|
شمعة ذكرى الى أُم عراقية
خلدون جاويد
الحوار المتمدن-العدد: 3976 - 2013 / 1 / 18 - 14:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قصص وخواطر خلدون جاويد
حبّاب
في احدى قاعات مستوصف صغير ، أمام باب الطبيب المغلقة ، كانت خالتي المكتنزة تقف بابهة .... عيناها زرقاوان كالبحر ، ذات امتزاج يوناني ايطالي اسباني .... عراقي جنوباوي ... مع اشد اللعنات السحرية الهابة من نسيم اسيوط ، وهفهفات شمس الأصيل نزولا الى مامبو سوداني .. و .. الشفاعة يامحمد . كانت جميلة . يضيع الأخ أخاه لو رآها في سوق ! ... ورغم كل هذا الحسن ، كان زوجها ( عمو فرفر ) كما كنت اصطلح عليه اسما وهميا ، يتمرد عليها ، يتذمر منها ، يشتمها ، يهينها . وهي راضية ... لكنه رضا مثخن بالكراهية ، وكواظم الغيظ وكوابح التآمر عليه ، لو رأت الى ذلك سبيلا ( ولماذا لاترى !؟) . كان هناك رجل نظيف الهندام ، نحيف ، أصلع يرتدي ثوبا ذا نصف ردن ، لاينفك يتطلع اليها ... وكنت اراقبه عن كثب ، لكني على العكس مما اتوقع التفت ُ الى وجه خالتي فرأيته ذلك الطافح بالسرور والبهجة والرضا ( لنظراته هو لاغير )! ...فبان عليّ استغرابي لولا اني كظمت بعد لحظات انزعاجي وخففت من غلوائي .... بعد حين وبقدرة قادر ومن دون انتباهة مني ( انا الساهي ) ، فاذا بالمركبتين الفضائيتين قد التحمتا وراح الموجب يتحدث للسالب وأنا فاغر فمي بكل ثَولَنة وذهول . بل لقد استحال الحديث الى همس غانج ! .... لسان حالها يقول : المستوصف والطبيب الى القير الأقير . لكن بعد حين جاء دورنا ففتح الطبيب الباب لنا ودخلنا انا وهي . بعد ان انتهينا من الفحوصات الطبية ( هذا الكلام قبل سنوات طوال ! ) انسربنا من الظل الوارف الى جهنم حيث شمس حرارتها مهيجة للدم واللحم والعظم .... لهيب بلا دخان ...وخالتي بخدود السُمرة والحمرة .... تحاشيت ، وأنا أهبط من سلالم المستوصف ، وهج الضياء ، فأشحت بوجهي واذا بعيني تصطدم بمرآه ثانية . كان يقف مغالبا الحرارة ... بدا لي انه اشبه بعمو فرفر ، ولكن لا انه ذات الروميو المستميت . قال: الشمس حارقة .... تعالا اوصلكما ... تفضلا ... قلت في داخلي كلمات بذيئة ضده ... ضد صلعته خاصة ! فتح باب سيارته لنا ومد يده باحترام اميري ( آه منك يا أمير ! ) ..... كانت دوج موديل 67 صناعة ذات العام ... جديدة على الطريق متألقة اللون ، اوتوماتيك ... مبردة ، مع نغمة جميلة على سبيل " الحب كلو حبيتو فيك وحناني كلو ! ) " . .... كنا أنا واياها ... في الحوض الخلفي ، أنا مركون جانبا ، مهمل بطبيعة الحال ..وهما ماينفكان يتحدثان ... والأخ اللآمع من جهة الرأس يسوق .... ولماذا لايسووووووق ! .... نصف ساعة وهو يسوق ويتألق بالكلام المهذب الساحر .. أخبرته هي بأن لاينزلنا في الحي المسمى ( ...... ) .... هنا أحسن ! . نزلت أنا ... تأخرت هي في الحوض الخلفي ... همس وهمس ... يتناهى بعضه الى اذني ... العنوان كذا ... وقت انتهاء العمل في الساعة كذا ... المسألة الفلانية كذا وكذا ... عندما نزلت خالتي ، قالت لي وقد احمر وجهها وتألق ابتهاجا : - لاتخبر عمك فرفر ... ها ؟ .......حبّاب ! .
قصة واقعية حدثني بها احد الأصدقاء ( فرِحاً ) عن المرأة التي خرجت عن القاعدة رافضة ان يسير القطار على سكّته دائما . صيف 67 .
الصعود نزولا
كان قد انتشر في بقاع لاينآى لها خيال ... وعانى بكاء الرجال في العزلة ... ولم تمكث معه حتى الابتسامة التي بكت هي الاخرى على شفاهه ... انه لم يستطع ذات يوم ان يعرّف نفسه ... أهو قرصان مهزوم ام قبطان حكيم ؟ ام شيخ بحار سبعة . رفع قلنسوته عن رأسه والقى بها في اليم وراح يستلقي على وسادته في ظلام غرفته الفسيح .... راح يعتلج بجحيم كلمات بل بسعير من الحس المكبوت والقاتل والمدمر ....عشرات الأعوام وهو يسافر من بلد الى آخر . كل ذلك من أجل صباح غد . فلقد لملم بأصابع يده كل شئ . وغدا صباحا سوف يبدأ . كانت امرأته تنثر شعرها المشمس في ظلام الغرفة على وسادة بيضاء . كانت تتنشق كلماته وتمتلئ بأريجه .. ويترجرج جسدها بزهور عاطرة من حكاياه الجميلة عن نواقيس الزمن السابع . وكانت الوسادتان في تلاحم وعناق من العشق المكابر ..اذ يمكن لعشقهما ان يبدأ من أعمق حفرة في ظلام بحر الى أبعد نجمة شقراء في اسوداد السماء . شدّ على يدها طويلا . وبقبلة دافئة ، سمّر شفاهه الساحلية والمتوحشة على زنبقتي فمها ... على شفتين من الكرز الحار ، وقد التف ساقه المرمري الضخم على حرير اديمها البض ، وحيث اوقد عودا من الثقاب في جحيم تلك الليلة وحيث بدأ لتوه يداعب بأصابعه سفوح النيافة الجميلة ، حتى توقفت يده بهدوء مما أثار استغراب زوجته التي راحت عيناها تتأمل في ظلام الغرفة وهي تصغي الى انفاسه التي اخذت تنتظم في شهيق وزفير بارد وفي غفوة تتعمق رويدا رويدا.... قالت في نفسها : اذن انتظر الصباح .... همس في نومه ، وكأنه استمع الى خوالجها : ماذا عن الصباح ياحبيبتي ... سوف افتك بخيوط الفجر مادا عليها جناحي ممطرا بياقوت الجراح على الافق .... غدا سأشد احزمتي باتجاه القمة ... فان هناك سري واكسيري ... وكان الصباح وفوجئ بكونه وحيدا في فراشه .. اين المرأة الوردة ؟ .. لقد غادرت ...آه ... الى أين ... دفع بجسمه خارج الفراش .. وأول ماتناولت يده ستارة الشباك الصغير حيث العراء المطلي بجليد قارة لاحدود لها .. كل شئ أبيض وفق ما رآه... والمرأة آه منها ... انها هناك .. تتحدث بأعلى صوتها ... هل يطمئن الى انها موجودة ؟ نعم ! ... اذن عليه بالعودة الى حانة النوم الجميلة وحيث يضع امام منضدة نومه قناني لا انتهاء لها. عاد واسترخى ثانية بل راح شخيره يتصاعد حتى فتحة باب بيته المتنقل والذي ما انفك ينام فيه . أما الركب ، فقد ظل بالانتظار المشوب بالشك طيلة الصباح ... وظل السر محجوبا . وأخذت الهمسات تنتشر الواحدة تلو الاخرى .. ولا خيط ضوء للحقيقة مابين صحيح وكاذب . المهم انه مايزال منشغلا ... بم ؟ باكسير للحياة المقبلة.... برسم خارطة للعمل الجماعي ... بلملمة اوراق سرية ... بشؤون ذات أهمية فائقة للتصور . لا أحد يدري ... المهم انهم في عراء الانتظار ... ان شيئا ماخلف هذا الباب ذا اهمية كبيرة . اهمية اللقاء بين طبيب وحالة مرضية عسيرة ... المهم ان عليهم الانتظار ليس الاّ . أخذت الشمس تهم بالانسحاب رويدا رويدا تحت غيوم دكناء . وكان الرجال في تأهبهم الرجولي ، وكل شئ جامح فيهم ، رؤوس الخيول ، السروج ، الأصابع ، النساء ، الأطفال ، الرضع ،الماشية ، كل شئ يقف تحت المطر . تحت الغيوم السامة . وهناك ، وبالمقابل ، رجل ما .... رجل يخطط للمصير ... رجل لايشك في حنكته حتى الموت . انه الآن في صومعته . انه يصنع شيئا ما من اجلهم . انهم على ثقة وهذا ما يبقيهم .. مايجعلهم يموتون انتظارا . قالت المرأة بنوع من التبرم – هل انتم على مايرام ؟ . - اننا في الانتظار العذب ! - سقطت عندها البدايات ... بدايات نثيث مسموم من المطر . انه الجمر البارد لمياه غاضبة . كان هناك بعض الرضع . وكذلك النساء اللواتي اخذن يلذن ببعضهن البعض . الاّ ان ذلك الملاذ التافه . هو ملاذ القشة بالقشة . فلقد تقدم جيش من الرياح باتجاه القافلة ... وما كان الرجال بخائفين على اطفالهم بل على بيت القائد المتنقل فلربما مسّت قطرة من طلل الجورية جبينه وهو يكتب ، او يبرق ، او يخطط ، وكان هناك من يفكر بمصباحه الصغير ، لربما توقف في الريح ... كيف يستطيع رجل ما في القافلة ان يشحنه بشئ ما من روحه او عينه او دمائه . سقطت امرأة . وراح رضيعها يتهاوى ساقطا عن يدها ، وقد لف حول جسده الصغير جراح جميع الامهات ، ونحيب كل السفوح ، وراح يتدحرج الى مالانهاية ، عبر خواء الكون وصحراء معانيه ... انه يتلاطم عبر الممرات ، والشعاب ، والوديان الظلماء ... انه .... وراحت امرأة تبكي .... بل راحت عدوى البكاء تنتشر في القافلة بين النساء فقط . وكانت وجوه الرجال عابسة غاضبة ... وغطت اصوات الرياح نواح الحزينات ، والقائد... القائد الفولاذي انه يخطط ! ولذا انبرى احد الشبان لمخاطبة الواقفين .. مارا على خيولهم واحدا واحدا مستفتيا اياهم ، واقفا أمام عيني كل واحد منهم ... محدقا فيهما ... وقد رقرقت عيناه من أثر الريح وانتهى الاستفتاء بصمت وعذاب ... وكانت الريح حائلا كبيرا ، وبالرغم من هذا فقد استطاع هذا الشاب الغرير ان يحصل على كلمة استفتاء شريفة ... عاد ووقف بجواده أمام الركب قائلا : اذن وحسب اغلبية الآراء فاني سأذهب وادحم بابه !! حل الوجوم على بعض الوجوه .... تشاورت وتهامزت بعض العيون فيما بينها ... وانتهت الى قرار سري لابد من تنفيذه الآن . نادى احد الشيوخ المرموقين في الركب على ذلك الفتى الغرير... تقدم الفتى مذعورا ... التقى الجوادان بهيبة ملكية ، وذهبا بعيدا عن الركب ومن على صهوتي الجوادين وقرب مجرى ماء صغير، التقى جسداهما للحظة واحدة ثم انفصلا وسقط الفتى من على السرج وراح جسمه ينزف في الريح ... وعاد الشيخ الى مكانه ... وحل سكوت غريب ... اذ كانت كل وجوه النساء شاخصة باتجاه الجثة التي أخذها الهواء ... أخذت الرياح تزداد عتوا ... انها رياح باردة ، قاسية . ولذا راح احدهم يمسك بالآخر ... وانبرى الشيخ وبعض الرجال الى شد القافلة بالحبال . شد اجساد الرجال من وسطهم بعضا الى بعض . وكذلك النساء . وسرى هاجس من الارتياح الى انهم ممسكون بعضهم بالبعض الآخر . الاّ ان الرياح كانت أشد وأعتى من ذلك . وفي عتمة الليل صرخت النسوة . اذ سقط أكثر من طفل في الوحل ، وأخذن يتصايحن بأسماء آبائهم : - ياأحمد .. لقد طاح طفلك ... ويا شهاب لقد مات قرة عيني . ومرت ليلة الكوابيس .... وأطلت شمس الصباح ... خافتة في يومها الثاني ... يومها المدلهم . قبور الى اليم ... ووجوه حزينة ... وفتات طعام تدور على الأفواه . بعضهم من يقضم الخبز بألم ... والبعض الآخر من يرفض ان يأكل والجميع في انتظار قاس ٍ . وصرخت امرأة : هل نطرق الباب ... تكلموا ، ايها الرجالُ الخواءُ ... أيها الحديد الذي صدأ ... ماذا بكم ... تكلموا قرروا .... لابد ان نخاطبه ونعرف متى وأين المصير ... هيا تقدموا اليه ... ارفعوا أصواتكم . ادحموا الباب ... . قالت امرأة مكللة بالسواد : - سنموت جميعا لامحالة ... وبانتظار ماذا ؟ .... وتململ وجه شيخ يحاول الكلام ... شيخ أصفر كظيم السريرة ... يكاد أن يموت للجفاف الذي يداهم جسده ... انه آخر من يأكل في القافلة. انتبه القوم الى انه يطلب الكلام .... حل سكوت أليم . - ايها الأبناء ... لابكاء على الذين استشهدوا ... ان ذلك قدرنا وطريقنا الذي اخترناه ... وان السير في الطريق المزدحمة بالجماجم هو سر اعتصا منا بحبل واحد ... لقد اتفقنا على القرار في السلم فلماذا نختلف عليه في المحنة . احذركم يا أبنائي ان لاتدوسوا على شيب المسيرة ولا كبرياء القافلة ... ولا تفتتوا زهرة الاصرار ... لمجرد موت رجل ... او ثلالة او أربعة أطفال ... ان للقائد حنكة ورأيا . وتلك حدود القائد اياكم ان تقربوها ولاتطرقوا الباب المقدس الذي يدخل او يخرج منه .. فلربما كان موتنا سلمنا للصعود ... ان دم القائد هو خارطة العمر والمصير ... اذا اصاب ... واذا أخطأ . هبت العاصفة من دون توطئة وراحت تتساقط النساء من ظهور الخيل ... وعاد المطر المسموم ثانية ليبلل الوجوه بالدم ، وكأنما صخور من السجيل تنهال عليهن بل على الجميع .. انها الرياح التي تقلع الاشجار الباسقة ... انها تمر بالسبي على شبان غريرين ونساء مستضعفات وبقايا رضع وشيوخ ... انها رياح تضرب الأكباد من قبل أن تنال من الجلود ... وما أن تمس المقلتين حتى تعميهما . الصباح الهادئ يطل مرة اخرى ... الدم يملأ الافق ... ودماء شمس مقتولة على سحنة الافق ولاصوت يبشر بميلاد شئ ما . ولا صرير باب ولا انفاس جديدة بل انها القافلة التي لم يعد فيها سوى امرأة واحدة وحصان وشيخ ملتف بعباءته ممسك بعصا من حديد ... كلاهما جالس . عند باب تلك الخيمة ... وثمة كلب قد ابقت عليه العاصفة ... أما الآخرون فلا أحد يعرف عنهم بل انهم لايمرون في ذاكرة أحد ... بل ما من ذاكرة تتسع لخيال شبح منهم ... انهم ليسوا الاّ حلم عابر .. حلم بلا لون ... انه شئ باهت .... اذ لا شئ يتحرك غير ذيل كلب ... انجبته العاصفة ... وامرأة تستند رأسها بكفها الذابل وتعاني المخاض . وشيخ ينظر للبعيد .... وكلاهما ينتظر ... والباب ....الباب مازال مغلقا ... سديم لا أمل فيه ... وكل يحدث نفسه هامسا ... هل ... هل سيخرج القائد ؟ ومن يكون الأجدر بنا على مساعدته ... يحمحم الحصان مرة .... وينبح الكلب اخرى .... والمرأة تتأمل بقسوة والشيخ يضحك ساخرا ... ناظرا الى الافق البعيد تارة ... ومحركا يده يمنة ويسرة تارة اخرى ... وفي تلكم الأثناء ، جمد وجه المرأة .... ومس الرعد عظام الشيخ .... .... وتخشب لسانه عاجزا عن رد التحية .... بل توقفت حمحمات الحصان .... وقرفص الكلب ... انه هو .... بحلته شبه العسكرية ... انه القائد . - ماذا به .... قالت المرأة في سرها ... انه يتثائب .... ماله ... مالشعره غير المرتب ... كل شئ فيه متسم بالفوضى والاصفرار والتعب .... انه لايزال يتثائب . ادرك الشيخ بضحكته الساخرة والمكبوتة بان الرجل مرهق . وانه خارج لتوه من ميتته الصغرى …. هل ياترى كان من أهل الكهف …. كل شئ يصرخ فيه بالجريمة …. جريمة نوم لامثيل له …. وقالت المرأة في سرها …. ربما انتهى من قراءة كل كتبه السرية …. انه يقرأ ( الجلجلوت ) اظنه سوف يأمرنا الآن ببداية الرحلة الى القمة … واحست بتأنيب اذ لاطاقة لها بتلبية اوامر قائد عظيم لم يستطع أعتى الرجال انتظار زمنه الخاص … آه …. هل سيأمرنا بالصعود؟ …. حدثهم القائد منزعجا بعد أن نظر بأكثر من اتجاه . - جيد ان عادت القافلة ولم تنتظر …. ضحك الشيخ في سره …. نعم لقد عادوا الى الأرض وسوف يثوبون الى رشدهم مرة ثانية … استغربت المرأة في سرها . قاء الكلب لونا أبيض . وأخذ يقيئ ويخرج صوتا ما يقاطع به القائد …. وخرجت الزوجة بثياب جميلة …وبديباج بهي … كل شئ فيها عطير وثياب النوم الزاهية تداعبها نسمة من هواء عذب …. لقد بدا وسطها كبيرا هذه المرة لا بل انها فعلا كذلك …. انهى حبلى …. بل تبدو مثل وزة حبلى ! أساور من ذهب على ذراعيها . قلادة ذهبية قديمة عليها شعار مرصع بالزمرد ... تناول القائد وبانزعاج كيسا من العلف واتجه نحو الحصان : - يبدو ان ليلة امس قد كانت ليلة مطيرة …. المطر يزعجني كثيرا . وضع الكيس عند فم الحصان . وأخذ هذا الأخير يمضغ بارتياح وقد راح القائد يسرجه بصمت . وكانت المرأة تنظر باستغراب والشيخ يضحك بسخرية … والكلب يستأنس بالقيئ . وكانت الغيوم سوداء . والبرك التي ستكوّن المستنقعات تنتشر من حول الجميع ، والزوجة تسير الهوينا نحو الصهوة . صعد القائد وتناول يدها الناعمة … وضعها امامه وقامت هي بالصاق جسدها برغبة واضحة بجسده ، وحوّل هو وجه الحصان باتجاه مغاير . قائلا للحضور وبعد ان مسك بالزمام : - اذا جاءت القافلة أخبروها بأني فقدت الرغبة بالصعود الى القمة .
غزل المدن
يقف كل صباح تحت مظلة الباص ... الباص 23 ( باب المعظم – اسكان ) ذلك الذي يأتي محملاً بأشذاء الصباح من السور والطوب وحيث مدرسته في البارودية أيام زمان . يمر بالأنداء والظلال الرخية ، بدكاكين القيمر والكاهي ، يتحمل بأقداح الشاي ، بأريج الحامض ، ودارسين الحمامات ، ويتحشد بعبق الخبز الطالع من أزقة الأكمكخانه، يأتي بحنين الرصافي الواقف قبالة الجسر ، وينساب مضمخا بالشعر حيث سوق السراي معبد الكلمة الخالدة ، من هناك وعلى طبق ( الخوص ) يصفف ضفيرة الدنيا الذهبية تاجاً لرأس خولة الجميل ، اشرطة ً فضية حِيكتْ بأصابع المتنبي ، اقراطا تتضوع بعطر الجواهري ، حناءً من دم السياب ، التياعا هاشميا لتقبيل السحنة بشفاه سماوات مغرورقة ، اغاني وهلاهل من شعراء الطف ، بوسات من احمد الصافي النجفي ، قرآنا بسلسلة ماسية يحط بين نهديها المؤرنبين ، أقلام حمرة ووهج مصابيح وعطورا وحمالات نهد من شارع النهر .... قداسة من دم بهيجة الجسر . الباص 23 يتبارك بالماء المهفهف بالنسمة واندياح النوارس الزاعقة على دجلة ، يدور على ساحة الشهداء باليمن والرضا معتذراعن مسيس عجلاته .... فالأحمر الليلاند يأتي بمن ٍ وسلوى للمنذورين انتظارا تحت المظلات والواقفين بخشوع وصبر . - متى يأتي ؟ .... لا وقت محدد له ؟ - ربما هو الآن يجتاح الشواكة الموردة باللهفة ... ينافح بالأنين الطويل ... يلهج بأعلى لغات الدنيا صمتا ً ! آه ٍ لو يقوى ... لو يقوى لسلّم لي كما يفعل المصلون في خاتمة الصلاة على اليمين ليخص الشيخ معروف بهزالي وكبوتي ودنو أمري . اواه .... هل تعلمين ... لقد جسّني الغزالي ، وبكى على ذلي السهروردي وتاقت براثا الى ضم حزني ... وموسى بن جعفر يممني شطره ، وجادت علي ّ المقبرة التركية بالياس والماء الساخن والكافور ، والانجليزية شهدت انطواء كفني وأُم ّ ُالعظام وسّدتني . 23 يحييّ على الكتف اليسرى ليعنيني بطول المقام ،،، بإندراس سومر فيّ ... فها هو المتحف الام في الارضوملي مهاد جراحي المرمرية ، وخرزه الجامدة دود على انكيدو وجهي .... وكلكامش !! كلكامش لا أمل له بذؤآبة من شعر خولة .... واتونابشتم سد ّ على وجهي الباب الى المعنى ، والكمثرى اكلتها الأفعى ... عشتار العشق تئن بروحي . بابل اطلال ٌ لامستقبل لي . 23 يتثاقل بخواتم الخورنق والسدير ، بجرار الفيحاء ، بقلائد اميرات الحضر ، ها هو يتناسغ بالسعف والزهر والآس ممتلأً بأريج المتنزه ، متنزه السكك حيث بكور الهدأة والخلوة ، حيث يلملم الظل والأثل والماء ، ويسرق خد الجوري ولمى القرنفل ، يكلل واجهته بالرازقي واليلدز والختمة ... يجرجر خلفه اللبلاب وورد الساعة وحلق الأسد . هاهو يشتعل بأصداء زفة ويحترق بايقاع دبك ملحمي . هاهو يتوضأ مطرقا لآذان جامع حي دراغ ويتلاهث مسرعا الى محراب كالمذبح ، يميس بالتين راحة حلقوم لفمها ، وبالزيتون غصنا على جبينها ، وبالعنب أقراطا ً من ماس للاذنين وبالتوت الأحمر لونا لشفاهها وبالنبق بركة ليديها . ها هو يمر بحي الزعيم المغتال ، وحي المعري المظلوم ، واسكان الشهداء المكلومين ، ها هو يعبئ رئته بالسحر مرة وبالشعر اخرى وبالحنين الدامع . هناك وحيث يقف 23 ليمكث في واجهة زقاق ضيق ، تطل خولة مسرعة بأقدام الغزالة القيثارة ! المحناة بطوفان اول نجيع على الأرض ، بدم هابيل ، بخلخال من صنع سنمار المهندس ، بخواتم بصراوية ، بزركشات حدباء باهية ، بعطر من غابات بعقوبة ، مسرعة بظلال البادية الحارة ، تصعد بحدائق بابل المعلقة ، وتقتعد كرسي الزقورة ، تنطق بلسان من عسل كربلائي ، تبعث الصوت برنين بيات وأوشار . ولحظتها يموت هو ميتة جامعة مانعة .... يسيل 23 مثل يخت سومري يعج بالعزيف وهي الشرود مليكة لاتنطق . آه ... من أجل من نكّست في الحيدرخانة رأسي ؟ وتهافت كالذليل في السراي ؟ ونذرت في شارع النهر روحي وقتلت على الجسر ؟ وتعفرت في المقابر وتحملت بالورد الجارح والقادح من أجل من ؟ آه ما أصغرني وأضواني ولمن أقف عند رأسها في زحمة الباص كل يوم مثل تمثال من تل حرمل ... اتفسخ بمائة مليون سنة ضوئية ولا أنطق ، لا أنطق أنا الآخر ! أمام عرش المليكة شفتي تتحجر ولساني قطعة مرمر ! .
تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان
في مطعم المفتاح ، منتصف شارع السعدون ، تماما قبالة سينما النصر والشارع المؤدي الى فرقة المسرح الفني الحديث ، كنا نقتعد الكراسي ونتحلق حول طاولة بشرشف أبيض ووردة حمراء تتوسطه . ومن حول تلك المزهرية تقف ابنة الشعير القهوائية اللون ، باردة كانت ، يُكسر فيها حرّ الظهيرة . وللمزيد من التغزل كانت من النوع الحبيب الى النفس : شهرزاد وفريدة ولاكر . كان النادل كثير الحركة حول طاولتنا ، وكنت أُلبي نهمي الأزلي ونهم صديقي الذي يجلس قبالتي ، بينما تجلس زوجتي الى جانبي كصمام أمان لأحتمال افراطي أو تفريطي بالصحة والمال . قال لي بعد أن دب دبيبها : - ستغادرون جميعا وأظل وحدي .... دمعت عيناه بل كادت تفيض ...تطلعتُ في وجهها ، كانت هي الاخرى متجهمة السحنة والروح . عاد النادل مرة اخرى ليحمل القناني الفارغة ، ووسط نقنقاتها طلبنا قنينتين . كنا نكف عن الحديث لمجرد مرور أي شخص أو لحضور ذلك النادل المصري ذي البذلة السوداء والثوب الأبيض . كان الحال غائما مدغما مدلهما وكما يقول الشاعر كاظم الحجاج في احدى قصائده القديمة : " كل الناس شرطة " . كانت الواجهة تطل على ذلك الشارع المنتهي الى أبعد من بناء المسرح ، ومنها نحدق باطلالة سينما النصر الجميلة . في تلك الظهيرة كان المارة قليلي العدد ، والأكثر وحشة من ذلك أننا سوف لن نرى أحداً ممن نحب ، بل ان الجميع غادروا .... والآخرون كأنما ارتدوا طاقية الاخفاء ... لا أدري لماذا اتخيلهم يسيرون بقبعات سوداء منتكسي الرأس ، بقصد ان لايراهم أحد ، حقا فالحركة قليلة ، والنسمة موحشة تحرك أعطاف الشجيرات على رصيف الشارع من كلا الجهتين ... لون الاسفلت من وراء الزجاج جميل . الزجاج يعطي بهجة للرؤية ، خصوصا من وراء عدسة كاميرا ... قال لي : - كلهم راحوا ...وانتم راح ( تملصون ) ... تطلعت مرة اخرى الى وجهها .... والى الطائر الجريح المرفرف أمامي . سكتنا ونحن نحدق به مرة ، وبوجهينا مرةً اخرى .... بسينما النصر ، بمطعم النصر وبائع الكص والخياط المجاور وبائع ( الشامية ) و ( الجايجي ) .....الشجر يهفهف قليلا .... يضع هو سيجارة اخرى في فمه يشعلها بعقب سيجارته الاولى ... تمنيته لو يمضي لقضاء حاجة ما ولو لبضع دقائق ... اريد أن احدثها بصدده ... بعد حين فعل خيرا ونهض ..... كان حزينا للغاية ... قال : - راح أبقى وحدي يقبل ضميركم ... ؟ - بعد أن اختفى مؤقتا ....(دانشتها) ناقشتها بالأمر باعتبارها وزيرة المال ... أجابت موافقة .... قلت : - يؤلمني أن يبقى وحيدا . قالت : اتفقنا ... لايهمك .... سنقتسم زاد الطريق معا .... عاد وجلس ليرفع كأسه مباشرة ويعب بقوة وحماس أكبر .... قلت : - شنو قاطع جزيرة ؟ .... ابتسم حائرا ... شعرت بأن الشارع يداهمني بليل مفاجئ . ليل في الظهيرة ... شئ مخيف يدب دبيبا لايحس كأنه أفعى ، او كأنه الصمت الذي هو العاصفة بذاته ... قلت : - غانم لتدير بال ... تعال ويانه اذا تحب . - صحيح؟ - مثل ما أقول لك ! عبر عن دهشته ....رفرف بمقعده ... دبت في جسده الصغير حركة فرح ، تحفز وجهه لما أقول ولما أكدته هي له : - ألعن أبو الفلوس بكره نحصلّك على سلفة 100 دينار . دينار ينطح دينار ( ضحكنا ضحكة مختنقة ) . - تأملنا الشارع معا . .. كان ملعب صبانا ، بل هو فردوس لقاءاتنا عند توفيق ناجي " تو تو " الخياط ... رصيفنا الذي سرنا عليه آلاف المرات لنرى الوجوه الحبيبة ...مواعيدنا لقضاء الظهيرة في الصالات ، وايضا مشرب النصر ، المزمار ، سينما سميراميس ، بابل ، التجمعات في مدخل المسرح الحديث . التجوال طيلة الشارع ، الانتهاء الى مطعم المرايا . الانعطاف من جهة الأربعين حرامي الى الكرادة .... أحبابنا الذين يأخذون أوراقنا ، قصصنا القصيرة وقصائدنا الى مبنى الجريدة " طريق الشعب " . - لن ادعك وحدك ...اطمئن ... صباحا سنلتقي في موقعنا العتيد . - رحنا نسير على الرصيف . احساس مخنوق ووامض باللوعة ، لوعة الفراق المرتب له . اذ لابد من فراق يوفر علينا حياتنا . لابد من انسلاخ من هذا الرحم القاسي .... لابد من سفر ! كل كان يخاوص عينيه باتجاه لقطة ما ، ذكرى ما ، عشق ما ... كانت ظلالنا حتى ظلالنا هاربة . ورؤوسنا المرتفعة خداعاً هي منتكسة حتى الأقدام ! .. كنا نصرخ من أجل ذلك ، من أجل دمغة شرطي دائرة السفر على الجواز . من أجل حفنة من دولارات هي زاد الطريق . من أجل متر من التراب نضع أقدامنا عليه ... موضع قدم على طابوقة في الجحيم ولا العراق !!!!! .... سرنا نضع يدا بيد وبعد أن غادرنا ( غنومي – حبيبي ) الى المسرح كي يقوم بدوره المسرحي في رقصة الأقنعة ... المسرحية التي ظل فيها غانم صامدا ولم يسافر حتى ينجزها . ولا أدري لو توفر لديه المال هل كان قد هاجر كالآخرين ومن أول ( طكه ) .... على أية حال لقد صمد وحافظ على العهد الذي قطعه للاستاذ الفنان جعفر السعدي . رحنا هي وأنا نسير يدا بيد بل قلبا بقلب ... خطوة بخطوة أصابعنا تلم بعضها كأنها تنقذ آخر ما تبقى من حريق ... هي تضع جواز سفرها في حقيبتها وقد أنجزت المعاملة بادعاء انها ربة بيت ... وليست استاذة ... أما أنا فقد رافقني ( توفيق ناجي ) الى دائرة الجوازات لكيما يعلم بمصيري على الأقل ....كنت خائفا من قضية سرية ومن احتمال ان يكون ( منع ) ضدي .... ( غانم ) لاماض له في الحركة السياسية أي انه يستطيع الحصول على تأشيرة الخروج .... أيضا تبين لي فيما بعد أنه محض صديق للمعارضة أو أنه ( عِرِف ) كما أكد هو ذلك باسلوبه الكوميدي ... كنا : هو – الذي لايستطيع أن يتنفس الاّ من خلالنا - وأنا ، نحصي الذين يغادرون تباعا ( ... ي ع ... شمّع الخيط في 1/1/79 . ج أ + ف س قبل هذه الفترة . ع و في نهاية الشهر الماضي . خمسة آخرون في بداية الشهر الثاني . ( ل ) اختفى ( ج ) ذهب الى كردستان نصيرا ... ( ع- ع ) وقع على استمارة التبعيث القسري . كنا نسخر منه ولكنا نقول أحيانا لاترموه بحجر . وغانم محق اذ لايطيق أن يعيش وحده . الفنانة الكبيرة ( ز ) سافرت مثل غيرها ، على كراهة ومضض . ( العمة ( ز – خليفة ) دخلت السجن وهي احدى بطلات العراق وامهاته . ( م- ش ) انزوت في دارها .... ( ط -ع- ر ) أخذ يقرأ القرآن ويعيش امتزاجا ماديا ديالكتيكيا لاهوتيا ساخرا . (م ) ادعى الجنون .... ولم ينتبه الى انهم ربما يعدمونه بمكان مجرم ما مستلمين صفقة مالية من الأخير . ... أبو شاكر لم يعد له وجود ... آه ... " العالم سجن والدنيمارك زنزانته " بل استطيع أن اضيف مع الاستئذان من هاملت بأن العراق مقصلته . الخوف يطرق كل الأبواب . رجال الأمن يسطون على البيوت من سطوحها . سلّم خشبي طويل على جدار واذا بالرشاشات والمسدسات على رؤوس النائمين والنائمات . وكذلك الحال بالنسبة الى الموظفين وهم في حجرات عملهم تماما كما حدث للصديق ( ح – ذ ) الذي اعتقلوه وساروا به في سيارة لاند روفر لكنهم أطلقوا سراحه بعد ساعة !!! وبعدما ادعى قائلا ( لنا ) والعهدة على الراوي ، بأنه وعدهم بالتوقيع على الاستمارة حال عودته الى دائرته بينما كان هو الآخر مهيئا اوراقه للمغادرة ... آه ... كان عدد الداخلين الى العراق من العرب بالآلاف وأيضا من جنسيات اخرى ، ويعني ذلك تبديل دم بدم . طبقة عاملة ومثقفيها الرافضين بطبقة عاملة منسجمة همها الحصول على المناصب في بلدنا ... و ( المناصب) ! ... انها تدوس بآلاف الأحذية على شعار ياعمال العالم اتحدوا . في الكابينة المخصصة لستة أشخاص ، جلسنا ومعنا حقائب قليلة . كانت اخت زوجتي قد غادرت قبلنا بأيام واخت زوجها أيضا . ح مع خطيبته ... والفنان ( ح ) أيضا ....كنا لانرى بعضنا لكن " الريل وحمد " الذاهب الى تركيا كان محملا بنا والعنوان سفرة سياحية أو لغرض العلاج والاستجمام والعودة بعد ( 15) يوما . كان المدراء العامّون في الدولة أدرى بهروبنا وكانوا يقدمون التسهيلات لذلك .... يعني ( خفة وراحة ) وبلغة السياسيين يعني افراغ الساحة السياسية من وجود الخصم وباللغة الدارجة غاب القط العب يافار وبلغة الشاعر الجاهلي " خلا لك الجو فبيضي واصفري " . كان غانم يجلس قبالتي في الكابينة ....يفرك أصابعه دون شعور ويرفع بعد حين السيجارة ليدس عقبها في فمه ويطلق نفسا دخانيا حادا .....دخان دخان دخان ...كأنه قطار من القرن التاسع عشر ! ...كانت في عيون كل منا اختناقة دامعة للوداع .....الخوف لايجعلنا نبكي .... اذ لم نبكِ لمشهد اهلنا وأصدقائنا الذين ودّعونا في المحطة .... أنا لم أشعر بأهمية الكلمات الحبيبة التي قالتها نوروز وأكدها سامان حيث أهدياني قنينة عطر . وهو لم يكترث كثيرا لوداع اخوته في أجواء الرعب تلك . تحركت عجلات القطار سنتمترا واحدا في اهتزازةٍ اولى . وبدأنا نلوح تلويحة الوداع المذعور واذ بغانم يتطلع لي بعينين أسيفتين ساخرتين وهو يقول : - أبو حسن ....تدري ؟ - ماذا ؟ - -صار عندي " هوم سِك " . كنا تماثيل هاربة في ظلام الساعة السادسة مساء ،حيث عوى القطار وسار بنا وظلت ترفرف أمامنا المشاهد الخضراء واليابسة لمدة ستة أيام عجاف . حذرونا من تركيا .... اياكم من فتح الأبواب فهناك لصوص ومافيات ...الخ ... وهذا ماحدث فعلا . فقد أغلقناها ايما اغلاق ... تُخلع الباب ولا نفتح القفل بل لو يُخلع القطار كله !....ولقد طرقوها عدة مرات ولم نفتح ، لكن هاجسا ما دعانا الى فتحها والسبب ان طرقات الشرطة معروفة ومحسوبة حتى في اللآوعي والماوراء ! ...أي تلك هي المرة الوحيدة التي فتحناها فيها ، عدا فتحها لبعضنا البعض عند الذهاب الى بيت الماء . قال لي رفيق ما بعد أشهر بأنه رآنا بذات القطار وقد كان في الكابينة المجاورة . أيضا هذه حال أحد الفنانين الذي سلك ذات الرحلة . كما اخبرتني امرأة بعد سنوات وهي تقيم الآن في فرموزا ! بانها كانت في تلك الفترة تعمل في المحطة العالمية كقاطعة للتذاكر ...حقا لقد كان قطاع واسع من الشعب راحلا بجلده . كان غانم منزعجا ... ففي اجتياز الحدود العراقية بدا متخوفا من أن يجدوا معه ديوانا مخطوطا لشاعر عراقي مايزال يعيش في العراق . كان الوقت ثقيلا يحكي ملالته وجه غنّومي المضطرب .... ولا أدري فأنا الآخر مثله وبعهدتي امرأة في مقتبل العمر وقد أقلقتني حكاية اللصوص والمافيات ... قال لي ونحن نجلس قبالة البعض ، والمرأة نائمة فوق . - أبو حسن آني خايف - من شنو ؟ أبو الويو ! - ماأدري ... - هسه الباب مضروبة سركي .....واحنه كاعدين وكل الليل عشه ....تريد اتنام نام ...آني ناطور .... امعوّد أبو الغُنم ... خرجنا من تركيا سالمين ....دخلنا القامشلي . وكان الصباح زاهيا ....هادئا .... وها نحن نستيقظ لتونا ...فهمنا من اضطراب الممر داخل القطار بأن الناس تنزل لتتبضع من دكان قريب ...قفز غانم ليرتدي ملابسه ويذهب الى المغاسل ويسوي شعره ويعد نفسه للنزول . - راح اروح أجيب جكاير . عاد بعد حين ومعه عدد كبيرمن القناني ! ومجموعة من سجائر الحمراء ...أغلقنا الباب ....جلس هو قبالتي .... حدجتني المرأة ممتعضة وهي ترفع رأسها من تحت الغطاء .....كانت عيناها تقول لي : انظر كيف نقض صاحبك العهد .... - غانم احن اشكلنه ؟ مو كلنه بدون سم اسقطلي .. - أبو حسن ...أرجوك رجاء أخوي آني خايف ..... تجهمت أنا ....غطت المرأة رأسها ..... دخّنا بعد الفطور .... تحرك القطار بعد مكوث طويل . جلست المرأة وكانت منزعجة أيضا . خبأ هو القناني في حقيبة حتى اشعار آخر ....أخذنا نتحدث أحاديث عابرة . - طيح الله حظ هيج قطار - 4 أيام وبعد حكه مشي . لا اتذكر كيف انقضى النهار . مرضت المرأة وانتابتها آلام شديدة ....انزوت في فراشها العالي ....نامت - شلون هسه؟ - شنو شلون ؟ - يعني مانتسمم - يالله اشرب خلص ....جاسمية ماتنام وجوّه راسهه حلاوة . - تشرب ويايه ؟ - أشرب ....جيب . فتحنا القناني ....رحنا ندق قنينة باخرى - - يالله "جقه مصطفى " ... - صحه ...صحه . أفرطنا في الدخان والشرب وكنا قد فتحنا حاشية النافذة كي يتسرب الدخان خارجا . - أبو حسن أريد أغني ! - أي تفضل أخذ غانم يقرأ المقام العراقي بصوت ناعم وهادئ ... لي في العراق عصابة لولاهمُ ...... ماكان محبوبا اليّ عراقُ لادجلة لولاهمُ وهي التي ..... عذبت تروقُ ولا الفراق يُذاقُ شمران تعجبني وزهرة روضها وهواؤها ونميرها الرقراق ُ .
قلتُ مقاطعا ومنتشياً : - شلون خطأ ايديولوجي يقع فيه الجواهري ....ياربي !!!!! - شلون ؟ - العراق هنا محبوب من خلال العصابة- الأصدقاء ، لا لأنه الوطن بكل تفصيلاته الحلوة والمرة . - ارجوك خلي انغني الاغاني (على ازكاطهه ) على ماهي عليه ....يكفي ....دمرتونه بالأيديولوجيا والتحليلات ... ابتلعت الرجاء المر ، ورحت اغني معه متنقلا حسب مزاجه من خدري الجاي خدري وسمره ووسيعة عين عيني سمر الى يانجمة واخيرا ياصبحه هاتي الصينية . - هسه شلونك أحسن ؟ - أي أحسن راحت الخوفه ....كانت أصابعي ترتعش . - غنومي عيني ... آني شعليه تشرب ماتشرب هذا شي عائد الَك ...لكن أكول هسّه كدامنه طريق ، ودنيه ميندره .... وضع غنومي الغطاء على رأسه بعد أن بدأ الارهاق عليه : - لا ... لا ماكو شي انشاء الله ....لتخاف ! في ظلام الكابينة ومن وراء زجاجة نافذة ظلماء كالقير رحت امتص سيجارتي بشراهة ....لاتلفت نظري سوى خطفات سريعة لأضواء الطريق ...أتطلع الى زوجتي أمانة الدنيا الجميلة في عنقي وضميري . هي الاخرى التي ورطتها معي بالأفكار والرفض والمبادئ والمجتمع السعيد ، وجعلتها تنخرط معي في العمل السياسي . هذه الارجوانة سلختها من أعشاش الحمام لأزج بها في معترك قد لاتكون قادرة عليه . حنان غامر كأنه أبوي كان يجتاحني تجاهها وهي متكوّمة تحت الغطاء الأزرق الكريه المنظر والرائحة ...كانت العتمة قد ساوت بين الألوان . المرأة بالنسبة لي معبد وها هو المعبد يذهب مع رياح طوروس . حل الصباح - ها؟ هم راح تشرب ؟ - كسر اخمارية أبو حسن !ّ اشبيك انت مو شراب وتعرف الأصول ! سكتُ منزعجا جدا . - تفضل اشرب ويايه - ميعجبني ظل غنومي يشرب لوحده . أخذ يتمرد باجابات متبرمة هو الآخر ...فتح حقيبته ليرتبها ... كان ( يتمروج ) يسرة ويمنة ( حايط ايجيبه وحايط ايوديه ) ...رتب كل شئ ...السكر بادٍ عليه .... بعد حين عاد ووضع الحقيبة في مكانها العالي ...اخذ معه ادوات الحلاقة ! ذهب الى المغاسل ليحلق ذقنه . كنت أخشى أن يجرح وجهه ... عاد بعد حين وقد حلق بشكل رائع ( مثل الورد ) ! القطار يتهزهز مثل ( كاروك ! ) فكيف سيطر غنومي – حبيبي على شفرة الحلاقة ؟ لابد أن يكون ( الكزيز) باتجاه الهزيز ! ... هذه المرة تركنا بدون أن يخبرنا أين هو .... عاد بعد ساعتين ... أغلق الباب وجلس قائلا وهو مخمور للغاية ..... - تعرفت على جماعة وصرّفت عندهم .... - منو هذوله الجماعة ؟ - اتراك - وشلون اتفاهمت وياهم ؟ - بالانجليزي - بيش صرفت الدولار؟ - الدولار الواحد يعادل ..... - غلبوك - ها؟ ! اخذ غنومي يثني الأمر : - والله يمكن صدك غلبوني . خرج بعد حين تاركا الباب مفتوحا كما لو يكون قد خرج من باب ( حوشهم ) في " أبو سيفين او الكريمات او البتاوين " ....اوصدت الباب خلفه ....رفعت هي رأسها وبدأت تنقنق بدون سابق انذار - موكتلك هذا مومال واحد ايسافر وياه ... - منو وافق ينطيه السلفة .... مو انتِ ! .......وصلنا المحطة الأخيرة ..... - وأخيرا وصلنا . - غانم وينه ياربي؟ ! - أكيد عند أصدقائه الأتراك – الانجليز . ساعة السوده مو وصلنا اسطنبول . على الرصيف رأيناه وهو يتشاجر مع أصدقائه الجدد! رافعا سبابته الصغيرة باتجاه شخصين ، الواحد منهما كأنه عوج بن عنق ...اذا ضرب غنومي ركلة يرجعه الى المحطة العالمية !. لاينفك رفيق السفر يطلق الكلمات الانجليزية الركيكة . - شوف هذا صاحبك غادي خردة ...يالله صيحه خلي انولي ...كله خلي يجي ايشيل جنطته خوما آني المريضة اتحندل بيهه ؟ في باب المحطة الواسع ...اطل علينا شخص كبير السن بقبعة ( كاسكيت ) موسكوفية يعرض علينا النقل بالتاكسي ...أخبرناه بحاجتنا الى فندق قريب ومناسب ، المهم ( نوت اكسبنسف ) ... حمل الرجل حقائبنا . وضعها في الصندوق الخلفي ...جلس غنومي الى جانبه ( بالسَدُر ) . سارت بنا السيارة وسط أضواء الليل ...رأينا البحر الكئيب والسفن الواقفة كأنها مرثية حزن أبدية . أشرعتها الساكنة توحي بانتكاسة البسفور والهادئ والهندي والاطلسي ! الجو حزين للغاية يذكرني بأشواق منوّر أُم محمد الصابرة على فراق زوجها المنفي من تركيا وهو من أعظم شعراء الكرة الأرضية ناظم حكمت الفخم بانسانيته ووطنيته وشعره ... لماذا تغدو السفن كئيبة عندما ترسو ؟ .... لم ندرِ الى أين يأخذنا السائق ....هل سيغدر بنا ؟ لاندري ...." سوّدتُ صحيفة أعمالي ....ووكلت الأمر الى حيدر " .... دخل غانم معه بأحاديث حول بغداد ... يبدو ان السائق كان قد عاش فيها ردحا من الزمن وهو يعرف حاجي ( قنبر ) أما غانم فقد ادعى انه يعرف ( الرفيق ) هذا ... فأخذ اسم السائق ...بعد حين تمرد عليه قائلا اذا كنت تعرف حاجي قنبر فلماذا تأخذ منا اجرة عالية جدا ؟ ... هل يعقل أن تسير بنا لمدة ربع ساعة ( بوقتها وصلنا الى باب الفندق ) وتأخذ منا هشله فلوس ؟ ... انزلنا حقائبنا على الرصيف قبالة الباب ....بينما انفعل ( اتسبّع ) غانم وهو يرفع اصبعه الصغير كأنه قطعة ( ملبّس ) ، وقد أطلق صوته ضد السائق الذي راح يتبسم لنا بوقار وهو يدخل جوف السيارة .... غانم يتنمرد بلا طائل . - شوف اسمعني عباس ... سوف أعود الى بغداد ...الى حاجي قنبر واخبره بأنك واحد لص وسوف احقرك أمامه .... يو ... آر ( ..... ) ابن (...... ) ابن ( .......) . مضت السيارة ودخلنا الفندق ....حجزنا حجرة لنا الثلاثة ( كأنها قاعة ) ظللت مسهداً الى حين ...اراقب انفعالاته ....حتى نام ... بل ظللت مسهدا الى اليوم اتسمع أخباره وأخبار بغداد وأخي ستار وعائلتي ، وتوفيق ناجي وأبي شاكر وآخر حكايات ممثلي فرقة المسرح الفني الحديث وما يحيط مطعم المفتاح من نسائم وسينما النصر من أصدقاء وباعة وحرفيين . بل والأكثر ايلاما لي ان غانم لم يستطع ولا أنا استطعت ولا الألوف من العراقيين أو الملايين الذين تشبثوا بالطائرات او القطارات بان يعودوا ليحقروا السائق أمام الحاج قنبر ، علما بأن الأخير ومعه معظم أبناء جيله قد ماتوا رحمهم الله وزالت حتى أسباب العودة لغرض التحقير أو بدافع الزيارة أو ( التسيارة ) .. ولا يمكن أن نعود وهذه السنوات كالغيم الأسود تزداد حدادا على الشهداء والناس الأبرياء ...وانه لن يرجعنا الى وطننا الاّ مرسوم الهي أو قوة فضائية قادمة من المريخ !. * حدث ذلك في شباط 1979. * كتبت هذه الذكريات في كوبنهاغن عام 1992.
أصوات عراقية من مخيم لجوء دانماركي
أنا عشت الانتفاضة ، كانت الجثث بالشوارع – لا والله آني جيت من الجزائر – البارحة كان شخيرك ممزوج بالونين –هذي اول ليلة بحياتي انام بيهه مرتاح – التحقيق سهل لاتخافون – راح يجمعونه بقاعة ويدزون علينة واحد واحد- نتيجة الأفريقي بالتحقيق تسفير الى المانيا – خلي يفتحون باب الرحمه عادينه – الله ما أجمل الحرية حتى ولو بالجحيم – انت نطوك كارت ازرق ... الله ربك راح تسكن انت وأهلك ويانه بجناح العوائل – الكارت الأزرق اعتراف بعائديتك : - طز ابعائديتي ليش عصبي اشدعوه هلكد حامض بول ؟ - بس ... فك ياخه - .... - والأصفر شنو ؟ الأصفر يعني شخص بدون وثائق وتنام عليه الطابوكه . ابو سمره راح الى أصدقائه . يومين ويجي – يسمحون للواحد ايروح ويجي ؟ قابل سجن ؟ - لا سجن حباب سجن مؤقت ... اسجيّن ! – راح الشر احسب أيام – اول اربع اسابيع تاخذ 3 باكيتات جكاير برنس ... تستلمهه كل خميس ... انت اتجكّر ؟ - نوبات ويه النبيذ واحلق بين النجوم – الاسبوع الأول من الشهر القادم تحصل على 189 كرونه اسبوعيه ... والطفل ياخذ 29 – ها ؟ ! والله لو ادري امسوي لي عشرين طفل – جوازك امزوّر ؟ - آني مزقت الجواز وصله وصله – وجريت عليه السيفون محشوم اليسمع – آني طلعوا صورتي بالعقال من التواليت – بس شلون كشخه كنت طالع بيه – الشرطي فتشني فلاّني اتفلي . آني اخذوني للزنزانه ، تصورت روحي بقصر النهاية – لا والله آني احترام تام – آني ما أكدر اتصور يوم الأحد يوم عطلة وبداية الاسبوع يوم الاثنين ، بعد عينهه للجمعه شكد حلوة ... ويوم السبت نطلع على باب الله ! سمعت بقاسم البقلاوائي ؟ اشبيه ؟ يكولون ذابيه بالقلّغ ، بالسجن ! حيل أبو زايد ! حوبة النظريات ! تتذكر شلون كان ايفستق مقالات عن الجبهة الوطنية والقومية التقدمية – من جماعة على حس الطبل خفن يرجليّه – مو بس هلشكل ! . كلام الفكر اليميني يأذي حشا السامع أكثر من اليمني لأن ايخلي العدو يتمكن ويطعن – دتشوف اشديصير ابشعبنه من وره الجبهة ويه البعث ؟ - عائلة جديدة جايه من اليمن –خط موسكو بطيئ للغاية – ياجماعة اليوم التوقيف عامر – اغلبهم من الصومال – البارحة كانوا عراقيين بكثرة – الروس منتشرين مثل الدود ! تكرمون ... – ليش بس روس ؟ رومانيين وبولونيين وألبان – ياهو التلزمه جاي يطلب لجوء – واحد روسي حصل على لجوء جنسي ! – ليش ما انقدم كلنه على لجوء جنسي وانسهل أمر ؟ لو ابو خالد ويانه جان بيده كتب الطلب وقدّمه . ! . لعنة الله على عبود البصام مستر يس اللي عمل بينه هيجي – طالت عليّ الليالي وانا بداوي جروحي وأنت يروحي انت – آني كصيت ضفايري لأن هنا ماكش صابون ركي – كل عراقي طالب لجوء بالدانمارك لازم يقضي له اربع خمس تشهر بالقليل – اذا موسنه وسنتين ونوبات اتلاثه ! – جو الكامب قاتل ومزدحم والمشاكل للهامة – البارحة الزلم الخشنة اتعاركوا ابمعسكر سوبك – وصارت الدمايه للركاب ، سيارات اسعاف تروح وسيارات شرطة تجي – آلو هاو ماج ؟ وات از يور أدريس ؟ - بالك وياك اتسولف ويه هذي الروسية ، هذي هي وصديقتهه من ايّاهم ، اسمعهه اتكول لبو اصحبه بيش + وين العنوان ! ... يعني أكو وره عبادان قرية ؟ - فدوه العينه راد استكانات ... صارله اثنعش سنه ماشارب جاي باستكان عراقي – وانزل للشورجه ، هذا الكلام من جانت بغداد اترن ! وما أخلي شي ما أشتريه ... جاي وهيل ودارسين وورد السان الثور – واشتري الحاجات العراقية العزيزة – النمنمات ... باسورك وحب وحبة حلوه ، وكيلوين سسي ... كان ايحبهه سوده علي َّ .. خلي اتذكر بالله ... ها .. اللوزينه وساهون وتين يابس ، وبقلاوة من حجي جواد ، وزلابيه وقطايف وحتى حشا السامعين جعموص الملك وزب القاضي وضروك الفار ... وكنت يوميّتهه اميبسه باميه ! وما أنسه النومي بصرة والسماك والعمبه والبهارات .... جنطه والله جنطه شكبرهه – بس من الستكانات 30 ستكان ، ويه كل استكان ماعون ... وشلون ماعون من هذا أبو البنيّه – شحجي لك امضيكات خلكي الليالي ... بالليل أفز مرعوب وأبجي اعله حالي – هذوله اليوغسلاف ياكلون بالمطعم وياخذون الأكل وياهم للغرف ... اذا الأوفيس ينطينه زقوم أربع وجبات لويش هل جشع ! – بعض الاوساط من الرفاق السوفييت تسرق سكر وخبز وورق تواليت وتاخذه للأصدقاء لما ينزلون الى كوبنهاكن – ياجماعة انتبهوا لاتتكلمون كل شي لأن الجواسيس هوايه . والله ، يكرم الله، رحت للزباله البارحه وأجيب شكل مسجّل ! شنو بلاش ؟ اكلّك بالزباله اتكلي بلاش ! كلشي تحصله بالزباله ... تلفزيون ملوّن ، مسجل ، راديو ، كل راديو أخو أخيته .. بعدين كل نوع أجهزة تلكاه هناك ... آني هليام دا ادوّر على محوّله ! –الثلاثاء دخل هذا الروماني ... ذاك الأجقل ... أجقل يجقلاني مين دلّك عليّ َ ، دخل الى سوق الثلاثاء ... واتبسمر كدّام رفوف الأحذيه ... لبس حذاء جديد وعاف جمجمته العفو قندرته ! ... سليمه ال طمته واتطم جاو جسكو – شلون اشكولات ما بوجهه نور محمد – سمعت راح ايشكلون حزب شيوعي كردي بالعراق ! صحيح ؟ - امعوّد خلي ايشكلون حزب شيوعي زنجباري – آني للعراق بعد ما اوصل – ليش يابه ؟ - ليش ؟ لأن العراق بلد رعب ، وآني أريد اربي اولادي بسلام .. باي باي عرّوقي – امعوّد صدك تحجي ؟!- كلمن ميروح ال بيت امه خنجر حديد ....- تعال لاتباوع على ورق القمار ... حرام – هذا لحم خنزير وهذوله اللي ياكلوه كفار اول باب – هذا اللحم مذبوح على الطريقة الاسلامية – والله العظيم يوميه راح انصب بطل العرق على الميز على اعناد هذا ابو لحية – ماشفتو اشسوّت بينه خفافيش الليل بالكويت – انته ما تحب الكويت ؟ - ألو منو حضرتك ؟ ها ؟ أهلا ... أهلا ... شلونّي ؟ ... والله دا أموت ، برّه بارده وتثلج ... والكامب ازغيّر والاعداد بالمئآت واسبوعيّتنه 189 كرونه ، يعني ماتكفي شراء تذكرة سفر الى المدينة –يعني بلد الدنيمارك ديمقراطي صحيح ... لكن هذي الحبسة بالكامب مدة خمس تشهر ، وبعض الناس سنه وسنتين وتلاثه ! هاي همْ دمقراطية ؟ ! ... طركاعه اللفتْ عبود ! ... ألو ... ألو ألو .... انطع كطعت امّيَمْتي ! – أفضل شئ هو ان تكون سفيه – ماكو داعي للحساسية يابو فلان – هذا بيتكم تعالوا زورونه يومين اتلاثه ، اتخلصوا من الكامب ... غيروا جو – ايكولون عبود أيامه معدودة – بوش هلشكل صرّح بالراديو –معوّد لاتصدك عبود يكرطنه واحد واحد يالله ايروح ، مادام المستر موجود ، عبود موجود – جابوا اسعاف للحجيه البارحة ... عندهه تشنج ، بالعضله القلبيه ، الطبيب كال وضع نفسي .. أي نعم صارله ايام وهي اتنق على ابنهه اللي انعدم ... الله ايرحمه – وبقية الأولاد ؟ البقية شي بلندن ... شي بكندا ... شي بالسويد ... البارحه العصر ، فحطت من البواجي لمن سمعت الكاسيت .... ! ياكاسيت ؟ - المقتل ! – آخ .. يعني لهنا والمقتل لاحكنه ؟ -امعوّد صدك تحجي المقتل ملهم وموحي – . مشتهي سبحه كهرب ودشداشه بيضه وعرقجين – والله عبالي مشتهي تكه لو هريسة لو زرده بحليب – لو أكو واحد ايروح للشام كان دزيت وياه فلوس ايجيب لي القرآن مسجل على كاسيت ... ابنفسي اسمعه بصوت محمد طه – او الشعشاعي – او عبد الباسط – لا والله آني أحب أقندل على كاسيت ام كلثوم بعيد عنك حياتي عذاب مليش غير الدموع احباب – بعيد عنك – آني اتذكر شوارع ابو نؤآس لمن اسمعهه – والله آني عندي بيت ابوذيه يسوه راس الكرة الأرضيه جمعاء – ياجماعه أكو اجمل من وحيدة خليل وناصر حكيم لو حضيري لو زهور حسين – تردون الصدك عندي صوت ابو خالد يسوه راس فالنتينا ترشكوفه ! ليش ابو خالد رائد فضاء ؟ – أبو أحمد ! ها ؟ اركض تلفون من العراق – ألو منو ... ياهلا ... شلونكم ... زينين الحمد لله ... مدا أسمع زين ... احنه زينين ... المهم انتو ... ألو هسه الخط أحسن ... أي ... أي نعم ... امنية ... حلم من الأحلام .... شبيدي عليكم ... أكول ... ليروح ينكطع الخط ... ها ؟ ... الخط مالكم ترللي ... ليروح ينكطع الخط ها ؟ عندي كلمة وحدة بس ... كولي لخالتي ، أخاف ما شوفهه ، خلي اتدوس على اشوية اتراب من تراب الحديقه وتحطه ابكيس للذكرى ... حتى لمن أجي للعراق ... يوم من الأيام .. أصلي على تراب رجليهه ! ..... ألو ... ألو ... هم انكطع الخط ! ...... ( .... بالقبيس ) . • اصوات ومشاهدات الفترة الواقعة مابين 22/8/1990و 19/3/1991 وفي مراكز اللجوء التالية اسماؤها : الساندهولم . سنيرتنك . نيكابولي . اومستروب . الدانمارك .
آهات عراقية من الدانيمارك -1-
لم ترحم الشمس الجزرَ الدانماركية الاّ في بداية الشهر السابع .... شهورجهماء كرّهتنا حياتنا ... ونحن أبناء الشمس لم نعتد الأسود والرمادي الى هذا الحد . للدانماركيين شاعر معروف اسمه (هنريك نوبرانت ) يكتب قصيدة مناخية يعدد فيها اشهر السنة : " ينوار فبروار مارس ابريل ماي يوني يولي آوكوست سبتمبر اكتوبر – نوفمبر نوفمبر نوفمبر نوفمبر نوفمبر ...الخ ! " أي شتاء طويل وغائم هنا ! ... اللعنة ، هناك طبعا 75 بالمائة من الدانماركيين يعانون الكآبة ... ويهرب البعض الى جنوب اوروبا من اجل الشمس ... أما السائد فهم القابعون في ليل البيوت المتصل ، الأسود ، الطويييييييل ! . في قصة ما قرأتها أيام زمان ، لاسماعيل فهد اسماعيل ، ترد سطور جميلة عن الطائر الذي لايطيق الحياة السجنية ، أكثر من سواه ، ولذا فهو يرفرف كالمخبول لحظة وضعه بين الاقفاص ، يدمي بأجنحته القضبان ، يظل يدور كمروحة .... تبدأ هيستيريا الحركة تخف يوما بعد آخر – كأشواقنا الى اهلنا اول الأيام ... في مرحلة اخرى تأتي لترى الطائر وقد دخل الكهولة في ظرف ثلاثة أيام . الشباب نسبي . بل هكذا يختنق المئات بل الالوف ممن يعيشون في الحديقة الاسكندنافية وسط قضبان الجفاء الارستقراطي الاسكندنافي ونظرته المتغطرسة – المتخوفة من الجنسيات الاخرى . يلخص ذلك جاري الدانماركي الطيب كأن يقول لي ( هاي ) أي مرحبا صباحا و ( هاي هاي ) مع السلامة ، مساءا . شكوت لاستاذتي في مدرسة اللغة ، واقع حال مجتمعها ( الالكتروني ) على حد قول الكاتب الدانماركي الشهير ( اب ميكيل ) فابتسمت قائلة : " هناك استعلاء ... وبرود ... هذا صحيح ، ومع ذلك فأنت محظوظ ! ... أنا مثلا لي جار يعيش معي جدارا بجدار بالكونا ببالكون وهو لم يقل لي صباح الخير منذ ( 8 ) سنوات ! . هلل الأطفال بعد حصولنا على الاقامة . ومن ثم البيت والأثاث الجميل وحيث انتقلنا الى ارقى منطقة ( من الناحية الارستقراطية ) ... الوجوه المحيطة عابسة ، خطوات الناس مرسومة . سياراتهم ( فص كلاص ) أي first class شرفاتهم مسورة بالورد . صمت يلف الأرجاء ، شوارع كأنها مضروبة كيمياوي ! ورد وخضرة وأوصال أشجار تهفهف في النسمة ، نوافذ لايبين من وراء زجاجها احد ... اراجيح عائلية ذات مظلات مخملية ، دراجات مركونة جانبا لايمسها سوى اصحابها حتى لو بقيت مركونة الى يوم الدين ! كل شئ يشعرك أنك وحدك ... ( بالمناسبة لايوجد هنا كلب سائب ) ... أشعر أحيانا أني السائب الوحيد في جنان هاملت وكرنفالات سورن كيركيغارد شيخ الوجودية الكبير الدانماركي الاصل . الهروب الوحيد هو أن تكون مثلهم ... جرائد للقراءة ، برنامج تلفزيوني ، فيلم فيديو ، كتاب ، جولة على دراجة ، زيارة صديق في عطلة نهاية الاسيوع او ان تندمج في نواد ٍ وروابط واتحادات دانماركية ، وهذا يقتضي درجة عالية من التجانس لغة واسلوبا . او أن تذهب وحدك الى سينما قدري ! . وبالمناسبة فان البيت العراقي الذي ناضل العراقيون هنا من أجل استئجار شقة له ، كان واقع الحال ، من بين أهم محاولات شد ازر القلوب المكتوية بالوحشة او العزلة او الحالمة بنكهة العائلة العراقية . اليوم وضعوا في صندوق بريدنا صورا عارية وصحيح ان العري جميل لكنهم وضعوا صورا ذات وضعيات قذرة مقززة . في صندوق جاري ( من البحرين ) وضعوا صورا لفئران ... كتب هذا الجار الى الملكة ماركريتا رسالة شديدة اللهجة مرفقا اياها بالصور المذكورة . اردت ان اضع صورا لهتلر وموسليني وفرانكو في صناديق المنطقة برمتها ... قلت بنفسي : استحي على روحك هاي زعطوط لُغيّه . بعد ان هدأت ... انتهيت الى ان الاسكندنافي عموما لايود الأجانب ولذلك يتحاشاهم معاقبا اياهم بابتسامة ! في التلفزيون الألماني شاهدت احفاد الكوكلاس كلان ، يحملون المشاعل ويلقون بها على اللآجئين في مراكز اللجوء ، في منطقة ( كين توفته ) القريبة من بيتنا ، قذف بعض اليافعين بالمواد الحارقة على مركز لجوء يضج بالعوائل ! بدأ الخوف يتسرب اليّ من شقوق الأبواب ومن شقوق الذات وهي كثيرة ! ... أين أهرب بأطفالي و ( اعويلي ) هل نلقي بأنفسنا من البالكون مثلا ؟ هل اشتري سلما خشبيا امده على النوافذ المحيطة واعتليه متشبها بطرزان ورفاقه الأعزاء من القردة وسواهم ؟ ! هل اشتري مسدسا ام بندقية صيد . سكينة طويلة او مكوار ؟ .. صحيح ان الشرطة هنا اسرع من البرق ! لكن اذا راح من عندي ( علاّوي ) او ( حمودي ) – فدوه لعينهم ، شحصّل بل ! وين انطي وجهي ؟! رحت أتأرق في الليل ، واذني شديدة الحساسية لأية حركة في جوف البيت التحتاني المظلم . اليوم وردتني رسالة جوابية من الاستاذ هادي العلوي ، الذي أهديته مجموعتي الشعرية الاولى والثانية ، وقد أطرى مشكورا ، الموقف الشعري من الذاكرة التراثية . ومما جا في رسالته الأثيرة : " نعم جنسيتنا الطبقية واحدة ... ويوحدنا على خدود الأطفال صوت الحبشي بلال وهو يوجه نداءاته للسادة الغر والبيض الوجوه فيتداعون اليه دون أن ينكره الاّ متعنت أكله العنصرية فلم يترك له قلبا احمر ولاضمير ابيض ولاعيونا سوداء ، ذلك الذي قال وقد رآه يعتلي ظهر الكعبة : أما وجد ( محمد ) غير هذا الغراب الأسود يؤذن له ؟ لكن الغراب الاسود حافظ على لونه ورفض الابيضاض . وليس البياض هو الشرط في الكينونة كما يزعم ( عمانؤيل كانت ) فيرضى بالعبودية والتبعية فان روح الحكمة المتأصل في وعي الشرق يؤكد على الدوام على سطحية الفكر الغربي وتناقضاته التي لاتحد ولاتحصى " . وهكذا يتأكد لي يوما بعد آخر ، من قراءاتي وتماسي اليومي في محيط نابذ ! بأن الملاحظة بصدد عمانؤيل كانت ْ ، انما هي بوصلة لامناص من الرجوع اليها في اتجاه معرفة المرء ذاته اولا ، وضرورة اعلاء هذه الذات عن مباذل التمرغ على وصيد الغرب ، على افتراض ان الأخير – في نظر الكثرة الكاثرة –هو الأرقى في سلم الحضارة ونحن الحشرات الزاعجة لمصباح اوروبا العالي . أخذ بعض ساكني الطابق الأول والثاني من الشبيبة والعجائز ، ينقنقون ضد اولادي وأولاد البحراني ، انهم يلعبون في الحديقة ، وللأطفال ضجة العصافير ... اما العجائز فكل ومظلتها العرائسية وبالكونها المورد وكرسي الشطح والكتاب . والأصوات والحالة هذه – مزعجة بلا شك ! ... لم يكتبوا مشكورين رسالة جماعية ويوجهونها الى الشركة – الجهة المؤجرة – من أجل ان ( يهججونا ) يطردونا من المكان . اكتفوا بايصال ملاحظاتهم ، تألمنا منها ، وسألنا مسؤول العمارة بتوجيه الخبث المضاد اليهم : هل يمكن للأطفال ان يلعبوا في الحديقة ؟ قال – طبعا . هل يجب ان نضع شريط بلاستر على افواههم أم من حقهم أن يتكلموا او ان يتصايحوا ككل أطفال الدنيا ؟ أجاب : نعم لهم كل الحق . قلنا اذاً تكلم رجاءً مع قراء الطليعة الكونية لثقافات شمال اوروبا وما وراء القارات : " الناس اللي تحت " ! بعد يوم وآخر ، تحدثت احدى العجائز وبهدوئها الجم مع زوجتي مشيرة الى معاناتهم من ضجة الكلام ( العربي ) ، يعني لو كانت لغة الأطفال بالدانماركي لهان الأمر ، والضجيج بكل احواله متعب لزوجها القادم من العمل عصرا ولآخرين أيضا . وعدتها زوجتي خيرا وقد عاتبتها : - : هل يعقل ان يوجه بعضكم الكلمات الخشنة ضد الأطفال ؟ ... " ليش ... مو انتو أرقى البلدان ! وبالكْ عنّه ! . أما بالنسبة لي فأنا يعز عليّ ان ادعو اولادي للتكلم باللغة الدانماركية خصوصا مع أطفال عرب آخرين " أموت وما أسويهه ... على مود شنو ولعيون منو .. " ... لكني بعد التفكير طويل وتذكري لوالدي الكريم المربي الأول حيث كان يقول لي : ابني اذا تخاصمت مع شخص ما ، حاول مع نفسك ان تستحيل الى اثنين ! واحد مع الخصم وواحد معك ! أي اعط ِ الحق للمقابل ! أي ضع نفسك بمكانه وبعد ذلك اتخذ الموقف منه ومنك ، والحلم سيد الأخلاق كما يقولون ياولدي ، اعط ِ من كرمك الروحي للآخرين وجرب ذلك وسوف لن تخسر .........." ........ لذا قررت ان اخفف قدر المستطاع عن جيراني بأن آخذ الأولاد معي الى زيارة أحد الأقرباء جنوب كوبنهاغن ، وفي اليوم التالي أخذتهم الى السينما .... وحقا فقد حجبتهم عن الحديقة اياها . طُرقت الباب ... فتحتها زوجتي ... كانت العجوز واقفة عندها ... ذات وجه حزين ، أول ما نطقت بكلمة او اخرى طاحت دموعها المدرارة على الوجنتين . قالت ام علاوي : شنو اللي صار ياستار استر . - أنا لم أقل اسجنوا أطفالكم ! أنا احب كل اطفال العالم ( ياحلوين ) ! ارجوكم دعوهم يخرجون الى (المراجيح ) هل أسأتم فهمي ؟ - أبداً ... الأطفال مع ابيهم في السينما . شككت العجوز بالأمر ، فلربما كذبت أُم علاوي . ظلت العجوز تحدق بوجهها تارة وبالصالة تارة اخرى ... أكدت زوجتي لها ثانية : - يُمّه والعباس ابو راس الحار ، راحوا للمهجوم ، للسينما ويه أبوهم . غادرتها العجوز بعد ان حصلت على تعهد وكلام شرف بأنهم سينزلون الى الحديقة حال مجيئهم .... ظل دماغ ام علاوي يضرب أخماسا بأسداس او بالأحرى بطناش ويدور عكس اتجاه عقرب الساعة . أما انا فقد قللت شتائمي ضد حبيبنا ! عمانؤيل كانت ! . ظهيرة 14تموز ، دعوت عائلة ما مع أحد الأقرباء ، رفعنا كأسا خجولا بالمناسبة المقطعة الأوصال ، ضربنا الثريد وشربنا لبن اربيل ( ياحسره ) ، حاولنا تحاشي السياسة بالاحتفال الاجتماعي الصغير ... سهوت عن الأولاد ، كانوا يتحدثون مع أطفال البحراني الواقفين في البالكون المجاور ... اثرها سمعت صوتا جهوريا من أسفل العمارة ينادي عليهم بأن يسكتوا . كان الرجل مزبدا مرعدا معربدا ، انبرت امك ياعلاوي وقد كان بيدها، عن طريق الصدفة ( جفجير ) . راحت هي الاخرى تطل من البالكون باتجاهه ، بل راحت تصرخ بأعلى صوتها موجهة جفجيرها - البرنج - نحوه معلنة بدء الحرب العالمية الثالثة مابين العراق والدانيمارك من دون أي محاولات ديبلوماسية او حتى غلق سفارة !. - اسمع ايها الفاشست ياعدو الطفولة .... اسمعني زين ... سوف لن أضع بلاستر على شفاه اولادي . اذهب انت وموسليني وهتلر الى الجحيم .... طز بيك وبالوالدة المحترمة ! ... - ام علاوي عيني ... لا رأسا اتخشين بالحداد خانه . بعدين احنا لاجئين . - واذا لاجئين ؟ والله انكره بجفجير على صنديحته واشُلخَهْ شلختين ! ... واترك كل دول اللجوء مثل ماتركت العراق ! - يعني وين انولي عينتيني أُم علاوي ؟ ..دخيلج . - انروح للجحيم ! قالت ذلك وقد ضربت راحة يدها على جبينها ، : يعني صحيح آني لاجئة ... لكن مو عبده . تولى الضيوف تهدئتها ايضا ، دمعت عيناها ... عادت وابتسمت ماسحة دمعة واخرى بظهر كفها ... بعد أن هدأت ، رفع بصحتها أحد الضيوف كأسا لشربت التكّي ! ، والآخر بصحة علاوي وحمودي . أما ابن ولايتي فقد رفع أجمل نخب وهو يقول بلهجته الحلاوية العذبة : - يالله نشرب في صحة اربو –طعيش تموز ! * استمرالاطفال مع اصدقائهم على التحدث بالعربية واللهجة العراقية !.
آهات عراقية من الدانمارك –2-
حصلت على الاقامة في الدانمارك في ظروف قاسية ، اذ جرى حشرنا جميعا في مجمعات سكنية، وكان لزاما علينا ان نتعايش ونلتقي كل يوم في ممرات الكامب او قاعة الطعام بمئآت او عشرات الناس ومن جنسيات مختلفة ... كنت التقي بالديموقراطيين من العراقيين فهم في نظري الأحب مجلسا ، الأثقف ، الأكثر تعددا وانفتاحا على الفكر والفنون والثقافة ... كانت ايامنا تقضى بنوع من الجدوى الاّ انني كنت ايضا اهرب من لقاءات عادية . كتبت شعرا كثيرا أيام 1991- 1992 . اسهمت باصدار مجلة ، راسلت الكثير من الصحف قرأت كثيرا ... واختبأت كثيرا في حجرتي حتى اني كنت اضع اذني خلف الباب قبل فتحها لمجرد حاجتي للذهاب الى حجرة الاستحمام .. كنت محطم الاعصاب لا أطيق اللقاءات السطحية . الخطأ الكبير الذي تعرضت له هو انني لم استطع دراسة اللغة الدانماركية أيام انتظاري لصدور اقامتي ، وذلك لتحاشي الاختلاط بالناس المتعبين . بدأت في النصف الثاني من عام 1993 وعمري آنذاك خمسة واربعون عاما وقد استطعت حتى الآن انجاز مايعادل تسعة اعوام من التلمذة وبقي ان اواصل ستة اشهر اخرى حتى استطيع الدخول الى الجامعة لو رغبت . اللغة بحد ذاتها صعبة للغاية لايمكن مقارنتها بالروسية او الفرنسية او الانجليزية واذا كانت الأخيرة اسرع نطقا من سواها فان الدانماركية تنطق لكي تكتم وتوضح لكي تدغم وتقاء لكي تبلع ! او كما وصفها احد الأطباء الدانماركيين الذين اراجعهم بان طريقة لفظها مثل شخص يتكلم وهو يضع في فمه قطعة بطاطا ساخنة !. لم اذهب الى قاعة الدرس يوما من دون ان اعود معانيا من الحموضة القاسية في معدتي اذ كيف لي ان اجلس مع تلاميذ افهم لغتهم عندما اقرأها ولا استطيع ذلك عندما اسمعها الا لماما ... حبست نفسي لأيام واشهر وسنوات ، وفي حجرتي كيما استمع الى الكاسيتات الخاصة باللغة وأقرأ الكتاب المرافق للكاسيت ، مع المواظبة الجادة في القراءة والكتابة والتحضير والذهاب الى الدرس وانا غير مؤهل صحيا للانضباط والالتزام بوقت الدراسة وظروفها ، ومع اني اقر بضرورة تعلم لغة البلد المضيف ، الاّ اني من جهة اخرى ارى ان سياسة البلدية المحلية قاسية نوعا ما في فرض ان يتعلم انسان ما بهذا العمر ( خمسون عاما ) ان يتعلم أي شئ خصوصا اؤلئك القادمون من ظروف الحرب او الديكتاتورية الجهنمية ، واعني بذلك عامدا ومتقصدا في ان ارفع خطابي الى محامي يدافع عني وعن اضرابي في اننا هؤلاء الصنف من الناس مسكونون بالوجد مثخنون بالكوابيس فكم من ليلة كنت قد تسهّدت حتى الصباح ... كم من ذكرى قاسية قضّت مضجعي ... كم من مناديل تحت الوسادات ... كم من محاولة على القراءة لم تسفر الا عن الشرود وعدم التركيز وبالتالي عدم الفهم واعادة القراءة لعدة مرات حتى تنجز مهمة الولادة العسيرة . وقد قالها الشاعرالعبقري ابن ملاّ خريبط الخرْطَوي: " اذا كان الدماغ دماغ سز ٍ ... فلا سعيٌ يفيد ولا اجتهاد ُ " . كم من قصيدة طرأت ليلا لتسجل همي الصغير المتواضع لو قورن بالهموم بل مسؤوليتي ازاء وطني وناسي في ان تكون القصيدة ثمرة الأرض التي اقدس والتي هي اعز بآلاف المرات مني ومن أي شأن آخر . الشعر اثمن من العمر قاطبة وانا مبتلى به منذ طفولتي بل منذ فقداني المبكر واغترابي بل تغربي عن البيت الاول بيت امي التي غادرتنا الى غير رجعة وجحيم الاب المهيمن الذي سحق هاماتنا وارواحنا الى غير رجعة ايضا ... في ذلك الخضم ، وردت رسالة جرى بموجبها قطع المساعدة الاجتماعية – لقمة العيش – فتألمت على ألمي ( دخت على دوخاني ) وكتبت الرسالة تلو الاخرى حتى نجوت بالألتحاق بمدرسة لتعلم الكومبيوتر واخرى لاستكمال مستواي في اللغة الجهنمية الدانماركية ... والمرأة ( الخاتون ) التي زادت الطين بلة هي المسؤولة في مدرسة اللغة في هيلاغوذ ... كان اسمها لونا ... لونها الله بالأسود والكحلي والقطراني ... لقد كتبت لي على ورقة الواجبات اليومية بأني غير جدير بالجلوس في المكان الذي انا فيه وان مستواي ضحل بالنسبة الى التلاميذ والتلميذات في الصف ، ويومها ذهبت كالذئب الجريح الى البيت ... كانت تلك الظهيرة التي عدت فيها ظهيرة عزاء غنيت فيها آلامي ودرت في جنبات البيت حزينا . تذكرت كيف اني في ايام شبابي وبالذات في الدورة التوجيهية ( في الأعظمية ) قد رفعت معدلي ودخلت الجامعة وأخذت ( والله شاهد على ما أقول ) أخذت 98 من 100 بمادة الاقتصاد وكيف اني حفظت بل كدت احفظ عن ظهر قلب كتاب الأديب برناردشو سيدتي الجميلة ( بيجماليون ) في كلية الآداب واني نجحت في الجامعة رغم اني لا احب اللغة الانجليزية ! درت في جنبات البيت حزينا ، غنيت آلامي وعرجت على المقام العراقي وقليلا من الابوذية ... بدأت من قصيدة ( أبو جاسم ) الاستاذ محمد القبانجي والتي اجترح فيها يوم وصله خبر موت ابيه مقام اللآمي حيث غنى " علام الدهر شتتنه وطرنه ؟... " وعرجت على قصيدة لعبد القادر رشيد الناصري " في الأعظمية يوم جئت وجئتها ... روح على شفتيك قد ذوّبتها " وانتهيت الى " سكران بمحبتك مايوم انا صاحي بك " وبانعطافة غير مسؤولة وجراء الشرود رأيتني اغني القصيدة التي كتبها شكسبير ! " اليوم أجمل يوم عندي ... ويه اخوتي صرت جندي " ... أما لونا هذه فقد فارقتها بدون ادنى سلام بينما ارسلت ( كارت ) جميلا للغاية الى زميلتها التي تتناوب معها على تدريسنا مع دواويني الشعرية التي اصدرتها حديثا ، والقصد من ذلك هو ان اشعرها أي ( لونا ) بأني لا أحترمها وذلك لقساوة مارستها ضدي . وبما ان الزمن دوار فقد ارسلني مرغما اليها من قبل البلدية التي تجبرني على الدراسة او العمل المتدني النوعية ولأني لا اسمح لنفسي ان اكون يداً عاملة رخيصة – في عالم الشغل او غيره فاني آثرت الذهاب الى لونا . اللعنة يافخامة المدام ، اريد ان ادرس ... مارست هي على طاولة اللقاء كل انواع الألاعيب و ( الحنقبازيات ) وانتهت الى ارسالي الى مدرسة عليا تريد بذلك اسقاطي من اعلى حافة لأعلى جبل !. وبقرارها هذا حرمت من فضيلة واحدة ومهمة هي اني لو بقيت معها او في مدرستها لجلست الى جانب التلاميذ الأجانب الذين لاحدود لأخطائهم وأغلب مداخلاتهم اللغوية كسيحة بل ( خيطي بيطي ) وان هذا الأخير يناسبني كثيرا فلا يعقل ان اكون من هذه المجموعة المذكور اسم مداخلاتها اعلاه ، واذهب بذات الوقت الى المدرسة العليا للجلوس مع الدانماركيين الذين لايستفسرون عن معنى كلمة ولا تعوزهم لباقة ، كل تلميذ منهم كأنه ماكنة خياطة او بلبل هزار وأنا سأضع رأسي الخمسيني مابينهم وكل همي هو ان لا أكون طائرا شديد الغرابة او بوما فاقعا . وذهب الى تلك المدرسة تلاحقني لعنات لونا وسخريتها وانتقامها . آثرت الدخول الى قاعة الدرس قبل حضور الاستاذة ( كان اسمها كارين ) ... دخلت راسما على هيأتي نوعا من اللآابالية ... ما ان جلست في مكان ما كيفما اتفق – وسط خمسة رجال واثنى عشر امرأة حتى دخلت الاستاذة . كانت شفيفة ذكرتني بالاقحوان والنرجس ... تقدمت نحوي ... صافحتني ... شكوت لها ما انا عليه ، فورا وبلا سابق انذار ورجوتها ان تقدر وضعي الاستثنائي – طبعا بلغة شبه ( امكسره ) .. كانت لحظتها رقيقة معي وظلت هكذا طيلة الوقت ... وكنت أضع يدي على خدي وأنا اتطلع اليها كل صباح وهي تشرح لنا الدرس . وبعد ان ملأ الأمان قلبي كونها لن توجه أي سؤآل لي تحرجني به فقد أخذت اسرح بأفكاري بعيدا ،،، نصف وعيي مع ماتقول والنصف الآخر مع نحولها النرجسي ... نغم دائم تلبسني طيلة الوقت يموسق داخلي وأنا اتطلع الى ميلان شعرها والتواءة خصرها وكلما انسابت يمينا او انعطفت شمالا تهدجت روحي بالنغمة الملازمة لي " النرجس مال ... يمين واشمال ... على الأغصان في تيه ودلال " . او ان اجنح الى اغنية هائلة الروعة استمعت اليها في ليلة صيف دمشقية ... " الورد ابوك والبنفسج عمك ... والفل خالك والياسمين امك .. " ومع ذلك السرحان فقد نجحت بعد ستة اشهر ... أي رغم الأرق والمعاناة النفسية ... والبكاء كل يوم ... وللحق أقول ان الدموع اخذت تنساب بلا خجل امام زوجتي في متجر للسوق ، او وراء عجلة قيادة السيارة... او في الصالة حيث اجلس بين اطفالي .. اصبحت الدموع انسيابا لايقاوم . حاجة وقوة داخلية لاتقاوم ... اتذكر انها كحالة يومية بدأت معي منذ 1986 وسبب ذلك هو الخيبة ... ومادمت ادرك ذلك فاني رفضت ان تجلب لي المشرفة الاجتماعية طبيبا او موظفا صحيا كي يصغي لأحاديثي ، في حالات معينة يكون الاصغاء نوعا من الدواء ، وعقد علاقة حضارية ، صداقية الطابع مابين المريض والطبيب المعالج هو انعكاس لانسانية رفيعة المستوى ، أي تماما مثلما يحدث في بلداننا عندما ( يدوخ ) المرء ويفقد توازنه ليجد نفسه متورطا في حوار مع الذات بحركات الأصابع او التحدث مع نفسه بصوت عال فاذا به يتلفت ليرى وراءه جيشا من الاطفال تلقمه بالقشور وتغني له النشيد الوطني " هي ... هي مخبل " . رفضت دعوة زوجتي التي رأتني أبكي وأنا أتبضع معها في سوق عام في ان اذهب هذه المرة الى الطبيب كما ان ابني الكبير ( 16 ) عاما قد اكد هو أيضا على اقتراح الوالدة . لعنت حظي ومضيت لأنزوي شر انزواء . لقد حولت غضبي الى معنى . كان نجاحي هذه المرة عاصفا وغير متوقع . اذ مارست طيلة الأشهر مع الدانماركيين الاختباء المنظور أي ان اكون امامك ولاوجود لي من الناحية العملية ، ارفق ذلك بأن أقول جملة واحدة كل يوم ... ارفع سبابتي وأسأل سؤآلا أو اعلق تعليقا واحدا فقط أي اني اسجل حضورا واهرب وسط الحاضرين ولا انبس بأية كلمة بعد ذلك حتى لحظة المغادرة وعندها وحتى لا أكون جافا اتحدث مع هذه او تلك وامضي الى البيت لأقرأ بغضب بل اراكم الهرم الضروري من أجل الانتصار النهائي على الامبريالية والصهيونية والرجعية ! ولكن الذي حدث والذي لاتحمد عقباه ان الاستاذة – هذا النرجس الشوكي ! – قد طلبت من كل تلميذ ان يجلس في بداية القاعة ويتحدث باختصار عن كتاب واحد يختاره ويعلق عليه . كنت قد اخترت كتابا للأديب الدانماركي الشهم ( هينس شيرفي ) وهو كاتب شيوعي مرموق اخترته كي اكايد به الأوغاد من الادباء ولكي أقول للآخرين انظروا اية ضرورة كونية الطابع للشيوعية في وقتها ... لقد كشف هينس شيرفي في كتابه ( هذا الربيع المهمل ) عن انحطاط النظام التربوي في المدرسة والحياة الاجتماعية قبل الانتصار الحتمي ( او التكتيكي ) للاشتراكية الديموقراطية ... واعني هنا بالتكتيكي على سبيل الاستطراد ان رئيس وزراء سابق ، يدعى ( ستاوننغ ) كان قد غلف هذه البلاد بالاطار الاشتراكي الديموقراطي فأبعدها عن الميل الى الشيوعية العاصفة بوقتها – هذا من جهة – كما ابعدها من جهة اخرى – عما حل ببعض الدول من صراع طبقي ضروس ( المانيا ، ايطاليا ، اسبانيا ) اسفر عن ظهور دكتاتوريات وفاشيات ( يمينية ) معروفة . في 22 /4/ 1998 صباحا في الساعة العاشرة واربع دقائق وسبع وعشرين ثانية تقدمت من طاولتي الى منصة الاساتذة كي استعرض الكتاب . ماكان ذلك ليخيفني وانا الكثير الحضور أمام جمهور الشعر والأدب وفي أماسي ودعوات عديدة ولكن ماكان يخيفني حقا هو احتمال ان احتاج الى هذه الكلمة ام تلك ، او ان ألفظ مالايستطيع زملائي ان يفهموه ... استرخيت على الكرسي كما لو أكون في حضن امي او ابي ، نظرت الى الحضور بهملتة متناهية أي كما لو اكون هاملت المفجوع بالسخرية والخراب .... ولا أدري لماذا تذكرت استاذي الأريب ثامر مهدي الذي درسنا في معهد التدريب الاذاعي كل من مادة المسرح والفلسفة وكذلك في نفس المعهد الأساتذة الاجلاء صادق الأسود وعلي الوردي وفي الجامعة كل من عناد غزوان وعبد الواحد لؤلؤه وحسين حمزة والدكتورة نادرة وشاكي وبهيجة وسهيلة وكمال نادر والتربوي المعروف استاذ الاساتيذ حمدي يونس وكل الرائعين الذين علموني او علموا اضرابي ... انا ابن اؤلئك الأفذاذ ... انا عراقي ... انا من بلاد الرافدين ... انا ابن كوفتك الحمراء !!! بتلك التعاويذ والأدعية والأبخرة والآيات والرشوش و ( السبع مايات ) اعطيت دفعا لنفسي في مقاومة لحظة غير طبيعية في حياتي العلمية ! واضافة الى قدراتي الذاتية وثقتي بنفسي لم أنس ان ابسمل واحوقل وان اتذكر امي التي رفعت أخي الصغير من مهده وهي تهرب من افعى تنساب تحت قدميها وهي تقول بكل ثقة وحزم ( ياعلي ) . قلت محاولا تغطية اضطرابي بتسديد ضربة كوميدية ، قلت لهم على طريقة سامي عبد الحميد في مسرحية بغداد الأزل : " يا أيها الحضور الكريم . سأشرح لكم الآن باللغة الدانماركية ، أما اذا لم تفهموا ما سأقول فسوف اوضح ذلك باللغة العربية . " انفجرت القاعة بالضحك ... واصلت متحدثا وبدون ادنى اكتراث لوجودهم جميعا ! واصلت باللغة العربية وبحركات مسرحية خفيفة مع ابتسامة ساخرة ضمنتها كل آلامي الروحية وسخرية القدر وهذا السخف الأخوي الاشتراكي الديموقراطي ضمنتها ديباجة الموت الذي أحياه ، وخزيني المتراكم باللوعة المكتومة والملعونة ، لوعة وجدت الآن لحظة انتصارها على مستمعين مأخوذين بانتفاضتي المنسقة وفوضاي المنسابة ، بحامل الناي الذي يجر بأنغامه فئران المدينة ... قلت وباللغة العربية ، اسمعوا ووعوا ... ان هذا الكتاب الذي بين ايدينا هو بكل فخر لكاتب المعي ( يسوه راسكم ) انه المهذب هينس شيرفي ، انه وان كان دانماركيا فانه ( عاني ) ! وفي رواية اخرى كبيسي " يلي تريد الحسن ... لكبيسه روح وشوف " " واوكف بدرب الهوى ... وتمر عليك اخشوف " . هل فهمتم ما أقول ؟ اليوم تلقون العذاب الأكبر ! على يد قادريةْ بنت الأزور ! اعطيت النبذة المطلوبة ، والتسلسل الواقعي للكتاب وتعليقي على الأحداث ، باللغة الدانماركية طبعا ، وعندما قارنت واقع المدرسة الدانماركية في الخمسينات بواقع مدرستنا الحالية او أيام طفولتي ، لم أنس َ ( الملاّ ) والفلقة والحفظ الارغامي عن ظهر قلب لكل شئ في حياتنا ابتداءا من حفظ القرآن الكريم الى النشيد والقصيدة وجدول الضرب بالضرب ! والكلمة معناها وتهجّي حروف اللغة الانجليزية باتقان وبسرعة ومن دون تفكير وندو ، دبيليو آي اَن دي او دبليو . بايسكل ، بي آي سي واي سي ال ايي. كاب : سي يو بي ! !!!!!!! وتذكرت الصفعات التي كنت اتلقاها وبكائي الشبيه بالعويل تحت يد أبي الثقيلة وعصا الرمان التي كان يتفنن باختيارها ويضربنا بها فردا فردا او فرده فرده – لايهم - وبضمنهم امي الكريمة التي تنالها حزات وشطبات دامية من العصا . كان يعلق عصاه على الحائط كيما تذكرنا به حاضرا ام غائبا ... كانت جلودنا من اثرها خضراء زرقاء حمراء بل كل الوان قوس القزح الأرضي والسماوي . وفوق ذلك ، وفي ذلك الصيف ( الحنّاني ) – طبعا لم استطع ان اترجم لهم كلمة الحناني لأني لا أعرف معناها بالضبط ، وفي ذلك الصيف كان يضعني في البيتونة فأتصبب عرقا واذوب جوعا ، وحتى يأتي من المقهى أشرف على الهلاك وبدلا من ان يلين قلبه لمرآي كان يخرجني ليبصق بوجهي ويركلني بكل ابوّة كيما اذهب لأنام فوق السطح – والكلام بيناتنا – كانت امي تناولني الطعام والماء وهي تراقب الباب مخافة ان يقدم مجأة ، وكان يقول ان العصا لمن عصا " وان " العصا خارجة من الجنة " .. كل ذلك وغيره قد ذكرته في معرض الحديث عن كتاب هينس شيرفي مقارنا ماكان يدور في المدرسة الخمسينية من اضطهاد للطفل بما لاقينا ونلاقي من عذاب لأتفه الأسباب في عوائلنا ابا عن جد ... أبي هو ذاته كان يذكر لي كيف ان امه كانت تعتصر رأسه او رقبته بين قدميها لكيما تحكم السيطرة على فكيه – مع مساعدة آخرين – وان تضع الفلفل على فمه وتمسك بالابرة فتغرزها عشرات المرات على الشفة الطفولية الرقيقة المدبوغة او المرشوشة بأشد انواع الفلفل سعيرا ! ولقد ادعيت بطولة هذه الحادثة او عذاب الضحية لنفسي . حدثتهم عن الثكنة شبه العسكرية التي تدعى مدرسة وعن الضرب والاهانات – وطبعا لايزال في مخيلتي شبح استاذ ( محمد ) معلم الانجليزية في مدرسة العسكري في العيواضية عام 1957 وهو ينزل السلم وقد ضربني بحافة مجموعة من الكتب على رأسي الصغير وانا انزل السلم امامه في ( فرصة ) يفترض انها للراحة وليس للبكاء والألم المبرح . اخبرتهم بما اعايشه من قراءآت دانماركية واطلاع ضروري في هذا الصدد وكيف ان احد المثقفين المهمين في الدانمارك قد تناول موضوع ضرب الأطفال في بلده . لقد كان ذلك يجري ولفترة قريبة أي في الخمسينات وبعدها بدأت الحملة عاما بعد عام حتى منع القانون ضربهم رسميا عام 1997 . وفوق ذلك يستطيع ان يستنجد الطفل بالشرطة . ونحن ، رحمة الله على المتنبي القائل : " كم شهيد ٍ كما قتلت ُ شهيد ِ" نحن ملآى ارواحنا بذكريات ضرب وايذاء وكسران خاطر واهمال ونسيان وجوع وارغام واسكات ومقاطعة وزجر . كان الدانماركيون يصغون لي بكل اعتناء ، كنت اقرأ ذلك في العيون ، انهم انسانيون حد اللعنة .... لقد تعلمت منهم ان لا اقتل ذبابة او نملة او أي مخلوق ... ما أهمية ان أقتل الكائن الحي الصغير او الضعيف اذا كنت استطيع ان ابعده عني .. ان ذلك اطيب لهدأة الروح . قلت لهم انا مسلم لكني ايضا احب بوذا في فلسفته الهائلة الروعة : السلام الذهني وهدأة البال كأرقى قيمة مبدأية يصلها المرء ، وأنا مع مسيح المحبة القائل : دعوا الأطفال يأتون اليّ ... وأنا مع ماركس العظيم في العدالة الحقة للشيوعية وبأن يشيع كل شئ في الحياة المأكل والمشرب والملبس والفرح والسلام . أنا مع الحبيب على روحي الشاعر الأعظم من نزار وألف نزار ألا وهو حسين مردان القائل " وهمت بالكأس افني في قرارتها .... ما خلّف الدهر من عمري وأيامي " اتعلمون بأني لسوء طالعي ماعدت اقوى على النوم الاّ بمدد من ابنة شعير او عنب . واني لاقسم بأني نجحت بكل امتحاناتكم وانا سكران وضجر وغائب وكئيب . اذا شأتم اسألوا لبيبة ! لكن المهلبية ( أي الدماغ ) قد انهرست وتراخت وضعفت وبات من الصعب عليها التركيز . واذا كان هينس شيرفي قد قتل المعلم ( ليكتور بلومه ) في روايته او واقعه ، فاني لااقوى على ذلك ، صحيح اني آمنت بالثورة لكني ومنذ طفولتي وعندما سحقت نملة فاني كتبت عنها ثلاثة ابيات خوالد من الشعر :
يانملة أثمت في سحقها قدمي من ذا سيغفر لي مهما سرى ندمي الروح ازهقتها في نملة رشفت ماء البراءة من ضعف ومن سقم ِ تمشي وحبتها تزهو على فمها والحال قد سُحِقتْ من حبة ٍ لفم ِ
ان حادثة لكتور بلومه تحفزني على قتل اعدائي ولكن ( منين ياحسره ) هل استمعتم الى اغنية ( آكلك منين يابطه ) ان وضعنا واستفساراته الثورية لأكثر فجائعية من أغاني صباح ... كما ان الثأر يذكرني وبهذا العمر بامرئ القيس عندما غادر الى الأناضول وارتدى الثوب المسموم . وقرأ بائيته الحزينة حد المرارة . ومع ذلك فسوف أثأر ولكن أثأر منين يابطة ؟ ! !! انا راض ٍ بمأساتي ومخذول وملتبس وحزين واتلذذ ! احيانا بالعزلة المريرة وشفيعي في ذلك حالتان اولاهما الاستفسار وثانيهما الحسم وحسب عبد الوهاب فالماضي عندي هو بكل اختصار " كل ده كان ليه " أما الذي يليه فهو بلا أدنى تباكي اغنية لعبد الوهاب ايضا وهي " من غير ليه " . هذا ماحدث وبلا ادنى تزويق واذا احببت يارفيقي يادونكي شوت ! ان تستمر في ان خطنا العراقي في مسار الحضارات قائم على طفولة مركولة ورجولة مقتولة ... لكنني وانا الهارب من رجولة عراقية الى الدانمارك فاني قد قرأت بأن على الكبير اظهار الاحترام للصغير في خطة ثلاثية 1- اثارة الطفل الساكت بالسؤآل . 2- التحاور معه وجذبه الى اجوبة واسئلة . 3- توسيع مساحة المشاعر والتحابب . هذا هنا في الحضارة الشمال اوروبية أما هناك وحسب تربية ومنطوق وقاموس أُم علاوي التي لديها عشرة أطفال يصعب السيطرة وفي كل الأحوال على واحد منهم فان الطريقة المثلى في تربيتهم هي الصندل وبالعراقي النعال اذ يجري تصويبه بكل دقة وامعان الى أي واحد منهم واصابته في الجبين او على مناطق جرى التدرب عليها بالمراس اليومي كالرقبة والصدغ والعين او الانف والاذن والحنجرة ! .... وبعد ذلك فان شرط ام علاوي – مادمنا بهذا الصدد – الذي لاتتنازل عنه ان على الطفل الذي صوّب اليه الماخوذ " النعال " تقع مسؤولية اعادته اليها ، الى حيث تحتفظ هي بأحذية الاطفال جميعا بالقرب من يدها عند باب الحجرة مكان انطلاق صواريخ سام . ام علاوي أكبر نيشانجية تربويا ! . ظللت أتأمل سخف المقارنة بين التعذيب الجسدي او النفسي ومن ياترى يقوى على اعطاء فتوى بذلك ! أيهما الضرب او التخويف والارهاب ... هناك آباء اذا دخلوا البيت تنهض العائلة جميعا ، وان زمن تواجدهم فيه زمن مشوب بالخوف والخطورة ، أي كما يقول أحد أبطال الرواية بأن الفترة الخطرة من النهار هي من الصباح حتى العودة الى البيت – أي العودة من المدرسة الدانماركية الجهنمية في ذلك الوقت - . ماهي أهمية ان نضرب انسانا رقيقا غضرا كالطفل ؟ ماهي الاوسمة التي نضعها على صدورنا ونحن نزجر الشفاه العذبة الصغيرة ؟ ان تجاوز الحدود الشخصية وسحب حالة الرعب والصراخ والعنف من واقع مشكلة بين شخصين او زوجين الى عالم الطفولة هو مسألة اخلاق ومسؤولية وأمانة ! وكذلك الحال عند هينس شيرفي ... ان اوضاع الحياة العصابية والاخلاقية للاساتذة واسلوب الحياة ذاتها منعكس على المدرسة بوقتها وهنا اقتطع جانبا من مقالة للكاتب الدانماركي كاي اولبيك سيمونسون : "من المسلم به ان التربية كانت خشنة وفي كل من البيوت الكثيرة والمدارس كانت هناك ممارسة للضرب ، باليد او العصا لما هو كبير او صغير من الاساءآت او فقط لأن ذلك هو جزء من الاعداد الى الحياة العنفية للمجتمع . كان على الاطفال ان يكونوا راضخين ، متواضعين ، ومطيعين . ان أطفال العامل يتركون الدراسة في سن مبكرة . وفي الرابع عشر من العمر ، بعد التعميد يجب عليهم ان يعملوا شيئا ما ، أما كسعاة او اطفال للمساعدة في العمل ، والبنات كخادمات . وفي اكثر المصادفات حظاً يجري وضعهم عند معلم الورشة ، وكانت العلقة غذاءا يوميا . انه من النادر ، الى حد عام 1940 – 1930 أن يأخذ اطفال العمال امتحان الدراسة الثانوية او فرصة الحصول على تعليم عال . " " ... في عام 1997 قد منع ضرب الاطفال ، وقبل ذلك كان ممنوعا ان يضرب الأب اطفاله ، وقبل ذلك كان ممنوعا ان يضرب المرء الاطفال بقسوة وقبلها ضرب الصناع ومتعلمي المهنة والخدم . " وهنا اجدني باحثا عن المسافة الزمنية مابين الدانماركيين وبيننا من ناحية تربية الاطفال ... قلت لزملائي وانا لا ازال ( أناحِط ) مثقلا بانجاز مداخلتي مرعوبا من ان لاتكون المداخلة على طريقة " آه ديكي نحباني للو " ... قلت يعني ان حضراتكم ، ولقبل خمسين عاما فقط ليس الاّ ، كنتم مثل ام علاوي ! المهم لديكم الآن نظام ديموقراطي – على راسي – وقوانين جديدة تخدم ذلك ، ونحن لانختلف عنكم من حيث حب السلام ونبذ العنف ، ان ارواحنا ميالة الى ذلك وان انصار السلام في بلادي عدد النجوم ، ونحن لسنا دوابا او جمالا لاتفقه بسوى هضم الاشواك ، نحن والله حلوين لولا اننا ضحايا مشاريع تجارية تسليحية وتوزيع ضروس لمناطق نفوذ " ولولا المزعجات من الليالي .... لما ترك القطا طيب المنام ِ " اقسم بأحمد الصافي النجفي بأننا ابرياء كما ولدتنا امهاتنا . ان أحد زملائي من الذين يبدون سذجا قد دافع عن فكرته متسائلا أي منا يمارس العنف انتم ام نحن وقصد بذلك تورط بعض الشركات من بعض الدول الاسكندنافية ( سابقا وحاضرا ) في بيع الاسلحة الى بلداننا لا حبا في سواد العيون لكن لحنين مصرفي واشواق بنكنوتية .... ان عوائلنا واطفالنا وتنشئتنا عموما وحتى امزجتنا هي انعكاس لواقع متخلف ... ان الخروج من مملكة الحيوان الى الرحاب الانساني التحرري مايزال يراوح في عنق الزجاجة مختنقا مرة متنفسا الأريج مرة اخرى . وأما مايزيد الطين بلة أي عدا الهم السياسي والاحتراب مابين القوى اياها ، والتخلف والمضادات الحضارية من تناحرات بدوية وعشائرية وطائفية وشللية وفئوية وحلقية وحزبوية وابوية وطوطمية ، هو ان نبتلى بدكتاتورية مغرمة بحب الممنوعات وتعشق تسويغ ( لا ) على ( نعم ) وممنوع على مسموح ، وأكره على احب ، ، مغرمة برؤية الدم لا الورد والحرمان لا السعادة وكم الأفواه لا حرية الرأي والتجويع وخلق الأزمات لا مجتمع الرفاهية وحق الاختيار ... اين هم الأطفال في جحيم عوالم من هذا النوع ومن هو المسؤول أي الكيان المصدر للكوارث ومن هو المستورد والمستفيد ؟ من الرابح من الصفقة ؟ الشعوب ام السلطات الاقتصادية وخدامهم من الاذناب ؟ وهنا فتحت الاستاذة الباب على الاسئلة والاستفسارات : - ها انت ضد العنف .... وقد تحدثت عن جبروت وهيمنة والدك عليك حتى الانهيار العصبي الذي اصبت به ... افهم من ذلك انك لاتضرب أطفالك . - انا لا اضربهم على الاطلاق - لماذا ؟ اقصد كيف تبرر ذلك ؟ - انا لا اضربهم لا لأن النظام الدانماركي الانساني يمنع ذلك ... انا ضد العنف لأنني ذقت بلواه ... أنا ضد الدموع وكسران الخاطر . انا مع سيجموند فرويد الذي يدعو الى الاعلاء أي ان عظمة الانسان تكمن في ان يرقى على حالته ... اذا جعت يوما لاتحرم الجوعى من قوت ! بل اسعد الناس ... الحياة جميلة تستحق الرعاية وتنهض وتشاد بالمحبة ... اذا عطشت اسق ِ .. اذا حزنت أفرِح ... قدم للآتين ، للجيل لمن جاؤا بعدك ، قدم ماحرمت منه .... ماضر من يشعل شمعة لسواه وان كابد العيش في ظلام ؟ لا لن امس اولادي بالوردة ولا امارس سلطتي كأب ضدهم .... انا لست بحاجة الى استعراض عضلات ابوّة ما على نملة او قملة ... انا سعيد بالتساوي في منزلة المخلوقات .... ورحم الله فيلسوفا ناشد طائرا وهو يقول أخي الطير . افلاطون قال ذلك ام ارسطو طاليس ؟ والله لقد اعطب واقع الحال ذاكرتي ولقد تعبت " تعبت ... تعبت من الاشواق " على حد قول المغنية الميلاء . - هل الناس في بلدك من الذين يفكرون على طريقتك كثيرون ؟ - كثيرون وأنا اقلهم شأنا ... وكثيرون ايضا من هم بحاجة الى السلام ... بنو لام بخير لايعوزهم الاّ الخام والطعام ، انهم بحاجة الى استعادة حالة من التوازن تنقذهم من احوال الحصار والجوع والحرب والازمات ... أي من الضروري ان اضع الحصان امام العربة ....أي اعطني خبزا وبعد ذلك اعطني مسرحا وبالتالي اعطيك شعبا نبيلا ( بريشت ) . نطالب بالخبز اولا وبالتربية الضرورية وفق الخاصة العالمية الأهم أي السلام .... وحتى يتحقق السلام الأكيد يتحقق ويصان مفهوم الحرية .... واذا اجملنا الشعار فهو خبز وسلام ... واذا اسهبنا فيه فهو: ( خبز ، سلام ، حرية ، محبة ) ان المحبة بلا سلام مشوبة بالمخاطر ! في بلادي ارضية للسلام ... وأما منطلقات الحرب فهي منبوذة .... هي دعوة الى مذبحة نحن في غنى عنها ... ان الجبابرة والاسياد والاقطاع والرأسماليين هم دعاتها والرابحون منها ... لم يستفت ِ أحد ٌ نساء بلادي ولم يُصغ لآرائهن بالحرب ... النساء لايرسلن بفلذات اكبادهن الى النار ... كما ان الطليعة المثقفة من ابناء بلادي من ديموقراطيين ومستقلين واممين واسلاميين ومسيحيين وصابئة وايزيديين واديان اخرى وفئآت عامة متعددة ومعارضة ترفض الحرب رفضا قاطعا . - مادمنا قد ناقشنا وضع المدرسة في الخمسينات في الدانمارك . هل ان واقع بلدك الحالي شبيه تماما بذلك ؟ - بل هو أسو أبكثير ... أسوأ لأن واقع العائلة ومكابداتها اليومية هو عامل مقرر لوضع الطفل في الحياة الدراسية ... ان الوفيات عديدة بين الاطفال ، الجوع مدمر ، المرض متفش ٍ ... الدواء مفقود ! كيف يدرس ابناء بلادي وهم يقتعدون الأرض لا مقاعد للدراسة ! ولادفاتر لديهم بسبب من الحصار ، ... كما ان ظروفهم قاسية للغاية تحيل دون تطورهم ... الجحيم بلادي ... على فكرة كيف يستطيع تلميذ ما الذهاب الى المدرسة يوميا بينما هناك خمسة افراد في البيت يشتركون معه بحذاء واحد ؟ . عمت الهمهمات في القاعة بعد ان حدثتهم عن مضمون رسالة وردتني من صديق ما ... علق البعض بل اتفق الكثير بأن المشاكل في الدانمارك هي ( لوكس ... أي ترف ) أي مشاكل كمالية ! ... ياحسرة ... اندفعت الكثيرات من الفواتن ممن لا يحبذن القاء التحية عليّ صباحا عندما يلاقينني ( من قبيل تحاشي الأجانب ) اندفعن الى توجيه الأسئلة اليّ ... الى التعاطف مع قضيتي ... مشيرات الى جهلهن بمايدور في بلدان اخرى وان البعض منهن يتصورن تواجدنا هنا هو من قبيل تحصيل المبالغ وتجميعها واننا علق ماص لدم الاقتصاد ... ترجمت لهم بعضا مما ورد في الرسالة التي تشبه رسائل آلاف الناس الذين يستطيعون ايصالها الى خارج البلاد ... لقد شبهت احدى السياسيات البرلمانيات ( وهي لاتمثل الأ مجموعتها في البرلمان ) بلدها الدانمارك بقطعة الكيك وأما الاجانب والمسلمون خاصة فقد شبهتهم بالسم المبثوث فيها . تألمت لذلك مما دفعني في اليوم التالي الى القيام بترجمة الرسالة وطبعها وتكثيرها وتوزيعها عليهم راجيا اياهم مقارنة الأفكار الجهنمية لبعض السياسيين هنا بعذاباتنا هنا او هناك : طبعا استميح قارئي عذرا بأني سأورد الرسالة هنا بأخطائها من حيث التعبير او النحو ... الرسالة : " بسم الله الرحمن الرحيم ... حضرة الصديق العزيز حفظك الله ياأبا ( ...... ) المحترم . حبيبي ... أنا وكل اسرتي نبعث لكم احلى واطيب واكبر التحيات القلبية مع الامتنان لمواقفكم وموقف اختنا العزيزة ام ( .... ) الطيبة .. آزرتمونا في الصعاب جزاكم الله كل خير وحفظ لكم الحبيب ( ..... ) و... و... و ... / ايها العزيزين : والله انا خجلان جدا من عازتي واعتذر على ارباككم وانتم في الغربة ، ولكن حالتي وعائلتي لاتوصف متعبة للتعب مؤذية للأذى والألم ، اصبحنا نبكي البكاء بدون مبالغة . ناهيك عن الجوع وأذيته ، اتذرع لله ان لايكون موقفي ضعيف امام عائلتي . آخ ... آخ الحياة صعبة ومرة ومرة الى كطع النفس . أصبح الاب وأولاده بحذاء واحد ، وعدم تمكني من شراء الملابس الداخلية ... هل تعلم اني بعت ماكينة الخياطة وأيضا غرفة أُم ( ....... ) البنين ، وبهذا الشتاء سأبيع ( صوبتي ) المدفأة كي اتبضع لابضاعة انما أكل للعائلة . صفيت انا والفرش والصور والحمد لله ، لكن السكن هو الأهم ... اصبحنا بلا سكن أي لاجئين في الشارع هل تعلم ( ارجو ان تعلم ) وبعد التعديلات لانقاذي مبادرة طيبة من ابو (...... ) ونحن في بيته الآن بغرفة طول 2متر وعرض 3 متر ولمدة شهر فتصور ياأيها العزيز ... من القهر والأُف سيخرج قلبي من فمي ... الى متى سأبقى هكذا ... أكثر الرجاء هو ان لاتكطع بي ّ لأني بعد اجراء عملية القرحة تقاعدت ولم استطع ان اعمل ... لازمتني اعراض فقر الدم وانخفاض الضغط مع تنمل ورجفة بكل جسمي وتصبب العرق من رأسي حتى قدمي والله المشافي ... الظروف صعبة والله لايريك ما رأيناه وان يسعدكم بعز وخير وشكرا على استماعك لوضعي .... ( ..... ) ... وفي الختام سلام " . نجحت في كل امتحاناتي البليدة وانشغالاتي هذه التافهة او المريرة .... ذهبت ادور على الأصدقاء كيما استدين مبالغ لاطاقة لي على سدادها الاّ في ظرف عام او عامين .... درت ودرت ولا أزال أدور ... المبلغ كبير ، والافق غائم والقلب غائم أيضا ..لكن البصيص لايموت بل محال ان يموت ... المهم أن يجد الناس سقفا لاغماضة جفن ، ثوبا يستر العري ، طعاما لكل فم ، دواءا للمريض ، وكما قال هذا الصديق العزيز .. " والله المشافي " وحتى يشفينا من الداء الوبيل ... جيب ليل واخذ عتابه . كتبت عام 1988 ************
ليلة في كوبنهاغن
كنا مثل كلبين في ليل الشوارع ، الريستورانتات تتألق بالضوء ، وخلف النوافذ حشد من الأناقات ، شباب اوروبي أشقر اللون كالذهب او كشعاع الشمس .... نساء أجمل من فراشات البحر ، خمرة كدموع العذارى تنتصب على طاولات بشموع وأزهار ..... شراشف باهية كالثلج وفتنة تعم بسحرها الأرجاء .... كنا مثل كلبين !. كنا كذلك ....! نحمل حقيبتين تتدلى على كتفينا ، فيهما قنينتان او سواهما من البيرة الرخيصة ، ساندويج أو آخر مع تفاحتين . ... كنا نحاول البحث عن زاوية قصية نتخفى في ظلمائها كي نشرب .... صديقي يتحاشى احتساءها علنا وعلى الطريقة الاسكندنافية ، بينما حتى النساء هنا يجلسن باسترخاءة نجومية ، على المصاطب المتناثرة في الشوارع والأزقة ، يرفعن الزجاجات الى شفاههن ويدخن بكل انتعاش ، الحرية الشخصية هي القيمة الفاتنة لهذا المجتمع اذ يعمل المرء مايريد ولايتدخل أي كان في شؤون سواه . - اشرب ياصديقي ... - لا أرجوك أنا مستعد أن امشي عاريا ولا أحمل الزجاجة هكذا ! - انت معقد ... بعد حين وعلى رصيف مظلم ، فتح زجاجته ، وفتحت ُ الاخرى وسرنا في الأزقة الخلفية ... صديقي يطفح بأريج الجنوب العراقي ، عطر مدنه وقراه ، أغانيه وأحلامه ، وأنا البغدادي مترع بالصلاة لما هو جنوبي . كانت أحاديثنا جميلة تتناهبها الذكرى تحت ليل داني النجوم ، نجوم تومض بين غيمات تتدلى على ميناء هادئ وسفن راسية تلفها الانسام والأضواء الخافتة ، النائمة على رقراق مياه سرمدية . - أكثر احلامي تدور حول شارع السعدون ، وأبو نؤآس وأكثر شئ احلم بيه ، هي منطقة البوليصخانه وارخيته وأبو قلام . - لا والله ، آني أغلب احلامي دا امشي بالصالحية والشواكة وجسر الشهداء ، هذني تلث مناطق لازكات بدماغي . كان البرد شديدا على صديقي ...اسنانه تطقطق وهو يبتسم ساخرا من ضعفه ...أخرجت له بلوزا كنت قد دسسته في حقيبتي تحسبا لانخفاض درجات الحرارة . عادتنا هكذا أننا نلتقي في شوارع المدينة ... كلانا عاجز عن تناول وجبة مع المشروب في مطاعم كوبنهاغن المرتفعة الثمن . الشوارع مطعمنا الكبير . نأكل على مصطبة . نرفع الزجاجتين نخبا . نتلفت الى المناظر الجميلة ، الى بهاء امرأة مستطرقة ، الى أوصال شجرة هفهاف ، الى مصابيح لامتناهية من الشقرة . بعد تطوافنا الهزيل ، تعبأت تلافيفنا بابنة الشعير ، وبعد أن أنهينا على قطعتي الساندويج بضربة واحدة ، تحسسنا جيوبنا ، وبقوة فائضة عن الحاجة ، دلفنا مجمعا من المطاعم والمراقص والمخازن ، كانت الساعة الثانية عشر ليلا ... شققنا طريقنا في زحام الأروقة المفتوحة الأزرار، في جحيم العزيف والصخب ، بين زرقة العيون ، في تماوج الأجساد ، انتهينا الى طاولة تتوسط الصالة . كشفت النادلة الدانماركية زيف ادعاءاتنا ، ظللنا نتطلع في وجهي بعضنا البعض ، لم نستطع كلانا ! شراء كأسين : - لابأس .. اعطنا كأسا كبيرة واحدة ، بدلا من كأسين صغيرين ! . شعرت بخجل دامغ ! تعرّقت قليلا . لكن وعن طريق الصدفة ، فقد كان هناك كأسان فارغان الى النصف ، على ذات الطاولة التي جلسنا عندها .... شعرت بنوع من الارتياح اليتيم ، اذ غطيا – هذان الكأسان المتروكان على حقيقة افلاسنا . أخذنا نتناصف الجرعات ، مُرةً كانت وحلوة . قلت لصديقي : - اجلس بارتياح كما لو كان العالم بيت أبيك ! – بعد حين قضينا على السيجارة قبل الأخيرة ، بعد حين أيضا ، نهضت امرأة صغيرة بشعر أشقر ، وفستان أسود قد تراخى شريطه من جهة الكتف ليستقر على ذراعها الأبيض ... رقصت على صدى الأنغام ، ومعها أيضا صديقتها المقصوصة الشعر ... - شكد حلو تركص المكموعه ! كانت هناك وجوه برونزية اللون – من آسيا وافريقيا – رقص احدهم بعيدا عنهما ، وباهتزازات اوروبية ملفتة للنظر .... استرخيت على الكرسي مادا قدمي الى الأمام وبقايا السيجارة الأخيرة بين اصابعي ، توهمت أني هارون الرشيد في لياليه الملاح ، ونسيت للحظة كل مايدور حولي ، عدا نظرتي الناعسة اليتيمة الايقاع ، عدا تطلعي المقتول الى تلك الحسناء ، كفراشة النار وهي تدور في لحظات من خريف أيامي . بعد حين حدجت صديقي . كان وجهه حزينا الى أقصى الحدود ... مددت بعنقي اليه ...أصغيت وبصعوبة الى مايقول . طلب مني أن ننهض ...ظل يردد ولأكثر من مرة : - هذا ليس مكاننا . نهضنا ... كان وجهه معتما وحزينا كليلة من ليالي الجنوب ...تركنا وراءنا جثث الهيام .. كانت الأرهاط الليلية من الشبان تتدفق باتجاه المجمّع المسمى ( سكاله ) باتجاه المدينة الساهرة ، نساء بعمر الزهور يتقافزن في الأزقة الباردة باحثات عن ملاذ ليلي يسافر بهن حتى الصباح .... انها ليلة السبت الحامية ! أمام المحطة الكبيرة ، حدثني بطريقته الحنون ، تذكرت معها وجه امي المطلقة وعباءتها الترباء وحيث كانت تودعني بعد سويعات من اللقاء ، وعند المنعطفات لتذهب الى بيتها البعيد وأعود الى حيث أسكن ... قال لي بصوت مكلوم : - هل معك تذكرة الذهاب الى البيت ؟ - - نعم وأنت ؟ - أنا أيضا .. ومن ثم افترقنا ، نلوذ كلا بصمته .. وكنت ألعن خطاي التي أخذتني الى مجمّع الغصّة ( سكاله ) ومعي حشرجة من صوت صديقي ، لا ... لن أنساها : " هذا ليس مكاننا " .
طلاق الوطن وطلاق المنافي
طلبت مني ، بقوة هذه المرة ، ان أترك البيت ، وأبدأ البحث عن حجرة . في 5/1/2002 نشجتْ وراء زجاجة النافذة ومن دون أن تتطلع اليّ ... قبل دقيقتين وقّعتْ على خط طلاقنا ، وها هي تنبهني الى ضرورة الذهاب الى بيت الماء .... اللعنة ... تطلقني وتعتني بتفصيلاتي . قبل هذا التاريخ وجدتُ حجرة . وقّعت على عقد الايجار ... عدنا انا وولدي .. ( 20 ) عاما ... كان هو المترجم مابيني وصاحب السكن الجديد ... ها هو يقود السيارة بدلا عني فقد كنت على ما أبدو لنفسي وله ، عاجزا عن قيادة خطواتي ... كان هو ينشج بصمت وهو يقو د السيارة . في 8/12/2001 اعتذرت هي تلفونيا فقد اخبرها هو وبدموع مدرارة بان الحجرة حقيرة للغاية لا تليق بأبيه . اعتذرت في اليوم التالي ايضا راجية التخلي عن هكذا حجرة ... رفضتُ الأعتذار وفي قريرتي رغبة بأظهارها ظالمة وانا المظلوم ، ولكي امارس ماسوشيّتي ضد نفسي وطبعا لكيما أُشعرها بالتأنيب يوميا وباستمرار ومادمتُ ساكنا في هذه الحجرة . قلتُ من ضيقي بها : تعالي وشاهديها انها ليست كما تتخيّلين . في 10 /12/2001 جاءت مع عدة التنظيف ... امرأة عجيبة تدفع بي الى ترك البيت وتأتي لتنظف حجرتي ... عجيب ...الف عجيب . في الممرالعفن الرائحة ثلاث حجرات احداها لرجل مجذوم ، والاخرى خاصة بالجن اذ لا يأتي صاحبها الاّ في أوقات متباعدة . ظهر الرجل المجذوم صدفة ، ونحن ننظف الحجرة ، سألته بلغتة الدانماركية ، اين مكان غسل الصحون .. قال ببداهة :- في ذات التواليت . شعرت بالقرف . سمع ولدي وحبيبتي ( زوجتي ) بأمر تنظيف صحون الطعام ... لملما ادوات تنظيف الحجرة وانطلقا آخذيني معهم الى البيت . سلمنا المفتاح لصاحب الحجرة تاركين له العربون . قالت لي : - عفوا ... اعتذر منك مرة اخرى عدتُ الى حجرتي في بيتي في الطابق الثاني صمت يسود البيت .... صمت يشوبه الغموض .!
تداعيات
ظلت أسئلة عالقة في عمقي ... لمن انساب النشيج على اجهاض رجل ( اغلب اللواتي يجهضن ينتابهن البكاء ، لكن بارادتهن جرى الاسقاط ) .. ولقد اسقطتني هي .. تمنيت لو اتتبع سير عمل التلافيف لكي ادرك الجمال الدامع الذي بكى ضدي ومن اجلي . كانت وراء النافذة تنشج ... كنت شبه عصبي امشي ولا اتطلع لها ( ولماذا اتطلع ). هيأتي في الممر هي هيأة شاب مكتهل لتوه او كهل فيه بقايا شباب ..... لقد ودعتني الى غير رجعة ... ومع ذلك بكت لي وعليّ... المدفون جدير برمال ودموع . ولكن من قال انها بكت ...ربما تصورتُ ذلك وهي وراء زجاجة النافذة تنتظرني ... خرجنا الى باحة امام مكتب الشؤون الاجتماعية ( الآمت ) وفي رأسي الطنين ... واصوات صراخنا مدافا باصوات الماضي وهلوسة من صداحات اخرى... دوي لحركة قطارات وباعة متجولين وصوت امي عندما كانت تناديني وانا الهو باللعب مع ابناء الحارة ..وأخيرا أنفاس ابراهيم ناجي ممتزجة بهمس أثيري يربت على التلافيف الباكية ...انه صوت السيدة الكوكب :- " انني اعطيتُ ما استبقيتُ شيّا " " آه من قيدك أدمى ..... "
تداعيات ايضا
انهالت على الجدار تلو الجدار بالتنظيف والمسح والتعقيم ، وحتى السقف فقد شملته بقوة ذراعيها المرفوعين الممسكين بالفرشاة الطويلة .. غدا كل شئ لامعا وكذلك زجاج النافذة العريضة امام حديقة واجمة .. ساكتة .. بدت خضراء لكنها مهددة بشحوب أيام الشتاء ولونها الداكن والاصفرار المريض او ملوّحة ببعض نتف الثلج المتساقط منذ أمس الأول ..أدارت مفتاح عمل التدفئة للتأكد من عمله.... أشارت كعادتها علينا بوضع الديكورات وتنفيذ الخطط وتهيأة الخنادق لحرب طويلة شاملة ضد زواجنا . ... -هنا تضع السرير ... التلفاز سيكون امامك بالتحديد في هذا المكان ... سأجلب لك اغطية اضافية .... كيت وكيت اثر كيت وكيت ... كل شئ كان متموضعا في ذهنها من حيث السيناريو والاخراج وحتى مونتاج اللقطة الأخيرة ، ماعليّ سوى ان انفذّ أي ان آتي لأسترخي في منفاي الذي ستشرف عليه ... حتى الطلاق هنا أُمومة . ماعليّ سوى ان ارسل ملابسي الوسخة اليها لتنظيفها كل اسبوع وتعيدها مع ولدي الكبير الذي هو الآخر قد راح يسهم في مهمة الانفصال ويتدخل في طقوس الأشياء والتفصيلات الضرورية التي لا أبدو انا ذاتي مهتما بها . اذن سآتي ، سأنتقل الى هنا غدا ... حملت جردل الماء مع المماسح والمعقمات ولملمت الأدوات ... فكل شئ جاهز ...وعندها ، عندها جاءت ، جاءت كلمة الرجل المجذوم جاري الجديد في أن التواليت هو مكان غسل الصحون فألقت كلمته بكامل المشروع ارضا ، عمّ الذعر وجه ولدي ووجهي الاحتيار وران عليها عبوس واجم . - قلت لك ان هذا المكان لايليق بك ... لا يهم اننا نظّفناه ... كيف ستغسل ملعقتك في بيت الماء ... ماذا تقول؟ ولايوجد مطبخ بالمعنى الصحيح ... تطلع لي ولدي بمحبة غامرة -ياأبي ... لماذا الاصرار لماذا ؟ ... طرقت لبرهة ونحن في الممر المواجه للحجرة ... حجرتي التي حجزتها بعربون محترم لن اسكن فيها ... حدقتُ في المكان رأيت أيامي المقبلة فيها... ماأكدرها واكلحها وما أمر العيش في دهليز العفونة والجذمنة والمكروبات . رحت في لُحيظات اتطلع وبوحشة الى قبر ايامي من النافذة حيث حديقة مزهرة لا بالورد بل بأفاعي وعقارب وعناكب . كان الممر اشبه باندلاع ماء في لحظة غرق سفينة . قلت : - هيا فاذا بنا كالفارين من معسكر او سجن ... نحمل السجادة والمكنسة الكهربائية والمنظفات ... ولو ابصرنا احد ما من المحيطين على تلك الهيأة من البهدلة لأطلق فمه مثل صفارة الأنذار .
تداعيات اخرى
- لماذا ألقيت النسرينة فورا في النار ؟ قلت لنفسي - ألقيتها للدفاع عن حقي . أجبت نفسي أضفت قائلا في حوار التوازن الضروري مع الذات - لأمارس غضبي على كل مامر من جفاء ونكد ولا حب ولا شوق ... لاتسكن الأرواح بيوتا لم يبنِ جدرانها الشوق . -هل من سبب آخر ؟ قلت لنفسي - نعم لكي أقطع الشك من اليقين في كوني أعيش مع هذه المرأة حياة قطيعية أم لا . اشعربحرب قريتين جاهليتين في رأسي ... سيف يقرع سيفا ، فكرة تدمي فكرة ، أموات وأشلاء على قارعة الطريق والرأس ..نعم اعترف كوني ردَّ فعل لما مرّ من مناقب ، واني رماد الحرائق ... لكن من صيّرني على هذه الحال من البهدلة واللاتعشق والفكاك ... انه بلا ادنى مواربة ، البيت الذي يعج بالنقد .....والنكد ... والصياح والصراخ والتهديد .وارعاب الآخر وتهميش الآخر وثورة الآخر واخيرا ردود فعلي المنهارة في كسر الصحون في الليالي .. وملء ارضية المطبخ بالهشيم.وهنا اتذكر منظري الوحشي او الوحوشي في التحطيم العدمي وانزال محتويات الرفوف في لحظة واحدة على الارض بكل ما احتوت تلك الرفوف من فنون منقوشة على صحون ، واشكال هندسية وتصميمات متجسدة بالعلب والأكياس واشكال المواد الجميلة في الاستعمال المنزلي .آخر مقتنيات الذوق و الذكاء البشري المتجسدة في الألكترونيات ، تتحول كلها كلها في لحظة همجية الى الثورة العدمية . وهل كل ذلك كان ضروريا ؟ ... نعم بلا أدنى شك ... ان ذلك يعادل دورتي الدموية ويعطيها اوكسجينا لأختناق سرطاني محتمل . ثوروا تصحوا ... صحتي هنا ثورتي .. وقد قمت ( لا اندم على مافعلت هنا ) بهذا العمل ( البنّاء ) لثلاث مرات ، وظلّت هي بعد ان يكفن الصمت البيت وينام الاطفال بعيون خائفة وقلوب واجفة ، ظلّت هي تنظف المكان من الساعة الثانية عشر ليلا حتى الرابعة صباحا. حقا لقد كلفها ذلك مالاطاقة لها به وما عادت تحتمل هكذا وحش او تيس هو انا . لا يهم هنا سؤآلي في محكمة العدل الوجدانية من هو السبب هي؟ أنا ؟ هم ؟ ... لاأعني هنا في مطبخياتي الساهدة ، بأن يكون أحد ما هوالسبب هو المجرم . الجريمة هي النكد اليومي ، هي ان تعامل امرأة زوجها بحدة وآمرية وسلطوية واستاذوية وبتنقيح دائم وان تراقبه وتتهمه وتشكك به ، وتخطأه .. وان تبكي وتلوم وتنق بل تحيل الهواء العليل الى سُم ! او ان يتولى هو ذلك الدور المقيت . وهنا انصح المرأة التي تخطط الى تحطيم نفسها وزوجها وتضييع أولادها الى اتباع اعلاه من تسلكات !!!!!!!! وعلى مهلها تتعاقب الايام البليدة ، وعلى قدر سني الاطفال الذين يكبرون مع شيبنا الجسدي والروحي تكبر الآلام لتغدو جراحا ... واذا بنا بعد سنوات الواجب الأُسري ، نتأمل بعضا بهذه العيون الأسيفة والرغبة بالانتقام والايذاء ... وابغض الحلال هنا هو من هذا القبيل او حصيد له . في صباح اليوم التالي من عودتي من حجرة الجذام التي قمنا بتنظيفها هي وابني وانا ، والتي لم اسكن فيها لحظة واحدة رغم تسديدي حوالي ستين دولارا كمقدمة فحسب .في اليوم التالي ، خرجت من الباب الزرقاء المطلة على اربعة شوارع ، في ضحى صاحٍ ودخيلة عتماء ، سرت باقصى ماتقوى عليه قدم متعبة وظهر موجوع ، قاصدا دار البلدية فهناك مشرفتي الاجتماعية التي ستفرح بكل مشاعر الخبث لما سيؤول اليه مصيري !! نكايةً بي ، فهي لا تحبني ... وهل احبّت مشرفةٌ مشروفاً عليه في الدانمارك .. قلت -استمارة طلاق رجاءً .. واخرى لسكن منفصل . كمن يسترد قليلا من وهج كرامة موحلة ، قلت لحرمي المصون عندما عدت الى البيت بحزم أسيف -لقد طلبت استمارة الطلاق ... في الايام القليلة القادمة سنفترق ... في البيت تقع حجرتي عند نهاية السلّم ، في الطابق الثاني ، كنت وحيدا وكسيرا ومفجوعا .. وهي تعد أشياءها وحاجات اطفالها ليوم غد حيث الدراسة والعمل ... كنت اتقلب على السرير ، ودفء الحجرة يتغلغل في كل مكان عدا البرد الكامن في الصدر ... كأنما هنا جرح في صدري ... صوت السيدة الكوكب يشد من ازر ضياعي ... ينبعث صوتها " انا وانت ظلمنا الحب " يمتزج بملايين الآهات في حجرة صفراء لاتراها عيني الاّ جريحة نازفة حمراء " وجينا عليه وجرحناه " " لحدِ ماذاب حوالينا " كنت اتقلب فأُقلّب ذاتي وافكاري على الجمر ... هل الذي يدور هو الواقع حقا ؟ ام هو مسرحية وتمثيل.. لكن اذا استحالت الأرادة على علاّتها مترددة كانت ام دونها الى فعل وتطبيق فلا اتهام مسرحي هنا ولاتشكيك بالأدوار ... كنتُ انادي عليّ ... فلان ... هل حقا تريد الطلاق ؟ الطلاق حرية اليس كذلك ؟ .. ظللت أتقلب بل ادور لأكثر من مرة في اسطوانة صفيح ... الضوء طقوسي .. الغناء تراتيلي .. شاحنة مرت على الطريق حيث الشوارع الأربعة امام باب بيتنا الداكن الزرقة .. تباعد صوت محركها ألأجش .. عادت الشوارع الأربعة لترتع في ذات السكون الليلي الندي الأنسام " وضاع الحب ضاع " .. "وقلبي ضاع " ... " ودل وقتِ لا انا بنساك ولا... " انا وانت ... انا وانت .. " صوت البنتين التوأمين وهما تتحدثان مع امهما .....صمت .. صمت ... لايتناهى الى اذني أي همس ... " محدش منا كان عاوز يكون ارحم من الثاني ... ولا يضحي عن الثاني " " وضاع ... وضاع مابين .... وضاع ... " هنا بحة شجية .. ساحرة بل فتاكة في صوت المغنية الميلاء . على اية حال انا لست الوحيد المنزلق في لعبة الموت هذه ... حالات الطلاق في اوروبا والملاجئ طالت السماء ... الطلاق ضرورة ام استسهال ( استخراد وضع يعني ؟ سؤآل مجرد سؤآل ) . من الهين على الخاتون ان تقول لي جد حجرة ... بينما في العراق لم تستطع أي واحدة من الحبابات ان تفوه بحقها هذا ! هنا القانون معها ... القانون - مثلما يقول عبد الحسين عبد الرضا في مشهد المحاكمة من مسرحية درب الزلق " القانون في امريكا يعطيها البيت لها .. القانون في بامباي يعطيها البيت لها ...الخ " هناك في بلداننا ( الخرنكعيّة ) سلطة الأب الظالم والكافر بحق الانسانية هي السائدة .وهنا الذي ( يأكله العنز يطلعه الدباغ ) المشرفة الاجتماعية والقانون والمبالغ الاضافية للمطلقات والبيت بما فيه( لها ). أي كل شي يعطيها البيت لها فلماذا لا !!! والطلاق كما تقول الحجية ( كلمن ايروح على خر اذنه ) وبالجلفي الفصيح( اتخامه وركع بوب ) ( غاب القط العب يافار ) الطلاق ( ونسه ) أُنس... وانه يؤدي الى ان تغدو المرأة الشخصية الاولى في البيت ... انظر واجهات البيوت.. انظر مامكتوب عليها :هنا تسكن (1) ايفا لارسن (2) الكلب فيفي (3) الزوج خوخو الخرنوبي مثلا ... وللأجابة على هذا الاستغراب هو من البساطة تماما اذ ان تسلسل الكلب بالاهمية كونه ثابتا في سكنه اما الزوج فهو المتغير ... حلو مو؟ - ماما ... ( فتحت الباب الزرقاء ) .. ماما هل العب نصف ساعة اخرى .. -لا ... لا .. ادخل لقد حلّ الظلام .. ادخل ... كان ذلك هو ابننا ( انيس) ابننا الصغير ( 9 ) اعوام . .. توسل قليلا ، رفضت .. عاد يلتمس ، أكدت رفضها ، أعاد رجاءاته .. زجرته هذه المرة ... اوصدت الباب بقوة ... " محدش منا .. كان عايز ... يكون أرحم من الثاني ... " " ولا يضحي عن الثاني " ... اليوم أم امس .؟. رأسي درب الآلام والانفلاش ذاكرتي ... .. هل أقوى على تذكر ماقمت به قبل سويعات ؟ ... مهلا....لقد مسكت بأول الخيط . جمعت كل التصاوير التي التقطتها لها وهي في العام التاسع عشر من العمر وخصوصا تلك التي في مدينة الالعاب ... مااحلاها ... كنا قد تركنا الجامعة وجئنا لتناول وجبة الغذاء في مطعم يقدم الهامبركر في المدينة ذاتها وفي هواء فضي منساب كالضفيرة من قرص شمس هي " اجمل من سواها " تتعمق لذاذاتها في الأرواح والاعضاء كأنها " البرء في السقم " وفي سكون عاشق تسيل خطانا هناك كجندول في نهر الزمن الخالد " انا وانت اللي كنا زمان .. احب اثنين .... وكان اكبر خصام بينا يروح في يومين يدوب في يومين ... " خصامنا لنو بادي زاد ... وخله الخطوه بينا بلاد ... " " بلاد .. بلاد ...وفرقنا على طريقين ... وضاع الحب .. ضاع .. مابين .... .... .... " كنت ألتقط لها صورا فاتنة حالمة وساهمة في الزرقة والخضرة .. كل قطعة منها كانت فوتوغرافيا خالدة ومتحفا في ازمن الأزمان .... ماظننتها يوما تلك الصور تستحيل الى سحالى تزحف في قبو الروح ...سحالى ذاهلة تتلفت . صمت ... في المطبخ .... في الصالة ... عدا خطواتي الهابطة بهدوء خائف ومخيف لملء طاسٍ بماء الجحيم .. والعودة بذلك الطاس الى طاولة زجاجية بالقرب من رأسي ... ... النغم خافت والعمر خافت ... الاّ ان الراس ضاج " انا وانت ظلمنا الحب بالغيرة ......وجبنا للظنون سيرة " ... رأس ضاج بالماضي ... تمتزج صوره ولوحاته بل جدارياته بالف طلاق لا بطلاق واحد ... في كل لحظة طلاق ! ... ولكل هاجس من المحبة كراهة متاخمة وواخزة ... جفاء فجفاف لالسبع سنين عجاف بل لسبع وعشرين ! زادها لعنة انها ملتبسة انتقامية ، نكدية .... متعايشة .. يالسوء الطالع : متعايشة .. لا لشئ بل من اجل ان تنتقم . ويسمونه زواجا ويريدون الحفاظ عليه ! وواقعا .. واقعا ... قد بدأ التكلس منذ الشهر الأول من حياة زوجية ، وأسباب اخرى أربأ بنفسي ان اذكرها ، اكتنفت التجربة باللون الرمادي والكحلي ومن ثم بالأسود والقطراني والحندسي ، ودخلنا في انفاق الشك والمحاكمات والتصورات والامتعاضات . ظللت اتلوى على السرير ... تناولت كأسي لأكرعها مرة واحدة ... ذهبت الى النافذة لأفتحها قليلا ... اريد الهواء .... كانت الاغنية وهجا يسعدني بأن يبكيني ، فانهمرت دموعي .. " واصبح كل يوم بينا يفوت اصعب من امبارح .... نسينا اننا عاشقين .. نسينا واحنه مش داريين " آه لو يدخل أنيس الآن ويراني ... الأُغنية بحجم الكون " .. نسينا ازاي ... كده انسينا " لو رآى انيس اباه على حال من فيضان الدموع وطوفان الوجد وانكسار الخاطر وانهيار العمر لتحطم الطفل ....
تداعيات نيسان
صحيح .. لكن من جهة اخرى فكّر... فكر مليا ... وانظر .. رغم حبهم لك وشوقهم ، فانهم الآن على مايرام ، لا صراع في البيت ، لا صراخ في الليالي لامناكدات ، لارعب .. لافزع . انهم في افضل احوالهم بعد غيابك ... لابأس ان تأتي كل يوم . بل تستطيع ان تأتي كل يوم . من يمنعك. تعال من الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل .. لا احد يمانع .. لكن عليك فقط بعدم المبيت ... عليك ايضا بعدم التدخل .. حجرتك صغيرة كئيبة رطبة .. خانقة .. موحشة كأنها زنزانة ؟ صحيح كل ماتقوله في هذا الصدد صحيح .. لكن اصمد .. اصمد شهرا شهرين وتحصل على سكن قريب منا .. ويأتي اليك الأطفال ... تشتاق ... تبكي ... نعم ..نعم ... أُقدر ذلك.. من قال لك اني لاأبكي .. للحاضر والذكريات ... لكل شئ مأساوي في هذا الوضع المرير .. يجب ان نصمد احتراما لأطفالنا وللأنفسنا ... لايجب ان نصل الى تخوم الجريمة ، فلقد تجاوزنا حد النكد والكراهة والملل الزوجي والقرف . ... ماذا ننتظر .. ان نبصق في وجوه بعضنا امام نواظر الأطفال .. او ان يجن احدنا في ليلة من ليالي الصراخ فيقتل الآخر ... ابتعد ... ابتعد ... ياأخي ... اتركنا لحالنا ... " كفكفت دموعها وسط الصالة ... وبكى ماجد ايوب ضيفنا وصديقنا العتيد .. الذي يزورنا من بلد لجوئه ( بريطانيا ) نهض بوجه أسيف للغاية .. ومعا غادرنا دارها ( داري القديم ) قبلت ولدي الصغير عند الباب ..وابنتيّ التوأمين ... لا ادري من أين واية قوة انطقت أنيس -ماما .. نحن نريد بابا ان يكون معنا . فانهمر شلال دموع على وجنتيها وهي تحتضن طفلها ... غادرتْ ظلالي العجفاء تحت نسمة سريعة من شمس ومطر ، تبعني ماجد ايوب في الباحة الامامية للدار واخبرني بان انيس قد ادمع القلب والعين بكلمته " نحن نريد بابا " .... جلسنا في سيارتي الخاصة ... قدتها بعيدا .. بعيدا ... كانت حبات المطر على زجاجة السيارة الأمامية تخبطها الماسحة جانبا ... وكنت بكفي امسح دمعاتي جانبا واحكي لصديقي عن سنوات النكد والجحيم . غادرنا المنطقة السكنية التي عشتُ فيها مع عائلتي ذات يوم ! - تعلم ياأبا سعد كم من مطلق ومطلقة هنا في الدانمارك ؟... العدد في تزايد وبعضه سري ... - سري .. كيف يعني ؟ - يعني التعايش مابين امراة ورجل من اجل الاطفال فحسب اما هما فلا علاقة بينهما ! - والى متى ؟ -الى ان يكبر الاطفال .. هكذا هو الافتراض .. الاّ ان ذلك يفشل . لانه يسبب ازمات نفسية ونفور حاد وعدم تحمل .. والمرأة هنا متحررة اقتصاديا لايزعجها سوى قيد رجل اختارته قبل سنين ... سنين غير دانماركية .. ها هي تقدم له الاكل والشرب وتغسل ملابسه وتطبخ وتفخ وتتبضع وهو حضرته على ذات البوزات العراقية ... لسان حالها يقول( شنو هل لذة من هل فقر ) اما اذا وفق الله الخانم واشتغلت وحصلت على مبلغ شهري محترم ( أي اكثر من راتب المساعدة الاجتماعية ) فالامر يتطور نحو الأسوء ... يعني ( سلم لي عل قرعان ).. يعني باختصار : لايزال يرن في اذني صوت اجمل انسانة في حياتي تعرفت عليها منذ 1969 وعشت معها الحلوة والمرة ، يرن ذلك الصوت الحبيب في اذني قائلا ( اطلع .. روح دوّر على غرفة ... اقرا اعلانات في الجرائد ) .
تداعيات نيسان ايضا
كانت اأغنية منسابة ودافئة وانا اقود سيارتي على موتورواي هيلاغوذ-كوبنهاغن ..." " انا ألبي بيسألني .. ايه غيّر احوالو ... ويقولي بئه يعني ماخطرتش على بالو... امّال غلاوة حبك فين ... وفين حنان البو عليّ " خمس سنين من التعارف وسبعة وعشرين اخرى من الزواج بعبق ايامها الحالم ومطلق الجنون من لياليها ، غدت جوفاء ترباء ، ماوراء نوافذها سوى اليتم الأبوي ...."... " وفين حلاوة قربك فين ... وفين الوداد والحنية ... وانت على بالي وخيالك ميفارق عيني ...آه ياناسيني " ." والمكوث هناك بعيدا في حجرة كالزنزانة ، منزوية وسط غابة لا ادخلها الا وهي ظلماء ولا انسل منها الاّ والكون ماطر " " امال غلاوة حبك فين ... وفين حنان البو عليّ.. وفين حلاوة قربك فين ... " آه انه الحار البارد .والجحيم السيبيري ... هذه هي الحبكة المعاشة بموت رجل وامرأة ... قررا اطلاق الرصاص على بعضهما بالموت الضروري... موت خارجي لا داخلي متباعد لا متقارب اصفر لا احمر ، صامت لا ضاج بالصراخ وهشيم القناني والأواني ... انا هنا شاحب وهيمان وكل مادار هو باختياري وبالدارجة العراقية ( انا بيدي جرحت ايدي ... سموني جريح الئيد) . ورغم انتكاستي وكابوسيّتي ، فحالي هذه افضل من ذلك الأنهيار اليومي الشنيع وانا اجلس لسنوات وحيدا في حجرة المطبخ على كرسي اسود مركون جانبا كأنه منبر حسيني مسروق ومباع في حانة القتلة ... وجودي الغاضب وانا مقتعد اياه بعبوس مرة وجبروت مرة اخرى خلد في ذاكرتي مرآى الأطفال ، وجوها مذعورة ومندسة تحت اغطية السرير ... أي كما كنت انا في طفولتي ... لقد أعيد المشهد الكليم عليّ وعلى أولادي .. البيت على قدم واحدة ... الرعب يدب في الأرجاء .. من يبدأ فيجرح فضيلة الصمت المجاني ... يبدأ ليجد من يتلقاه بمهاوشة ...اي بأختصار انتقدني انتقدك ، نقح لي أنقح لك وانقحك... العين بالعين ، والسن بالسن والطلقة بالطلقة . القنبلة النتروجينية بالقنبلة ألاكثر نترجةً منها . نترجني أَنَتْرِجَك والحسن ! .....الوضع هندي باكستاني وكشميري ايضا ... متى يهجم الضبع كيما يتصدى له النمر ....من يخرج رأسه من وراء صخرة كي يتصدى له القناص ... كانت الدنيا مسلخا عائليا ومذبحا وديا ... كانت حياتي انا بالذات مابين 1999و 2002عبارة عن كلبنة وقردنة وعهرنة .....اذ لم نجلس معا في السنين الاخيرة للحيظات . لم نضع كرسيين الى جانب بعض ، كلا لقد أخطأت .. لا منذ السنين الأخيرة فحسب بل منذ بدء الخليقة " وهو العمر فيه كم يوم ... وانا بعدك عليّ طال .. ياناسيني وانت على بالي ، وخيالك ما يفارق عيني ...ريحني واعطف على حالي .. وارحمني من كثر ظنوني " نبتسم لكل الناس ... لكل النمال الهابة والدابة ... ... لانبدي لبعضنا الاّ وجها كالحا حزينا ... وليت للبراق عينا فترى كيف تمسك بالهاتف وتطلق صوتها الرنان بالضحك والمرح والنكات والشقشقيات .. ولديها هنا أُم وأخ متأهل ، وأُخت لديها عائلة كبيرة تزورنا بين فترة واخرى وتتصل بنا عفوا بها تلفونيا كل يوم واخت اخرى متزوجة حديثا .. وعالم فسيح من احبة واهل واقارب .. اما الاقارب الذين في بلدان ضياعنا فحدث ولا حرج ... عشيرة . تتزايد وتتكاثر وتزدهي وتطمئن كل ليلة وكل يوم على بعضها باعذب الألفاظ وأرق المشاعر وانا يالسوء طالعي اتحرق لكلمة حلوة ولو من فم كلب ...( لا ما ما ولا دادا ) ... كنا نريد ان ننتقم من حب في غير مكانه ! .. او من عاطفة غير جديرين بها .. او انا ربما - او ربما وواقع الحال معا - غير جدير بوجه امرأة ولا عطف امرأة ولا سماح امرأة ... فأنا محض سقط متاع . ظللت كمن يقبل ذا الجدار وذا الجدارا ... أنه ماضيي الرخيص الذي غدا غاليا ... في وجه حواء لم اطق لسنوات ان اتطلع ... ها هي قد غدت عندما ابتعدت آلهة من بعلبك وكريت وقرطبة .... ولا يعقل انها لاتحبني الأ ان رفضها لي يتكرر في كل مرة ... وفي الصالة الخالية من الجيل الصاعد خلوت بها صدفة لازهق روحي على راحتيها فاذا بها تقول بحزم - ثق اني لا اريد رؤية وجهك ... قهقرني هذا الكلام مسافة كرتين ارضيتين ! الى الوراء ... صعدت هي الى الطابق الثاني . ارتديت معطفي وغادرت البيت بخذلان ....غدا فمي ساخنا كأني اكلت فلفلة او انه افراز الفم باغتني بالحنظل ، دوي الاغنية يرافقني لااراديا : "يمسهر النوم في عنيّ سهّرت افكاري وياك .... الصبر ده مش بئديّه .؟... والشوق ماخذني ببحر هواك ... اقول لروحي انا ذنبي ايه ... يقول لي قلبي صبرك عليه ... مصيرُ بكره يعطف علينه ...ويبقه نعرف هجرنه ليه ... " " يمسهّر النوم بعنيّ ... الشوق ماخذني ببحر هواك ... " غادرت الباب الزرقاء ذلك اللون الذي احبه وامقته في آن سائرا بين البيوت وكانني اسير بين جثث الاهل والأخوة والأصدقاء والاحبة ... كسير وكسيح ... معوّج ومخذول ... وفي رأسي عواصف من الأغاني لابي هوس الخيباني ... واهم تلك الملاحن البيتهوفينية هي : " ابو زركه طلع من بين البيوت .....يعاتبني ويبوك العقل بسكوت .... جيبولي حبيبي كبل لا اموت ... " " واخرج من بين البيوت لعلني ... احدث عنك النفس في الليل خاليا ....." ابن الملوّح ... وبدأت اناجي بنات نعش ، والبدر في اكتماله ، و الهلال في مهده ... واحنو بخشوع للآلهة السومرية والبابلية والجاهلية ... واتدروش وأُوحد وأُمجد واحوقل وابسمل وارشرش العطر وانشر البخور ، واشرب السبع مايات ، واتفنن بمزج السم مابين الدواء والمشروب !، واقاوم ضوء النهار بالنوم المخدّر ، والصحو بالسكر ، والوعي بالثولان . او التغابي . ... وفي نهاية المطاف اجلس او اتمجلس الى جانب ولدي الذي يقود السيارة باتجاه الجبال الخضراء وممراتها حيث سكون الطبيعة وبحيراتها النائية ، واعناب بساتين الشاعر الانجليزي كيتس التي تسقط غائبة عن الوعي . يأخذني الى اللازورد النائي ، الى بعيد البعيد ، فانهار امام حسن الطبيعة وهنا لا بد من التأكيد بأن الجمال يُبكي ، هنا أنهار امام مفاتن ممرات الغابة ، وهفيف اوصال الشجر وافق السماء المتصل من الجهة الاخرى بماء البحيرة .. يهب النسيم فتعزف روح المكان بكل اغصانه وفراشاته وطيوره وزهوره واشباحه الغامضة وساحراته وحورياته .أنهار هناك ولا اتمالك نفسي فأمسح بمقولة شولوخوف بالوحل " الرجال يبكون لكن شريطة ان لايراهم احد" . ولكن امام ولدي هذه المرة ؟ يالضعفي وعهري . يظل الشاب الصغير مرتعشا في اعماقه الحائرة الصمت امام أُبوة كسيرة ، ضعيفة الشخصية ، واهية ، ممسوخة ومشروخة ، وأي ابن يتمنى لنفسه هكذا اب.
سمفونية النمل
العناكب والنمال ..." نعم .. تفضلوا .. اهلا بضيوفي الثقال الظل .. والشكل... هلموا ، الى حواف المغسلة حيث حبيبات السكر ’ والطاولة حيث فتات ناعمة من الخبز .." النمال في عمل دؤوب كأنه مهرجان ... سعدوا بلقيتهم ولقطاتهم ، لكن المنظر دائم وداهم وبشع .. كيف السبيل الى التخلص من النمل ... نمل وديع ناعم رشيق اسود ... لكنه ليس شديد العتمة ... كنت اراه سطحيا أي دونما التعرف على تفصيلات جسده ووجهه واعطافه . وتمنيت لو عندي مكبرة ..او ( مناظر كحف بُطُل ) . العناكب تعبر من الارض الى الشرشف ، الى غطائي اوتمرق بالقرب من ساعدي وانا اكتب ... يقشعر بدني ، انهض لاجلب المناديل الورقية ... ابللها بالماء والاحق كل واحدة واسحقها بالضغط عليها . هل اخاف من العناكب ايضا ؟ لا .. لا أخاف ولكن اشمئز حد الاحساس بالخوف ... وظللت اتأمل سقف الحجرة كل ليلة وكل يوم .. وخصوصا قبل النوم بنصف ساعة كأني امارس واجبا .. أي لا أنام الأ وقد قمت بالحراسة المشددة او الدورية ... تعبت بل صرت مثل مريض يتناول الدواء في الوقت المحدد ولا يجب ان ينسى ويخض القنينة قبل الاستعمال . أُوه ....لقد وهنت .. أُفا ثلاثاً . في الامس نسيت كاسا فارغة على الطاولة لكن عندما عدتُ مساءاًوجدتُ قلعة سوداء من محاربين وسلالم وفؤوس ورؤوس ومجانيق وخيول وطبول ...حرب طروادة ... كل ذلك من اجل مايعلق على جدرانها من بقايا حبيبات سكر لمشروب الفانتا . في ليلة من الليالي ’ شربت نملا أسود .. او .. اسمر ؟.. لايهم ..اثناء نهوضي وانا في حالة من الدوخان والذوبان وتحت ضغط المنوم او المنوّمين اللذين اتناولهما ... جننتُ لما فعلت بدون واعية . وبدأت اشعر بالرغبة بالقيء ...عيع .. ازاء ذلك وحلا لقوس الازمات تناولت كأس لبن ابيض هذه المرة ! وعدت لكي انام حتى الظهيرة بل حتى الرابعة مساءً . في صباح آخر يوم من نيسان الماضي كان حبيبي ولدي زاهر يحاول انقاذي من نمال اللحود .. فراح يبحث لي بل للنمال عن دواء قاتل ... آهٍ منا ، نحن القتلة.. ! نمال نمال نمال ... قرف . واشمئزاز ... ياالهي .. انقذني من حجرة بحجم الزنزانة ...رطبة .. تقوم على ارض حديقة بليلة طيلة العام .. حديقة خلفية تدب فيها ملايين من الكائنات الصغيرة ... ومتى الفرج يارب ... لقد بدات بكل ضعف ارفع يدي كعبد ... الى المطلق ... لقد حولتني نملة من سيد ورب بيت كالأسد الهصور الى عبد متضرع للتخلص من حجرة ..... انا ضعيف ووصولي . لا التفت الى جانبي حتى ارى واحدة تمرق بازدهاء على الطاولة الزجاجية ، ولا اتابع خبرا في التلفاز حتى اشعر بدغدغة ... انظر الى قدمي أرى فاتنة سوداء ... كل هؤلاء الفواتن قد حوللني الى قاتل .. من عاشق الى قاتل . والله أُقسم بالله .. لقد رأيت بعضا منهن في الثلاجة ، مثلما تخيلتهن بحجم الدجاج وهن يقفن فوق ماسحة زجاج سيارتي . او ان عاملة البريد ستصرخ عندما اقف امامها لأبعث برسالة ما ، تصرخ لأنها رأت على ياقتي عنكبوت بحجم عقرب !. حدثني كمال السيد رحمه الله من قبيل الطرافة والنكتة عن ان البرد في موسكو يصل الى الاربعين تحت الصفر في بعض الشتاءات ..فتهرب الصراصير لتختبئ في الثلاجة .... تذكرت (كريكوري) كافكا الحشرة او الحيوان الذي ألقته عائلته في برميل القمامة ، لا بل تذكرت افاعي الفردوس . وموت كليوباتره . وعرجت بالأفكار على كتاب كنت قرأته في شبابي للكاتب الروسي دستوييفسكي ألا وهو الانسان الصرصار . أي باختصار رايت نفسي منشغلا بالصرصرة والنملنة والعنكبة ( من العنكبوت لُغيّه )والحيونة و.. و .. بأختصار لقد تحيونت حياتي ونسيت همومي الأساسية ... رحت أحُك وانا امشي في الطريق متخيلا اكثر ما هو في الواقع .
افعى
افعى صغيرة بطول ذراع وبسمك حبل ... كانت تدب في ساعة متاخرة من الليل ... ومن اقصى زاوية في الحجرة ... تتطلع للصمت وتتخايل الهدوء الحنون .. تلزلز عيناها لمرآى الكتلة اللحمية النائمة .. تشاهد النمال السوداء الباحثة عن احتمال وجود بقايا طعام أو لزوجة في كؤوس على طاولة .. نثير من قشور فستق ، او آثار سلطة .. قنينة او أُخرى متروكة على حافة المغسلة . كانت تدب .. وتدب غير حافلة بما ترى ... ترقى من هناك ... ترقى وترتقي .. من قدم السرير الخلفي ، وكما في كل ليلة ... تنساب على الغطاء وتصعد عاليا عاليا حتى تصل الكتف من الغطاء الازرق او المورد بألوان زرقاء ، وهناك على حافته تقف لتطل على وجه الرجل وهو مستلب في غفوة ... ورأسه في مغطس الوسادة الفاقع اللون ... هناك على ضوء قمر شاحب تتطلع عيناها الى بؤس الوجه البشري ... وتظل هناك جامدة العين على ماترى... وربما لا ترى بقدر ماتحس ... دفء الانفاس رتابتها ... تهدجات الشخير .... هناك تظل لوقت يطول او يقصر .... هناك تستحيل هي والغطاء والرأس البشري الى لوحة جامدة في الازمان ... متكررة كل غروب منطفئة كل فجر .... تتهدج بحركات جسدها الساهد من حيث اتت ... سوداء زنجية ... من أثيوبيا من وطن جدته .من ادغال الروح القديمة ... افعى ترعاه ....تبارك انفاسها سحنته ... تبكي هل تبكي لما دار ... للمنتآى... للمنفى ....للطلاق ... لفراق الأوطان ... لطفلة مباعة من اثيوبيا الى الحجاز ... ومقادة الى بغداد .. وميتة فيها حيث خلّفت بعد سني عمرها الستين عددا من الاولاد والبنات ... امرأة سوداء ، تناسخت الى جسد افعى ... املود جميل ..رشيق ... انها امرأة ماتت في 1959وظلت روحها هائمة مشوقة الى الأحفاد .. تائهة في الكون لا تعثر على الحفيد الواحد منهم الأ وهو منكسر ، مندحر ، محطم ... سر ظهورها الخسران والبؤس ، وغيابها النجاح والسعادة . ان روحها تائهة في الزمن اما المكان واللامكان فكلاهما عرشها ...وهي لاتأتي الا عندما يحل الليل حيثما تطل على الوجه البشري في غفوته .. كأنها تقول له في كل مرة " لعل الموت ينسينا .... بغير الموت لاننسى " في الأوطان ارواحنا .. وهاأنت خسرت الوطن .... والمرأة هي الاخرى وطن .. وها انت خسرت المرأة .. وربحت البعد عن الأبناء ...اي ربحت الرماد فقط ... لا تبتأس انا معك ...... روحي معك .. نعم قد تندحر مرة ومرات لكن لن تتحطم .. ها هو يتقلب فتنساب على حركة غطائه مثل لاعب على الأمواج ... وما ان يستقر ، حتى تستقر هي ايضا مطلة على رمال ملامحه الصفراء الصحراوية ...كأنها تقف على حافة فندق (كورارا) في فندق قرية تيميمون امام صحراء لا متناهية مسكونة بآلاف الكيلو مترات من الصمت .. ومن ياترى تحرك على ارض الحجرة ( حجرة الحشرات والحيوانات ) عدا النمال .. والعناكب ... والافعى السوداء....؟ هل هي الصراصير الحمراء ... والجرذان ؟ والدجاج والارانب والماعز ... هل حل الصباح ؟. متى ؟ متى يحل الصباح؟ رن ... قرب رأسي ... جرس التلفون على غير عادته .... صباح السبت حيث يكون الناس قد سهروا ليلة امس في عطلة نهاية الاسبوع ....ولا احتمال ان يتصل بي احد من العمل .... رفعت آلة الهاتف باستغراب ... كانت احدى البنتين ... تخاطبني باسلوبها البنّاتي العذب .... -بابا ... احنه حكينه مع ماما ... طيلة الليل واحنه قاعدين نحكي ... وهيّ هسّه تريد تقول لك شي .. هذي ماما -ألو ... صباح الخير - صباح النور! -البارحة .. آني... و....والبنات ...... ( صمت ) .... - أِي ... شبيكم ؟ .... صمت - ألو .. ألو .. - أقول يعني ...( .. تهدجات في صوت شبه باكِ )...... أرجع للبيت ... وخلص - صحيح ؟ ... هاي امين طلعت عين الشمس ... - طلعت او ماطلعت .. المهم ارجع وخلص ... الاولاد مشتاقيلك .... ... ونهضت من مخدر عملية جراحية استغرقت أربعة اشهر !!!!!!!! دمائي نهر جارِ ، وصداعي لا برأسي فقط بل في عموم جسدي .... وكغزال مولود حديثا .. رحت اتطوح يسرة ويمنة آخذا طريقي مابين هذه الكتل الحشراتية والحيوانية التي تتكاثر وتتناسل حتى تغدو بحجم البيت والشارع والمحالة والمدينة والدولة وعموم البلدان بل وتصعد كصعود الغجر للسماء بطنين حشرات وعواء وثغاء وزعيق يشق طبلة الاذن ...لاينقطع بل انه متصل من المهد الى اللحد ..... رحت الى هواء الشوارع ، تخط قدماي حريقا على ارصفتها .. اهرع بلا هدف واتوه بلا مستقر كأنني مجنون وماانا بمجنون . معي وفي بُرديّ ، يشد من أزري شاعري العظيم محمد اقبال الذي جن على طريقته ..
"لم تقوَ صحراء الطبيعة كلها ... لما جننتُ على احتواء جنوني " وعدا الوجد والتيهان فقد كنت احلم بالعودة والعودة ولاشئ غير العودة .. ( اعدني يااله الشرق والصحراء والنخل ... الى غيلان ألثمه الى أهلي ) ..الجريح والكسيح بدر شاكر .... وهرعت عائدا مثل فهد جريح ! .... أمامي فضاء آخر أزرق وربما ليس هو بأزرق ...لكن هكذا ظننته في صباحات عمري ....
****************** كوبنهاغن في 16/6/2002
الدواء
كنت مدركا للوقت والمكان ....( هذامعناه ان واعيَتي لازالت تعمل !) وأنا لستُ مريضا حد الفقدان ....هاهي الساعة الخامسة عصرا والمكان هو الحديقة النباتية في منطقة (نوروبورت ) أحدى أهم محطات القطار في كوبنهاغن . تركت صخب المدينة لتوي وهبطت في ممر الحديقة التي لم أرَ لها مثيلا الا في الانجيل المصوّر والوصف الجميل للجنان في الكتب المقدسة . ها أنا أنحدر في مجال ظليلٍ عريضٍ نسبيا ينتهي الى بركة تنعكس فيها سماء زرقاء وتسري فيها بهدوء عذب بعض الوزات البيضاء وعدد من البط الوديع .. وعلى أراضي خضراء منبسطة كان الآخرون يستلقون باسترخاء وعلى ذراع كل شقراء فتى أحلام وفي أحضان كل فتى ملاك فتنة . كنت أتخيل الأمر بالنسبة لوضعي الاستثنائي ، على محمل آخر، وافكر باسلوب آخر ..فالبوابة الجميلة للحديقة هذه ، لم تكن مدخلا أدى بي الى الأغصان المكللة بالورد والوارفة بالظلال ، كان تخيلي أكيدا وشديد الوضوح بأني قد خرجت لا دخلت !... لقد أعطوني الملابس التي ارتديها الآن ...! والتي كانت محجوزة عندهم أي عند اؤلئك الناس الطيبين من الممرضات والحراس والأطباء ..وتلك البوابة الجميلة التي هبطت منها الى هذه الجنينة انما هي بوابة مستشفى قد لفظتني واعطتني تصريحا بالخروج . مستشفى عظيمة بطوابقها العشرين والتي كانت كلها مخصصة لي ! وقد قررت ادارتها بعد استنفادها لي أن تلقي بي خارج هذه البوابة وأن تعيد لي ملابسي وأن تطلقني في فضاء آخر . فضاء أنسام وأغصان وهدأة ماسية . نظرت ورائي وأنا أسير الهوينا ، لم تكن مدينة كوبنهاغن ورائي . كانت هناك مستشفى بيضاء الجدران تتشامخ على تلة ، وأنا خريج مستشفيات ..كنت أتلفت لأتذكر الأيام هامسا لنفسي : - ياالهي ...كم قضيت بك من أشهر وأيام . أخذ المكان يسحرني بعرائشه وحمائمه وأندائه ... لكنني شعرت للتو بأن ألما صاعقا قد هبط على أقدامي وعظم الحوض خاصة ، فرحت كالملوغ أبحث عن مصطبة . الاّ أنها كانت تنتظرني . انها ذات لون أخضرغامق بعيدة نوعا ما عن الممشى . هناك ألقتني آهاتي وزفراتي ... تذكرت لحظتها فعل الأدوية السامة التي تعطى لي وآثارها الجانبية التي تتركني مشلولا في السرير ...أشهر وأنا مغيب عن الوعي ...تحت الرعاية الصحية ..كم كانت ثلاثة أشهر أم أربعة أم ستة ؟! قضيتها مع ( السبراميل ) و( السيتالوبرام ) و( الفيكسور ) اضافة الى المنوم وحبوب اخرى ضد الخوف . كان الجدار صديقي أضع وجهي قبالته واحدق في فضائه الكامد .. لكني لم أكن أشعر بسوى النوم المريح ..نوم القبور وهجعة الأبد .. نوم على مد العمر ! ... نوم دافئ لاتوفره الخمرة ، فالأخيرة مزعجة رقاديا أما الحبوب المنومة فهي ملاذي الناعس . الجدران كانت (صديقاتي) بل أكثر رحمة من أُمي . كنت أستيقظ فأراهن أمامي .. أبتسم وأعود الى النوم تاركا ازعاجات الكرة الأرضية الكريهة كلها ورائي ! . نوم من العاشرة مساءً حتى الثانية ظهرا... طعم مرارة الدواء غدا مستساغاً مع الأيام ... لكن الرأس ثقيل ... والحركة حركة ( روبوت ) ... انتبهت الى جسمي انه يتهاوى مع الأيام .. قلت ذلك للطبيب .لايهمه الأمر. خذ هذه الوصفة من الأدوية واذهب الى الجحيم ... هل أدمنت الدواء ؟... بالمقابل ؟ لا ... نعم ...لا ونعم . لا أعلم لكنني مرةً نسيته .. فبدأت احس ... أي أدخل دائرة الشعور ... ياالهي كيف حدث ذلك ؟... وانزويت خشية أن يراني أحد !... كنت قد هربت من كابينة القطار المليئة بالناس الى كابينة اخرى حاملا بعضي وكأني اريد أن اقيئ .. وهناك أشحت بوجهي عن الناس وأسلمت عيني الى دمع كالمطر الغزير ... كان الكون من وراء نافذة القطارغريقا بدموعي . ويومها نسيت حالي ... بل أسلمت حالتي الى الأطباء جهلة كانوا أم بارعين . - ياالهي كيف حدث ذلك ؟ ياالهي لماذا تقبلت الفكرة ؟. كان ذلك سهلا جراء الدواء ... نعم لقد نمت في تلك الحجرة ثلاثة أشهر بحالها .. كانت آلاف الأحداث تدور وأنا نائم ... كنت مغيبا ... مستسلما للتخدير... لكن ذلك الموعد الذي لبيت دعوتي اليه ، كان موعدا قاصما للظهر والعمر ... كيف تقبلته ؟ تقبلته غافيا . ارتضيته وأنا مسجى ! .. لمن ذهبت الى المصيدة بنفسي وتغزلت بحبل مشنقتي ...لماذا طعنت نفسي بنفسي ؟ ألم أستشعر ولو تخمينا أنني لو نهضت على قدمي بعد أن أشفى من المرض بأني سأنتكس مرة اخرى ؟ ... كنت مخدرا عندما ذهبت الى هناك . كانت الموظفة العجوز ذات الثوب الوردي الباهت تبتسم وتستفسر، وكنت فقط أشعر بألم لأسئلتها واجيب بتبرم ... لا أقول نعم ... لا أتذكر انني قلت نعم ... كنت اومئ برأسي موافقا ولامباليا . - وقع هنا اذا سمحت - وقعي هنا اذا سمحتِ وضعت الموظفة أوراق الانفصال في ملفاتها المتراكمة على طاولتها ... واكتفت بالقول : - بعد ستة أشهر ستأتيكما أوراق الطلاق . ذهبنا كلا في طريق ومن يومها نمتُ نومة الموت . كنت أتذكر صغيري الذي ظل يلعب أمام باحة الدار ، وينام من دون أن اعانقه .. أشعر بتأنيب لكني بتبرم وامتعاظ كنت أضغط يدي على كومة الوسادة وبدلا من أن اعانق صغيري كل مساء قبل أن ينام ، رحت بأنين خافت اعانق الموت اليومي ...وأنساب مثل قارب دفع لتوه في مياه لاانتهاء لها ... مياه بسعة الكون مندغمة في لامتناهي صمت وهدوء . الدواء ينقلني الى عالم الخفوت والانطفاء . وبنتاي ؟ من كان يتابعهما عدا حنان امهما الحاد والصارخ والزاجر والمُسنَّن؟ وولدي الكبير؟ أما كان بحاجة لي ؟ لماذا تناولت الدواء أما كان يجدر أن أرمي به الى سلة المهملات وأدعي أمام الطبيب بأني أتناوله ... لكن البكاء ؟ البكاء المخزي في كل مكان ... في الباص ... في القطار ... في الشوارع ... حتى في الهاتف . العراق جحيمي الآخر ...عراق فارقته منذ 24 عاما ...كل عام خنجر في بؤبؤ العين ... الذكريات تسير نحوي برماح جاهلية ... وصراخها اليومي الزاعق يخربش طبلة الاذن والروح . - الى متى يابنت الناس تصرخين وأنت أدرى بموتي القديم والجديد ... تعلمين كم اكابد من جراحات يتم . من مخاوف وكوابيس عانيتها تحت سطوة والدي ... وتلك السنوات التي قاسيناها تحت وطأة الخوف والمطاردات البوليسية ...لا أستطيع أن أنام ليلا لقد أحرقوا قدم ( أبو سندس ) في معتقل النهايات ...كل ليلة وشواء قدمه يتصاعد في أحلامي وتلافيف جمجمتي ... لم أستطع أن أنام ليلة البارحة الا ترحميني وتتوقفي عن الصراخ . - هذه طبيعتي ... اذا لم يعجبك الحال تصرف ... أنت أكثر لعنة من الماضي ان لم تكوني أنتِ جزءا حادا صارخا منه . لقد هجّروني منه ، وها أنت ِ تهجّرينني من بيتي .... لمن أشكوك للقمر اليتيم السهران على دمعتي الجارية . لمن أبكيك لزهور التفاح البيضاء وقد أزهرت على شباك وحدتي وأنا مهجور في غرفة لا أعرف فيها ، لولا هبوط الضوء ، الليل من النهار . لمن أتعبد وأنت قد حطمتِ معبدي وأبطلتِ صلاتي . أنت أول من طردني من البيت ، بعد ما باغتتني خفافيش الليل بالتهجير والتسفير . لمن أُهجّر واسفر في كل مرة ... أبي العثماني التربية ربّاني على عصا الرمان . في كل مرة يتولاني بالضرب قائلا العصا طالعة من الجنة . العصا لمن عصى ... والخفافيش قد أحرقوا قدم أبي سندس ...وأنا أصرخ في رواق بين عصا والدي التي تطاردني وشواء القدم المحترقة ... وأخيلة وزعيق وأفاعي بهلام ، وهلام بمخالب اؤلئك الذين نثروا في الريح عشنا . وها أنا( مهما كان .. رفيق 30 عاما من عمري وعمرك ) ها أنا في كهولتي التعبى انادي على يدك بأن تأخذني اليها ، فلا أراك سوى تلك الحادة كسكين وعلى شفاهك كلمات لا مبالية : - اخرج من البيت وذهبت أنوح بصمت فتلقفتني امرأة عجوز رمتني في حجرة تقع في عمق حديقة ظلماء وراء بيت الأشباح ولقاء دريهمات هي ايجار الغرفة الشهري ولاستساغة الموت اليومي في الحجرة اياها تلقفني الطبيب بالدواء الشافي . النوم . نوم الأيام والأشهر . - تعلمين ؟ كم احبك ؟ الكلمة بليدة أليس كذلك ؟ في غير أوانها ! هل تدرين بأني لا أُحب .... لقد قفلتني . أنت الجهات الست والأرجاء جميعا . وكيف أقوى على معاينة وردة وأنت بدر البساتين . وأنى توجهت تكونين أنتِ .أنتِ مثل أبي يصفعني وأُحبه . كالعراق...انه المهد واللحد مني . وأنا لست بشاعر لكن احيلك الى من أطبق الليل والقدر عليه شاعر قديم قد راح يقول " وانك كالليل الذي هو مدركي ...وان خلتُ أن المنتآى عنك واسع " وتعلمين أيضا بأن جريحا آخر قد قال" نشوة الصحو سكرة الانتحارِ" اريد أن اقول لك بأن هذه الجنينة هي صحراء وأنى تلفّتُ تذكرت قول القائل " وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ فعلى أيِّ جانيك تميلُ " ... هاهو الليل يطبق على البحيرة . وما هو بليل ولاهي بحيرة ! عليّ أن أنهض وأعود الى المستشفى ! لديّ ماأقوله لهم . نسيت أن أقول لهم انني لازلت بحاجة الى سمومهم .. صحيح انهم راقبوني في الأيام الأخيرة وقد كنتُ طبيعيا فلم أبكِ ... الاّ انني ربما اشعر الآن بدبيب أو تسرب للدمع من ناحية ما مني . اطرافي دامعة أم خدي بليل ؟ أم هامتي ؟ أم ظلي ؟ ... عليّ العودة لابد من العودة .... ولو من أجل القليل من المهدءات ... كنت أسمع خربشات وأنا الوحيد على المصطبة .... - ياالهي ... هل تطور المرض عندي الى حدود سماع أصوات وهمية . كان وجه صديقي ( م . أ ) ... لقد باغتني بالظهور المفاجئ أمامي ... بالهجوم عليّ ، بضمي اليه ... فتصافحنا وتعانقنا . قال لي بمرح واضح : -لقد عرّجت على المستشفى ... قالوا خرجت لتوِّك ... قلت لابد أن تكون في الجوار . كان صديقي ( م .. أ ) مشرقا ! كانت ضحكته الساخرة لوحدها تجعل من الكون صغيرا ومن الأرض في متناول اليد ... تذكرت ضحكة الممثل العالمي ( ريتشارد وود مارك ) وضحكته التي طلبوا تسجيلها بآلاف الدولارات .... ضحكة ( م... أ ) قوس قزح بحاله ... لقد أخذني الى أجوائه . الى أحاديث غرائبية وطرائف ونوادر . قلت في سري : - ياالهي كم الحياة جميلة مع الآخر . كنت أتطلع لوجهه المؤتلق بالفرح بل بالسخرية من عالم غيرجديرالا بأن نضحك عليه لا أن يدمرنا ويسحقنا ويضحك على ذقوننا ويلقي بنا في الأسرة مثل مجانين أو حشاشين أو موتى في ثلاجات . كنت أتطلع لسحنته الضاجة برغبة الكلام والى الخلف حيث واجهة المستشفى التي ماتزال تبدو ملاذا اريد أن أعود اليه . لاأعرف من أرسل ( م .. أ ) اليَّ .. الرب .. ؟ ... القدر ؟ .. الصدفة ؟ .. كان قد انتزعني من المكان بطريقته الباهرة التي هي مزيج من اخوة وآمرية ودردشات ودغدغات . عرف مااريد ... الدواء ! - الدواء .... الدواء ... هل سيهرب ؟ أم المستشفيات ستسافر . دعنا نفلت من يد القدر الظالم ونختطف صعّادة ضوء من امسية سمر لاهبة ! ... اصدقاؤنا ينتظرون الآن . - الى أين نمضي ؟ - تعال معي ... تعال معي . ! في غمرة من الأصدقاء بل حومة من بشر كالطيور ، يضجون بأحلى الكلام : أعلى الضحكات . يعدّون مائدة السهرة الحاشدة بالروح. راح أحد الهواة ، وبعد رفع الأنخاب، يعزف ويغني أغاني الحنين الى الأوطان ...ويعيد الى الأذهان ملاحن الفنان الراحل كمال السيد ...وأغاني دجلة والفرات والنخيل والشمس ..وطيبة وحنان الأُم العراقية . كانت الكؤوس تدق بعضها مابين اغنية واخرى " لا تقنطي ان رأيتِ الكأس فارغة ... يوما ففي كل عامٍ ينضج العنبُ " ولمزيد من التجمّر والاتقاد راح صداح المقام العراقي ينفذ من شبابيك الليل ويطلع الى السماء ليعتلي مثل علاءالدين بساطا بين النجوم "صبي الكؤوس فهذا العصرعصر طلا ....أما السكارى فهم ابناؤه النجبُ" !. كان أحد الأصدقاء محط اعتناء الجميع لسبب وجيه ، انهم يحتفون به فغدا سيسافر الى بغداد ...حافظت على ابتسامة لابد منها ...قال أحدهم بلهجة كظماوية : - نيالك عمي .. راح تشوف بغداد الصوبين ...مبروك عليك...تروح وتجي بالسلامة . قال آخر - الطريق مفتوح ماكو مشكله . توقفت أوتار العود قليلا ... راحوا يتحدثون عن أفضل الطرق البرية الى بغداد ...تركيا؟ سوريا ؟ الأردن ؟ ... ياليت الطيران العراقي يعود الى ماكان عليه فنسافر الى العاصمة مباشرة . أطل (م .. أ) من بين الوجوه الفرحة اللآغطة باسم العراق , المتشوقة بعد عقدين من فراق اضطراري ، أطل من بين الوجوه رافعا كأسه باتجاهي - صحتك - صحه ... صحه . أردف قائلا كمن يكشف لي سرا وفي عينيه بريق حالم . - تعرف... ساسافر في الشهر القادم ...سأتقرض واسافر ...مارأيك بالفكرة نسافر معا ؟ منذ ذلك البريق الذي قدح في مخيلتي وأنا أعد العدة للسفر وأجمع الهدايا والرسائل والتوصيات من الأصدقاء الى أهلهم ... ولم أنسَ أن أذهب الى المستشفى ...الى البوابة البيضاء حيث دخلتها ....كانت حجراتي الصمّاء أمامي ...وهناك تذكرت أيام معالجتي من سطوة الحنين والأهل والأصدقاء وبغداد بالذات وتلك التي قليلٌ أن أقول أُحبها ...امرأة عشت معها 30 عاما تدعى (هيام ) ولاتعرف تقاسيم اسمها فيَّ ... اللعنة... فالهاء هلال الزمان والياء ياسمين العمر والألف اقحوان وارجوان والميم من السما .. ( أُفاً ثلاثاً ) .كم تمنيت أن اسافر معها ويدا بيد . أطوف في مهد هواي البكر في الوزيرية حيث الجامعة واحلق الى عشنا الصغير في ( السبع قصور ) وأرفل في أرصفة السعدون وامشي في شارع الرشيد ألف مرة ... وأتعبد في كورنيش الأعظمية !" في الأعظمية يوم جئتُ وجئتها ....روحٌ على شفتيكِ قد ذوبتها "..عبد القادر رشيد الناصري . وقفت هناك وقفة المشيع بنظراته لمقبرة لم يدفن فيها . دخلت على الطبيب ليأذن لي بشراء دواء اضافي يكفيني على مدار سفرتي التي ربما طالت لثلاثة أشهر . الدواء ضروري وللحيطة ... فربما احتجت اليه . قلت لنفسي معزيا اياها : - اذا عزّت البيوت فهناك وطن . اذا أخرجتني أُمي (زوجتي !) من تحت سقف بيتها فهناك ظلال نخلة . اذا عفّن جسمي الدواء فهناك شمس تعقمني وتطهرني .... دسست علب الدواء في حقيبتي اليدوية . وأسلمت روحي الى ملكوت السفر . حلقت الطائرة في سموات الله المنيرة …. ورحت اطبق جفني على ملامح من وجه أخي ستار الذي سينتظرني في ( ساحة الأندلس ) في بغداد .. والذي لا أعرف كيف ألقاه من بعد فراق دام 24 عاما و8 أشهر و15 يوما . حلقت الطائرة في فضاء من حنين ولوعة حد انكسار العظم والروح . ……………………………………………….. • كانت سعادتي لاتوصف مع عائلة أخي في بغداد … صباحا … كانت أُغنية عراقية راقصة تنداح من الراديو … شعرت اني جذل وفرح وهيمان …مسكت بعلب الدواء جميعا …وألقيتها ( بكل قوة ) في برميل القمامة … حدث ذلك في الزعفرانية في 12نوفمبر 2003.
* ( كتبت في كوبنهاغن 4آب 2004 )
شمعة ذكرى الى أُم عراقية
منذ ترانيمهن الاولى عند تنويمة المهد ، وصوت أُمي وكل الامهات ملاك حارس طيلة العمر، وظل عالق بالروح والجسد . لقد بقيت تعابيرهن الدارجة هرما عراقيا شاهقا جذره في الدم وفرعه في الماوراء أو النفول أو المالانهاية . ان صيغ أحاديثهن من العذوبة العراقية مايربت على الشغاف ، أو يعزف على التلافيف التي هرسها الحنين اليهن .... انهن بمثابة أنامل فتنة ونحن قياثر الآهات . ان وصاياهن بمصاف قداستهن من حيث أن " الجنة تحت أقدام الامهات " أما اذا مازجن تلك الوصايا بلهجة الوطن الدارجة فذلك هو الحب على حاله ، انه الانتماء والتفرد الذي يعني لغة العراقيين وطريقة تحدثهم ، وتعاملهم مع الحروف ومخارج الألفاظ ، بطئها ام سرعتها ، استعاراتها ، صورها ... كلها ، كل ذلك الصوت اللآهج بالحنان (بالحنية) ليعني عندي مصحف حب من نوع آخر . تلك الأُم كم احب أشياءها .... كفها ... استدارة وجهها ... تجاعيدها .... خصلات شيبها ... سجادتها ، تربتها ، ثوبها ، عباءتها ، عطفها ، حنوها ، ابتسامتها ... لكنني هذه المرة ، وبعد 24 عاما من اغتراب ( لا عن اللهجة العراقية التي أصر على استعمالها في بيتي ) لكن عن لسان امي وذخيرها الدارج ، أجدني مغرما بالماضي وحيث توجد هي . وكما يقول هاملت لأُوفيليا " اذوب على الرقة التي انت هي " ، أجد روحي انا أيضا تنسفح عند كعب قدم امي . هناك وجدتني مسهّدا لوحدي " اناجي طيفها الساري ..... سابح بوجدي " وجدتني اتذكر احاديثها وأتأمل الكيفيات التي كانت تناديني بها او توصيني ، أو الأُطر التي تصب فيها قصصها أو أحاديثها .. وألفيت نفسي مسترخيا أو مخدرا بالذكرى وكأن بي مساً من اختلال أو هلوسة . أنا المسجى المسافر على غيمة من خيال . أكثر فعل كانت تستعمله امي " يمه دير بالك " : - " على أخوك " .. " دير بالك من السيارات " ... " لاتدير بال " أو " يمه لمن تمشي باوع لي كدام " أو ان تكثر من المحذورات والوصايا قائلة " ما وصّيك ... لاتمشي ويه الأكبر منك " ... " خلي حجايتي ترجيه بذانك " اما اذا وضعت قدمي في الحذاء فانها تنتبه لتقول " يمه انكث قندرتك قبل ماتلبسهه ، أخاف بداخلهه دبيبه شي ....شياتين " ! أو ان تحذرني : " بالك وياك وتتدخل بالسياسة ، لأن الطايح رايح " ... " تره ايروح دمك .... بشط " . . كانت تقول بأن العامل كيف ماكان اجره ، أفضل من العاطل " اشتغل اباره وحاسب البطاله " أما اذا اردت ان انقح لها كلمة تقول على الفور : " انت كلامك ماما خيطي بيطي وبعدين اشتفتهم من الدنيا انت ؟ ... انت ( ..... ) بيدك اتكول عافرم " أو " روح اشتري بعقلك حلاوة سمسميه " .... أما اذا رأتني ساهما ( صافن ) فانها تبادر بالكلام :" يمه لاتصفن ... الصفنه الطويلة مو الَك ". اتذكر انها نادتني ذات مرة وانا بين اصدقائي فقلت لها متبرما وبأعلى صوتي : " .. ها ... ؟ " ... قالت بجزع مقابل " ... قولنجا ووجعا وطاكرحا " . أقول لها وهي غاضبة : " بس عادينه يُمّه " تجيبني بكليشيه جاهزة : " ولطمة حمه " قلت لها مرة " يوم العباس عليج ... اوصفي لي شلون استقبلت ابويه بليلة الدخله " قالت من فورها " انلصم ... ولاتسأل هيجي أسئلة فطيره " . من أحاديثها التي لاتنسى : رحنه سنه وجينه سنه .... ما شفت أنه تمطر ( ....... ) من فوكنه " أو " استحي من عصافير النبكه " أو " ديمي دومبلان وقع بالتنور صار بريان " " او قصتها الشعبية الجميلة التي تدور حول رجل تزوج من امرأة فحملت منه ... لكن الغريب انها ولدت بعد 3 أشهر فاستغرب المغفل من المولود الأكسبريس ... لكن المرأة اللعوب اقنعته وهي تعيد حساب الشهور التسعة من عمره : " شباط وباط وبيطره ....وتموز وموز وموزره ...والراح وال هل و الاحنه بيه .... والعلينه ! " صاروا عشرة أشهر – وهذا مايرسخ القناعة ! . واذ لم ترسخ فالمهم ان نطمئن فحسب . وان لم فبأحرج الأحوال أن نؤثر الستر والعافية . كانت تحدثني عن درب الصد مارد . الطناطله وسويد الماء ( المي ) وقصة ( الديو ) . وحدثتني مرة ان شابا عبر الجدار " طفر التيغه " واستلقى الى جانب فتاة في صيف بغدادي عذب ، فاستيقظت الفتاة خائفة مذعورة لكنها تعرفت عليه ، ابن جارهم ، قال لها مداعبا ... اش ... اش ... آني جني ( من الجان ) وجيت دا أخرعج ! ... " وبعد أن " خرعها " عدة مرات ، عبر الجدار لينام في سريره ... ومن تلك الليلة اللذيذة والفتاة تناديه كل مساء : " جني تعال خرعني " ! .. أرسلتني مرتين في حياتها ... فقط لاغير ... مرة الى بائع النفط ببرميله الأخضر الكبير الذي يجره الحصان ، بينما جلست هي وراء الباب تنظر من فتحة صغيرة فيه ... ( كنت اتمندل ) في مشيتي مستمتعا بضرب زجاجتين فارغتين مخصصتين للاستعمال المنزلي ، ضربتهما امامي فكان لهما رنين جميل . عدت وضربتهما ورائي فكان رنينهما اجمل ! .. وظللت هكذا ... احاول تكوين نغمة حتى تهشمت نغمتي ! صاحت عليّ : تعال لاتخاف يتكسرن مايتكسرن للقير ! والمرة الثانية عندما وضعت بيدي ربع دينار وعشرين فلسا وارسلتني للتسوق ومعي (علاكه ) لحمل ربع كيلو لحم وطماطم مع باذنجان وكيلو رز . طبعا ما أضعت العشرين فلسا بل الربع وهذا هو حظي الدائم في الأحداث ولذا عدت وقتها باكيا .. قالت : " لتدير بال وزين ضيّعت الربع لأن ما يضيّع الخردة الاّ الخردة ". ولا أتذكر انها ضربتني ذات يوم وكم حاولت التركيز لأتذكر ، فلم اهتد ِ ولو الى خيال في ذاكرتي . وأنا أدعي الآن ان كل عاشقي المرأة والذين يعتبرونها معبدا مثلما انا أفعل هم اؤلئك الذين لم يضربوا من قبل امهاتهم . كانت كنزا لذخير متناثر من الحكايا والأساطير والأمثال من قبيل " انطي لبو الصلعه وخلي ابو القلعه " أي لاتزوج بنتك للقائد العسكري لأن قلعته خاسرة ومنصبه زائل ! وكلما طلبت منها علكا الى جانب الذي في فمي قالت " علك المخبل ترس حلقه " واذا تصرفتُ برعونه قالت : " الطول طول النخله " ... وكانت تحب الدارمي وتغني العتابى واتذكرها تغني بصوتها الناحب : " ما همني القصاب ... الكصكص اجلاي ... همني الصديق الكال .... اوزن لي من هاي " ... وكنت كلما اقول لها " ماما من اكبر اصير لو محامي لو طبيب ( مال وجع راس ) كانت ترد عليّ بمثلها الحارق : " اللي كدّر ما كدر " أي الذي يخطط لايستطيع تنفيذ خططه . وهذا الكلام ينسف وزارة التخطيط برمتها " .. وهي ( قاعودة طشت ! ) تقعد الساعات الطوال لتغسل الثياب وتقص عليّ وعلى سواي احاديثها الممتعة . وتتحلق الصديقات حولها ، من كل الاعمار ، لكنها كانت تؤثر كبيرات السن لميلها هي الاخرى الى الاصغاء والاستفادة . جدة صديقي ( ح ) مثلا هي من أمتع الصديقات . بحضورها تبدأ نشرة الأخبار وأحاديث الساعة . قالت " اجه النايب ضابط .. وكال لي خاله اوصفي لي الحادث ! قلت له شنهو يمه الحادث ؟ ... قال الشي الذي رأيته امام عينك . . قلت له : يمه آنه واقفة بالشارع العام ، ولن النيرن أبو الأربعين نفر جاي منّا ومجابيل النيرن اجه اللوري العنترناش .... أول هيل ياحضرة النايب ضابط تجابلن ، يمه ولنهن توامضن وردّن تصارخن .... والنوب يابعد جلاي ترادمن ، وصار طشارهن بثيث " ( التشديد على كسر الياء ومطها مطاً ) ، وطبعا مسكت المنجد ذات يوم ، لأتأكد بان كل الكلمات اعلاه هي عربية فصحى وهي كذلك اعتبارا من اول هيل أي اول وهلة الى الوميض والصراخ والردم ، والبثيث ايضا ! انتقل الحديث الى ( ام دبدب ) ، وهي شديدة الكره الى جيرانتنا الدلّوعة والتي كانت تخون بعلها مع السيّد .... قالت " شلج من الخبر ... أكو ناس شافوهه فوق السطح قاعده فرنسي ويه السيد ! .. قلتُ : خاله شلون تقعد وياه فرنسي ؟ ماذا تقصدين .... قالت : " انت تصم حلقك .... مالك كار .... " وأكملت حديثها :هي قاعدة على الماطور سكل وتقول له : " تاهميني وياك ياسيد ! وهو ( يناهت) يلهث عبالك ديركض ضاحية ويجاوبهه مقطوع النفس ... : " ... الله لاينطيهم يعلويه " تبدأ سميرة بالتهكم فيأخذن بالضحك والتعليق المتنوع والآغز والذي كان يبدو لي غير مترابط لكنه في حقيقته محكم للغاية : " ظل البيت لام طيره وطارت بيه فرد طيره " . او ( فحل التوث بالبستان هيبه ) . او ان ينعطفن على بيت شعر اكثر قسوة وهو عن امرأة متزوجة لكنها كانت ( امفرفحه ) غارقة بحب سري من طرف واحد حتى اذينها وبطينها ولذا فهي كاتمة وكاظمة وساهمة حتى مات زوجها فلم تجد بدا من ان تبكي وتتباكى لا على الأطلال بل على المرحوم لاطمة صدرها المسبي بالعري وفي حومة العزاء النسوية الصاخبة وهي تردد بصوت عالٍ " ... قال لي المرحوم عود اخذي حماج .... كتله يامرحوم خل يخلص عزاك .... " – للعلم العزاء 3 أيام فقط ! - . وهنا تنبري احدى الصغيرات لتبزخ راقصة في باحة الدار وكأنها الريم الأهيف ، ويعتلج التصفيق ودق الاصبعتين وتزداد حدة التصفيق والابتسامات والتعليقات وينتقلن من بيت شعر سريع الايقاع الى آخر أسرع منه .. " اول شيخته كسّر معاضدهه " أو " ابمزويته ايكش العلوه " تنضم أُخريات الى الحلقة ، أو تنقذف اخرى الى حلبة الجومناستك " عباس افندي استوه اجه " وأخيرا ،" عقالك جلّب باللوري " . ومن ثم يقهقهن لسان حالهن يقول لابد من الترويح عن القلب الحبيس ... يالله بس ... فحطنه ... ضحكة خير وشرهه على أُم .... ..... " الخ ..... طز بالحياة ! . كانت ، عندما تشاهد ضابطا كبيرا ذا تيجان ونجمات عديدة على كتفه تقول : - " حيل اشكد شايل نجمات على كتفه ... ماكو محط رجل " وكأنما يراد بهذا المثل العراقي اللآذع البليغ ان يقال بان القدم تقف هنا بين النجوم وربما فوق التيجان وعلى رتبة اكبر ضابط . ومثل ذلك عندما مر ملك العراق فيصل الثاني امام وزارة الدفاع – مقابل لبن أربيل ! - في الطوب بباب المعظم عام 1957، قالت وهي تتطلع الى شخصه المحبوب ووجهه الوسيم الفليح وهو في عربته الذهبية : شوفو اشكد حلو الحيوان " ولو حدث هذا في ايام أي دكتاتور لذهبت امي واولادها الى سابع حفيد – تسعه كاصر . كانت تقول لي : - " يمه لاتتزوج من وكت ! " قلت لها ماالسبب ؟ قالت " ونّس روحك أول شي " ! ... لأن اذا تزوّجت هساعيته ، مرتك وره خمس اسنين اتصير اختك . شوفني آني هسه من ألزم ايد ابوك اتكول لازمه ايد خالتي ام ناظم " فكّرت بعد حين وقالت : " اما اذا تزوّجت فعليك بالاخلاص – من المهد الى اللحد " ... قلت " شنو هل شدّه يارسول الله " قالت : " الحياة ياأُمي اخلاص وعدا ذلك لُواكه وبهاته وفطارلغيه ! .. " . كانت كفها نفّاضتها ... تضع رماد سيجارتها على كفها ، وبعد حين تلتهم الرماد ( تلهم ) ، وتأكل حبات الطين خاوه ... ووالدي لاينفك يعنفها .... لكنها تقول : - " احبه موبيدي ... احبه أكثر من الفستق " ويبدو لي انها هي وجدتي قد ماتتا بمرض سرطان الدم والسبب ربما الأطيان +القهر(السُكُم ). جدتي رحمها الله تحب خطابات جمال عبد الناصر في انطلاقته الاولى ، وكانت على شرف الخطاب تسكر بكيس طين + حزمة مزبّن ابو الصالنصة . أما والدتي فلم تكن تفهم بالسياسة وهي مخواف أول باب . وكان والدي يقول : " انت اكبر خرنكعية ( خوافه ) على الكرة الارضية " " بابا امك تخاف من خيالهه ! من الظلام ، من البيت الخالي ، من الشرطة ، من البوتاز ، من الطرقات وحتى من شخاط رحلو ! وماتقبل احجي كلمتين على الحكومة . تقول : - الريسز والسياسة خراب بيوت . وكلما امازحها قائلا : ( كأن القيود على معصميه ..... مفاتيح مستقبل زاهرِ ) تنطيني اذن الطرشه ! . لكنها رغم ذلك الجهل السياسي فقد قالت كلمتها الخالدة والتاريخية قبل غورباتشوف بعشرين عاما . كيف ؟ قلت لها انا قادم لوداعك الوداع الأخير ! لأني اغادر العراق غدا ... بكت وظلت تبكي .... وأخيرا قالت لي بعيون حمراء من كثرة الدمع : - " يُمّه الشي اللي اتفكر بيه لتعتقد ايصير ... من أهد ( عهد ) فهد ماصار ولن يصير " ! .. أي فال نحس هذا ياأُمي ؟ ... يالخيبة العمر ... خيبة بقيت تؤرقني وتخيفني مثل ثعبان ملتف تحت وسادة . كانت أُمي تعاني من فقر الدم ولذلك كانت تأكل بكثرة ( ترمرم ) وهي تؤثر العافية ... وكان أبي يتطلع اليها متهكما فيقول " اجترّي وافترّي " .... وهي لكثرة خصامها معه ونكدها جراء تأخره ليلا خارج البيت ( وميندره وين كان يتزغول) كانت تدعو من الله قائلة " ان شاء الله تركض والعشه خبّاز لو كوك الله " . عندما طلقها الوالد ، كان صداقها (40 دينارا ) – عام 1959 – وقبضتها هي بالأقساط .. كل شهر ( دينار ونص ) وذهبت لتعيش في بيت آخر .قلت ممازحا " الله ربج ... محمد نبيّج ... شتردين بعد .... خلصت ِ من خالتج ام ناظم ... ! " فنقهقه بدلا من ان نبكي للفراق ! . كانت سعيدة نوعاما ، بل أحيانا ، مع تلك العائلة ( بيت خالها ) ومع زوجها الشاب ذي العينين الخضراوين المرقطتين بنقاط سود هما الحسن والوسامة التي تفك المصلوب من عمود صلبه ! الشفاعة يامحمد . ولو كانت أُمي مخرجة سينمائية لأخرجت رومانس العاشقين . ولو كانت شاعرة لقالت قبل بدر شاكر السياب " عيناك غابتا جهنم " ! بقينا نعيش لوحدنا – أخي الصغير وأنا - . كانت كل أحاديثها صائبة مائة بالمائة .... عدا شئ واحد أخفقت حبيبتنا الراحلة به ولم تفلح للأسف الشديد في تطبيقه ... كانت تؤمن بالمثل العراقي القائل ... " للمرأة في بيتها سبع زوايا " اذا ضُربت في زاوية لاذت بالاخرى واذا رُكلت في الاخرى لاذت بالزاوية الثالثة وهكذا ... وعلى سبيل الذكرى والمثال فان هذا الصليب السباعي كانت تحمله امرأة من منطقة الكرنتينة كنا نراها معا وكل سكنة البيت حيث تجرجر نفسها من تحت ضربات قبضة زوجها وهي ملطخة بدماء الغزال لتلوذ بألف زاوية في البيت ، كل ذلك من أجل اولادها وبناتها العديدين في الحجرات . النغمة السائدة في البيت هي البكاء والصراخ ! . كل الصباحات وكل الليالي ( الحديث عام 57 ) تشهد على جريمة الهيمنة الرجولية في 99بالمائة من بيوت العراقيين ولايوجد قانون ضد الضرب . الضرب والاهانة زاد يومي تعتاده وتبتلعه اغلب العراقيّات واطفالهن على الماشي . كنت أقف مذهولا ومرعوبا ازاء ما اشاهد من فيلم عراقي – هندي مشترك تدور احداثه أمامي ، كل يوم تقريبا وامي تؤكد لي كلما سألتها لائذا بعبائتها ومستفسرا ( ليش ماما ؟ ليش ماتنهزم أُم ( ......) وتترك هذا الوحش ؟ ... كانت في كل مرة تؤكد على الزوايا السبع ! . للأسف ان امي وجراء ماحدث ( وللبيوت أسرار ) لم تعتصم بحبل كلماتها ... ! وهذا الضعف في الموقف ربما ورثته انا الآخر عنها اذ لا ألتزم احيانا وحرفيا بقراراتي مع نفسي ، أقول ذلك وانا واثق بأني لم انل بازدواجيّتي السيئة من أي انسان على البسيطة بقدر ما آذيت نفسي وأسأت لها .... امي ! يالها من كيان ورقي خائب الحظ .... لم تستطع تجريب زاويتين على الأقل ! لم تفكر مليا بأن الزوايا الاخرى التي هربت منها ، هي الملاذ اليتيم بالنسبة لنا . في تلك الزوايا حيث لم تكن هي ، كلكلت شتاءات قاسية على بيتنا المكفهر وحيث طاح ولمئات المرات غطاء عن جسد طفولي نائم في هزيع ليلة باردة ... او رموش طفولية حدّقت في الظلام بحثا عن كأس ماء لشفاه ظمآى وعشرات بل مئات الحالات من الحاجة الماسة الى يد حنون ، كل ذلك حدث في غياب أُم لاعودة لها ....... وانطفأ السراج . لقد كانت مغادرتها هربا من جحيم والدي العراقوي الكلكامشي العنفوي ! الشامخ المتجبر ، الرجولي الفحولي الهيليني المحطم المهشم المدمر .. الخ من اسماء القسر المتوارث فينا . والدي العفريت الذي كان يضربها بكثرة ، ضربا مبرحا ، يتلذذ بايذائها ويدميها ادماءا ، ويدبغ جسدها بالورم ، دمها على حمرة شفتها ، وكحلتها في مسيل دمعها ... لقد غادرت .... واعطيها ربما الحق في ذلك كما اعطي الحق لكل طائر مهاجر او جريح . هناك في مدينة الحرية ، سكنت في حجرة للايجار وزوجها العامل .... وفي الظهيرة الساكنة كانت صديقتها من العوائل المؤجرة اللواتي يعج بهن البيت ، كانت تمزح معها ودرجة الحرارة قرابة الخمسين فتناديها : " أُم هشام .... الدنيا حارة ... اذا ماعندج مهفه ( مروحة ) افتحي الراديون خلي يطب عليج هوه بارد ! " . نعم لقد جاعت وعانت العوز والفاقة ، لكنها لو بقيت مع زوجها الأول لتحملت الظلم والجور والاستبداد والضرب والاهانة مع لقمة عيش موفورة . - لو بقيت مع والدي أما كان أفضل لك من الجوع والعازة ؟ - لاياوليدي جوع بسلام أفضل من موت بطعام سلاما عليها يوم هاجرت الى منفاها الأمين في بيت الجوع – منفى مدينة الحرية – ويوم ماتت في عام 1986 بعد سبع سنوات من اغترابي الشخصي ... وسلاما عليهن اذ هاجرن اكواما وآلافا ... وعانين الحنين ووجع الأشواق الى بيتنا الراتع بين نهرين .... سلاما عليهن وهن ينتشرن في العواصم ويكابدن أفدح الضياع .... وأسنى الشموع لطريقهن .
انت كوكبي
في منتآك عن البشر , في كون فجيعة وحنين مطلقين تجلسين هناك كآلهة وحيدة ، رقراقة ، أثيرة وسمائية العينين . سوداء الثوب حزينة كأنك أنا . ...روحك من روحي . متجسدان أناوأنت في شخصك النبوي النبرة ...أثيرة أنت عندي كسواحل الأرض أجمع . كأنك الكواكب السيارة في لحظة نبيذ . أنا المخدر الوحيد بحبك ...سامحيني لهذا الإنكسار المحب ، والانشداد المعشّق بالأسلاك الشائكة ...دماء كثيرة على سلّمك الصاعد الى بيتك النوراني...هل تتذكرين أنني انحنيت بكل ضخامتي وأورامي , كأني راسبوتين فقبلت سلما يؤدي الى بابك . كنت تقفين في ضوء الممر والسلم والباب الموارب ، كأنك آلهة يونانية بعينين زرقاوين وخدين نبيذيين ..كم احب كرومك ... تشهيتها مرادا لي ، واكسيرا يوزعونه في يوم موتي ...أنا بدونك زمن ماله مكان . أنا عبدك ! هكذا قلت لك ذات لحظة ضعف , وفي لحظة قوة أيضاً ، اذ تجاوزت العرف وسيادة التقاليد وذكورتي ورجولتي وأحببت أن أقبل قدمك كما لو اقبل جذور الأرض والمغزى الكامن والكامد للأشياء . وعند الممر الضيق وراء بابك ، قلت لك ان الملكة اليزابيث ، ومارغريتا وماري انطوانيت تمشي على سجاد أحمر بينما أنت تمشين على قبلاتي ! ما أفدحني بغيابك ..عمري ؟ انه خواء أجوف لامعنى له ، عبث كأنه فلسفة كامو ، وضياع كولن ولسن في سوهو ، والهلوسة المحمومة لدونكيشوت. كل ماحولي هو سأم ورداءة ...انا خسيس من دونك . كل هذه الوجوه الحبيبة من حولي والتي أنا بمثابة المسيح من القطيع منها ,انما هي تاج شوك لي ومصير ٌ جلجلي الخاتمة ...الوجود قربك هو الحياة اياها وعدا ذلك فهو موت نبيل ملتزم مهذب ، انه حبي لأولادي وزوجتي. عدا ذلك البيت الذي ارتبط به قرآنيا وانجيليا وشعريا فان وجودك هو المعنى الكوني المضاف الى أعلاه من الحب . ولكن كيف ... ماذر شارق شمس منذ مليار عام , وهو أحلى من شقرة شعرك ، لم تتذاكَ العقول لتتقد بحمرتها وألمعيتها مثل شفاهك ..لم تتألق زهور العالم أجمع عبر الزمن ومنذ الخلية الاولى مثلما هو خدك ... لاماء مثل لعابك ! لا مطر مثل دموعك لاقمر مثل انسيابك لاشعاع مثل ظلك ..أنت نغم الأنغام وحلم الأحلام ولكن كيف أمس قدمك بشفاهي ؟ ...لقد غادر الفراش الحائر ولم يبق عندي سوى مهد من نهر جاف ، وقمر حزين يطل على جثث وحروب ...وأنا وحيد ومقعد وكسيح ، وان الثكالى والأرامل يشددن من أزري ، وتلك هي الخنساء ، قد هجرت أخاها من أجل فداحتي ... أمامك تصغر الناطحات وتخجل من نفسها السموات ...من ياترى ولدك ...احب الأضواء من حولك تلك الحمراء والوردية والبيضاء التي تتألق في ليل فاحم وأكون أنا هناك فوق محطات مرتفعة عن الأرض في نجف منيف من الحسن والغرام الليلي مبتلا بعطورك وقد غادرت لتوي ورحت انتظر القطار ذهابا الى بيتي ، أرى من بعيد تلك الأضواء ، لا التبانة بحسنها ، ولاخالدة ابنة عمي في صباها ، ولا ذكرى طفولتي المزهوة بأول حب . بل وفي الحقيقة , كل تلك المعاني ملخصة بجماليات ظلك ، بطول قامتك الحالمة ، انت من انت ؟ كما يقول أبوالقاسم الشابي ... انت في نظري نبية بلا كتاب ، صحابية بلا نبي ، ولية من أولياء العشق بلا آلهة ..انت غالية أرخصُ أمامها آلاف المرات ...أنا الضائع في الشوارع بحثا عن كابينات تلفون لنواحي ..انا المثكول بالردود الباردة والحارقة - انت تعرف لمن أشتاق ..لقد غادر هو الى الموت فغادرت حياتي .. نعم هكذا كانت ردودك السامة ، فظللت أنا ذلك المقتول بالأمل ، المشنوق بالتسويف ، المغتال بالوعد ...انا المطرود والمردود...انا المدفون والمرفوع لطهرانية الشمس ..أنا الميت والمولود للتو.انا بوجودك حمأة من بكاء سعيد ، وضحكات حزن ، وجراحات صحة وعافية ، انا المعفر والمدثر والمحنط والمومياء ...ولا شئ عداك جدير بأن يقف فوق ترابي وأنا المسجى تحت أظرف قدم ، وأعذب كعب ، واعطر اصابع ، وألذ ظل .....انا سواد ليل بآلاف الأعوام ، وأنت وراء هذه الملايين من العتمات السوداء نجمي ونجوميتيتي بل أنت كوكبي .
صمت خافت كأنه الموت
في لحظة ما ، نهض على قدمين متعبتين ، وبصدر مثقل بدبيب أفاعٍ ..إصفرار على الجبين ، واحساس عارم بالخسران ، بالخيبة ، بالطعن، بالإغتيال . نهض في فضاء ضيِّق من التواجد . في أربعة أمتار مربعة من مساحة مطبخ هو مجلسه المفضل في أيام عزلته في الدانمارك ، في لجوء اللجوء ، حيث يسكن بعيدا عن أصدقائه ، وأيضا بعيدا عن أفراد عائلته الصغيرة . وبعد أن طرد هياكل وأبدانا وأرواحا وأشباحا من بيته هذا ، طرد الماضي جميعا ، وجلس هناك يتكأس ابنة الشعير ويدهقها دهقا . يعود ليضع رأسه بين ركبتيه... لكنه هذه المرة ، وفي لحظة ما ، نهض فجأة على قدمين متعبتين وبعينين يقدح منهما الشرر ، وكتف مائل الى اليمين وكفين مطبقتين على بعضهما وباحساس غامر بالدمع وفي ليل داكن يغلفه وراء ستارة ويكفنه تحت سقف عالمه الصغير ( المطبخ ) . انه يحلق نحو سماوات صفراء مثلما يفغل غريغوري كافكا حيث تتصاعد ( حشرته ) الى الحائط نحو السقف ... هناك ينهض ليتعكـّز على قدميه وفي لحظة هياج غبية ...بل صاخبة ، عنيفة ، قاتلة ، منبوذة .... يقف كيما يعبر عما في داخله تعبيرا خارجيا . والتعبيرعن الداخل بالأداة الخارجية يعني ، في تحليلات دماغه المهووس ، أن المريض قد عبر في فضاء من الحرية وفي مجال من التنفيس عن الحركة بدل السكون ... ولأن الذات قد آلت الى خراب، فلمن بقاء الأشياء الظاهرية ؟ لقد نهض على قدميه في لحظة ما ليسكب الأشياء على بعضها . رفع بالقناني التي أمامه وألقاها باتجاه الجدار فأخذ طشيشها في تطاير مجنون ألحقها بكأس مملوء بسائل مر ! وبكأس فيه مكعبات ثلج وألحق الضربات العنيفة بصحن لطعامه قذفه في حوض المغسلة . سحب المرآة من حائط الى جانب يده ، وألقاها على الأرض. كان هناك مذياع يهمس بآهات المغنية ( وتني هيستن ) و ( ماريا كيري ) فتناوله وأحاله الى صمت وحطام . ألقى الكتب والدفاتر وكوم أوراق مع أقلام وقواميس على كل ماقذف من مواد مطبخية فتطاير ماتطاير وانقذف ماانقذف، وتبعثر ماتبعثر وتمزق وتفرق . رفع الكراسي في الهواء فأهوى بهن الواحد تلو الآخر بكل الإتجاهات . قلب المنضدة , وعاد الى الخلف ليبصر كرسيه الأسود العريض . رفعه بجهد ملحوظ وانهال به على القدور المسطرّة على الفرن . تقدم بغضب أكبر ليزيح بكفه المرتعشة ماكنة القهوة الزجاجية الثمينة والتي تهشمت في نثير زجاجي ناعم وكثير . أفرغ ، فوق كل ماتساوى مع الأرض ، قناني السكر والشاي والقهوة مع أكياس االخبز وجهاز التحميص . تقدم كالطير نحو مشبك لوضع الصحون فألقاه أرضا وفوقه تدحرجت الفاكهة وسلالها . كؤوس ترتع في هدأة الأرفف لم تسلم ...كل شئ في الأرفف من أكياس غير مفتوحة للحلوى والقهوة والطحين والسكر ، اضافة الى صيدلية البيت الصغيرة ..كل شئ ، كل شئ تراكم على بعضه. بعدها مرت ارتعاشة وران سكون ! ...وهدأ كل شئ هدأ كل شئ بعد معزوفة الهشيم ...الصمت آخر الألحان . عاد ليجلس في مكانه ، لا على كرسيه بل على الأرض ... وضع رأسه بين ركبتيه ، وراح يبكي بصمت . صمت خافت كأنه الموت .
المحفور له
ظهره العريض الى المقبرة ووجهه باتجاه شوارع ترابية . الشمس حمراء والارض لاهثة ونسيم حرائقي في ايقاع جنائزي ولا بشرا عابرا في المجال الاّ هواء راعش من شدة الحر . مرق احدهم خلسة وراح يركز نظره على الرجل الواقف ، الرجل ذي الظهر العريض المتأمل للشوارع الترابية . راح يتقافز بين القبور حتى وصل الى رفش على الارض فشرع يحفر بسرعة وعينه باتجاه ظهر الرجل . ... قفز بعد حين مابين قبر وآخر واختفى نهائيا . ران صمت . مرقت امرأة ، بتلصص باد ٍ ، ذهبت الى ذات المكان وذات الفعل ، وقفزت مثلما فعل الرجل بين القبور واختفت . ران صمت . مرقت طفلتان بعمر واحد مرق طفل . اتسعت الحفرة حل رجل اجنبي بشعر اشقر ، وزوجته . الحفرة تتسع أخيرا جاءت امرأة تسحب جثة مربوطة بحبال من كل الاتجاهات مربوطة من جهة الفم مثل فرس او بعير . الجثة مفتوحة العين غرقى المحجرين بالدموع . الحفرة استوعبت الجثة . كوّمت المرأة ذات الثياب السوداء والربطة الحمراء على الرأس ، كوّمت الحبال على وجه الرجل وهو في عمق الحفرة . ردمت الحفرة بالتراب ... لم تكن تكترث لرؤية الرجل الواقف عند السور وهو يتطلع الى الشوارع الترابية . تركت الرفش هناك متكئاً على قبر جانبي راحت تمشي باتجاه الرجل وعند مسافة قريبة منه ألقت بكيس من قماش مليئ باوراق نقدية . مرقت من الباب الخارجي . لم يكترث لمرورها الرجل بل استدار ذاهبا الى الكيس . رفعه من الارض ودخل به الى حجرة صغيرة بجانب السور . بعد حين خرج حاملا قطعة صغيرة من حصير مع آنية فيها ادوات الشاي . اقترب من المكان اياه . فرش الحصير على الارض ، ووضع آنية الشاي الى جانبه . جلس ليصب الشاي في كأس زجاجي صغير . أشعل سيجارة وراح يدخن . عادت العائلة الى الطرف الآخر للمدينة . واجتمعوا عند فناجين القهوة ، بعضهم أسيف الوجه والآخر باك ٍ . لكن عموم الجالسين والزوار الذين توافدوا ذلك اليوم وبقية الايام قد اعتبروا الامر طبيعيا بل ضروريا وأمرا لابد منه . وهو هناك في حفرته أفضل الف مرة من تواجده بينهم .
* كتبت في ليلة الدفنة . في 16/1/2006
تصوف آخر
رحت كالملذوع أتطلع من وراء النهر هاربا بينما مسك الأعداء بأخي . هكذا مثلما يغلي صدر عبد الرحمن الداخل ، رحت أهرع ملتفا بظنوني وأتربتي وجراحي وقد كان أمامي شارع يمتد كالألم ، مضاء بالأصفر ومؤطر من الجانبين باشجار الليل ، وكان يكْلمني هفيف أوصال الشجر. رحت أهمس لنفسي باغنية نادرة , كان قد كتبها أحد الزهاد وهي صلوات تتهادى في نهر الروح أكثر مما تصلح للمنطق والصوت المجرد .. رحت اغني في لحظة وأهرب لاجئا الى بيت الصمت أو محرابه ..أتطلع الى المصابيح والأشجار والى امتداد الطريق الطويل حيث لا أحد على الرصيفين . هناك في منتصف الطريق مخزن واحد وحيد يبقى ساهرا حتى منتصف الليل , وهناك كابينة للتلفون , أقيئُ بين جدرانها الزجاجية روحي ...اذ أهرب ( من بيتي ) لأنوح قليلا ..لأشكو , لأتعبد ..ومن ثم أعود كسيرا , مهملا ..مطرودا ... باكيا أو غاصا بدمعة أو محترقا متيبس الحنجرة واللسان والشفة .. لاأضطر الى الذهاب لتلك الكابينة لولا الاغنية التي تنبعث من داخلي , بآهات الزهاد، والوان النار, ودوي الدفوف ..هناك طفل في داخلي يعاني حرارة الاسفلت تحت أقدامه الحافية , وكل الأطفال من أبناء بغداد يتذكرون معي - أيام طفولتنا - كيف أن القير كان ساخنا وذائبا تحت حرارة الشمس ، وكيف يلسع أو يلذع كعوبنا وأصابعنا ومع ذلك فقد كنا دؤوبين في سيرنا وعدونا ولهونا ..على ذلك الاحساس من الاحتراق أعيش بعض الساعات . أشعربالحرارة الصاعدة من الأقدام بل من أعمق أعماق الروح , من قاع ما في الذات ، من بحر أمغر من الماوراء ...أصبر وأقرأ الآيات عن الصبر ..وأحاول أن أسكن في سطور قصيدة أو أن أهرب الى سماع تلاوة ...أهرع راكضا في ايمانييتي وتشككي ...أقرأ عن أسمى اهرامات الايمان وأرى آخر أفلام الرعب والإلحاد والجريمة ...أنسكب في الأحمر والأخضر ..اعانق السحابات من وراء الشبابيك ...أبكي واصلي وأجدُّ في تحريك حبات مسبحتي وبأصابع مجنونة ..أمضي الى الليل واناديه كيما يقتعد معي قرب نافذة تطل على شارع خال ظليل وحزين , مضاء من بعيد بمشكاة صغيرة ...تمر الظلال والأشباح والأطياف ...أرفع كأسا نبيذية الأحلام الى شفة الجوع وأُلهب الرمل بالشمس وامازج الوردي بالثلج والعنبي بالجمر ، وأموج في طوفان نوح واقطر بدم الحمامة العائدة ويحول مابيننا في آخر الليل الموج ..أبكي .. وأحس بدبيغ الجمر في عظامي ، ولحم جسدي حجر جهنم والغسلين بخار دائم الصعود . ولكيما أرقد ، أمد يدي الى هناك متذكرا المرأة إيّاها وكيف كان وجهها أبيض وأشقر وأحمر وشعرها ألوان الطيف الشمسي ..أمد يدي الى وسطي وأدعك واحدي وأتطلع الى النجوم البعيدة، الى شعاع قمر بعيد قد حجبه الجدار ...هناك صمت الموت في السماء ...وأنا الغريب بل الغراب الفرد ! أضع يدي على وسطي وأعزف بهدوء جم على خلقتي المنبوذة ... وأستغل نوم ( زوجتي ) الى جانبي فأطفق احرك أصابعي بقوة وشهوة وأتناول تحت صمت الليل قطعا من ورق شفاف فأُدنيه مني وأستفرغ الأبيض الساخن ، وفي هدوء جم أقذف بالأوراق جانبا ، واحس بارهاق ومرارة ...وبحالة ندم وبكاء .. النجوم فوقي والى جانبي زوجتي ، ورنين من احاديث بين زجاج الكابينة ..لاجدوى ...أبدا لا جدوى من الدوران في صوف . لم أُسعد كثيرا أني ولدت ولم أحبب المرأة التي ولدتني بقدر ما أحببت القابلة ..القابلة التي ابتسمت لرؤياي وقصت مشيمتي ودثّرتني وغادرتني .. تلك الابتسامة احبها ..تلك اليد اريد الرقاد عليها . ان الدر من ثدي امي لم يشبع جسدي ولم يروِّ روحي .ان فراشي وثير لكنه مثل سيبيريا بارد حد الذعر ...والقابلة هناك حيث لا أقوى على العودة اليها ...ها أنا أنحني على مسرّة التلفون لاطلق نواحي وبآهات واحد وخمسين عاما من أجل ابتسامة القابلة ...هاأنا اعاني الأوجاع مرة اخرى في صدري ولا أقوى على وصفها بالحار أو الساخن بقدر ماهي ثعابين تدب مابين حين وآخر .نعم أتشبث بالصبر وأبقى الأيام تحت سقف الصمت والوحشة ..ومعي المرأة - التمثال التي تنام قريبة وبعيدة ، مني وعني ... أُقاوم الذات والفناء والجدران ...لكنني أبكي وأنهار , وتأخذني قدماي الى الكابينة ...وأتذكر صديقي ( هاء ...العلوي ) وكيف كان يكتب لي عن أهمية إظهار( التاو ) الصمت والترفع .. وهي كلمة من الصين حيث كان يسكن ويعيش هناك ...نعم ( التاو ) وأيضا حسبي أن أكتب على جداري بيتا من الشعر: كتبنا على الجدران متنا من العشقِ .... ومن جرحنا الغربي والنغم الشرقي ها هو صوتها ينساب ، يذكرني بقصيدة لعبد الخالق فريد " وانساب صوتك حالما .... عبر المسرة ياهناء " ورحت كمن يغطي جريمته بثوب أسود ، بورق أسمر ، بشرشف ! رحت كطفل أضع كفي ورائي ، رحت أنسحب من الحديث الأهم ...قرأت سلامي ... ورحت أفر بوسخي وملحي ولزوجتي ... قلت لنفسي وأنا أعود معوج العود حاني الظهر كأني عليل وما أنا بعليل ، قلت لنفسي إصبر ولاتتقهقر ...حبل المشنقة ولا الذل . الأشواق عقبة فتعلل بالصبر، عليك أن تتجاوز العقبات ... الشوق عقبة والموت حرية وخلاص ، إصبر حتى الموت ! إبتلع اليباس ، تعوّد على الدمع والسهاد ...إنها شدة ... فأما تزول هي أو أن تزول أنت ... وكلاهما لصالحك . تلوّ تحت سقف حجرتك ... ألا ترى أنها جميلة رغم قبحها الأجرد ...إن فتنتها من ألمك ... دع الأدمع منثالة على وسادة المرض . انها- الأدمع - أعذب من الشقرة ، من شعور العذارى ومن خصلات الشمس ...لماذا؟ لأنها تعنيك ...أنت الباسق في الحزن ، الباسل في الألم ...لاتزدهر بحياة ذليلة شاكية ...كن مقبرة ! . لاتذهب الى الكابينة مرة اخرى ... توفَّ واقفا ..مت وأنت ذائب العظم عشقا .. ضع يدك بيده ، ذلك الذي خط على الرمل : " توسّد أحجار المهامة والقفر...... ومات جريح القلب مندمل الصدر " تريد أن تذهب رغم هذه التعاويذ والأبخرة والشعوذات ... تريد أن ترفع المسرة لتستمع للصوت ؟ صوت يهينك في كل مرة وهو يقول - أنت تعرف لمن أنا مشتاقة .. نعم له .. ذلك الذي غادر الحياة ... تريد التمرغ عند بابها البعيد ، تريد أن تضع خدك مدوسة للداخل والخارج , تبتغي الإنتحار ...ياولد ...ياشنيع ... تحمل .... تحمل قليلا أكثر ...ستربح لابد أن تربح ...موت الأشواق حرية ، وادراك الموت سعادة ... هاأنت تمضي ثانية الى الشارع المؤطر بالأشجار ، المضاء بالمصابيح ..هاأنت لم تتعظ ، ها أنت تتناول الهرويين وتعجز عن تركه ....ها هي النوبات تأتيك ... والنغم الكلثوميُّ الزفرات يطبق على حجرتك ...وترفع الكأس ليلا وتعود تنطلق في النسمة ...وتحت جنح الظلام تطلق الدمع الصامت ...وبدلا من الإذلال رحت وعلى الأخص في الأمس ( 11/8/1999 ) تتحرر من خزينك المأساوي ، وتعود من دون أن تمسس التلفون ... شكرا لك ...شكرا لك ...لقد نجحت في الخسران مرة ! تقدم في الخسارة ستربح ... ثق أنك ستربح ... الموت جائزتك الاولى ...لابأس در في الأصواف مثل خنفساء كليمة متربة عرجاء ...اذهب الى كابينتك واقتعد الرصيف بالقرب منها ... وتطلع اليها كما تتطلع الى قبر . قبر واحد وحيد يمكن أن يوصلك بمن لايريدك في الحياة ..تطلع اليه ..تطلع اليه ...مت ... مت وحدك .
حلم على حافة
ماأفدحني إعجابا بالذل .. وأنا مضطرعلى ( حبه ) والتوسل بأن يطبق عليّ ...كنت أخشى السقوط من ناطحة ما ... جبل , سقف باص ، نخلة ، ظهر جواد... لكنني الآن أرتضيه لو قيض لي أن أسقط ! أرتضيه لأنه لابد أن يفضي الى أرض تمسك بأعضائي ، وان كانت كسيرة دامية مهشمة ممحوقة . أما اليوم فالأرض لاوجود لها ، والقاع لامتناهٍ . انها هاوية في الفراغ المطلق ...وأنت واقفة هناك تتطلعين الى الزرقة ، الى غروب الشمس الليلكي ، الى الشروق الحنيف ، الى الافق حيث الشرود وسكون العالم ، وطيور سابحة في الصمت . قامتك كأنها قطعة من كافور . هفيف ثوبك كأنه موسيقى متماوجة على بحر . هاأنت مرفوعة الرأس بشعر ذهبي تقفين على حافة جبل . ساقاك لاتبين بضاضتهما ولا لونهما لأنهما استترتا بثوب حداد طويل . حذاؤك الأحمر ، على الرغم من وقارك ، يذكرني بالمومسات ... أنا هناك ... أُناجيك وانادي ، أرفع صوتي بكل قوة ، أصرخ ..لاتسمعين لكي تنظري ، ولاتنظرين لكي ترحمي . وأنا على الذل الذليل من أمري قد مسكت بكعب حذائك , كعب صغير وقد استحالت يدي بأصابعها الى مجسات حشرة صغيرة ...هاهي يدي تتشبث بأسفل الكعب . بينما تستطيل يدي وتتدلى قامتي الى الأسفل ...الريح تحرك جثتي بين الحين والآخر فأغدو مثل ورقة ترفرف حينا وتسكن حينا آخر ... الريح تحاول انتزاعي فيميل جسدي باتجاهها ...أعود لأستقر شاقوليا ... أمسك بالكعب ، أتعرق رغم العاصفة ...أصرخ ويتيبس سقف فمي ...صمت مطبق بيننا ...نحن بعيدون عن بعض مثل دنيا وآخرة ...مثل جنين يصرخ في رحم ..وأُم منشغلة عما يدور في جوفها ...مثل سجين ينوح في زنزانته ، والناس مثل اذن مثقوبة. ها أنا أرتضي الذل ، أُقبل أردانه ، وأذيال معطفه ...ها أنا راض بسكرات موتي لا أتمنى الاّ أن تطيليها ...ظلي هنا ...تطلعي مع الأيام لقرص الشمس ، للأحمر والأسود . ظلي شامخة الرأس بشعرك الذهبي ، بوهجك الليلكي ...مرفوعة آلأنف مثل مارغريت أو اليزابيث أو ماري أنطوانيت ...وأنا لست الاّ المتشبث بمسمار كعب منغرس على حافة جبلية ...وما أنت الاّ لحم ودم قد استحال الى تمثال ..وهنا مرادي ومبتغاي في أن تظلي ساكنة صامدة بإسمنت كيانك وروحك وضميرك . لكن كل ماأخشاه أن يستحيل التمثال الى لحم ودم مرة اخرى ، وفي لحظة فجائية تنتبهين لقامتك الثابتة على حاشية الجبل فتقررين الانسحاب بعيدا عن الحافة . واذ تتخذين القرار التلقائي ، لاتنتبهين للكائن الصغيرغير المحسوس والمتشبث بحافة الكعب الرقيق ...تسحبين قدمك ماشية باتجاه السهل ، وأمضي أنا الى هاوية بلا قاع .... ولايجرح ذاتي الاّ كوني شديد الاقتناع بالذل .. والذل لم يقتنع بي .
سدول الليل
إنني على يقين من أن الشخص الذي شكل ويشكل عليّ خطورة قصوى هو أنا وليس أي كائن آخر . ما أن أسترخي وحيدا في مقعد وسط الصالة أو أتحرك في الأرجاء حتى تطل عليّ الأشباح راقصة مرة هازئة اخرى . آلام جسدي تتوامض فيّ . رغبات حارة تدعونني الى التحرر ، السلخ ، حرق الذات، تخريبها ، القاؤها من قمة شاهقة ...ان آلاما مبرحة بحاجة ماسة الى الضرب بالعصا . عظام صدري ذاتها بأمس ماتكون الى صدمة قوية بواجهة سيارة ، ورأسي بسلك كهربائي ، وخدي بصفعة ، وعجيزتي برفسة . وأنا فوق ذلك ، في حالة من اللوعة . انا جدير بالتغطيس في أتون من جمروثلج . أنفاسي مرة . حتى أنفاسي احسها مُرة ! وساخنة وقادمة من ممرات وقصبات متورمة . أنا بحاجة الى إعادة بناء ! مثلما احتاجت تلك الدولة العظمى الى ذلك فسقطت على رأسها ..ولكن أن يؤدي ذلك بي الى الفوضى ، الى الشوارع ، الى " كان كان العوام الذي مات مرتين " فإني أربأ بنفسي أن تنجرف الى هباب الأزقة . الأفضل لي ألف مرة أن أُجنزر أقدامي بالأسلاك الشائكة وأن أحفر لي خندقا لي في حجرتي وأن ازهق هذا الاتساخ " الروح " خارج القصبات الملتهبة والمتورمة ..ان ذلك أفضل لي حقا ، بل انه ينطبق على مقاس حزني ووقاري في الأزمان ، وشخصي القديم المقاوم . واذا تشبثت بالذاكرة المعطوبة فان على السجين أن يتحرك ، فمقتل أخيل في كعبه ومقتل الحبيس في تأملاته وصفناته ...إياه وإياي من الجلسة الكسيرة والإنكفاءة اليتيمة ..عليه أن يفعل أي شئ ..وعليّ أن لا أعود الى الماضي ، الى الطاولات ، الى الأصدقاء في فضاء الحانات والحجرات وسماوات دول نأيت اليها ، وآفاق صراع مشترك ! . عليّ مجانفة الأوجه الحبيبة من دعاة السلم المزيفين ، عليّ أن لاأرسم الأميرة الجميلة تلك التي اصطنعت الفقر وادعت الإنتماء الى المعدمين والتي كشفت عن وجهها أخيرا فاذا بها أفعى بمكياج السحرة وشعوذة الدجالين ، واذا بها السم الزعاف الكامن فينا ،في نبض قلوبنا . هنا عليّ أن أنشغل أو أتشاغل كيما أُوقف تيار الذكرى الجارف ...ان الاستجابة له يعني صالة للأمراض النفسية . ان التمعن في الأمس يعني الأطباء بأردية بيضاء وابتسامات الحنان الاصطناعي للممرضات ...يعني التشمس أمام المستشفى الواسعة والجلوس على مصطبات الممرات والأروقة العريضة ...ان التسلي والتلذذ بأطياف الأعوام الماضية ، يعني صراخ الحجرات في المصح المثخن بالمخدرات وأقراص النوم والأحزمة والأجهزة الغريبة . هنا الحياة في بيتي ... في صالتي ، وأما المستوصف ذاك فهو عتبة للموت . هنا عليّ أن أتنفس هواءا من النافذة ، واطل برأسي على الأخضر في حديقتنا الصغيرة ...وأن أتأمل ولو بحس باكٍ تلك القطرات الناعمة على أوراق الشجر .وهنا أسير مع غيمة سابحة ولهفة حارقة في أعماقي لبقعة زرقاء وسط السحب ..هنا أتمازج بين الإرادة القوية والذوبان .لابأس ، هنا يتماوج الجمر في صدري ، وأقول في دخيلتي :- لأَشعر بأن مايعتلج في داخلي هو الصدق ! وما الفعل الإرادي والاندفاع لمقاومة المرض أو الحالة إيّاها الاّ كذب وتغليس وإهانة للذات . وهنا أُلقي بنفسي ثانية على الكرسي العريض وسط الصالة . وأشعر بالحقيقة المرة والتي يجب أن أعترف بها هي أني مصاب . ! أنتهز الصمت وغياب العائلة كليا ، فأضع رأسي بكل لهفة على كلتا راحتيّ وكأني اعانق الحبيب وأتوغل في فضاء الماضي وأراهم جميعا فأجهش وأيما جهشة بالبكاء ! . بكاء لذيذ يأخذني الى واحة للعيون , فأنتهل هناك ، وأشرب ، وأرتوي ...وأظل هكذا مادا رقبتي مثلما تفعل غزالة مخربة الجسد محطمة الأقدام ، على ساقية ماء ، وعيناها..عيناها تلك الجميلتان تظلان في عتاب كليم لبراعم الورد الطالع للتو ، للأريج المنبعث جديدا لصباحات ندية . تظل عيناها في عتاب طفولي مرسوم على سحنة ملطخة بلون أبيض يشبه الشيب . سحنة خاشعة وماثلة في سكون مسجى كأنه جسد العليل المهجور في رواق من أنين طويل ، تظل سحنتي منبوذة ، وحيدة ، ومطلوب عليها القبض من الماضي ، من أنياب وحوش وطيور كاسرة ، من أحبة قتلة ... من مصحات وأقراص كآبة ، من بوابة سوداء اذا دخلتا الغزالة أو الطفولة ، أو الروح ، غابت وأطبقت الباب ثانية ، وعم السواد وأسدل الليل سدوله . الصالة على وداعتها ، وللهدأة دبيب سرمدي وإضاءة حنون ترين على أغصان الدمقس بذريرات دافئة من ذهب الشمس ، وأنا ، أنا الوحيد المحارب القديم الذي يقتعد الكرسي الوثير متأملا الجمال وهو مثخن بالقبح ، متلذذا بالسلام و" صمتي معركة " . أنا أخطر من جنرالات بينوشيت على نفسي ! أُبسمل بآيات من الدين كي أمنح القلب دفئاً ! بينما أنا دراكيولا آخرتي ودنياي . قف معي ياالآهي .
فيزوف آخر
على الطاولة المستديرة ، كنا أربعة أنفار نرتدي الأسود ...أنا وثلاث نساء . نرفع بأيدينا أوراق اللعب ..وكنت أمتلك أكثر الأوراق خسارة لكني اطلق ضحكات موزارتية الرنين . كانت ذات الثوب الأسود المغيبي ، شقراء الشعر وقد عقصته الى الخلف فبدا أدعى للتقبيل . شعرات رأسها متسقة وحنون ، أُحس وأنا أتطلع اليها بأن روحي تتململ عند حنجرتي . انها امرأة عطيرة بلا عطر، مهندمة الملابس كأنها مضيفة في طائرة ، دافئة الصوت ، عيناها تشعان بالضياء ألأصفر أو انهما شلالان للعسل النقي .. قامتها أقرب الى الطول ، رشيقة في قامتها ومنطقها ومجلسها . يدها وهي تمسك الأوراق بطريقة سحرية ، تبدو وكأنها تقرأ البخت . حلمت وأنا أتطلع لها بعضا على بعض وكلا على كل، بأن أستحيل الى قبلة سوداء مكان هذا الثوب . ان شميم ثوبها هو الملخص الجامع المانع لسني عمري . كان رأسها معبأً بديناميت دمع موقوت وغير موقوت . كانت تفيض ِبِبركة من ألوان الورد الطافح على سطح الماء ، وهي تتذكر حبيبها الراحل لتوه والذي صعقته الذبحة القلبية وأردته قتيلا برصاصة من الداخل ..كانت تلعب معنا مخدرة أو محنطة أو ناسية بفعل الأقراص .. مابين لحظة واخرى تتطلع الى النافذة المطلة على درب طويل يعج بالغبارأوالعواصف الترابية . كانت الاخرى ذات وجه مغولي ، قد جيئ بها للتو من مستشفى في زمن حصار . لادواء هناك ، لا أقراص لاحجرات نوم ، لاصالات لعمليات صغرى أو كبرى ، لا أطباء ، لاممرضات . لقد دخلت هي المستشفى من ممر وانتهت بعد ساعات من ممر آخر لتجد نفسها قرب الباب الرئيسي ثانية . لقد أشفق عليها حارس المستشفى اياه فاوصلها لنا ، ولما رأتنا على حال من التخدير ، اندمجت في مسلكنا الباهت والساكت ... ها هي تقتعد الكرسي الى جانب الشقراء ومن دون أحاديث ، أخذت تحرك اصابعها بتردد مرة وبرغبة مرة اخرى ، تحركهن على الأوراق الملقاة على الطاولة . بعد ساعات من جلسة فاحصة لوجوهنا الصفراء ، ضجرت هي وقررت أن ترفع الورق الى وجهها ولكي تغيب في نظر اعشى مابين اشكال وارقام . أما الثالثة فقد كانت شاحبة ، عيناها كورد الساعة ، حزينة ، مقموعة ، خارجة من أتون قتال يومي مع ذاتها وزوجها وأطفالها ، وزملائها في العمل ورفاقها في الحزب ، وجيرانها ، وهي عصا خيزران قوية ، صلبة لكنها لاتكسر من قبل أي صلب سواء كان فأسا أو انسانا .. لقد كسرها شئ واحد وألقى بها الى جانبنا على هذه الطاولة .... وهي مجهدة بتعب الأعوام ، وقد وخط الشيب شعرها للتو ...دامعة العين لأثر ما قد مس حياتها ( الآن) بالخراب ، لتورم قد أصابها حديثا في أجمل بقعة من جسدها ، في ثديها الأيسر . ورم خبيث أسقط بقوة أعصابها بل مسح بها الارض والسماء ، فغدت حزينة مخذولة ، ولعل هذا الحزن والخذلان قد ران على شخصها فأكسبها الهدوء والصمت ، ولذا سحبت كرسيها لتقتعد مابين المغولية الوجه والشقراء ، قبالتي تماما ، وهي تراقب جلستنا بعنجهية قديمة وبلا مبالاة جديدة .... عرفت اللعبة ، فتناولت الورق وقد حاولت أن تسأل عن مغزى جلوسنا هنا ...وما الذي حدث بالضبط ...المغولية حاولت الإفصاح عن أنها جُلبت من بابل وقد استشرى الداء لكنها وهي على سديتها في الطريق الى بغداد ، قد أسلمت الروح . والشقراء ...ظلت تتهاطل بالشذرات حتى حفر الدمع اخدودا في وجنتها ...وهي ذات اصراروقرار تام بانها ستموت من خلال مقلتها . وانا ابتلعت على مدى 58 يوما ، اقراصا ضد الكآبة.. وعندما تعادلتُ داخليا ... لم أجد رغم الثلوج وتهاطلها داخلي أكثر دفئاً من الجلوس قرب أُمي المغولية الوجه ، وزوجتي المصابة بسرطان الثدي ، وزميلتي الشقراء الباكية على حبيب عمرها المغادر ... ومن المغادر ؟ الحبيب أم عمرها أم كلاهما ؟ .
في المكان اياه ..حدث أن تحطمت النافذة فجأة ..مما سبب اندلاعا حادا لها باتجاهنا وصحيح اننا فزعنا لذلك ، الا اننا من الناحية السكونية أو من حيث ( ميدوزا ) التحجر ظللنا مكاننا على ذات الكراسي ، متكئين منحنين على حافة الطاولة ، نحمل ورق اللعب وقد التفتنا جميعا الى اندلاع النافذة فاذا بالرمل البركاني الذي تحسسناه ونحن نحاول درءه بعد فوات الأوان ، فاذا به يغطي أجسادنا ويمنحنا ثبوتا سرمديا ، صمتا أبديا ، واذا به يستبق المثّال العالمي( رودان ) في حدسيته الدرامية . هناك ..هناك امام طريق لامتناه من الغبار ، وتحت رمل البركان ممسكين بأوراق اللعب ، وصامتين في الزمن . كلٌ له سرطانه ونظرته الذابلة ، ومدفنه الذاوي . كل له عمقه المترع بالدمع والدواء وشحوب الكآبة ، وقد غطاهم الغيب.
* لقد حدث ذلك ( حقا وفعلا ) في يوم 24/8/1996
اللوحة والهاوية
إنه مجرد بيت للسكن.. لازوايا ضوئية ، لاديكورات في الأرجاء ، لالوحات تغطي المساحات الكدماء والواسعة للجدران ، والتي تبدوأحيانا لذوي الإحساس الرقيق منا ! مثل صفعة موجهة من يد الخواء. والجدار كما كنت أتأمله ، عمق في الفضاء ، وهو وإن كان فضاءا اسمنتيا ، الاّ أنه يعطي للعين رغبة كامنة وغامضة بالسفر ...سفر المخيلة في سماء بلا سحابة أو ركام ! لكن الى متى والجدران خالية ؟ هناك عشرات البيوت التي دخلناها ، وبضمنها الفقيرة أيضا تعلق على جدرانها صورة أو خارطة أو لوحة صغيرة أو كبيرة وهي تمنح الزاوية الخالية عبير وردة على منضدة أو زينة ما على باب أو عتبة أو حاشية شباك . الاّ بيتنا المسكين الذي يذكرني بأصل العائلة ، يذكرني بأيام بغداد عام 1958 وحيث لايوجد في أرجاء البيت سوى الضروريات القاحلة ! .. اليوم غدا الإحساس بالجمال شبه ضروري ...لابد من زخرفة أو خربشة جميلة أو فوضى منسقة أو أي تعويذة اخرى ...صحيح ان الترف أدعى الى التزخرف والتقرنص! والفقر أدعى الى سد الرمق المجرد . لقد ظلت الفيافي بلا وميض نجمة حائطية ، الاّ اننا وبعد 25 سنة من زواجنا ، وبسبب من الحاح الأطفال ، رأينا أن نضع تلك اللوحة الكمالية الضرورية ! فالجمال هو الجانب الأشرق من حياة أطفالنا الذين يعيشون هنا في الدانمارك وفي نظام مدرسي قائم على تدريس التاريخ المثولوجي والفلوكلور العالمي والتقاليد الإستطيقية وجماليات اللون والسحر والشعر والمسرح ، وبذا ، وعلى ضوء ذلك قررنا بشكل غير معلن أن ننتقي لوحة كبيرة من سوق المدينة المركزي ( اوبس ) الذي يعلن عن مزادات أو تخفيضات موسمية لأسعار مشجعة . لم أشأ أن أتدخل في إختيار اللوحة، لكن لو طلب الأطفال مني ذلك وضمت الأُم صوتها لهم فكيف سأتصرف ...ثنيت الأمر على جمر ! وأقصد بذلك أن اختيارا من قبلي يجب أن يكون حياديا ، بعيدا عن التذكير بالماضي ، ماضينا أنا وزوجتي !! فلو انني مثلا اخترت لوحة (مونيه في القارب ) حيث أوراد شقائق النعمان لذكرني ذلك بربيع عام 1975 يوم كانت الفنانة ( .... ) ترسم لي على ورق مربع صغير ، أزهارا على طريقة مونيه ! . وكان ذلك على علم من زوجتي التي تتألم لوجود هذه الأوراق معي ...ولو اقتنيت لوحة الديك الرومي الأبيض لأحالنا ذلك الى الريبورتاج الذي عمله لنا المصور السينمائي صديقنا ( ج ) الذي يذكرنا شخصه من قريب أو بعيد بالفنانة إياها ، أما لوحة (الكاثدرائية القديمة) المرسومة في أوقات النهار المختلفة فهي بلاشك تذكرنا بتلك الأيام أيضا حيث كانت الفنانة ذاتها تقدم فيلما بعنوان ( مقتل في الكاثدرائية ) لجان آنوي . وطبعا لن أقوى على اختيارلوحة السحر ( امرأة عارية تعزف الناي ) فأنا متهم بحب العري! .... وذلك يذكرني أنا شخصيا بأنها انتهرتني ذات يوم عندما جاءت الى الزاوية المجاورة لحجرة النوم ورأتني اشاهد فيلما فاضحا ...لقد عنّفتني أيما تعنيف قائلة : الفيلم هنا ضروري لأنه ذاهب أما أنا فمضمونة تحت اليد. لقد تمنيت أن الاصقها وأرى ذلك الفيلم ...كنت أسمع وقع اقدامها بتشهٍ وتغزل وذلك عندما أقبلت الى الحجرة صاعدة على السلم الخشبي ، وأتذكر أيضا البيت الشعري القديم " اصعدي على سلم الهوى ....فأنت الطبيب وأنت الدوا "..وظننت أيضا انه من قبيل الإثارة الحسية او المتعة الصبيانية أن نتطلع الى الفيلم قبل أن نذهب الى مخدعنا المسكين ...لقد فسّرت حبيبتي الأمر على طريقة اخرى. غيّرت قناة التلفاز بل لجمتها بعد قليل..... وذهبت أشرح لها !!!! بل رحت أسترضيها بلا جدوى ..ونمت تلك الليلة حزينا مثل بوم . ولو خُيِّرتُ بحرية أن أنتقي ، لحملت على صدري وبكل حب عميق وشعور بالدهشة ، لوحة (ولادة فينوس ) لإلكساندرة كابينيل . ولم أكن أُحب لوحة ( تناول الطعام في الحديقة ) ! لأنني لاأُحب الصحون والكؤوس الأنيقة ...لكنني ونحن نتجول في السوق المركزي ، لاحظت عيني زوجتي تتأملان لوحة تمثل كأسا مفلطحا ، وظلّت تتأمل ذلك ولربما تمنّت عليّ أن أختارها أو تختارها هي بنفسها ... إن ذلك يذكرني بكأسها المترع بالمشروب الوردي اللون ( كمباره ) حيث كنا هي وأنا مدعويين من قبل مدير الشركة التي تعمل فيها مع معاونه ...كان ذلك في إحدى ليالي عام 1975 - 1976 . لا أتذكر بالضبط متى ! ... كان مديرها يتحدث لها طيلة الأُمسية .. وصحيح أني كنت أجلس الى اليسار منها الاّ أنه ، ياللغرابة ، لم يوجه لي أي سؤآل يذكر بل تركني أتحدث مع معاونه ... كانت هي نجمة الكرنفال في مطعم بهي عالي السقف واسع كأنه قصر فرساي ..كان ذلك في بغداد قرب تمثال ( الساقية والجرار الواحدة والأربعين ) . نظرت لي وأنا احدق بها بألم غامض ، ربما عرفت سر نظرتي وربما لم تعرف ...الاّ اننا تركنا لوحات(مونيه) وتلك اللوحة التي تمثل كأس ( كامباره ). لم نشترِ في ذلك اليوم ، أيا من الرسومات العديدة الاخرى . ظللت في الليل أتذكرالفنانة و (مونيه) و( مانيه ) و( كوستاف كوربيت ) ولوحة ( ولادة فينوس ).ظللت أتلوى مثل حبل يدور على نفسه مئآت المرات ...لماذا اللوحة ؟ وأنا افكر بتهديم الجدار، بتركها وترك أطفالي ، بمغادرة البيت الى الأبد ...بالانتحار، بالاختفاء ، بالسفرالبعيد البعيد . في صباح اليوم التالي ، عدنا الى السوق المركزي ثانية ومعنا ولدنا الكبير ( س) - 17 عاما - دعوناه الى إختيار لوحة ...وبعد وقت يقصر أو يطول ، سمعناه ينادينا من ممرات عديدة في السوق .. لقد راح يشير بفرح اليها : - مارأيكما .. انها جميلة كما أظن ... كانت لوحة حيادية من وجهة نظر ماضينا ! حيادية للغاية ...بحيرة في جو غامض ...ممر خشبي ممتد لأمتار عديدة في الماء ،على جانبيه أعمدة صغيرة تغفو أو تحط عليها بعض الطيور ... وفي الجانب القصي من اللوحة وزتان صغيرتان ... والمشهد في صمت كأنه موسيقى حالمة أوموسيقى كأنها الصمت . دق ( س ) المسامير على الواجهة الوسطية للصالة ، ورفع اللوحة ووازن كتلتها بحيث تبدوالمساحات المحيطة جميلة ومتناسقة ...فرح بقية الأطفال بها ...ابتسمت زوجتي له مطرية له حسن اختياره وجودة ذوقه ...وتنفست أنا الصعداء ...اذ كان همي وشغلي الشاغل هو أن لا أعود الى الوراء ...الى الماضي وعبر إي شئ ملموس ...متجسد ! وأقصد بذلك أية لوحة أو حكاية أو قصاصة أو اسم أو تاريخ يعيدني الى تك الأيام . كنا هي وأنا ، نعيش لوحدنا وذلك منذ سنوات من دون ضيوف ونسد كل الثغور كي لا تتسرب بعوضة أو فراشة بصفة ضيف ..وكنا نعتقد في سرنا أن ذلك أفضل لنا من الحكايا والقصص المشتركة مع أصدقاء ورفاق العمر الخائب وذكريات الشك والاحتمال ...أفضل من إعادة تشغيل الفيلم في الذاكرة فتطل الأشباح علينا ..مدير الشركة من جهة والفنانة من جهة اخرى ومن ثم تسيل الأفاعي وتدب العقارب وتنفلت مشاهد الرعب . كانت اللوحة حيادية ، ولكن لو بقي الجدار عاريا لكان ذلك أدعى للشفقة ! للرحمة ! لراحة البال ! للسلام الذهني ... لقد مرت عملية اختيارها بلا أدنى اضطرابات متوقعة...وهانحن نكمل مشوار التعايش المسالم في الزمن ...ونخطو خطوة اخرى في دعم واسناد جدار بيت ! بيت سينهد بعد أيام أو أشهر أو سنوات . لابد من وضعه على هاوية ! . ودفعه أيما دفعة ! بل اطلاقه في المالانهاية .
هل ستبقى ليلى بلا ذئب ؟..
بعد ان دخل الرجل الى البيت بالسلاح وقام بانقاذ ليلى من الذئب .. أخذت الصورة نوعا ما تزدهي فشحوب وجه ليلى قد خف قليلا وذهبت مسرعة لتشرب كأساً من الماء فقد أحست بجفاف قاتل في حنجرتها . في تلك الليلة علم أصدقاء الذئب القتيل بمايلي : 1-ان رجلاً ببندقيةٍ قد تدخل للانقاذ ..والمفروض ان تظل ليلى وسواها في حالة رعب دائم وان تكون سلالة ليلى من جد الى اب الى ابن مائدةً لتناول الوجبات .. 2-ان ليلى انقذت وستفشي ربما بسر الجريمة أومكائد الذئب وكم من ذئب قد مارس فعلته هذه سابقا . 3- ليلى ستتسلح بعيار ناري او بوعي عال وسوف تتحوط لأحابيل الذئاب . 4-اذا سمعت ليلى اخرى او ليلاوات اخريات بما دار فسوف تتحرر الغابة المحيطة .
ليلتها جرى الهجوم على بيت ليلى وهو بيت كبير وفي كل زواية منه اختبأ ذئب وحيوان كاسر من مؤآزري الذئاب الذين هرعوا من كل صوب وحوب وقد التحقوا بوحشية وحماسة لاتوصف وهم يزحفون الآن باتجاه ليلى والمنقذ .. هجم احد الذئاب ليلا على المنقذ فأدماه لكن المنقذ من طبيعته القوية ، وأكثر من سلاح متطور معه ، قد راح يقتل كل من تسوّل له نفسه التقرب ..مات ذئب آخر وثان وثالث وفي فترة اولى من الليل مات العشرات ..وكان المنقذ قد درّب ليلى وعلمها الشجاعة والاقدام فكانت جديرة بالتعلم ... مرت فترة من الليل مظلمة وقد خاف حتى المنقذ من ان يقتل هو وليلى المتعبة والمرهقة ..صحيح ان ليلى قد شربت ماءً لأكثر من مرة الا ان الماء قد تقطع اثناء الليل وبقيت هي بحاجة اليه والسبب هو ماقام به الذئاب المحتالون والذين كان بعضهم يمتلك ذكاءً شريراً يفوق التصور ... لقد قام احدهم بالتوصل الى نبع الماء ونادى على مئات الذئاب الذين جاؤا يركضون من قرية مجاورة فدفنوا النبع ، ولقد حفروا حفرة حول المنزل فحطموا كل انابيب المياه مثلما صعدوا فوق السقف وبدؤا يخربشون باظافرهم القرميد والخشب وايضا فقد تسبب هذا بقطع الاسلاك الكهربائية . لكنهم لم يتوقعوا من اين تأتيهم الضربات السديدة اذ جاءت اصابات نارية من التل اللصيق بالبيت وايضا لم يعرفوا ان نفقا للامداد قد تسرب الى هذا المنقذ . ان ليلى نفسها استغربت كيف ان بندقيته يتبدل لونها وشكلها في كل مرة ...يبدو ان هناك من يعطيه امدادا سريا وايضا هناك حفر كثيرة مغطاة انطلقت منها النيران ... ان الذئاب ينحسرون ... لكنهم لم يستطيعوا الهرب لأنهم يقتلون باحكام تام وبشكل خاطف . على سبيل المثال : 60 ذئبا جنوب البيت 30 على يمينه 10 قرب نافذة المطبخ ، سقطوا بعد ان ارعبوا ليلى وأثلجوا كل حجيرة في جسمها ..واخيرا (300) ذئبا سقطوا في الخندق في الجهة الأقصى للواجهة . وأخيرا لاحت خيوط الفجر الاولى وقد علم اقارب ليلى في قرى بعيدة وجاؤا بسرعة متناهية وقد وصلوا التل ومن خلال النفق المحاذي قد دخلوا الى القبو ومن ثم الى البيت. ان أصدقاء ليلى البريئة واقرباءها عديدون وقد ظلوا يدخلون تباعا متسللين من النفق حتى مسكوا بالذئاب كلهم تقريبا .. لكن هناك بعض الذئاب في الجنوب بل أقصى الجنوب يحاولون ضرب أقارب ليلى لكن في كل مرة يقف الأقارب بحزم ويبددون شملهم ويجعلونهم شذر مذر .. وفي كل مرة يقتلونهم ويهزمونهم لكن الذئاب متحجرو الدماغ لايفكرون بانهم يخسرون وان مصيرهم الموت . . بعضهم لا عقول لهم ! انهم يرون الموت ويقذفون بانفسهم اليه ... لكن الوقت يتقدم وساعة بعد ساعة تظهر الشمس شقراء جميلة ويقوم اقرباء ليلى باعادة الماء واصدقاؤها باعادة اسلاك الكهرباء ... وبعضهم يأتي بالطعام أمام طاولة ليلى لتأكل وتشرب . ان الذئاب أعداء القرى جميعا وأعداء كل الفتيات الجميلات والأولاد الجميلين لكن للأسف فان اصدقاء ليلى وليلى نفسها لم تتصور ان بين الاصدقاء من اندس وراح يلبس ملابس البشر بينما هم ذئاب وخاصة اولئك الذين يغطون رؤوسهم بخرق وعصّابات واقنعة سوداء من قماش وقد فتحوا فيها فتحتين لكي ينظروا من خلالها ... انهم يحاولون اغتيال ليلى لكن هيهات لأن اقاربها الحقيقين مفتوحو العيون ولم يتأثروا بالسهر والتعب . فجأة واثناء ماكان الطعام موجودا سقطت على الطاولة جثة ذئب من السقيفة مضرجة بالدماء وقد نغص ذلك على ليلى تناولها لفطورها .. كان المنقذ يقظا حقا ويدافع عنها ويتزود بالعدة والعدد ويزود الآخرين بالمؤونة ... انه هو الذي قتل الذئب الساقط من السقف الى الطاولة ... انه حذر جدا ومتمكن. وهكذا راحوا بعد ان ظهرت الشمس يمسكون بالذين يضعون الخرق الوسخة على رؤوسهم ! ويدعون انهم اصدقاء بينما هم ذئاب تزودهم قرية من جهة الشرق ، او الذين يرتدون على رؤوسهم طاقيات زيتونية اللون فهولاء ايضا قذرون تقطر شفاههم بالسم الزعاف وتساعدهم قرية من جهة الغرب !... ان الشمس التي ظهرت قبل قليل قد فضحت كل هؤلاء ... وقد مُسك بهم ورُبطوا وهم الان يقرفصون امام بيت ليلى لكن الخوف ان يترك المنقذ البيت ويذهب الى اهله ... المشكلة ان بعض الحراس من الشرطة هم اصدقاء الذئاب فلربما يطلقون سراح بعض الخطرين منهم ويجعلونهم يتسربون الى داخل البيت فيجهزون على ليلى ويقتلونها .. ان قتل الذئاب في النواحي القريبة والبعيدة الآن جيد جدا والتمشيط الذي يقوم به اصدقاء المنقذ واقرباء ليلى ممتاز .. لكن الخوف من اقارب ليلى فبينهم يختبئ الضباع في هيأة شرطة وحراس وحيوانات اخرى بلون زيتوني قديم كالح كأنه القيئ قد تقمصوا بهيآت غريبة توحي بالأمان لكنها صفراء كامدة الالوان تُذكّر بانها كانت ضالعة بجرائم قديمة وسفك دماء ودفن موتى واحياء...والمشكلة ان المنقذ قد عين واحدا من الحرس القديم مساعدا له !!!!! والحرس القديم ياستار وياحفيظ قد عاش في كنف جريمة الجريمة !!!! المهم الوضع غائم لكنه يتكشف رويدا رويدا والنتائج لصالح ليلى الا ان اللغط كثير وهو ان ليلى قد اعتدت على حيوانات الغابات وان الذئاب لم يعتدوا ابدا وان جدة ليلى لم يأكلها الذئب بل هي ماتت بالسكتة القلبية ! وان ليلى ليست بريئة بل هي متواطئة مع الصيادين وقد جلبتهم الى هذه المقاطعة . انقطع الماء مرة اخرى .. وانطفأ الكهرباء عندما كانت ليلى تتمتع بهواء المروحة لكن كل شي عاد بعد ساعة ومن ثم انقطع وعاد وانقطع وعاد الى ان غدا ظاهرة طبيعية . لم يستطع ان يقضي المنقذ لحد الآن على الذئاب التخريبية حتى وصل الحال بقول بعضهم ان التخريبيين متواطئون مع المنقذ نفسه وان ليلى مستفيدة من جهةٍ اخرى أي انها تريد ان تكون ملكة الغابات وان الذئاب يساعدون المنقذ بوجودهم حتى يبرروا له بقاءه فترة طويلة في بيت ليلى. ولسان حال المنقذ يقول – الآن وفيما بعد -لا اخرج من البيت حتى اوفر الأمان لصديقتنا ليلى وهكذا بقي الحال بين جر وعر، ماء يأتي وماء ينقطع كهرباء تنير وكهرباء تنطفئ ... صحيح ان المنقذ زود البيت بموتور لسحب الماء ودفع نقودا معتبرة لذلك وايضا للمولدات الكهربائية وجلب مأكولات لذيذة لتتمتع ليلى بطعام شهي ووضع لها الاغاني الجديدة والتلفاز والساتاليات حتى ترى العالم وتطلع على آخر افلام الكارتون! وايضا اشترى لها جهاز التلفون المحمول لكي تتصل بأقاربها في قرى بعيدة ... وان ليلى بدأت نوعا ما تشعر بسعادة لكن مع السعادة غصة . انها حقا غصة وخوف دائم يشبه المثل القائل ( جاءك ابن آوى جاءك الذئب ) ومرت الساعات ولكنها ساعات تأمل وأفكار متضاربة وتحليل وعذابات داخلية والصورة متعبة ومتناقضة : فالشمس تتألق والخوف متزايد . الدماء تنبعث والنسمة تتعطر! ومافائدة الشمس والقلب مذعور ، واعياد شم النسيم والرعب في كل خطوة . ما أشبه اليوم بالبارحة والأمل بالغد ! سابقا كان الذئاب يرعبون ليلى واليوم الذئاب ينامون ربما تحت سريرها او في السقيفة او يتقمصون صورة صديق حارس في الباب او هو نفسه الذي يحمل لها الطعام .. وهكذا مرت الايام فلا الذئاب يختفون نهائيا ولا المنقذ يغادر! فاذا غادر المنقذ الآن أجهزالذئاب عليها واذا بقي كان مبررا لاستعادة وترتيب الذئاب لصفوفهم . وتطور الحال الى معضلة . ليلى بريئة وهي فوق الشبهات لكن لماذا كان الذئب الأول موجودا في حياتها ! ومن أتى به الى المنطقة ولماذا جاء المنقذ بصفة المخلص ؟ اسئلة واسئلة دوّخت رأس ليلى وهاهي تتألم كل يوم وترى الدم ينبعث بتدفق على زجاج النوافذ وعلى اغصان متدلية واحيانا يسيل من تحت دواليب خزانة النوم وذات مرة رأت الدم نازلا من غيمة وأيضا رأته يجري وراءها مثل بحر هائج ...دماء ..دماء ..دماء .. وضعت رأسها على الوسادة وكان المنقذ يقف قرب بابها فهو في نظرها ليس من الذئاب على الأقل لكنها وهي تغفو تراءى لها انه هو الذئب الأول وان الذئاب أصدقاؤه ! فذعرت لأن في ذلك بداية الانهيار العصبي وعدم الرؤية والسقوط في هاوية الحلم واليقظة .. انها هلوسة .. راحت تجهش ليلى بالبكاء وكان جسدها يهتز هزيزا هستيريا لكثرة ما عانت من الخوف والحذر . لايزال المنقذ حارسا ولذا راحت تغفو آملة ان تصحو غدا فلا ترى الذئاب ولا الحراس ولا المنقذ .. قالت وهو تغفو: - أه ياليلى يالسوء طالعك هل يجيئ يوم تسيرين فيه في الغابات بلا ذئب وتنامين في حجرتك بدونه ... الربيع يتألق وطال ظمأي الى أغاريد الطيور والى مياه جارية من أجمل واعذب الينابيع ويومها اقول .. طوبى لك ياليلى لاذئب بعد اليوم يلصقون اسمه باسمك . انت تلك الفتاة البريئة وروحك هي روح طلع النخيل وقمر السمر المطل على ضفاف الانهار وكل الحسن والجمال وأما المحيط الحالي فهو ذئبوي وان المنقذ لو كان رجلا حقيقيا فان عليه ان يطرد الذئاب بأقصى مايملك وبعدها يغادر فورا .. وعلي أن أشكره لكن اذا بقي في بيتي وفرض عليّ انقاذيته لي وتخليصه الدائم لي من الذئاب الباقين بسبب عدم حسمه وعدم جديته فعندها لابد من ان ادافع عن بيتي . ولكن كيف .. تلك هي المسألة . قالت ليلى ذلك وفي كل لحظة تخامرها فكرة وفي كل هاجس يخايلها حلم وهي تتقلب على الوسادة ... انها نهب الكوابيس ، تمر بها اصوات مرعبة واخرى حزينة كأن نساء عديدات يبكين طيلة الوقت على ابناء بمئات الالوف قد اكلتهم الذئاب .. من يستطيع تحمل سماع مائة ألف امرأة تبكي ... ولذا تستيقظ ليلى من كل كابوس وهي متعرقة صارخة . وذات يوم هرب الطبيب القادم الى البيت فقد هددته الذئاب فقرر وهو في الطريق اليها ان يعود ادراجه بل انه لشدة خوفه من الذئاب قد قرر ان يحمل اغراضه ويهاجر الى قرى بعيدة ومثل ذلك فعل المعلم الذي جاء ليعلم ليلى دروسا في علم النفس وليساعدها نفسيا عوضا عن الطبيب . ولم يستطع أي شغيل ان يأتي الى البيت ليقدم خدماته فقد مزقت الذئاب ثياب كل من حاول المجيئ وادمت قدمه فراح يهرب بأقصى مايملك من قوة ومن يومها لم يعد الى البيت ... ظلت الأزبال والروائح الكريهة .. لكن ليلى وهي تتماثل للشفاء من صدمات نفسية ونوبات بكاء قوية، قد قررت ان تعتمد على اصدقائها واقاربها فراحت تنادي وتهيب بهم أن ينقذوا الحال فلايمكن أن يظل الوضع على ماهو عليه ...تحدثت مع الناس الطيبين وحشدت جهودهم بضرورة البحث اولا عن الأعداء والجواسيس وسحقهم ومن ثم انزال القصاص بالمسجونين . ان الذئاب لايفهمون سوى لغة الموت وقد حوّلوا بدايات فصل الربيع الى نهر دم جاري .. قالت ليلى علينا ان نعمل من أجل ايجاد حل جماعي للمشكلة ... اخذوا جميعا ومعهم المنقذ يهجمون هجمات الموت على الذئاب التي لاتفهم سوى هذه اللغة . ولقد قل عددهم حقا وبدأت ليلى ترفع رأسها فخورة بقدرتها على الاهابة وشد الأزر والعمل الجماعي .. بدؤا جميعا بالتنظيف والحراسة المنظمة وتوفير المياه وحراسة اسلاك الكهرباء .. وقد اتصل الكثيرون من قرى مجاورة طالبين المجيئ الى البيت والى المقاطعة فهي مشمسة وفيها مياه عذبة . لقد قرر الجميع من كل القرى ان يأتوا فلا بد لهذه البقعة ان تكون مؤتلقة بجهود الحراس والاصدقاء الذين سيلتقون بأهاليهم الذين هربوا من الذئاب والذين سيأتون هذا العام فهم بالملايين .. ان الأرض خصبة والقلوب طيبة والجيران - في المقاطعة - من أحلى الناس ولولا الذئاب لظهر من هذه الأرض ناس طيبون وأذكياء وعلماء .. لكن الذئاب هم السبب في قتل المواهب . راحت ليلى في كل يوم تحلم بان تعمل قطع الكعك وتضعها في السلة وتمضي الى امها واهلها واصدقائها وهي بملابس جميلة وخفيفة كأنها ملاك سائر في البستان ومن دون ان تضع على رأسها قلنسوة او طاقية اوغطاءا تركت شعرها في النسيم يتطاير وقد لعبت بخصلاته هبات العطروتساقطت عليه حبات ناعمة من زهر ناعم .. الشمس رائعة والتغريد بأنواعٍ كثيرة ولاتوجد هنا نغمة واحدة مثل عواء الذئاب ولا لون واحد مثل ذلك اللون الزيتوني ولا برؤوس مغطاة يتسيّل منها العرق وتتخمر تحتها الرائحة الكريهة .. هكذا مثل فراشة في نسمة راحت تتمايل ليلى في دروب قريتها الزاهرة من دون ذئب . انه حلم . .... مجرد حلم قابل للتحقق ونغمة فرح لا يمازجها حزن : انها نغمة طفولية راحت تملأ الطريق بالمرح وتلثغ بالدندنات : تره لل لا .... تره لل لا .. لم لم .. لم لم .. لملم لا .. طيرٌ نعمٌ . زهرٌ نعمٌ .. ذئبٌ لا .. لملم لملم لملم لا ... دجله حلوه ... شمسي غنوه .. والزيتوني ماأهواه ....قلبي ازهار البستان ...قلبي مغرم بالألوان ..... تره لَيْ لَيْ ... لَيْ لَيْ لا ... تره لَيْ لَيْ ...لَيْ لَيْ لا . الزيتوني ما أهواه . وراحت ليلى من دون ذئب.
عرس عراقي على يخت انجليزي
لا حاجة في تلك الليلة الى قمر ، فالنساء النبيلات أقمار ، والعزيف المنبعث من أحدث الأجهزة يدوي في المكان فتشتعل الأجواء وتنطلق الأقدام في دبكات وقفزات وتهدجات عاتية . النسيم اللندني الهاب في ليلة حزيرانية يمنح دفئا في الدم والروح ويشيع الابتسام . كان العريس وعريسته قد تصدرا الجهة الأمامية من اليخت، بديا مثل مايحيطهما من باقات ورد . لم أنشغل بالعريسين كثيرا فهما في خلدي سعيدين وكفى بالسعادة ظلا . كنت منشغلا بحركة اليخت . الليل على أوله وأمامنا مصابيح المباني المتألقة وفوقنا نجوم السماء .والنسوة النبيلات يشيعن النجومية أيضا. تلافيف دماغي الطفولية كانت صغيرة على الحدث وكبيرة عليه أيضا . كثير عليّ أن أجئ الى لندن وأنقذف في القلب من قلبها وجمال الجمال فيها ! وها أن أرتقي الى ابتلاع سفينة ! . حواسي تتلذذ وتنكفئ صغيرة وكسيرة . أيضاً فهذا العدد المتأجج بالابتسام والحركة والوثوب الهيليني والفرح الالوهي ! كيف يقوى على تأجيل جرح المنافي ؟ ، ووضع مأساته في ثلاجة!..... لكن لا . يعود دماغي مرة اخرى كبيرا على المشهد ، أو على الاغتراب ليقول : ان الحياة أقوى من عشرات الالوف من المقابر . أقوى بطاقاتها من صلابة الحجر فلكم ثقبته قطرة ماء ، وكم استنبتت حبة زهرتها في جوف خوذة ، ولم يكترث الطائر الولود فبنى عشه في فوهة مدفع . كان وجهي المترب بغبار بغداد جديدا على الغنج اللندني . قبل أشهر قليلة كنت في بلدي الجريح والكسيح العراق . النسمة اللند نية تهب من أول الليل على الحضور الرومانسي ..... نسمة التايمس يمكن أن تمسح الغبار البغدادي المنغرس في مسامات وجهي ، لكنها لن تقوى على محو تراب وطني من أعماقي . تراب ممتزج بالدموع . وحل شرقي هو أنا . ياالهي انقذ ني مني . لقد عدت الى بذاءتي ، الى الاحساس الباكي . التفت تاركا تأملاتي المهشمة المتطلعة الى ساعة بكبين الشامخة ، ناظرا الى صخب غنائي راقص ، قوة الكلمة المحلية فيه ( العراقية ) تعطيه حافزا روحيا للتفجر والتعبير الجسدي الفيزيائي وكأنه يريد توكيد الذات ودحر الألم على مداوس الأقدام ، ولكن من أين لي أن أفوز فوزا عظيما وأنا على هذه الحال من خراب المزاج وتراكم العلل والأوجاع . هناك في نهاية اليخت جلس العريسان ، ( نورا ) المكللة بالأنوار هناك . كانت أبهى من الليل واليخت والغلاف الكوني من مصابيح العمارات الشامخة والنساء الأنجم الراقصات على ممر اليخت الواسع الطويل . كانت لروعتها محط أملي بأن تكون زوجة لابني ! وهذه هي احدى الانكسارات الناعمة التي يداعبني بها القدر مابين حين وآخر بأن يأخذ مني ماأحلم سرا بالاتيان به. - البار مفتوح ...تفضلوا . امتد وجه ما من غيمة الصخب الغنائي وزحمة النجوم ، ليخبرنا بمفتاح الليلة السري أي ساعة الصفر : انفتاح مصراعي البار وكلمة ( مفتوح ) يعني ابدؤا حرب المتاريس ! كانت الاغنية تترافق مع دربكة عراقية شديدة اللهجة " شلون ردح العماره هيج وهيج " تتداخل في فيزياء الجسد لترعشه جنوبيا أو جنوباويا ! واذ ابالجنون ينفلت من عقاله ! قد زاده (ردحا) انعطافات الصوت العراقي الصافي والمجلجل ، وكأننا لسنا على نهر التايمس بل في الكرملية أو هور الصحين أو الجبايش " خلي عيوني تبجي....على المشوا بالليل ...ماأكدر احجي...ولفي هجرني وراح ...شالوابليل وتهت منهم ...ياليل دليني بظعنهم . " وهنا يختلط الفردوس المفقود ( العراق ) بدمعة فراق الحبيب ... عاشقا هجر ..أو أخا سافر أو ابنا غيبته السجون أو أبا طمرته المقابر الجماعية أو سواها " نغم ..نغم .. نغم كأنه لسرعته وحلاوته الممتزجة بالغرابة ، بالفجائعية ، حريق لندن وموسكو والقاهرة ! فيضان بغداد وخراب البصرة وسبي بابل . راح الصوت يندفع بالدربكات الرهيبة " مثل الوالدة الفكدت ولدهه ...اتدور اعليه كل صبح ومسيه ...ولك لا لا ...ولك لا لا .... " " العب ..العب .. العب " ومابين القرب والنوى ، كما يقول المتنبي " مجال لدمع المقلة المترقرقِِ " وهنا ترتقي جحافل الحزن العراقي في اندفاع جهنمي وكأنهم غجر يصعدون الى السماء . كان أحد الرجال التقاة ممن جلسوا بجانبي ربما تحاشى كثرة قناني ابنة الشعير وكؤوس الجمر على الطاولة . وأنا الآخر لم اخيب أمله فقد قررت أن أحترم الطقوس الخارجية وأن أكون صادقا مع رغباتي السامة ! بأن نهضت وجلبت كأسا من عصير الليمون الأصفر الملغوم بالوسكي ! ابتسمت ( ذر ) لما فعلت ! فقالت ممازحة بتقليد لهجة مصرية : ( أنا عارفاك ياود ) تذكرت احدى عدوّاتي من نسوة والدي الكثيرات التي تقارنني بابنها الذي يستحي من خياله ! والتي تقول بأنه ( جوز امخشخش ) أما أنا : ( تين امطبّق ) . تذكرت أيضا الفارابي الحبيب على قلبي . الفارابي ماالذي جاء به الآن ؟ هكذا لقد وردت صورته في خيالي وهو الفيلسوف الطهراني الذي يتألق في خلواته الفكرية والروحية في جنان دمشق ليضع زجاجة الحبرالأزرق والأحمر أمامه ! ويبرر ذلك قائلا :
بزجاجتين قضيت عمري وعليهما عوّلت أمري فزجاجة ملئت بحبر وزجاجة ملئت بخمرِ فبذي ادون حكمتي وبذي ازيل هموم صدري
وظللت أكرع كأس الليمون ..حزينا من جهة ساخرا من جهة اخرى ، لاعنا حبري وليموني الملغوم ، والاغنية تزيدني تحليقا نحو غباري الذي ملئت منه رئتي من بغداد قبل أشهر. وأقصد غبار الزعفرانية بخصائصها التربوية والكلمة هنا مشتقة من التربة ! الممتزجة بالماء الآسن الوسخ والقمل والدود والنفايات وبقايا بتر الأعضاء المدفونة تحت منطقة تدعى الشيشان ( فرع زعفراني عصري ! ) التي قضيت فيها ليالي الرطوبة وانغام والبعوض السام وطوفان الشوارع حيث الاطفال يمخرون في خبطة نووية من زرنيخ الأزبال وحواسم الأوحال. الزعفرانية المختنقة بدخان المدافئ القديمة والمحشورة بأفراد عوائل مكدسة على بعضها . لماذا تتشامخ في ( نظري الغثياني ) وعلى ضفاف التايمس سواقي الماء الآسن الذي ينسرب من عتبات البيوت ليفيض على عمارات الليمون الانجليزي بدموع عين كحيلة وبغداد قتيلة ؟ . هاهي خيوط كحلية من ( أسينة ) زقاق زعفراني تبرق بالشرار على جسر لندن ( لندن برج ) ! ها هي كتابات الحائط تنبعث كالألعاب النارية الى هنا! تنبعث من بقايا الخرائب المليونية الحجرات في معسكر الرشيد المهدم يكتبها كومبيوتر الغثيان حرفا حرفا ( ا ل م و ت لهدام ) . ( ا ل ب و ل للحمير ) . ( سقط الوغد عدي ) . ( زال حكم التتار ) . ( أحسن عرق عرق فطومة ) . ( كلا للحزب الواحد) . ( الصحاف عفطي وعلج ) . اواه يانسمات بغداد ماتزال في روحي ... كان أبو شاكر يحثنا على الاسراع للخروج من أحب منطقة فرح وسعادة في حياتي . من انعطافة جميلة هي قوس وقزح العمر . من جهة المكتبات التي استرخينا عندها أمام ( كيت كات ) سابقا ...واليوم هو مكتبة . أمام مرطبات فلسطين أيام زمان . عند مقهى المعقدين في بداية شارع السعدون . من هناك وعلى الجانب المتاخم بمحاذاة جامع الاورفلي ، سمعنا صوت اطلاقات الرصاص . ورأينا تراكم أعداد غفيرة من المتشاجرين . كان المؤذن يؤذن لصلاة العصر .. حي على الصلاة ... حي على الصلاة .. كان قد سقط أحدهم على الأرض برصاصة. رفع الآخر أقدامه وراح يسحل به على الرصيف متوغلا في منعطف ووراءه تهرع أعداد تتزايد . خربوا المشهد الجميل لحنين عمري .. لكم حلمت في مغترباتي بهذا الشارع ... الآن وبعد 24 سنة و8 أشهر و15 يوما من الفراق، ينادي عليّ أبو شاكر بأن أهرع معه من المكان ، لا أعرف أي شئ عن امكانية مايفعله اطلاق نار ونحن على بعد 15 مترا . لكن أخي ستار وهو عسكري متقاعد قد أخبرني بخطورة الأمر فذهبنا من هناك . أكثر من عقدين من الاشتياق والرصاص على أشده... لماذا يالهي لماذا ؟ أمام عمارة الفارس قرب الشركة العامة للسيارات أيام زمان ، كنا قد جلسنا ومن خلف ظهورنا جسر الجمهورية وعلى يميننا تلوح لوحة الفنان الخالد جواد سليم . والمنطقة خالية فلا سيارة تطل من شارع الرشيد وذلك لأن عنقه القريبة من باب الشرقي شبه مغلقة ، والذهاب الى شارع أبي نؤآس مشوب بالخطورة وكثرة السراق . قال أبو شاكر مرة اخرى : - نحن في منطقة خطرة . الخوف يمنع الشاعرية ..الآن وأنا أجلس في ذات المنطقة ( منطقة باص المصلحة ) حيث كنت ألتقي بالحبيبة . انه معبد أحلامي واحتراق حواسي . كم من اللوعة للحنو على جثة أحلامي التي مزقها الفاشست ، أحنو هنا وأبكي من الروح لا من الاجفان ، لكن اخافتي من أبي شاكر وأخي ستار أجّل لديّ ميكانزم الوجد . هااني مأخوذ من أحضان الام بغداد أي مثلما ذهبوا بالطفل في فيلم الامبراطور الاخير . مأخوذ من كيت كات ، من أبي نؤآس ، من بداية المهرجان الجميل لشارع السعدون أيام زمان ! شارع حبيب على قلوب كل العراقيين . كانت صورة الجثة التي سحلوها على الجانب الآخر ، والصراخ والسباب البذئ ، مثل يدين تعجنان في تلافيفي ولكن الظهير اللندني لجلستي في يخت العرس كان له فعل ضاجا في الرأس ، في صورة عاصفة من خيوط دم القتيل البغدادي وأغاني فنانينا العاطفية ( الولد يمه الحلو ...الحلو يمه الولد ...أوف منه منه منه ....شلون ابتعد عنه ...عنه عنه عنه ...) درابك درابك درابك مثل زفة رصاص وهلاهل ..." ...ثاري البنات أشكال مثل الجفافي ...بيهن تخون ابساع بيهن توافي ..." وهنا بدلا من أن تمر الاغنية العاطفية مر الكرام راح دماغي الكليم يسيّس حتى المفردات الصغيرة والعادية لاغنية عاطفية بأن يدخل طقس الوفاء بعد أن استمع لكلمة ( بيهن توافي) وراح مثل ( دون كيشوت ) يحارب الخيانة ويدخل معابد الوفاء اياه ويعود يتذكر العراق والاخلاص له حتى الموت . ان الحياة برمتها في المنافي لحظة اصطبار ضد ماهو فاشي ومن أجل عناق الوجه الالوهي للبلد الحبيب الذي مابدله ( بابلو نيرودا ) بالجنة. بابلو العظيم القائل : " رفعوا الشاعر للفردوس فقال آه ياوطني ثم مات " . وهنا انتبه دون كيشوت لصوت ( الأميرة ذر ) : عمو .. عمو ..انظر كم هو جميل هذا البرج . نعم انه جميل حقا ( تاور برج ) تنسفح عليه الجثة المجرورة في شارع السعدون بالليمون الانجليزي الذي أشرب بل أتسمم ، وبحكل دموع أم فارقتني ، وكدمات ذكرى في روح الحبيبة التي هربت معي منذ 24 عاما . ها هو وجه امي وحبيبتي مثل غيمتين بعبائتين عراقيتين تبكيان أعلى البرج بينما يتهدج رأس الرجل المقتول في السعدون على رؤوس العمارات في لندن . قلت في دخيلتي ، يجب أن أقول ذلك للطبيب ..ماذا أقول ..لايوجد حاجز بين الذكرى الملطخة بالارجوان والشبابيك الأبنوسية للحضارة . لا أستطيع أن أمنع مخالب الماضي من تخديش خد الحاضر . لا أقوى على الوقوف في وجه تيار الوعي . هناك دمعة صغيرة جدا تقف بين الحزن القديم والفرح الباهت الجديد . القديم عندي يطغى على الجديد . ياترى أية حبة أسبرين أوابرة لحقن المجانين توقف أناي الماضية عن أناي الحاضرة ؟ الزعفرانية تمنع عليّ ( كناري وورف) . دجلة يمنع عني التايمس . دجلة التي ازدهت بنا أيام المقاهي على شارع أبي نؤآس . غدت كثيرة التجعدات. عجوز. في مياهها شبه الشحيحة جزرات ترابية غريبة عليها . دمامل وسط ماء . هكذا بدت لنا أنا وأبوشاكر . من جهة الاعظمية ، كان مطعم صفوان شائخا . نواتات لمقاهٍ صغيرة تبدأ لربما للتو لحياة مابعد حكم الخيبة . جلسنا على كراسيها مرة وعلى الحواف الكونكريتية تحت سماء نوفمبر وشمسها الدافئة نتذكر الشهيد الشاعر رياض البكري وجراحات وآلام النضال السياسي لشخصيهما أيام زمان . وصديقتنا الغالية ( ..... ) باهرة القوام والشعر الطويل الذي يسافر في كل الدنيا ، نتذكر موتانا وشعر الحبيبات الذي شيّب في المنافي . وحرماناتنا حتى من رؤية قبور آبائنا الذين وافتهم المنية ولم يرونا ولا استطعنا أن نحضر جنازاتهم أو نزور قبورهم .. لقد سُرقتْ أبهى عقود حياتنا .. حقا لقد قالوا بأن الغربة أقبح من وجه الجلاد ، لكن أربعة ملايين شخص قد غادروا العراق لأن وجه الجلاد كان قبيحا الى درجة سامة ، قد يستساغ بدونه الموت . نعم لانريد الاحتلال لأي وطن في العالم لكن التحرر من الجلاّدين بأية حراب كانت هو فرح شعبي غامر . لاغربة أقبح من وجه الجلاد . بالعكس لقد دخلنا في عالم اوروبي واسكندنافي خاصة ولم نتوقع أنه على هذه الدرجة من الرقي أي عكس ما لقنه الشيوخ القادة من الايديولوجيين للناس في العقود الماضية وهو عالم جدير بالدراسة - عمو ...انظر أجمل عمارة على هيأة بيضة ! - الله ...الله ..ماأجملها . جدير بالدراسة . لأن الغريب هنا مكفول مثل المواطن بقوته الشهري منذ يوم الولادة وضماناته الاجتماعية والصحية ودراسته المجانية وحتى أيام أو سنوات عطالته . أين القبح أزاء عفونة وجه الجلاد ؟ كانت ذر تقطع عليّ غيابي وغيبوبتي بملاحظاتها الجميلة عن المكان المحيط ، فهي التي عرفت كما يقولون ( أيضي ) بل طريقة سرحاني . رأسي ذاهب آيب بلا اشارة ضوئية يتقاطع داخله الحابل بالنابل . تشبثت بالحديث وسط ضجة الموسيقى وقلت بصوت مرتفع نوعا ما : - عمو ( ذر ) ... ماذا تقولين لو ركبنا اليخت السياحي غدا لنرى ذات المشاهد مرة اخرى . لقد خلب المشهد الهندسي لجمال لندن دماغي . ياالهي لماذا لايكون بلدنا جميلا مثل أي بلد اوروبي ؟ . هل نحن أدنى ذكاءا أم أقل مالا . ربي أعدني شابا لأنعجن في ضجة الراقصين ولكي اثقب الارض " الولد .. الولد ... " لمن قتلوه ؟ لكثرة القتلى في وطني لم يكن هناك داعٍ للاستفسار . هناك خنساء ونسوة . والخنساء بررت الموقف بالاكتفاء بالدمع " ولولا كثرة الباكين حولي ... على اخوانهم لقتلت نفسي " ... عادت الاغنية تصدح .. " الولد ... الولد ... الولد " ذاك الذي طاح قرب جامع الاورفلي ...وتلك الانفجارات المدوية في ليل الزعفرانية ووجه ( صفاء يحيى) الذي يميل بوجهه مشنفا اذنه للاصغاء والذي يقول رافعا اصبعه مخاوصا عينيه : -هل سمعتم دوي انفجار . هذه اما تفجير لأسلحة هدام . واما جماعة القاعدة يهجمون على الاميركان . - لا يابه لا . هذا عرس ..اليوم خميس على جمعة ! . ( صفاء يحيى ) يصغي لكل شاردة وواردة انفجارية . لايقوى على النوم ليلا حتى اشترى رشاشة . راح اطلاق الرصاص يدوي قرب باب بيته ، وسقط رجل ما قرب الباب . وظل هناك صفاء يتبين الأمر . في كل يوم قتل وتراشق وانفجارات . ظل يحمي أخواته ومن معه في البيت مستغربا مما يدور أمام بابه . الرصاص كالدربكات السريعة الراقصة ... والدم يسيل من الجثة الساقطة هناك .. بتفجر ..وتدفق .. ومن ثم يسيل وئيدا : درابك درابك درابك درابك ثم تخفت وتعود لتنطلق : " وبناره ايريد ايطفيني ...وبناره ايريد ايطفيني .." وتخفت وتعود لتهمس وتنطلق : " لاوده لي مرسال ...ولايسأل على الحال ...على جمر الملامة رايح وراد ...خلاني العزيز وسكن بغداد ..." . صفاء ( في بغداد ) عوض غيابي هو ورشاشته عندما وقف وراء ستارة في بيت جله نساء ، هن أهل بيتي ...والدم يسيل . و( عمر ) هنا في يخت (لندن ) يعوض ضعف أقدامي وآلام جسدي الشائخ عن أن أفرح وأتمايل في ضجة الدربكات . لقد اهتز عمر وانتفض بين الراقصين " كما انتفض العصفور من بلل القطرِ " قميصه ابتل بالعرق والتصق على جسده لشدة وعنفوان حركاته . وراح يذكرني برقصة صانع الخياط في رواية حنا مينا عندما يقول: ارقص ...ارقص .. اضربها ..اضربها ..هذه الأرض ..ابنةالكلبة ... " الولد .. يمه الولد ... " لقد أخذت الدرابك روح (عمر) وجعلتها تتشظى حتى طالت قمر تلك الليلة . وصانع الخياط حتى أسس وعيا لأقوى حركة أقدام على الأرض . أقدام الصناع والكسبة والكادحين . ولقد حمى صفاء يحيى بيته مصغيا للانفجارات " .. مابيه اعوفن هلي ولابيه أعوف هواي " .. قلبي نسيته هناك ... ياهو اليدوره وياي " .. " مابيه اعوفن هلي .. ومابيه اعوف العراق ..." واتحد صفاء بانفجار عائلي ... : - ألو بغداد معك .. - - تفضل - ألو أبا نوار .. صفاء راح - راح .. أين راح ؟ - أعطاك عمره . انفجر سخان الماء على صدره أثناء تصليحه..والحرق لامس الجوف .. وأقمنا له الفاتحة ..ودفناه في مقبرة خان ضاري .. قرب قبر أبينا . انفجري ياروح فما عاد لهذا الجسد الجبان من أهمية على البقاء . ولا على الذات الخذلى أن تصطبر . لقد مات الآباء والبنون . وهناك دربكات أشد وأعتى . " خايب آنه اشلون .. اشلون آنه ... وآنه المظلوم آنه ... من عمري وآنه ..ماضكت راحه وهنه ... باقي بس أحزن أنه ... " كانت تتناهى هذه الاغنية الى أعلى اليخت حيث أنحني على سياج هناك " ماباقي بس أحزن أنه " قلت في دخيلتي الكليمة وأمام ناظري الدامع تلك العمارات الشامخة بالأضواءالتي لاتبدو ثابتة لاهتزاز ورقراق مدامعي وذكرياتي ، قلت : كلا .. لمسببات اغانينا ( الدسيسة ) من قبيل : " مابيه بس أحزن أنه " لقد نصحت سيدوري نادلة المقهى كلكامش بالفرح حلا لمعضلة الحزن ، ولأن الحزن قد سلط من قبل الظالمين على الطيبين فهناك فعل قوي كحرارة الدمع الآ وهو الانتقام من اليأس بالأمل ومن الغياب بالحضور. من الصمت بالكلام . ومن الكبت بالانفجار . والتحول من الموافقة الى الرفض . الانتقام من نعم بلا وألف لا . ولابد من الذهاب الى الممكن رغم المستحيل . والى التكون رغم المحق . والى التغيير رغم الثبات . والى الحركة رغم السكون . لابد من ذاكرة بلا حزن . من وجنات بلا دموع . لا لهذه الاغنية الدسيسة في ليل عاشق . ليل عرس ( نورا) هو الواعد بالسفر الى ( البصرة ) مدينة العريس الجميل الذي سيأخذها اليها حيث تضع الوليد هناك .صحيح اني تمنيت على الأميرة ( الام الكبيرة ) أن تكون ( نورا ) لولدي ، لكن لا فطفل نورا الذي سيولد في بلد النخيل هو المنبت الأسمى . فولدي لا يروم مغادرة ( وطنه الدانمارك ) ! . لابد من بذرة محبة من كل قلب مغترب في تربته الحبيبة . جرح صفاء يحيى حار في قلبي . انه يمنحني أن أنسج آية حب الى صفاء آخر قادم . - هل أقول لنورا ان اسم صفاء جميل ؟ صفاء الذي توالت عليه الانفجارات مات ... ورحت أمام قمر ليل لندني أعوي بصمت مادا عنقي كالذئب الى سماء مرصعة بالنجوم بينما صفاء في قبر بغدادي ضاج بالرمل .الكواكب أهالت دمعا معي. وابتل صدري وأنا أنزوي في الظلمة ، في السطح من اليخت .ابتل صدري كما ابتل ثوب ( عمر) .. وعدت أدراجي الى عنبر السفينة وقد أزف الوقت . العريسان ينهضان والجميع تغادر والمآكل ترفع والشموع تخبو. وماعلينا سوى نقل ماتبقى من حوائج ضرورية . رحت أحمل مع الآخرين ماخف ودل ؟... رفعت أوراد العريسين ومعي شباب عديدون يحملونه ليوصلوه الى سيارة . كللت السيارة بالورود . رحت اودع مع المودعين ذلك الوجه المغادر بعد حين الى بصرة العشق ، ليعاد استنبات صفاء ورياض البكري، ورجل مقتول عند بداية السعدون ورجال لاتعد ولاتحصى فهناك ملايين الارحام .هناك الأم الارض.هناك أعذب مياه على الارض ستروي مرة اخرى ضفافا عامرة بالخضرة .هناك دجلة لايقل جمالا عن " تايمس " الحضارة . هناك حسن على الأرض هو كنز البشر ، وكل شهيد في الأرض فسيلة ، وضلوع العشاق جرار وسنديانات سيفخرونها بعد آلاف السنين . وكل زهرة خالدة على دجلة أو الفرات في مستقبل الزمن والأرض هي شفة لنورا،أو وجنة لعذراء .وسيزدهر العراق يوما بعد يوم . وان العرس هناك على يخت عراقي أحب وأدعى الى الأصالة وأحلى . غادرت السيارة وهي تبتعد بأضوائها الحمراء في شوارع الليل ، وغادر الجميع. وطفقت من هناك عائدا مع بعض الأحبة الى ملاذ مؤقت لمنام تلك الليلة . تذكرت الشاعرعبد القادر رشيد الناصري القائل : " وتلفت فمالحت لعيني ياحبيبي " لكنني وعلى الرغم من ذلك الفقدان والبحث عن حبيبة ، انتبهت الى أن على راحتي شيئاً أشبه برائحة بيت عراقي . رائحة نعم رائحة . بها استقوي على سهاد ليلي الطويل واجتياز محنتي واغترابي. وانقضت أحلام تلك الليلة على وسادة ضاجة بالأصوات والدرابك .. "مابيه أعوفن هلي .... ومابيه اعوف العراق " وامتزاجات جهنمية لقتلى ... ومطر غزير هو دموع النسوة الثاكلات والأرامل وحرب وحرب ..حرب على مدى الأيام .. لكن هناك أيضا ... مطر وشرار يغسل دجلة من الأدران ... صعادات ضوء أضفت على الناس فرحا في الشوارع .. دجلة كأنه التايمس .. دجلة كأنه النيل وكازينوهاته ... دجلة كانه السين العامر بالأضواء ... دجلة يضج بمقاهي السمر والأصدقاء... والمسقوف وشهرزاد ولاكر .. وهناك الليل البغدادي العطير وضفاف الماء الطاهرة ... هناك تسائلت وأنا اشير باصبعي الى الضفة الاخرى من النهر وعلى يميني جسر الجمهورية : - ذاك هو القصرالجمهوري أليس كذلك ؟ - نعم... لكنهم ألغوه .. والمبنى الآن جامعة الفنون والآداب.. مئآت الطلبة والطالبات تنشده كل صباح. والضفة الاخرى ..انظر انها تعج بالحدائق ومقاهي المطالعة .!!!!!!! .... ......................... 30 /7 /2004
ذلك التيس الصغير
انتفاخته الأمامية ( كرشه ) هو الحجم الأكبر من جسده المتراخي في ممرات حديقة غناء ! أما شعره الأبيض فهو مهووس كدخيلته...وجهه مخرب بآثار الجدري ..ومع ذلك تلوح على فمه بروق ابتسامة لفرح كامد ! فرح صفقة رابحة. كنت على مصطبة خضراء ، " ولا أزال عليها وعلى ذات السحابة ! " أضع حقيبتي الصغيرة وقد أخرجت منها كتابا أتصفحه قبل إطلالته البهية ! الأشجار هنا مؤتلقة بأشعة الشمس والأزهار تعج بألوان الحياة المختلفة . والظلال الوارفة والطيور على اختلافها مثل مهرجان . كان يوما مشمسا ، واينما تكون الشمس يكون يوم الفرح . عدا ذلك اليوم المنتكس بنصف رجل بالوني ! أغلب الناس تسير بتراخ واضح ومن ضمنهم هذا التيس الذي تعرفت عليه للتو ـ المكان مدغشقر ـ . كان اسمه معروفا بل شهيرا الى حدود كبيرة ... وان الجريدة إياها أو المنظمة ( تلك ) قد أسهمت بتاريخها العمالي والنقابي بدعم اسهامات هذا التيس ( الكويتب والأوديب ) لكن العجيب والغريب في وضعه المرتبك أنه مرحب به على مستوى الاعلام والنشر وبذات الوقت فهو من أكثر عناصر النقد بذاءة ! فهو شتام الرؤساء في المنظمة ، سليط اللسان ، محارب مشاكس ، روبن هود سياسي . بعد عناق صداقي واضح ، وترحيبات جمة ، انتقلنا الى مقهى مفتوحة على رحاب الجنينة هذه ، فجلسنا عند طاولة انيقة وطلبنا قهوتين ...رحت اصغي له ، ويبدو أنه بدء يكتب قصيدة النثر لتوه . كانت قصائده ومداخلاته مثيرة للإعجاب هه هه هه . كان جميلا كأديب هههه هههه وكشاعر بشكل أقل بل اقل بكثير ...كرشه كان غريبا على الشِعر لكنه لكنه متناسق في المداخلات المعوية ، ولذا فهو ناجح في تكرشه الأدبي.... وفي شاعريته المتكرشه فاشل تماما... وذلك لأنه لهّام صحون وشريب وسهير وعهّير ! وقلما يتسم الشعر باللذائذية وصحون التشريب والباجه التي يتغزل بها هذا الفيل الصغير ، مع الدولمة والكبة والبرتبلاو ! . في منعرجات الحديقة ، وهذه الطقوس الشموسية الدافئة ، كانت الوجوه الانثوية خاصة ، تمر في الشارع المحاذي للمقهى، وتكسب الأرجاء روحا عبقريا وأنينا جواهريا . تناول ( التيس ) بالأحاديث السامة من كان سببا في شهرته فأسقطه أرضاً ، ومن كان معجبا به فمسح به الأرض ، ومن نشر له في العدد الأخير من الجريدة النقابية فهمزه ولغزه بل عضّه ولدغه . ! استحال فمه الخالي من الاسنان الى فوهة مدفع أو منجنيق أيام زمان ...أسوار وحرائق وسلالم لمقاتلين يرومون الطلوع الى القلاع ومعهم الفؤوس تحميهم قذائف النار والصراخ والأناشيد الحماسية . انها حرب طروادة .. كان قذائفيا في تحليقاته صاروخيا في تهجماته سمتيا في صريخه وزعيقه ... يالهي أنقذني من هذا اليم !...ظل يتكلم بلا انقطاع ...وسهوت عنه كان يعوي .... كنت افكر بدفء المكان ، كان يتوعد كنت اتطلع الى حمامة. كان يسئ الى اللغة الشاعرية للقاء ، كنت أتذكر( الاغنية المدرسة) : " شوف الورود واتعلم ..ويه الحبايب تعرف تتكلم " . قلت بعد طول امتعاض : -لماذا لا تهجر هؤلاء الناس وتتخذ موقفا يساريا أعني أن تقف على يسار حزبك أو منظمتك ؟ أليس هذا أدعى الى الحقيقة ...الطلاق مع هذه الجهة ضرورة ملحة استنادا الى ملاحظاتك الحارقة ..قدم استقالتك حتى تلفت نظر الناس الى تصحيح الحركة اياها اذا كنت تحبها حقا . -هذا صحيح ...لكني لا اريد ذلك ..اريد أن أستفيد من الحركة كمؤسسة ! كمؤسسة قادرة على تفعيل نشاطات ! ككيان ملموس مادي فاعل أعمل من خلاله . - أنت وصولي .. لم أقل هذه الكلمة ...ابتلعتها ..وبدأت في داخلي اهيئ للنهوض من المكان والانتقام بطريقة اخرى ..وأن يكون هذا هو اللقاء الأخير في حياته معي ! لكني سألته سؤآلا موجعا آخر ، وذلك بعد أن حدثته عن سفر مئآت الإلوف من العراقيين الى العراق لمشاهدة أهليهم على الأقل : -هل سافرت الى العراق ؟ - لا الأسباب الداعية الى عدم سفر صديقي الفذ هي رغبته بانتظار تحسن الأوضاع الأمنية وأيضا يجب أن يكون ذلك مقرونا (بالنسبة له ) بدعوة صادرة من وزارة الثقافة وحشد من الجماهير مع باقات ورود في المطار وربما سيارات مارسيدس تقله الى فندق خمس نجوم وبرنامج حافل بالأماسي مع عطايا وهبات ! والمهم مصروف الجيب !. عند انتهاء اللقاء ، كان هو سعيدا به ..أكد على دعوتي الى رستورانت قريب ..لم أُلبِ له الدعوة . ولو لبيتها لما كنت أختلف عنه في أن أكون مع فلان وأنا أكرهه ..أو أن أكون في حزب ما وأنا الوصولي في عضويته ! أو أن أعيش مع أمرأة وأنا لا أُحبها .لقد قررت أن أكون أنا أُحب عندما أُحب ، وأكره عندما أكره ، وأنتمي عندما أنتمي .. ذهب لوحده في ممرات الجنينة ..يتراخى وقد راحت مؤخرته مثل بستمات ماكينة سيارة تتشاقل وتتعامد بأورام وشحوم من مكورات ومدورات . قضيت ذلك النهار وحيدا وأنا أتذكر الشاعر القائل " طاولة موحشة ولاصديق موحش " . لا لذلك التيس . لا وألف لا لتيوس جديدة تتململ .
القبر
لكم تمنيت ان يكون هناك ملاذ ... زاوية بعيدة ... عند اطراف غابة ... باحة خضراء ... ممرات خلال غصون ... ومن هناك امرق كل يوم لتأدية طقس ما .. تنفرج أمامي بركة ...لكنها بعيدة عني ، أراها بما يضمن توفر الصمت وأيضا بما يمنح البصر حنينا الى الماء ...هناك طيور منسابة كالنسيم الساجي ...لكن لاهفيف مسموع لها . اريد صمتا الوهي البهاء... وهناك تتواجد مصطبة من خشب داكن اللون مصطبة مهملة ... عندها ازهار برية ..لكن المكان مليئ بأشجار دانية والوقت غروب وهناك فسحة شبه واسعة تعطي انفتاحة كافية على سماء زرقاء وطقس دافئ . هناك اجلس كل يوم . عمري الآن 56 عاما . ولا يجدر بي أن ألعب بالتراب . لكني كنت اريد ارتفاعة صغيرة على مستوى الأرض بجانبي ... لا ليس بجانبي تماما بل على مقربة مني . لكن كيف اسمح لنفسي ان أقلب جانبا من تراب الأرضية ؟ لربما رآني أحد ... واستهجن منظري خاصة وان المكان هو طرف الغابة القريب جدا من الشارع العام ... يمرق من هناك بعض الاشخاص فأسمع أصواتهم وأرى خيالا لهم ... فالمكان خال ٍ وقصي لكنه محاط بالناس وأنا اريد أن ارسل نظري الى شئ احتاج لتمثله أمامي ... فكرت أن آتي في الليل وأعمل التلة الصغيرة ... لكنني لا احب الليل للتجوال وحيدا وخاصة في غابة تسكنها ربما أشباح وأرواح ... الغروب محط عزلتي هناك .. احب الهدأة النفسية تحت ظلال الشجر ... احب أن لاتمر بي فراشة ولاشعاع أو نغمة ..احب الشعاع المستلقي على رفيف شجر بعيد . احب الأنين الذي تغنيه نفسي لنفسي . أتذكر يوم ذهبت الى مستشفى المجانين .. رأيت نساء جالسات عند الباحة وكلهن في صمت ابدي ... الجميع قد تناول حبة الدواء . والجميع في شرود تام . وحياتي شرودي . وهنا فقط اعيد بناء ماهدمه الآخر . الضد الذي دُحرت بوجوده . لن أنتقم لأني سوف اعذب ذاتي . سافكر واخطط .. وأنا في اعياء تام ، مالي طاقة على الأفكار ولذا لا أقوى على التخطيط . العزلة دوائي لكن لذاذاتي في عودتي الى الخلف .. مباهجي ورائي ، سعادتي في توريق صفحات حزني . وهناك قارة ثلجية من الدمع ، اذوبها حبة حبة .. وأخشى أن تنفد الدموع ، فلا ملاذ لي .. بعدها ربما الانتحار حلا ... على المصطبة اقيم صمتا جبليا لانجمة تطال قمته . أنا الشاهق الوحيد في الذل . والناجح في الخيبة . مصطبتي بيتي . لقد اتصلت بهم من أجل رفقة فكانت الاجابة إبق َ وحدك . فالكبير يلهو في حجرة مع شابة جميلة ... والصغير في زيارة ... والبنتان في حفلة ... كل يوم في حفلة أو انشغال ، اومهمة . ظلت جمجمتي على هيأة رأس بعير مرتفع بهمومه عند مصطبة ... مرت الأيام وتراخى رأسي ، وقد نمت على مصطبتي ذات غروب . عدت بعد حين أدراجي الى حجرتي القريبة من المكان .. لكن المصطبة ، والصمت المحيط ، والأغصان ونصف قوس المنآى المطل على غابة تمنحني هروبا قريبا من البشر .. هروب أتدرب عليه كيما امارس انفلاتي النهائي . الأربعة في انشغال تام ، أحيانا يأتون ... أطل عليهم من نافذة الحجرة فتنثال الدموع من عيني ، من سقف حجرتي من ثيابي من صورهم على حائطي ...لكن عندما يرن الجرس أمسح ما علق من أدمع خبأتها في الزوايا فأفتح الباب مبتسما ، وقلما يأتون وقلما امسح ما أُخبئ .... لكن وحشتي التي أوهت يدي ، وحنطتني على مصطبة لم تفولذ الدمع فيّ ... لم تجعلني عتيدا في الحزن ولا باسلا في الموت اليومي ... ظللت رخوا . أمدد بطرفي الى اوراق الشجر فأتأمل الناعم منها .. الرقيق على النسمة ... والذابل فأتذكر الملايين من الموتى .. وفضاء من ذكريات الناس اللآمتناهي .. وهذه الفلسفة الدامسة الغموض لولادة وموت الأشياء فكل ماهو جديد يعتق ويبلى ويذوي ويهوي. المولود ميت ولو بعد حين . وفي كل يوم يستلقي الشعاع ومن بعد حين يشيع ذاته ... و " انكم بعد ذلك لميتون " لكن لمن أموت في الحياة وحيدا ... أنا أموت كل يوم حبة حبة .. بل انني أموت مرتين كل يوم . مرة فيزيائيا ومرة نفسيا . ولا يهمني الموت الفيزيائي ، بقدر انحطاطي اعتباريا أمام معبد ذكرياتي .. أنا لم أكن وغدا لاطرد من الحياة شر طردة .. لقد ركنوا الى الحجرات بعد تأميم علاقتي بأُمهم . انهم في سلام مني . قالت احداهن " ... اننا سعداء من دونك يابابا "! بل سعداء لأني خرجت من البيت او في الواقع طردت منه .الأُم بلا قلب .. بل بقلب من حجر صوان . رقيقة كالماء عندما تحدثهم .. وجهها كالحجر عندما تحدثني . الخروج من الدار والسكن في حجرة بعيدا عن الأربعة السعداء .. والأُم ذات الوجه الحجري هو وجهان لعملة ... سعادتهم وشقائي . عائلتهم وانفرادي . وأردت أن أتوازن ... لاوجود لها أبدا ومطلقا بعد الآن في حياتي . لقد وقعت مرة على أوراق الانفصال ومرة اخرى على أوراق الطلاق ... وقعت بكل برودة دم .. ولكم حاولت أن أراها ... لكن جدرانا من وهم قد حالت دونها ... فلكم اندمَعت ُ ونمت على بلل الدموع ولكم تعبدت ُ وصالحت وخاصمت وصمدت وضعفت وبكيت عبر الهاتف !!! وكان المكان النهائي لي هو هذه المصطبة . اذن منذ هذا اليوم والمصطبة بيتي ... عشي ... ملاذي ... منزواي .. اذن منذ هذا اليوم والحلم موطني والخيال خلاصي وتحليقتي وانفلاتي . اذن منذ هذا اليوم والزيارات ممنوعة على قوقعتي وصومعتي وزعانفي واصدافي ... لا للزوار . وحدتي توالدي في الهم والغم وكلاهما سلواي ... ومنذ اليوم وبكل جدارة وعن اصالة ويقين بأني فرح بأحزاني وسعيد بتعاستي ومليئ بخوائي وجرحي ابتسامتي والسواد بياضي والليل فجر نهاري . ولذا كنت بحاجة الى توازن يعيد اليّ واقعي حتى لا أتوه في عوالم جنوني وأخيلتي . يجب أن أتوازن واقعيا ... يجب أن ارحّل وارحض جبل الجليد باذابة الدموع . لابد من احجار ... الحل هو الأحجار . رحت ابحث عن حصى بمختلف الأحجام ... احجار متوسطة ... كنت احملها براحة يدي ... حجرا حجرا في كل يوم ومنذ عامين فتجمع ذلك التل المنشود . كنت اضيف حجرا الى آخر في كل غروب ولا أدعي أنه قبر بل ارتفاعة عادية . كنت أبكي أمامه كما لو انه قبر ... ولكي يكون قبرا حقيقيا فلابد من ميت وهذا الميت الغالي هو جسد لا اسجيه أمام أطفالي واقطع رقبته باحدى السكاكين المطبخية بل هو اسم الأُم الذي احتاج ان اخطه واضعه على واجهة الأحجار فيغدو المشهد يشبه تماما قبرا وعليه اسم المتوفى . لااريد ذلك لسخرية ولالشماتة او اهانة . اريد ذلك لي . لتقابل ٍ وهمي ، لكنه حسي وجودي شبه ملموس وان كان كاذبا ... الوهم حقيقتي ... فلو لم أكن وهميا في حياتي لما هجرتني الحبيبة بعد حياة شقاء وسماجة أمدها 30 عاما . الوهم سيقيتني العافية . كان الشعاع الذابل في الغروب يتماوَت ... وكنت منذ أيام قد كتبت اسمها على تلة القبر . اخترت حجرا صلدا ونقشت عليه اسمها ... وضعته على الواجهة ! ولأني وهمي لاواقعي خيالي افترائي وافتراضي فقد محوت الاسم بل كتبت عليه ليغدو موجودا بلا وضوح أو على الأقل لأراه وحدي . وأول مافعلت أني كتبت الاسم (أحلام نعيم ) ... وعدت لأجعل من الألف ميما ومن الحاء لاما ومن الميم قافا وهلمجرا . ما عاد الاسم واضحا لمن يقرأه ... فهو خربشات لسواي ووضوح تام لي ... والمكان بعيد والخلوة خلوتي وأنا وحدي كأني لشدة صمت المكان امارس العادة السرية أو أبكي بلا من يرى أو أجهش بلا من يسمع ... كان المكان مقبرة بصمتي وقبرها .. ولم أستطع أن أبكي أول الأيام لأني وجدت المشهد مفتعلا ... لكن مع الأيام ، ولأنها في الواقع قد طلقتني أيما طلاق فلم يبق َ أمامي الاّيَ وخرابي أمام قبر حقيقي حد النحيب . ومن يومها انتصرت على اذابة جبل الدموع داخلي . ورحت افرح لانهياراتي كل غروب ... أضع رأسي بين يدي وانحني على بعضي وأنا أنظر بعينين مظلومتين ومخذولتين الى التلة والاسم المنقوش وأبكي كل مساء ..." واذكره لكل طلوع فجر .... وأبكيه لكل غروب شمس " وحيث يختط الظلام أعود الى حجرتي لأضع رأسي على الوسادة واحدق في سقف الأيام مثل مجنون أو مدمن مخدرات ، وقد كتبت وصيتي بأني اريد أن ادفن قريبا من قبرها لكن ليس قريبا جدا . اريد أن أكون جارها الثالث في الموت فاني لست ادري من هو الثاني في حياة او موت . غدا سأمضي لأنحني على بعضي مطوقا صدري الذي أخاف عليه من الانفلات مثل طائر في الرمق الأخير، وأظل في تطلع دائم الى القبر ، حتى اتدفق بالحمم ... ويسعدني لحظتها المطر الغزير للدمع وبرق ورعود الذات المحطمة ، هناك رويدا رويدا سأذوي .
ـ انتهى ـ
الفهرس
ـ حبـّـاب ..................................................................ص 3 ـ الصعود نزولا .......................................................... ص5 ـ غزل المدن ............................................................. ص 11 ـ تذكر الاشجان في صحة غانم بابان ...............................ص 13 ـ أصوات عراقية من مخيم لجوء دانماركي .......................ص 23 ـ آهات عراقية من الدانمارك " 1 " ................................ص 27 ـ آهات عراقية من الدانمارك " 2 " ................................ص 32 ـ ليلة في كوبنهاغن ....................................................ص 45 ـ طلاق الوطن وطلاق المنافي .......................................ص 48 ـ الدواء ...................................................................ص 64 ـ شمعة ذكرى الى اُم عراقية ..........................................ص71 ـ أنت ِ كوكبي ............................................................ص 79 ـ معزوفة الهشيم .......................................................ص 81 ـ المحفور له .............................................................ص 83 ـ تصوّف آخر ............................................................ص 85 ـ حلم على حافة .........................................................ص 89 ـ سدول الليل .............................................................ص 91 ـ فيزوف آخر .............................................................ص 94 ـ اللوحة والهاوية .......................................................ص 97 ـ هل ستبقى ليلى بلا ذئب ..............................................ص 101 ـ عرس عراقي على يخت انجليزي ..................................ص 109 ـ ذلك التيس الصغير....................................................ص 118 ـ القبر ......................................................................ص 121
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#خلدون_جاويد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدنيا
-
يا أيها الشاعر ...
-
أمطري بغداد خيرا ً أمطري ...
-
حان وقت الموت ياصاحبتي ...
-
شكرا دانمارك
-
كم في الجنس المختلف من لذة ! ...
-
يتآمرون على العراق . ذئآبُ ! ...
-
كلّما ...
-
وسهرتَ وحدكَ ياقمر ! ...
-
شوق المنافي ...
-
الطائفيّون ...
-
ساعة 11 يوم 11/11/2011 ...
-
عراق ٌ أرجواني ٌ ! ...
-
العصفور الأول للروائية العمانية أزهار أحمد ...
-
- مُتْ هكذا في دنوّ ٍ أيها العلَمُ ...! -
-
لاتقرأ هذه القصيدة الخليعة رجاء ً ! ...
-
قصص أديب عراقي من الشطرة ...
-
فاطمة الفقيه والفساد السعودي ...
-
اُغنية الانتصار الليبي ...
-
نص الى رستب أفندي ...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|