|
فى الدين (8) الإسلام
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 3981 - 2013 / 1 / 23 - 10:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أتوقع أن ينقسم قرّاء مقالى هذا إلى ثلاث فئات. أكثرهم، بحكم طبيعة موقع الحوار المتمدن سيكونون من العلمانيين العقلانيين الذين إن رأوا فى مقالى مأخذا فلأنهم يجدونه أقل حِدّة وراديكالية مما يحبّون. هؤلاء أعتذر لهم بأن غرضى أن أستميل البعض إلى تجربة النظر بموضوعية وتعقـّل إلى مسألة الدين. وفى مقابل هذه الفئة الأولى فئة غلاة الإسلاميين، وقد كنت من قبل أظن أن هؤلاء لا يقربون مثل هذا الموقع اليسارى، إلى أن وجدت من بعض تعليقات على بعض مقالاتى السابقة أن بعضهم، على ما يبدو، يحرص على ملاحقة الفكر المعارض لقناعاتهم لمهاجمته والرد عليه. هؤلاء أتجاهلهم، لأنهم غير مستعدّين لمناقشة مسَلـّماتهم الأساسية وبالتالى فلا جدوى من أىّ حوار معهم. وفى الوسط بين هاتين الفئتين فئة المعتدلين من المسلمين وغيرهم من المتديّنين، وهؤلاء هم من أقصد مخاطبتهم. إلى قرّائى من المسلمين الوسطيين المعتدلين أبدأ بأن أقول: إنكم تعلمون بالطبع أننى لست مسلما، وبالتالى فإننى حين أتحدّث عن الإسلام لا أنطلق من مُقـَدّمات يراها المسلم حقـّا بالضرورة، إنما أحاول أن ألتمس سبيلا لفهم واقع تاريخى هو ظهور دين الإسلام وانتشاره وسيطرته. نشأ النبى محمد فوجد قومه يعبدون إلى جانب الله عديدا من الآلهة يقيمون لها الأصنام ويتعبدّون لها. ويعتقد عامة المسلمين أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون الله، ولا يلحظون أن والد محمد – الذى مات قبل أن يولد محمد وبالتالى قبل ظهور الإسلام – كان اسمه عبد الله، ووالد محمد لم يتـّخذ لنفسه هذا الاسم بل سمّاه أبوه، جدّ النبى. ومن يقرأ القرآن بشىء من الانتباه يرى أن قضيّة النبى الأولى لم تكن محاربة الإلحاد بل محاربة الشِرك، أى الاعتداد بآلهة أخرى بجانب الله. نعلم أنه كان بين العرب وقتذاك، إلى جانب الأغلبية المشركة، جماعات من اليهود ومن المسيحيين (النصارى)، كما نعلم أن النبى فى شبابه اشتغل بالتجارة لحساب السيدة خديجة التى تزوّج منها فى وقت لاحق، فكان يرتحل بقوافله إلى الشام حيث كانت المسيحية قد صارت الديانة السائدة مع احتفاظ اليهودية بمكانتها بين أهلها. ومن الطبيعى أن يكون محمد قد تواصل مع مسيحيين ويهود وسمع منهم واستمع إليهم. ورغم غلبة المسيحية على اليهودية فى تلك الحقبة، إلا أنه يبدو أن النبى كان أكثر استيعابا لتعاليم اليهودية وأكثر تأثرا بها، وخاصّة بتوكيدها الصريح الجازم على وحدانية الله. تحدّثنا المراجع الإسلامية بأن النبى جاء عليه وقت أصبح فيه كثير الاعتزال للتعبد والتأمل، إلى أن أحسّ يوما بأن وحيًا يأتيه من السماء يدعوه لأن يُخرج قومه من ضلال الشرك إلى عبادة الإله الواحد. وتجربة أحساس الوحى تجربة نجدها بين كل الشعوب وفى كل الأزمنة. وهى ليست تجربة مقصورة على مجال الدين، بل إن كل شاعر وكل فنان مرّ بتجربة الإبداع، يعرف أنه حين تمتلئ نفسه بإحساس مهيمن أو بمعنى أصيل، يحسّ بأن التعبير عن الإحساس أو المعنى يُفرَض عليه من قوّة تتجاوز ذاته الواعية. كل شاعر وكل مفكـّر أصيل يعرف أنه لا ‘يصنع’ أحسن ما ينظم وأحسن ما يكتب بل هو ينساب من تلقاء نفسه وكأن هناك من يمليه عليه إملاء. فإذا أضيف إلى ذلك أن كان ‘الموحَى إليه’ يؤمن بإله أو بقوّة خارجية مهيمنة، فلا غرابة فى أن يعتقد وأن يؤكد فى أمانة تامّة أن القول يأتيه من مصدر علوىّ. تكرّرت تجربة الوحى وكانت ثمرتها تلك السور القصار التى تتميّز بأسلوبها الخاص وبطابعها الخاص والتى وُضِعت عند تصنيف المصحف فى آخر الكتاب. ومن المؤسف أن المصحف لم يرَتـّب ترتيبا كرونولوچيا، وليس هناك اتفاق كبير بين الدارسين حول الترتيب الزمنى لسور القرآن، بل إن سورة العلق (اقرأ)، التى يؤكد التراث الإسلامى أنها أوّل الوحى، تتكوّن على الأقل من أربعة أجزاء، 1-5، 6-8، 9-14، 15-19، يبدو أنها ألحِقت ببعضها عند جمع المصحف، والآيات 15-19 تحديدا من الواضح أنها جاءت بعد أن بدأ النبى دعوته ولقى رفضا ومقاومة، ولا يمكن أن تتزامن مع بداية الوحى. هنا أجدنى ملزما بالتصدّى لمسألة بالغة الحساسية. فالمسلمون ينشأون منذ نعومة أظفارهم على أن بلاغة القرآن هى معجزة الإسلام الكبرى، وهم يوقنون بهذه المقولة يقينا لا يهتزّ. ومما لا شك فيه أن فى القرآن شيئا من البلاغة، وليس من العسير أن نتبيّن مصدر هذه البلاغة. جاء القرآن فى وقت كان العرب فيه ينظمون الشعر، لكنهم لم يكونوا قد عرفوا النثر الأدبى، وكان القرآن رائدا فى هذا المجال، فجاءت لغة القرآن مزيجا من لغة الشعر بما فيه من إيقاع وقافية ومن لغة النثر المرسل. ويعتمد أسلوب القرآن، خاصة فى السور المكية، على عنصرَى الإيقاع والقافية. إذا نظرنا إلى سورة أبى لهب مثلا، نجد الآيات الأولى تنساب سلسة، حتى إذا ما وصلنا إلى "فى جيدها حبل من مسد"، انكسرت القافية فانتهت السورة نهاية مبتسرة. فإذا انتقلنا إلى السور المدنية وقرأناها قراءة موضوعية، رأينا فى وضوح كل سلبيات العمل التجريبى الرائد. خذ أى آية يزيد عدد كلماتها عن سبع أو ثمانى كلمات فلا يسعك، إن استطعت أن تنظر إليها نظرة موضوعية وأن تحكم عليها بعقلك، إلا أن تلحظ ما فيها من ضعف واختلال التركيب، ناهيك عن ضعف الترابط بين الآيات فى كثير من الأحيان. من يستمع إلى تلاوة للقرآن من مقرئ جيّد، خاصّة بأسلوب القراءة الذى طوّره المقرئون المصريون تحديدا، يسحره النغم الجميل حتى يشغله عن الالتفات للمعنى. لكننا إذا قرأنا القرآن قراءة هادئة، موضوعية، عقلانية، فأين نجد البلاغة فى القرآن؟ أين نجد الإعجاز أو حتى الإبداع فى مضمون القرآن؟ المضمون العقائدى فى القرآن لا يخرج عما فى التوراة (مع إضافة ما جاءت به المسيحية من تركيز على الثواب والعقاب فى الآخرة). المضمون الأخلاقى لا يتجاوز ما جاء فى النصوص المصرية والبابلية والزرادشتية ولا أتحدث عن اليونانية أو المسيحية. لكن المسلم يلقـّن منذ الصغر أن الإنسانية كلها كانت قبل الإسلام فى ظلام وجهل وأن القرآن هو الذى جاء بكل القيم الإنسانية والأخلاقية، ولذا يرى كل إشارة فى القرآن إلى العدل أو التراحم مثلا على أنه إبداع. وأمسك نفسى عن أن أسترسل لأبعد من هذا. كنت أعتزم أن أعود بعد هذا إلى المسيرة التاريخية للنبى، فأتحدّث عن هجرته للمدينة بعد أن لقى صدودا ثم رفضا ثم مقاومة لدعوته فى مكة، وأتكلم عما حدث فى المدينة من تحوّل فى التوجّه وفى الأسلوب، لكنى تجاوزت الحدّ الذى التزمت به فى سلسلة المقالات هذه، وأرى أن ما قدّمته يكفى فى سبيل الغرض الذى قصدته وهو الدعوة لأن نقارب موضوع الدين والأديان بنظرة موضوعية عقلانية، باعتبار الأديان اجتهادات إنسانية لمواجهة أسرار الكون ومعضلات الحياة. لكن بقيت كلمة أخيرة لا بدّ منها. بعد أن استتبّ الأمر للإسلام كمؤسسة دينية حدث، كما يحدث مع كل الديانات، أن ألحِقت به تفسيرات وآداب فرعية وتراث فكرى، وكل ذلك يشكـّل ثقافة لها قيمتها الذاتية. ويحسّ الشخص المسلم أن كل ذلك هو كلّ واحد مترابط عضوىّ. ولا يمكن لعاقل أن يحاول أن ينزع عن المسلم تراثه الذى يشكـّل فى الواقع هويّته الذاتية، فمن البديهى أن يعتزّ المسلم بتراثه الإسلامى تماما كما يعتزّ المسيحى، حتى الذى يرفض كل تعاليم الكنيسة، بتراثه المسيحى. لكن ما يُعَقـّد الأمر فى حالة المسلم هو إصرار المؤسسة الإسلامية على القدسية المطلقة للقرآن باعتباره صادرا عن الله مباشرة، كلمة كلمة وحرفا حرفا. بل إن المؤسسة الإسلامية تصرّ على إضفاء القدسية على كل أحداث وشخصيات التاريخ الإسلامى. وكل هذا يُغلق الباب أمام أىّ مقاربة عقلانية ويجعل المسلم المعتدل رهينة فى قبضة الأصولية الرجعية طالما أنه لا يستطيع أن يُخضِع المُسَلـّمات الأساسية للمساءلة والنقاش. مدينة السادس من أكتوبر، مصر، 23 يناير 2013
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فى الدين (7) المسيحية
-
فى الدين (6) اليهودية
-
فى الدين (5) البوذية
-
فى الدين (4) الهندوكية
-
فى الدين (3) زرادشت
-
فى الدين (2) نشأة الدين
-
فى الدين (1) كلمة تمهيدية
-
الهزل والجد فى أمر تعريب التعليم والعلوم
-
عبثية التفاهم مع الإسلام السياسى
-
ما العمل؟
-
حين نتنازل عن عقولنا
-
خطر خلط المفاهيم
-
السبيل لتحرير العقل العربى
-
مواد الحريات فى الدستور المقترح
-
مشكلة الدين
-
نقد الدين ضرورة حضارية
-
كيف نتحرر من أوهامنا؟
-
هوامش على -لغتنا والحياة- ل عائشة عبد الرحمن -بنت الشاطئ-
-
أخلاط هواجس
-
ما شأن الله بالدستور؟
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|