مصطفى ملو
الحوار المتمدن-العدد: 3978 - 2013 / 1 / 20 - 15:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إلى مرضى الشرعية
يحاول بعض محترفي السياسة في الدول غير الناضجة سياسيا كالمغرب و مصر-مثلا لا حصرا-,حيث مازال استغلال الدين من أنجع الطرق التي يسلكها هؤلاء للوصول إلى سدة الحكم,قلت يحاولون أن يصوروا للناس بأن وصولهم إلى السلطة "بطريقة ديمقراطية",يعطيهم الضوء الأخضر للتصرف في أمور البلاد والعباد كما شاؤوا ومتى شاؤوا دون حسيب و لا رقيب,وكلما انبرى صوت لانتقادهم و معارضتهم,إلا و شرعوا في رفع "ورقة الشرعية" في وجهه والبدء بتوجيه سيل الاتهامات له,باعتباره معارضا للشرعية حسب زعمهم.
والواقع أن الشرعية لا تكتمل بمجرد الوصول إلى الحكم كما يتصور و يصور هؤلاء المغلطين,إنما تلك بدايتها,والعبرة بالخواتم لا بالبدايات,فحتى لو سلمنا بوصولهم إلى الحكم بطرق شرعية,فهذا لا يعني أنهم قد بلغوا سدرة المنتهى وحققوا الهدف و انتهت المهمة و طوينا الأوراق وسلمنا لهم المفاتيح وأصبح مصيرنا بيدهم يفعلون به ما أرادوا,وبالتالي من حقهم أن يتصرفوا بكل حرية بمبرر الشرعية,بل العكس تماما,إذ إن هذه الشرعية التي يتبجحون بها تضعهم تحت المراقبة و المسؤولية,أي موضع انتقاد و معارضة منذ البداية و إلى النهاية,وإن كانت هذه المعارضة و النقد يحرجانهم,فمعناه أنهم لا يستحقون تلك الشرعية التي يجعلونها تأشيرة تمكنهم من فعل كل شيء.
إن ما لا يفهمه أصحاب هذا الخطاب أن"الشرعية"مفهوم نسبي,زئبقي يصعب الامساك به,إذ إن نسبتها تتغير في كل لحظة,فمن "اكتسب الشرعية" اليوم قد يفقدها غدا,وقد يسترجعها بعد غد,وقد يفقدها إلى الأبد,ما يعني من جهة أخرى أن الشرعية ليست أزلية,فكم من حكومة سقطت بعد مدة قصيرة من حصولها على "الشرعية",وكم من رئيس استقال عندما تبين للشعب أنه أخطأ في منحه "الشرعية",وهذه هي "الشرعية الجماهيرية" أو الشعبية التي تستمد من الشعب و ترتبط ارتباطا وثيقا بالشرعيات الأخرى,وتكون نتيجة لإحداها أو لها مجتمعة.
يضاف إلى كل هذا أن الشرعية في الحقيقة ليست شرعية واحدة,إنما-كما أوردنا-هي "شرعيات",فالإسلاموي الذي وصل إلى السلطة عن طريق استغلال الدين معتقدا أنه حصل على الشرعية,لا يستحق في نظر العلماني أن يحكم أو أن يحصل على"الشرعية الجماهيرية",وحكمه غير شرعي,مادام قد وصل بطريقة غير شرعية ومادام قد تحايل على الجماهير باستغلال الدين من منطلق العلماني طبعا,والعكس صحيح أي إن العلماني الذي يصل إلى مركز القرار يعتبر في نظر الإسلاموي فاقدا للشرعية و لا يستحق ثقة الشعب و إن كان مسلما-مع أن الإسلامويين يخلطون عمدا بين العلمانية والكفر ويقدمونها للناس على أنها شرك وإلحاد-,لأنه في نظرهم يستحيل فصل الدين عن الدولة,أو هذا زعمهم بغية الحصول على "الشرعية".
ثم إن هناك من يعتقد أن شرعيته يستمدها من التاريخ,أو ما يسمى بالشرعية التاريخية و بالتالي فلا أحد من حقه أن ينازعه في شرعيته,فتجد دولا حكمتها نفس العائلة لقرون من الزمن,زاعمة أن أساسها تاريخي و لا مزعزع له.
أما الشرعية الأسطورية فنجدها عند الأمم القديمة كالفراعنة و الإغريق,حيث نجد أشخاصا يزعمون أنهم يأتون بالخوارق و ما ليس لغيرهم استطاعة للاتيان به,مما يجعلهم متمسكين بأحقيتهم و أهليتهم في تولي زمام الأمور دون غيرهم.
أما الشرعية الدينية فيمثلها الرسل في الديانات السماوية,وهم بموجب تلك الشرعية مخولون لحكم الأقوام و الأمم التي أرسلوا إليها,ولا يقتصر هذا النوع من الشرعية على الديانات التوحيدية,بل نجده كذلك في ديانات أخرى كالبوذية و الهندوسية... حيث رجال الدين هم علية القوم وهم الآمرون والناهون.لابد من التنبيه هنا إلى الخلط الذي يحاول محترفو السياسة-الذين تحدثنا عنهم في بداية هذه المقال- خلقه,وهو خلط بين الشرعية الدينية يمثلها الرسل,وبين "شرعية" مستمدة من استغلال الدين يمثلها الإسلامويون أو المسيحويون أو اليهودويون,وهم بذلك لا يختلفون عن الكنيسة القرسطوية في أوربا عندما كانت تزعم بأنها تحكم بموجب"الحق الإلهي" و من يعارضها إنما يعارض شرع الله أو يخالف شرعية ممنوحة من الله!
لابد من التوضيح كذلك أن الشرعية لا تعني دائما السلطة والحكم,أو أنها تقود إليهما,بل إنهما مشروطان بالنية و الرغبة المسبقة في الوصول إليهما,فكم من حكيم-مثلا-وكم من بطل مجاهد,التفت حولهما الجماهير,التي لا تتصرف إلا بعد استشارتهما و طلب رأيهما,لكنهما مع ذلك لم تكن لهما أي سلطة و لم يكونا حاكمين,بل كانا محكومين شأنهما شأن بقية الناس,كانا محكومين ربما ممن هو أقل منهما شأنا و "أقل شرعية",ببساطة لأن النية في الوصول إلى الحكم غائبة عندهما,ولا مجال هنا للخوض بين الزعامة و الشرعية,وحسبنا أن نقول أن الزعيم قد لا تكون له شرعية,والعكس صحيح أي من له شرعية قد لا يكون زعيما.
من كل ما تقدم نستخلص أن "اكتساب الشرعية" ليس هو المهم,بل المهم هي الطريقة التي تم الحصول بها على هذه الشرعية,فكل ينظر إلى هذه الطريقة من زاوية رأيه,فالشرعية-مثلا- عند الاشتراكي ليست هي نفسها عند الرأسمالي الليبيرالي,وعند العلماني ليست نفسها عن الإسلاموي(في حالة المغرب و مصر مثلا),والمهم كذلك هو مدى القدرة على المحافظة على هذه الشرعية,بل الأهم من كل هذا وذاك أن الشرعية لا ينبغي أن تجعل من صاحبها فرعون عصره,يحل ما يريد و يحرم ما يريد,يتصرف كما يريد و متى يريد,يفتح الباب الذي يريد و يغلق الذي يريد,يوزع اتهاماته شمالا و يمينا تارة بالعمالة,تارة بالكفر,تارة بالخيانة,تارة بالاستقواء بالخارج,وتارة مضحكة بمخالفة"الشرعية",فلو كانت الشرعية تمنح لصاحبها الحق في فعل كل ما يحلو له,لتصرف الرسول(ص) بما يحلو له,ولفعل بمخالفيه وأعدائه ما بدا له,باعتباره خليفة الله في أرضه و أفضل خلق الله من عرب و من عجم,وهل ثمة شرعية أكبر من خلافة الله في الأرض؟!
ولو كانت الشرعية تعطي لصاحبها الحق بالتصرف بكل حرية في حق "الخصوم",لسحق أوباما أو هولاند معارضيهما,مع العلم بأن نسب نجاحهما في الانتخابات أكبر بكثير من الأصوات التي حصل عليها"الشرعيون" عندنا مجتمعين,ومع العلم أن لهما من السلطات و الحرية ما ليس للمتبجحين بالشرعية عندنا.
سيقول قائلهم و هل الذين يدافعون عن "شرعيتهم"في مصر أو المغرب سحقوا معارضيهم؟
نجيب لم يفعلوا,ولكنهم لا يكفون عن اتهام هؤلاء المعارضين بأبشع و أشنع التهم,وهو ما لا يفعله أوباما و لا هولاند,ولا غيرهم في الدول الراسخة في الديمقراطية.ألم يصف مرسي و من معه معارضيه بفلول النظام السابق رغم أنه ومن معه أول من يعرف بكذب و زيف اتهاماتهم؟هل يتوقف بن كيران عن وصف كل من يختلف معه بأرذل الأوصاف؟هل سمعنا يوما رئيس دولة ديمقراطية يتهم معارضيه و منتقديه بأنهم ضد"الشرعية"؟وهل سمعناه يوما يتبجح بالشرعية و يكررها كل صباح و مساء كما يفعل "مسؤولونا",وكأن الشرعية تجعل منهم رعاة أمنين ومن بقية المواطنين قطعانا يسقونها إلى أين شاؤوا و متى شاؤوا,وكل "نعجة" تحاول الخروج عن "القطيع" أو الثغاء يكون مصيرها الذبح لأنها مخالفة للشرعية و لكونها جهرت بالقول و رفعت الصوت أمام سيدها,حتى لا نقول راعيها لأن كل راع ليس دائما مسؤولا,أو أنه مسؤول,لكنه لا يتحمل مسؤوليته كما يجب؟
الوضع عند السياسيين في الدول "الهشة سياسيا" وديمقراطيا,أشبه بالوضع عند الأطفال الحديثي العهد باللعب,فكما يتمسك الطفل بلعبته خشية أن ينتزعها منه أحدهم,وكل من يسأله لمن هذه اللعبة؟يجيب بعصبية و بجواب غاية في الاختصار:لي,كذلك يفعل السياسيون في بلداننا المتخلفة في كل المجالات مع فارق بسيط عن الأطفال,فهؤلاء لا يزعمون أن اللعبة لهم إلا عندما يسألون عن ذلك,أو عند محاولة نزعها منهم,أما سياسيونا,فيجيبونك من غير أن تسألهم,فتجدهم لا يكفون عن ترديد كلمة "الشرعية" في كل خطاب,معتقدين أن ذلك سيضمن لهم رسوخ تلك الشرعية أبد الدهر,وكأني بهم لا ينقصهم سوى أن يعينوا براحا ليتجول في أحياء كل المدن و القرى مخاطبا الناس"واسمع أمن اسمع الخير إن شاء الله,راه فلان عندو"الشرعية" و اللي مشا حتى قرب ليه,ما يلوم إلا راسو,إوا الحاضر إبلغ الغايب".
إن هذا التمسك المرضي أو الأصح الفهم الأعوج للشرعية يغلق الباب أمام كل معارضة و أمام كل توجيه و تصويب,فكل نقد في نظر هؤلاء هو بالضرورة رفض للشرعية,وهذا مناخ لا يشجع على المعارضة و على تقديم الرأي,بل يقتل الرأي المخالف أو يحبسه في ركن مغلق لا يستطيع الإفصاح و التعبير عن ذاته,وإلا فهو شيطان مارد كاره للشرعية!
هكذا تصبح الشرعية خنجرا يرفع في وجه كل من يعارض الفاهمين لمعناها خطأ,فتتحول بذلك إلى سلوك قد يؤدي إلى ارتكاب جرائم في حق المخالفين,خاصة و أن "تكيت" الكفر جاهز و هو أول ما يلجأ إليه هؤلاء المغلطين لتجييش الأتباع الذين نعرف و يعرف الجميع مستواهم التعليمي و الثقافي,فتكون الشرعية بذلك مطية لاغتيال الرأي الآخر إما ماديا-وهو الأخطر- و إما معنويا-وهو لا يقل خطورة-.
لا أحد من هؤلاء طرح على نفسه يوما سؤال:وماذا بعد الشرعية؟هل الشرعية تعني الحق المطلق في التصرف؟هل "شرعيتي" تلغي شرعية الآخر وحقه في معارضة "شرعيتي"؟ألست أكتسب "شرعيتي" من معارضة الآخرين و بالمقابل احترام شرعيتهم,بل و تشجيعهم على معارضة "شرعيتي" إن رأوا في زيغا أو خروجا عن الطريق؟ ثم إذا كنت واثقا من "شرعيتي" فلم أتمادى في ترديدها في كل خطاب و في كل مناسبة أو دون مناسبة و محاولة تهديد المعارضين بها كل صباح و مساء؟
أسئلة و أخرى نطرحها أو تطرح نفسها على زاعمي "الشرعية" لعلها تجعلهم يفكرون فيما بعد الشرعية.
ولكن الأكيد أنهم لن يتجرؤوا على طرحها و لن تكون لهم الشجاعة لفعل ذلك,لأن مثل هذه الأسئلة لا تصب في مصلحتهم,فتجدهم بذلك لا يناقشون إلا مرحلتين هما مرحلة"ما قبل الشرعية",عندما كانوا محاربين و مضطهدين كما يدعون,ثم "مرحلة الشرعية",التي ليس لهم استعداد-كما قلنا سلفا-لتجاوزها إلى ما بعدها.
#مصطفى_ملو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟