فيما مضي كذلك يصلح فيما مضي "
ومثل هذا التقليد يتأصل بالمقدمة الدرامية في مسرحيات الخيال ( بابات ابن دانيال ) ويتمثل في مسرحية الظاهر بيبرس ) : سلام علي السادة الحاضرين سلام المشوق الكئيب الحزين ومن قبل رقصي بها الخيال ومن قبل أن أبتدي بالمقال أعظم رب العلا ذا الجلال إلهي تعالي علي الظالمين ومن بعد هذا أصلي علي النبي الذي جانا بالهدي وندعو لسلطاننا بالبقا وبالنصر والفتح والإرتقا فلولاه ما زال عنّا السقا فذاك المطاع القوي الأمين
لم يختلف الشكل في التقديمة الدرامية بين ( الحكواتي الأخير ) والحكواتي المخايل القديم من حيث تعظيم الإله بداية والتثنية بالصلاة علي النبي . ولكن المضمون في ثالث ثلاثية التعظيم في مقدمة ( البابة) والمسرحية التي تستعيد شكل مقدمتها الدرامية ، يناقض عند "برشيد" خطاب الاستكانة للحاكم ، ولكنه إذ يعلن ويقر بالطاعة لله والنبي، ويتخذ موقفاً ناقضاً لخطاب المنظومة السياسية للسلطة السياسية في مجتمعها العربي ، دون مباشرة ، لأنه علي النقيض من إعلان الحكواتي لطاعة الحاكم و التذلل المنظوم له ، فإن الحكواتي المعاصر عند برشيد ناقد لسلبيات الحكم ، ولممارساته ضد الطبيعة وضد المجتمع و ناسه ، دون أن يستبدل طاعة الله بطاعة الحاكم ، أو لم يقرنهما معا .
• الدلالة الضمنية للناقد : من الكتابة الإبداعية ما يفترض فيها الكاتب وجود ناقد ضمني مفترض هو أول متلق لعمله الإبداعي، لذا يحرص الكاتب علي اجتياز ملاحظاته النقدية ، وذلك توجه تثمنه نظرية التلقي . كما أن المسرح القائم علي الإيهام،يتأسس علي عقد اتفاق بين العرض و جمهوره–بتعبير ألفريد فرج – ويتمثل ذلك الاتفاق في التقدمية السردية الدرامية التي يمهد فيها الحكواتي لحكايته : " أنا الحكواتي ، وأجمل كل الأيام حكاية ، وأبلغ كل الحكايا أكثر امتلاء بالخيال والمحال. حكاية لها بطل وأحداث ، ولها تحولات ولها بدء وختام وبها صور بكل الألوان ، ولها كلام يتبع الكلام . كلام يمكن أن يكون بكل اللغات ، وأن يقرأ بكل القراءات. وأغرب كل هذه الأيام الغريبة حكاية ، وأتعسها أيضا حكاية.. وأنا ..تريدون معرفتي أكثر ؟ أنا آخر الحكواتيين ... اسمي نور الدين واسم أبي محي الدين واسم جدي شرف الدين واسم جدنا الأكبر معز الدين ، وهنا في هذا المكان ،كان أبي يقف ، وأنا بجانبه .يرفع عكازه إلى السماء يلوح به في جميع الجهات وكأنه سيف يقول: أنا ابن ذي يزن من فرع ذي يمين. ملكت من حد صنعاء إلى عدن .لقد طل يتحدث أعواما طويلة ، والناس يستمعون ، وكانت الساعة تمضي بطيئة والنفوس هادئة ومطمئنة.حدثهم عن سيف بن ذي يزن زعن عنتره العبسي وعن الظاهر بيبرس وعن حمزه العرب وعن ذات الهمة وعن دليله المحتاله وعن الزيبق وعن تغريبه بني هلال. نعم أنا آخر الحكواتيين ، وهذه الليلة هي آخر ليالي الحكي " يتحدد أسلوب الحكي علي لسان الحكواتي . إذا هو عرض تقليدي لحكايته متوارثة عن الأجداد المتبعين أو الاتباعيين لدين الإسلام فكلهم في خدمه الإسلام : هو نور الدين وأبوه محي الدين وجده شرفـه ، وجدهم الأكبر معزّه . والعائلة كلها رهنت نفسها لخدمه الدين والتراث البطولي لشخصيات لها تاريخ جهادي في سبيل حماية القبيلة والدفاع عن الأرض التي ارتفعت عليها راية العرب باسم الدين . والحكواتي يفترض وجود ناقد افتراضي يبادره بتحديد أسلوب حكيه وموضوعه ، كما لو كان رقيبا علي ما سوف يقدمه للناس، فهو المؤلف نفسه رقيب علي إبداعه من ذات نفسه ، بذرت فيه بذرة الرقابة الجمعية . وهذا الاستهلال السردي هو بمثابة توطئة للاتفاق بين المؤلف والناقد الجمعي الضمني ، الذي يتعهد فيه الطرف الأول ( المؤلف / الحكواتي ) والثاني هو (المؤلف / الناقد الضمني). • دلالة لغة الأيقونة ولغة الميتاتياتر : ولكسر حدة المباشرة السردية ، يلجأ المؤلف (برشيد) إلى عناصر تراثيه من جنس عناصر بنايته التراثية الدرامية المستعادة: "أهم أشكال الحيل الفنية التي وظفها برشيد في كتابة هذا النص المسرحي هي توظيف الأجواء الكرنفالية الحية في الاحتفال لتخليص خطابه من كل مباشرة فاقعة ، وإعطاء هذه الكرنفالية مقومات فنية أساسها إحضار الدمية في اللعبة المسرحية بفرجة الأقنعة والدمي وعروس من قصب وهي حيل أعطت ملامح جمالية وغرو تيسيكيه حافلة بالإيحاءات والتقاطعات بين الواقع والأسطوري والخيالي والواقعي" يشير إلى عروسة من قصب يخرجها من الصندوق" وهو إلى جانب ذلك يتوجه إلى وعي الجمهور ، سلباً لشبهة الإيهام ، ففي تصعلكه بداخل سوق النساء في حكاية (سوق النساء) فهو يحكي المعلومة ،ثم يبطل عملها في حاضر جمهوره : "كيد النسا كيادين من كيدهم جيت هارب يتحزموا باللفاع و يتخللوا بالعقارب "
ورفعاً لأي التباس ،كيفما كان ، فإني أقول إن هذا كان قديما . أي نعم . عندما كانت القردة تنطق ، وكان الديك الفصيح يصيح ، وكان عباد الله يسافرون علي بساط الريح . والآن انقلبت العصور يا عباد الرحمان وجد في الأمر أموراً ، وأصبح التميز بين الرجل والمرأة شيئا عسيرا بل مستحيلا يا عباد الله " إن توظيف الصور والدمى ، وإن كان توظيفا سيمولوجيا ، إلا انه ذو غرض (ميتاتياتري: درامي شارح ) يقول د.هاني أبو الحسن : "بما أن العلامة الأيقونية هي العلامة التي تحاكي أو تعكس معناها في شكلها مثل الصورة الفوتوغرافية ، فهي ورقة مطبوعة تحيل إلى شكل ما عن طريق محاكاة مظهره الخارجي " فإن أول علامة في مسرحية هاملت تتطابق مع هذا التعريف هي ( الشبح ) فهو صورة مجسدة تجسيداً نورانياً أو شبه نوراني للملك القتيل والد هاملت . وهو يقوم نيابة عن أبيه الذي اغتيل بالإخبار عن حقيقة موته غيلة بيد أخيه الذي يجلس علي العرش ويمتطي سرير زوجته بما يخالف شرع السماء في معتقد بلاد الدانمرك . " والصورة التي يخرجها الحكواتي (نور الدين) وكذلك الدمية كلاهما علامة أيقونية تعكس معناها في صورتها التي هي عليها فهي مجرد ورقة مرسومة أو شكل امرأة غير أن الحكواتي إذ يعطيها صفتها ويحدد لجمهوره كنيتها و دورها في حكايته ، إنما يحيلها عندئذ إلى علامة ميتاتياترية (درامية شارحة) ، بديلة لشخصية امرأة ، كان مفترضاً حضورها ، غير أنه استبدل حضور الأصل بحضور صورته . وهكذا يمكن القول : إن برشيد قد وفق في إعادة إنتاج الفضاء التراثي في فضاء حداثي حيث التراث ذاته يعيد إنتاج نفسه في حاضر معيش عبر الحكي
* "امرؤ القيس في باريز" وصيد التراث بشبكة الحداثة : "برشيد " يفترض ظهور امرؤ القيس في ظروف عصرية مغايرة كل المغايرة للظروف التراثية ، من هنا تتغير ثقافته و من ثم أفعاله . لسوف تصبح ذاتا تراثية في حالة توالد حداثي مستمر . فهي تعيش ضرورات التجدد بتغير الوسط الثقافي والحضاري . فالمسرحية ترسم صورة لنقض فكرة الهوية وفق المحددات الأرسطية التي رأت الـ (أنا) هي الـ ( أنا ) في جميع الأحوال دون التفات للعلاقة المتغيرة . من هنا كان رسم برشيد لشخصية امرؤ القيس رسما ذا ملامح وجودية مادية - وفق سارتر - وجودية الـ ( أنا ) والـ ( آخر ) في ظل علاقات متفاعلة قائمة علي حرية الأنا في التزامها بحرية الآخر . غير أن الآخر هنا ليس ذاتاً بل هو العصر بكل معطياته . امرؤ القيس هنا رمز للتمرد القديم الحديث المتجدد أبداً رمز لمأساة أمه " تعيش الماضي في الحاضر والتخلف في التقدم والتفتح في الانغلاق " بتعبير برشيد نفسه – هذه المسرحية احتفال كما يقول برشيد " هذا الاحتفال المسرحي هو تشريح في جوهره ، إنه كشف للواقع العربي و تعريته سواء في علاقته بذاته أو بغيره ، أنه تشريح مؤلم حقاً لأنه أولاً : يتم بأدوات حادة ولأنه – ثانياً لا يكشف فنياً إلا عما يحزن ويؤلم . والتشريح بآلات حادة ونتائجه المحزنة والمؤلمة ، يحيل الأسلوب إلي مسرح القسوة كما عرف عند ألفرد جاري وأرتو غير أن برشيد هنا لا يهدف إلي ما يهدف إليه مسرح القسوة من حيث تشريح الذات و إيلامها بغية امتلاكها لواقع حالها بعد التخلص من مكبوتاتها ، و إنما هدفه امتلاك الأمة نفسها للقوانين التي تحرك الواقع المغاير الذي تعيش فيه ، بعد تخليها عن قوانين واقع الأجداد التاريخي . وإذا كانت قيمة الإبداع ، لا تقف عن كشف الواقع ولا كشف المظاهر الماضوية في الحاضر ، بقدر استشفاف المستقبل ، اكتشاف المحتمل ، لذلك يخرج برشيد نصه هذا من حالة تشريح ما هو (كائن وحادث إلي استشراف ما سوف يكون وما سوف يحدث) .
* دلالة عنوان المسرحية : يري المؤلف أن باريس تختزل العالم كله "داخل فضاء مكاني وزماني واحد " فهي فضاء مفتوح علي العالم يأتيه الناس من كل فج للسياحة وللبحث وللمعيشة وللنضال وطلب المال وطلب اللذة وللهروب ولطلب الأمان، ولأنها كلعبة اللذة التي يحج إليها أثرياء العرب والصعاليك . ففي باريس التي تكشف عنها هذه المسرحية الاحتفالية تحتشد نماذج متباينة لشخصيات عربية مصرية وإفريقية محملة بكبتها وشعاراتها الممجدة للقمع والكبت والقهر والاضطهاد والنفي واغتصاب الكرامة والأرض والرأي والصبر ؛ لذلك تجتمع في هذا الاحتفال المسرحي كل النماذج العربية التي لا تجتمع إلا خارج أوطانها بعيدا عن القيود النظامية وآلات إرهابها الفكرية والمادية . وأي مكان يمكن أن يسعها سوي باريز " في باريس يلتقي امرؤ القيس وأيوب الفلاح ومثل هذا اللقاء لا يمكن أن يتم إلا خارج البلد ، أما هناك فكل واحد في مكانه ومركزه ، القصر قصر والخيمة خيمة وتبقي قائمة بينهما بحور وحبال وأنهار ومسيرة أجيال وأجيال " العنوان إذن دال علي محتوي النص المسرحي وفضاءاته ، فمجرد ذكر باريس يوحي بالتحرير والانطلاق وامتلاك الذات للإرادة والانفلات من قيود العادة ، والربط بين باريس وامرؤ القيس ، هو ربط بين متمرد من قاع تاريخ العرب وتمرد مدينه العالم متمثلة في مدينة واحدة هي باريس مدينة مجتمع الأضداد ، التي يعرفها الذين جاءوها فبل مجيئهم ، فكل منهم يحمل باريسه بداخله ، حملها امرؤ القيس ذاته ، قبل أن يأتيها بحثاً عن الحياة فلا يجد سوي الموت ، لأنه أتي إليها وماضيه يسكنه إنه يعيش مدنيتها بعقليته الماضوية. لاشك أن دلالة العنوان تشف عن فضاء مضمون النص لأنه يجمع نقيضين في وحده .
* دلاله رسم الغلاف : الغلاف محمل بالدلالة علي دائرية الأسلوب و دائرية المضمون ، كتله ضخمه متماسكة ، لا هي جذع شجره تراثيه ولا هي هيكل إنساني تراثي فارد لذراعيه المقيدة من يمين بحرف (الهاء) من كلمه (هو) ومن يسار بحرف (الهاء) معكوسة حيث (الهاء) من اليسار وتليها (الواو) لتشكل مقلوب كلمه (هو) مع امتداد حرفي الواو من يمين ومن يسار ليشتبكا أمام صدر الهيكل التراثي ، المعدوم الرأس. ودلاله هذا التكوين في تشكيل فضاء الغلاف تكشف عن قيد الهوية الماضوية حيث الآخر (هو) يكبل (الأنا) وبنفي إرادتها : حيث دلاله غياب الرأس. وبذلك يتواصل تصميم الغلاف (قضاؤه)مع فضاء مقدمة الكاتب نفسه لنصه ، حيث (الأنا) لا تصنع ذاتها منفردة ولكن الآخرين يصنعونها أيضا : " الإنسان علامة يصنعه الآخرون أكثر مما يصنع نفسه " . وهكذا كان حال امرئ القيس .
* دلاله فضاء النص : يأتي امرؤ القيس إلى باريس بعقلية البدوي وثقافة الصحراء فهو يخرج من إحدى حاناتها حافياً وحذاءه في يده ، يسير هائماً في أحد شوارعها المضاءة بالمصابيح الكهربية ، وليس في رأسه سوي صور من واقعه الثقافي الذي توقف به الزمن عند إحدى محطات العصور الوسطي ، فليس في رأسه سوى المحظيات والجواري . يأتيها دون أن يكون راضيا عن مظهر حضوره إليها، فثقافة الغزو والإغارة تشعشع في رأسه ، فيفكر في غزو باريس وفتحها بالقوة عندما سيجيئها في المرة القادمة : " أنا امرؤ القيس وأنت باريز ، حرت كيف اسميك وأناديك محظيتي أو مولاتي ؟ إني أفكر في أن أعود إليك يوما. أعود في جيش كبير وأدخل أرضك هذه فاتحاً غازياً منتصراً " ولا يبتعد المؤلف في هذا النص أيضا عن توجيه خطابه إلى الآخر الضمني. وهو هنا المجرد (باريز) وهو هنا لم يتخل عن ثقافة الغزو– ثقافة الفتح - وإن كانت تلك الثقافة في عصور الإسلام الأولى متدرعة بالدعوة أو بشعار الدعوة للدين الجديد ، إلا أن إرادة قهر الآخر هنا (في المسرحية) – قهر المدنية ؛ هي قهر ثقافـة الصحراء لثقافة الماء والإنماء – بتعبير ابن خلدون في مقدمته - عارية من أي شعار ، فهي ثقافة خواء . ثقافة هدم وإفناء : " امرؤ القيس : أعود في جيش كبير وأدخل أرضك هذه فاتحا غازيا. منتصرا " وهل وراء الجيش سوى الدمار والخراب وسفك الدماء ، فمن أجل ماذا؟ لا دين ولا فكر ولا شي سوي إذلال الآخر ، وما الآخر هنا – في مدينة مثل باريس - سوي (النور ، الفكر ، الحرية، العلم، الصوت الآخر ، الفن ) فإذا وجهت تلك الحياة بجيش غاز قاهر فماذا سيكون مآلها ؟ سيعم الظلام والجهل والاستبداد والقهر ستعود باريز بثقافة ذلك البدوي المسلح بثقافته الماضوية إلى فضاء عصور الظلام . هذا هو مغزى عبارته . ولأن النص يستهدف التنوير، لذلك فهو يطرح ثقافة الماضوية علي لسان مخمور وسريعا ما يجعله يسترد وعيه إ ذ يتقنع المؤلف نفسه خلف لسان وعي امرؤ القيس نفسه في لحظه وعي، فيجعله ينقض ثقافة الصحراء التي آمن بها (الملك حجر) أبوه حيث يوجه إليه اللوم إذا يستحضره وهو غائب . ثم يقفز قفزة سريعة في حديثه إذ ينقله إلى مجرد آخر ضمني هو باريز : " (يضحك في سخرية) مسكين أنت أيها الشيخ .. آفة أبي يا مولاتي أنه قارئ مدمن للكتب الصفراء . حدثته عن أشياء وأشياء فصدقها ... آه لو كان بإمكانه الآن أن يراني، يري امرأ القيس ابنه وقد أصبح مفتوحا ومنهزما. أنا ذات مشرعة للرياح الأربع ، ذات أنا من غير باب ولا نوافذ لتدخل الرياح كيف شاءت ، أهلا بها وسهلا " يكشف فضاء النص الحواري عن الذات الجمعية عن الـ(نحن) وليس (أنا) نحن العرب –الأمة – التي أدمنت الإغارة والغزو في مجتمعها القلبي قبل الإسلام ، وتحت راية الدين الجديد فتحت العالم القديم وأخضعته للإسلام، غير أنها الآن ليست هي ، وهنا نعود إلى دلالة رسم الغلاف (هو) في وضعها المنطقي المقروء ، و(هو) وفي وضعها المعكوس غير المقروء ، ليدعم دلالة النص الحواري، حيث أصبح الغازي العربي ذاتاًَ جمعية مستباحة لكل أجنبي ، أصبحنا أمة مفتوحة بدون فاتحين مهزومة بدون معارك. الهوامش :
#هاني_أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جماليات المؤثر الصوتي في إخراج الدراما الإذاعية
-
تقنيات الممثل وتحليل دور مسرحي - أنتيجوني -
-
أنظر حولك في غضب
-
يوليوس قيصر بين النص والتصور الإطاري للعرض المسرحي
-
دلالة اللقطة الأولي بين التكثيف والجمالية
-
لغة الصورة في الإعداد الدرامي بين المسرح وفنون الشاشة
-
-برشيد- يرى أمرئ القيس في باريس
-
سوق المسرح
-
الإعداد الدرامي وفنون الشاشة
-
المسرح الاحتفالي وثقافة الحكي
-
نصوص مسرحية جديدة في بؤرة التحليل
-
تحليل الصورة الدرامية بين السيناريو وإخراجه تليفزيونيا
-
المحبظاتي كليب -عرض في الحكي المسرحي -
-
أمرؤ القيس في باريس والحكواتي الأخير .. في احتفالية (عبد الك
...
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|