|
المراقب المثالي والصراع السوري
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3981 - 2013 / 1 / 23 - 15:37
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لنفترض مراقبا أو فريقا من مراقبين سوريين، مطلعين ونزهاء، يتباحثون في كيفية الخروج ببلدهم من محنته الراهنة. لنفترض أن لدى المراقب، فردا أو فريقا، المعلومات الضرورية عن سير الأوضاع السورية منذ منتصف آذار 2011، وأنه على اطلاع معقول على جملة التطورات التي أدرجت تحت اسم "الربيع العربي"، وأنه مطلع بقدر ما على تاريخ سورية المعاصر وتكوين المجتمع السوري. ولنفترض أخيرا أن هذا الفرد أو الفريق ليس منحازا في الصراع السوري، وأنه وضع بين قوسين ما يقوله أي من فرقاء الصراع، ويريد أن يتوقف نزيف الدم والخراب في البلد، وأن يعاد بناء الحياة العامة في سورية على أسس عادلة بحيث لا يتصارع السوريون مجددا. ما هي النقطة الصلبة التي يمكن أن ينطلق منها مراقبنا المفترض لإخراج البلد من أزمته الخطيرة؟ من غير المحتمل أن ينطلق من رواية "النظام" أو "الثورة" عما يجري، وإن تجنب المجادلة في الروايتين. هناك صراع في سورية، والمراقب يريد وقفه والتخلص من أسبابه كيلا يتجدد، ويريد العدالة لأنه محب للخير ولبلده. ظاهر له أن هناك سوريين لا يريدون أن يُحكَموا بالطريقة التي حُكموا به طول نصف القرن المنقضي. هذا مؤكد، ولن يتردد المراقب المتجرد في تقريره. ظاهر بالقدر نفسه أن هناك سوريين يقفون إلى جانب النظام، سواء من باب الولاء له أو خوفا من التغيير وعواقبه. المراقب ديمقراطي العواطف، وتفضيلات السوريين الأحياء لها الأولوية في تحديد أفضلياته هو أيضا. هذا يملي عليه المخرج الأنسب: تقاسم السلطة في البلد. المبدأ واضح، وإن جرى التعبير عنه بصورة خشنة، أما صيغة التقاسم الأنسب فلا بد من التداول بشأنها. المعيار فيها هو الفاعلية والاستقرار، فضلا عن العدالة. الأكيد أنه لا يجوز أن يحكم البلد من أحد "إلى الأبد"، ليس لأن ذلك يتعارض مع الهوية السياسية لنظام الحكم في البلد، "الجمهورية"، ولكنه لأنه غير عادل. متوسط بقاء رأس السلطة التنفيذية اليوم في بلدان العالم يتدنى عن عشر سنوات. والسيد بشار يشغل موقعه منذ نحو 13 عاما، علما أنه لم يشغل الموقع لكفاءة خاصة، وإنما لكونه ابن أبيه. وهو ما يعني أن سورية تحكم بالأسرة نفسها وبالأسلوب نفسه وللمصلحة نفسها منذ 43 عاما. لا يلزم أن يكون المرء مُغرِضا حتى يقول ذلك. أكيد بالقدر نفسه وأكثر أنه ليس من العدالة في شيء أن يعامل السوريون، أو أي شعب، بالطريقة اللاإنسانية التي عاملت المخابرات السورية السوريين فيها طوال عقود. هاتان نقطتا إجماع عند أي مراقب منصف، أليف لحساسية العصر، ومطلع على مطالب السوريين أنفسهم. ولا يستطيع حتى الموالون للنظام قول شيء غير تحكمي بشأنهما. لكن في العلاقات بين السوريين مخاوف وتوجسات تتصل بهوياتهم الموروثة، أو بتكوين مجتمعهم الذي يشير إليه بعضهم بـ"الفسيفسائي، وظاهرٌ للمراقب المتجرد أن النظام القائم، المرفوض من سوريين، يسكَّن مخاوف سوريين آخرين، وأن بعضهم يضحي في سبيل بقائه. لن يدخل المراقب في أصول هذا الوضع والمسؤوليات المحتملة عنه. يترك ذلك للمؤرخين والاجتماعيين. هو شخص عملي، ويريد تطمين الخائفين من جهة الموالين للنظام، وفي الوقت نفسه تحقيق التغيير السياسي العادل الذي يطالب به المعترضون، وقد كانوا خائفين بدورهم طوال عقود. كيف يمكن تطمين خائفين دون إبقاء غيرهم أسرى الخوف؟ تقاسم السلطة العمومية هو المخرج من ذلك. السلطة الفعلية، يعرف المراقب ما يعرفه جميع السوريين، هي للرئيس والمخابرات. يفكر المراقب بانتخابات حرة تعددية، رئاسية وبرلمانية، في وقت قريب. لكن عدا وقف إطلاق النار والإفراج عن المعتقلين وعودة النازحين واللاجئين، هذا يستلزم منطقيا تحييد أجهزة الإعلام والمخابرات. لتحقيق هذا التحييد يلزم منطقيا تفاوض جدي وندي بين السوريين. سيلاحظ المراقب أنه بعد نحو عامين من "الأزمة" لم يقترح النظام في أي وقت انتخابات حرة نزيهة في البلد، أن بشار يريد الترشح في انتخابات تجري بإشراف نظامه عام 2014، أنه لم يعرض استعدادا في أي وقت للتفاوض الجدي مع أي خصوم سياسيين، ولو كانوا من الأكثر اعتدالا حياله، أن النظام أو أحدا من طرفه لم يعرض بعد 22 شهرا ونيف من الأزمة استعدادا لإعادة النظر في أسس النظام السياسي، أي مرة أخرى رئاسة السلطة التنفيذية وأجهزة المخابرات، وما يتيحه موقهعما الثقيل في البلد من نفاذ امتيازي إلى الموارد الوطنية. مراقبنا الوطني لن يفكر على الأرجح بطلب موعدا مع بشار الأسد لعرض أفكاره بخصوص تقاسم السلطة والتفاوض والانتخابات الحرة. لقد افترضنا فيه أصلا الاطلاع واحترام النفس وحدا أدنى من الذكاء. الواقع أن حسابات هذا المراقب هي حسابات كثيرين منا، نحن السوريين. حسبناها مرارا وتكرارا، و"ما كانت تزبط". في الأصل، لدى كل واحد منا خبرة شخصية واسعة تؤكد له إنها لن "تزبط". وتجارب اليوم تؤكد الشيء نفسه. الخيارات التي عُرضت علينا بعد كل هذا الكفاح وهذه الآلام الرهيبة هو تغييرات شكلية لا تمس النظام في مواطن السلطة الفعلية فيه، "الدولة الباطنة". يريد جميعنا وقف سيل الدماء وزحف الخراب، لكن لا أحد يرضى غنيمة من هذه الوثبة التاريخية بالإياب إلى حكم "سيد الوطن"، ومخابراته وإعلامه وحزبه وصوره، وأبيه... كل هذا البراز العميم. الصفة المأساوية للصراع السوري مكتوبة هنا: الموالون مصرون على حماية النظام العائلي ولو بحرق البلد، والثائرون ليسوا مستعدون للعيش في البراز، أيا يكن الثمن. وحده باب الموت يبقى مفتوحا. بعد كل حساب، المراقب المفترض لن يقترح شيئا. إن كان مقيما في البلد ربما ينزوي على حياته الخاصة، ويصمت. المشكلة أنه حين لا يكون هناك كلام إنساني واضح يقال، هناك كلام إلهي جاهز لأن يُستظهر. وحين لا يفيد الشرح، راية "الفعلجيين" هي من تعلو. أو قد يهاجر مراقبنا من البلد إلى منفى آمن، بعيدا عن الخراب والنظام معا. له أسرة وأطفال... كان هذا خيار كثيرين قبل جيل وأكثر. ولقد أورثنا خرابا مركّبا ووسخا كثيرا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنسى السوري... المنساة السورية
-
في شأن -جبهة النصرة- والسياسة الملائمة حيالها
-
ليس لدى -السيد الرئيس- من يشاركه!
-
قبول -الحل الإبراهيمي-، وليس رفضه، هو ما يؤدي إلى -الصوملة-؟
-
الثورة، الإسلام، وامتلاك السياسة: في نقد -التيار المدني- وال
...
-
تحولات صورة الأميركيين أثناء الثورة السورية
-
خوارج الثورة السورية و-خوارجها-
-
ثلاث قوى منظمة و...ثورة
-
تكوين سورية وتاريخها و...الثورة
-
الثورة السورية ووضع الثورة المطلقة
-
حوار متجدد في شأن الثورة السورية
-
الثورة والإسلاميين بين سورية ومصر
-
ليس في التاريخ ثورات -ع الكاتالوغ-
-
هل نستطيع تصور النظام السياسي السوري بعد الثورة؟
-
ثورة سورية أم ثورة إسلامية في سورية؟
-
معضلة العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين السوريين
-
ياسين الحاج صالح - كاتب سوري - في حوار مفتوح مع القارئات وال
...
-
بعد تفخيخ دمشق... تفجيرها!
-
حوار متجدد في شؤون الثورة السورية وشجونها
-
هل الثورة مكتفية أخلاقيا؟
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|