|
ماذا فعلتم بأبنائنا؟
مية الرحبي
الحوار المتمدن-العدد: 1147 - 2005 / 3 / 25 - 15:33
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
حضرتني مشاهد متعددة رأيناها على شاشات التلفزة عن الثورة الثقافية في الصين ، مشاهد مؤلمة جارحة لطلاب يقودون أساتذتهم في مسيرات ضخمة ، وقد ألبسوهم الطراطير ، ووضعوا لافتات على أعناقهم يصفونهم فيها بأقذر وأشنع الصفات، ومشاهد اكثر إيلاما لبعض الطلبة وهم يبصقون ويلكزون الأساتذه ، بل ينهالون عليهم ضربا بالأيدي والهراوات وكل ما تحمله أيديهم، ضربا وصل إلى حد قتلهم في بعض الحالات. حضرتني هذه المشاهد ، وأنا أسمع شهود عيان وصفوا لي ما حدث في ساحة المرجة - الساحة التي كانت فيما مضى رمزا للحرية وللعزة الوطنية- يوم اعتصام المعارضة السورية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ والمحاكم الاسثنائية،والمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، وإقرار حق الجنسية للمواطنين الأكراد السوريين وضمان حرية التعبير وحرية العمل المدني بإصدارقانون جديد للأحزاب والجمعيات، أي مطالب داخلية تعبر عن رغبات وآمال كل مواطن سوري . يبدو أن الأجهزة الأمنية قد وجدت في الأسلوب الذي اتبعته في تفريق آخر اعتصام يحمل نفس المطالب ، يوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،في 10/12 الماضي ، وذلك ب"تدفيش" ونعر المعتصمين ودفعهم بعيدا عن ساحة الشهبندر، التي كان مقررا الاعتصام فيها، أسلوبا لم يعد ملائما للعصر، لأن الضغط العصبي الذي تحمله أفرادها كان أكبر من طاقتهم على الاحتمال ، فقد أجبروا أنفسهم على عدم ضرب ورفس وجر وشحط واعتقال المعتصمين، كما يليق بتاريخ الممارسات الأمنية، وب" قلة أدب " أي صوت يجرؤ على المعارضة والمطالبة، فاكتفوا يومها بالصراخ في وجوه المعتصمين" ياللا امشي من هون ياللا ، اللي مالو شغل يمشي من هون" مع بعض التلويح بالهراوات، والدفع، وتمزيق اللافتات، وضرب بعض الشباب " الوقحين" الذين لم يمتثلوا للأوامر ،أما الرجال كبيري السن والنساء ، فقد اضطروا للانسحاب بهدوء دون أن يستطيعوا الوصول إلى الساحة والاعتصام أصلا. تفتقت عبقرية أحد العريقين بالإبداع الأمني ، وخطرت له الفكرة الجهنمية : لماذا لا نستخدم الطلاب الجامعيين البعثيين لإداء المهمة بدلا عنا ؟ خاصة أن هنالك تجربة ناجحة سابقة في هذا المجال جرت في جامعة حلب عندما اعتصم قبل حوالي عام بعض الطلاب بشكل هادئ وسلمي للمطالبة بمراجعة الدولة قرارها في عدم التكفل بتوظيف المهندسين بعد تخرجهم ، في ظل البطالة التي تعصف بشبابنا اليوم ، وخاصة خريجي الجامعة منهم ، فكان أن قام بعض الطلاب البعثيين والناشطين في اتحاد الطلبة، حسب شهادة المعتصمين آنذاك، بمهاجمة زملائهم، وضربهم ضربا مبرحا، وكانت النتيجة أن كوفئ المهاجمون الذين عبروا عن ولائهم الكامل، في حين لم تكتف السلطة بتأديب المعتصمين بضربهم ذلك اليوم ، فأحيلوا للتحقيق في اتحاد الطلبة – لاحظوا هذا العبارة، حيث تحول اتحاد الطلبة فرعا للتحقيق- وعوقب بعضهم بالفصل من الجامعة فصلا نهائيا أو مؤقتا، مع تأنيبهم وتوبيخهم وتهديدهم في حال عادوا لمثل تلك الأعمال ، واعتقل فيما بعد بعضهم، وأحيل اثنان من الطلبة إلى محكمة أمن الدولة - تخيلوا : محكمة أمن الدولة- ليحكم عليهما حكما مجحفا، بالحبس ثلاث سنوات مع الأشغال والتجريد من الحقوق المدنية. إذا نجحت التجربة في حلب ، واستطاعت الأجهزة الأمنية تحريض الطلاب ، كي يقوموا بالدور الذي كانت تقوم به ، وبذلك لا يمكن القول أن الأجهزة الأمنية قد لوثت يدها بضرب الطلاب في الحرم الجامعي . لقد استوقفتني تلك الحوادث المؤلمة كثيرا بتداعياتها المرة، لأنها كانت خلاصة السياسة التي اتبعت عقودا لتربية أطفالنا وأجيالنا الشابة، بدءا من الانخراط الاجباري في منظمة الطلائع ، ومن ثم الشبيبة، ثم حزب البعث في مراحل الدراسة المختلفة، بحيث يتحول الجميع إلى قطيع واحد يردد صوتا واحدا ، تسمعه من مايكروفونات المدارس بجانب بيتك ، لشعارات تردد بآلية دون أن يفقه مرددوها معناها ومغزاها، بل يتبارون فقط في رفع أصواتهم إلى أقصاها، وإذا تراخوا في ذلك تسمع صوت المشرفة، وهي تحثهم على الصراخ ، ناعتة إياهم باقذع الشتائم، بحيث تخال نفسك ساكنا بجانب حديقة حيوانات ، لامدرسة. في الصباح الباكر تلبس الأم طفلها ثياب المدرسة، وعندما تضع الفولار الطلائعي قيدا حول عنقه، يدرك الطفل أن ذلك القيد ليس حول عنقه فقط ، بل حول لسانه وعقله، فيخرج من البيت وقد ترك وراءه جنته الآمنة ، ليدخل إلى عالم الرعب والقمع، متذكرا وصايا الوالدين بألا يتفوه بكلمة مما يدور في البيت من نقد لأوضاع البلد، في حال زل لسان أحد الوالدين بكلمة أمام الأبناء . يدخل الطفل باب المدرسة مسلحا بكل الحذر الذي أدخله الوالدان إلى عقله الصغير، ومنذ اللحظة الأولى، يتذكر أنه في المدرسة مواطن من الدرجة الثانية، فهو لا يعامل مطلقا كما يعامل ابن المسؤول المدلل المغفورة أخطاؤه، ومهما اجتهد في دروسه فهو يعرف أن أبناء الحظوة من أبناء المسؤولين وأقرباء المعلمات والمعلمين، سينالون دائما الصدارة في العلامات، كما يستنفر حذره كاملا من الوشاة الذين توظفهم المعلمات والإدارة ، لمراقبة زملائهم ، و" تقديم التقارير الشفهية فيهم" ، ليكافأ الواشون ، ويدللوا أكثر ، ويعاقب من شاء له سوء حظه مخالفة الأنظمة المرعية ، بما في ذلك قول الرأي الآخر ، أو معارضة السائد أو وجود خلاف شخصي مع الواشي، ويتطور الأمر مع تقدم الطالب في الدراسة لتتحول التقارير إلى مكتوبة، ولتزداد الحسرة والمرارة في قلوب الطلاب وقد بدأوا يدركون أكثر حجم التمييز بين ابن الست وابن الجارية، وليزداد الحذر أكثر ، وبالتالي الفصام الواضح بين البيت والمدرسة، ويبدأ الطالب حفاظا على وجوده بغريزة البقاء الفطرية ، التمرس في الكذب والانتهازية، فيقدم طلب الانتساب إلى الشبيبة والحزب طواعية . وأملا في مكافآت الموالاة ، من علامات أكبر وفرص أكبر، بات الأهل أنفسهم لا يخجلون من إرسال أولادهم إلى معسكرات الشبيبة وغيرها، رغم معارضتهم الفكرية لكل ذلك ، متوافقين مع أولادهم ، أن الانتهازية هي الطريق الوحيد للوصول ، ورغم كل ما يبذله الأهل من محاولات انتهازية، يبقى اولادهم أبناء الجارية ، بأمل ضعيف أن يتمكنوا من الارتقاء إلى مصاف أبناء الست، أمل يجعل الآباء يوافقون أولادهم بل ويحرضونهم لابتذال أفكارهم وأنفسهم وكراماتهم اظهارا للولاء، أملا في الحصول على المنفعة، ويصل الطلاب إلى الجامعة وقد تقدموا جميعا بطلب انتساب لحزب البعث، فجميع المواطنين يجب أن يكونوا بعثيين. هذه هي فلسفة النظام ، كما يعبرميشيل كيلو في مقاله " مجلس الشعب البنية والوظيفة والصلاحيات " إذ أن النظام "يعتقد أن إرادة شعبه موحدة ، وأن فصل السلطات اتفق والمرحلة السابقة من تاريخ البلاد عندما كان المجتمع منقسما إلى طبقات تخوض صراعا طبقيا " وبناء على هذه الفلسفة "انعكست وحدة المجتمع نفسها في وحدة السلطة " و بما أنه لا توجد طبقات مناهضة أو معادية لنظام المجتمع الموحد، فإنه يوجد صنفان من المواطنين: مؤيدو النظام، وهم أغلبية ساحقة تنضوي طليعتها في حزب البعث العربي الاشتراكي قائد الدولة والمجتمع، وفي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، والصنف الثاني هم المحايدون أو المستقلون ". ومن هو خارج هذا التصنيف فهو ليس مواطنا ، وبالتالي هو خائن وعميل ويستأهل العقوبة، ولعل هذا المنطلق هو الذي حرض فيه القياديون الطلابيون زملاءهم، ليهاجموا من وقف من المعارضة في الاعتصام الأخير . فحسب شاهد عيان سار عشرات الطلاب خلف المفكر والمحلل السياسي المناضل ياسين الحاج صالح ، وهم يلكزونه ويدفعونه ويصرخون في أذنه : خائن ، عميل لأمريكا ، مع الشعارات المألوفة، بحيث اضطر للسير دون أن يرد بأي كلمة أو حركة يمكن أن تتسبب بأن يهجم عليه الطلاب المهتاجون ، ويشبعوه ضربا، وهذا ما فعلوه ببعض المعتصمين ، وأحدهم يقارب الخامسة والسبعين من العمر. هل قرأ أحد هؤلاء الطلاب الذين وصموا ياسين الحاج صالح بالخيانة والعمالة ، ما يكتبه الرجل ، هل قرأوا تحليلاته السياسية العميقة التي وضعته في مصاف أهم المحللين السياسيين في الوطن العربي، لماذا هو خائن ، ولأي جهة هو عميل ، هل يستطيع واحد من هؤلاء الطلاب أن يجيب على هذين السؤالين في جلسة هادئة، هل يمكن أن يشرح دافعه لما قام به ، غير إشارة من احد رجال الأمن الذين كانوا في الساحة ، إلى ياسين الحاج صالح ، وبعض الناشطين المزعجين للأجهزة الأمنية أكثر من غيرهم ؟ هذا ما أوصلتنا إليه العقلية الأمنية التي سادت مجتمعاتنا فأوصلت المواطن إلى مرحلة من الخوف بحيث بات لايجرؤ أن يهمس لنفسه في غرفة نومه بنقد للنظام السائد ، وهو يعاني من الافقار ويرى النهب والفساد المستشري ، وتكميم الأفواه وغياب الحريات، وعدم تكافؤ الفرص ، والخوف والإذلال، بحيث انفصل عن مجتمعه انفصالا تاما وترك الشؤون السياسية والمجتمعية بايدي من نصبوا أنفسهم أوصياء عليها ، بل أدخل مواطنيته في كمون وسبات لم تخرج منهما حتى اليوم، وكي لا يعرض ابناءه للبؤس والقهر الذي عانى منهما ، بات يشجعهم على الانتهازية والتسلق وإظهار الولاء في المدرسة والعمل ، وكل مكان عام يتواجدون فيه، ومن يجرؤ على الاحتجاج فامامه محكمة أمن الدولة، وتدمير مستقبله كاملا. ولعل الحادثة التي حدثت في أحد أسواق دمشق العام المنصرم، لدليل على الذل التي وصل إليها شعبنا، فقد تجمع بعض المواطنين، يتدافعون أمام إحد محلات الحلويات المشهورة لشراء حلوى إبان أحد الأعياد، فحمل أحد الباعة عصا ، وكان يضربهم بها ، دون ان يعترض أحد منهم على ذلك !!!!!! لقد بلغ تحكم العقلية الأمنية في حياة المواطنين ، بأن مسخت النفوس ومحت العقول، وأمرضت الأرواح، ليتحول الشعب إلى قطيع من " المواطنين الصالحين" الأذلاء مطأطأي الرؤوس ، مكممي الأفواه ، غائبي العقول، والأخطر من ذلك أن تتمكن العقلية الأمنية تلك من تحويلهم من قطيع مسكين مسالم ، إلى قطيع هائج متوحش عند اللزوم.
#مية_الرحبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المشاركة السياسية للمرأة في سورية
-
تجربة لجان إحياء المجتمع المدني في سورية.. انعكاس وتلخيص لمر
...
-
التحفظات السورية على اتفاقيةإلغاء جميع أشكال التمييز ضد المر
...
-
هل تنتظر المرأة العربية إصلاحا من الخارج ؟
-
حقوق الطفل والتعتيم الشامل
-
العنف ضد المرأة في المجتمعات العربية
-
لا حرية للمجتمع دون تحرر المرأة
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|