|
فى الدين (5) البوذية
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 3976 - 2013 / 1 / 18 - 15:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لو كان علينا أن نختار أحد الأديان الرئيسية القائمة فى عالمنا ليكون دينا موحّدا لكل البشر لما وجدنا خيرا من البوذية لهذا الغرض، فالبوذية أقرب الديانات لروح العقل ولروح الإنسانية، خاصة فى صورتها الأولى الخالصة كما دعا لها سيدهارتا جوتاما الذى أسماه أتباعه "البوذا"، ومعناها "المستنير"، فصار يعرف باسم "بوذا". والواقع أن سيدهارتا جوتاما الذى أرسى أسس البوذية لم يقصد أن ينشئ دينا جديدا، وهو لم ينظر لنفسه على أنه نبى جاء بوحى من السماء، بل كان داعية لفلسفة حياة وأخلاق على أرضية تراثه الفكرى البراهمانى. يدين بالبوذية فى وقتنا هذا نحو 300 مليون شخص فى أرجاء العالم، ورغم أن البوذية نشأت فى الهند إلا أن أكثر أتباعها الآن ليسوا فى الهند، بل فى الصين أساسا، ثم فى كوريا واليابان وڤيتنام وسنغافورة بجانب التبت ومنغوليا وفى أنحاء متفرقة من العالم. عاش سيدهارتا جوتاما على الأرجح فى منتصف القرن السادس قبل الميلاد. وُلِد أميرًا فى أسرة مالكة، لكنه فى نحو التاسعة والعشرين من العمر قاده حسّه المرهف وفكره اليقظ لإدراك أن الثراء ورفاهية العيش لا يضمنان السعادة للإنسان. قضى سنوات يدرس ويتأمل إلى أن تيقـّن من أنه لا راحة لإنسان إلا باتباع سبيل الحكمة، فغادر القصر الملكى وأمضى حياته معلـّما جائلا يدعو لطريق الـ "دارما" (الحق) حتى وافاه الأجل فى الثمانين من العمر. تتلخـّص فلسفة الحياة التى بشـّر بها بوذا فيما يسمّى بالحقائق الأربع السامية والطريق الثمانى السامى. ويؤسفنى أننى أجد نفسى مضطرّا لأن أكتفى بسرد موجز لمبادئ البوذية دون تفصيل، لكنى آمل أن يكون ما أذكره حافزا للكثيرين على الاستزادة. الحقائق الأربع السامية هى: (1) الوجود كله عذاب. (2) العذاب مصدره الرغبة. (3) يمكن للإنسان أن يتغلـّب على العذاب وأن يجد السعادة فى الرضا. (4) الطريق الثمانى السامى هو الوسيلة لذلك. الطريق الثمانى السامى يتلخـّص فى: (1) المنظور الصحيح، أن نرى الأشياء على حقيقتها لا كما تبدو فى ظاهرها. (2) النية الصادقة، نية نبذ الرغبات وإرادة الحرية واجتناب الأذى. (3) القول الصحيح، قول الصدق وما لا يؤذى. (4) الفعل الصحيح، فعل ما لا يتسبب فى أذى. (5) العيش الصحيح، العيش الذى لا يؤدى لأذى. (6) الجهد الصحيح، الجهد فى سبيل أن نكون أحسن. (7) الفكر الصحيح، الوعى بحقيقة الأشياء فى وضوح والوعى بحقيقة ذاتنا دون رغبات ودون صدود. (8) التركيز الصحيح، التأمل والتركيز. لم يشغل بوذا نفسه بالمراجعة العقلية للعقائد البراهمانية التى نشأ عليها، بل وجد فيها إطارا صالحا لبث فلسفة الحياة التى اقتنع بها، ووجد فيها توكيدا لما تبيّنه من أن العالم كما تـُظهِره التجربة الإنسانية هو زيف وشرّ. وانطلاقا من هذا المنظور رأى أن الرغبة المتشبّثة بالحياة ومظاهر الحياة الخادعة هى منبع الشر، وفى توافق مع عقيدة الـ "كارما" البراهمانية، رأى أن الرغبة فى الحياة وزيفها هى ما يقود الروح بعد فكاكها من أسر الجسد لأن تعود فتولد فى جسد آخر، وأن الخلاص النهلئى للروح لا يكون إلا بالابتعاد عن كل شرّ، وفعل الخير، والحرص على تطهير النفس والعقل. ومع أن بوذا كان يرى أن الحياة فى جوهرها شرّ وأن الخلاص من هذا الشرّ يقتضى التحرّر من كل رغبة فى الحياة، إلا أن طبيعته السمحة الخيّرة وَقـَتـْه من أن ينزلق إلى الاستهانة بالحياة وإلى اللامبالاة بما تفيض به الحياة من آلام وأحزان، وهو الموقف الذى يقترن عادة بالمنظور البراهمانى. أما بوذا فقد كان يبشـّر بالحب والإحسان، ليس نحو البشر فحسب بل نحو كل الكائنات الحيّة. ولهذا كان البوذيّون أوّل من أسس المستشقيات لتخفيف آلام المرضى، ومن بينها مستشفيات لعلاج الحيوانات. هكذا كانت بشارة بوذا فلسفة حياة فى إطار المنظور الفكرى البراهمانى، لكن أتباعه ما لبثوا، بعد أن فارقهم، أن حوّلوا رسالته إلى دين جديد، فجعلوا من بوذا إلها معبودا. وكما يحدث دائما، تكاثرت فى الدين الجديد معتقدات مستحدثة وطقوس مبتدعة، وتفرّعت البوذية إلى طائفتين رئيسيتين: (1) الـ "ماهايانا" التى تنتشر فى التبت ومنغوليا والصين وكوريا واليابان؛ و (2) الـ "ثيراڤادا" (أو الـ "هينايانا") التى تنتشر فى بورما، وكمبوديا ولاوس وسريلانكا وتايلاند؛ وطائفة ثالثة هى بوذية الـ "زن" ولها أتباع فى الصين واليابان. جدير بالذكر أن البوذية بكل فروعها وتنوعاتها ظلت ديانة تتسم بالتسامح التامّ مع كل المعتقدات والأديان الأخرى. لم يحدث على مدى التاريخ أن كانت هناك حرب وراءها البوذية. والبوذيّون لا يدعون الغير لدينهم بل يكتفون بشرح معتقداتهم لمن يطلب ذلك، ومع ذلك فإنها تكسب كل يوم أنصارا ومؤيدين على اتساع العالم.
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فى الدين (4) الهندوكية
-
فى الدين (3) زرادشت
-
فى الدين (2) نشأة الدين
-
فى الدين (1) كلمة تمهيدية
-
الهزل والجد فى أمر تعريب التعليم والعلوم
-
عبثية التفاهم مع الإسلام السياسى
-
ما العمل؟
-
حين نتنازل عن عقولنا
-
خطر خلط المفاهيم
-
السبيل لتحرير العقل العربى
-
مواد الحريات فى الدستور المقترح
-
مشكلة الدين
-
نقد الدين ضرورة حضارية
-
كيف نتحرر من أوهامنا؟
-
هوامش على -لغتنا والحياة- ل عائشة عبد الرحمن -بنت الشاطئ-
-
أخلاط هواجس
-
ما شأن الله بالدستور؟
-
القيم والدين
-
سفسطة إخوانية
-
ثيوقراطية الدستور المقترح
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|