أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - في الرد على د. عدنان إبراهيم - 2















المزيد.....


في الرد على د. عدنان إبراهيم - 2


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 3975 - 2013 / 1 / 17 - 07:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تطرّق الدكتور عدنان إبراهيم في المقطع الثاني من سلسلته إلى تصنيفات أفلاطون للإلحاد والمُلحدين التي ذكرها في كتابه (القوانين)، ومن ضمن تصنيفاته: (1) إلحاد الألوهية، وهو ما أوضحه الدكتور إبراهيم حسب تعريفه (إنكار وجود الإله) ولقد عرفنا في المقال الأول أنَّ هذا التعريف خاطئ تمامًا، (2) إلحاد الربوبية أو العناية الربانية (3) إلحاد القرابين، والإلحاد الثاني هو الرأي الذي يقوم على أنَّ الإله الخالق خلق الكون ثم تراجع ولم يُتمم عمله، ولا يتدخل مباشرة في إدارة هذا الكون وليس جزءًا من نظامه الداخلي، أو كونه ليس مهتمًا بالجزئيات، ويرى أفلاطون أنّ هذا الإلحاد يسم الإله بأنَّه إله كسول لأنَّه لم يُتم عمله، لأنَّ علامة الاتقان هي الإتمام، ويتفق الدكتور عدنان إبراهيم مع رأي أفلاطون هذا، وبالتالي فإنَّه يُؤمن بأنَّ الإله الخالق يتدخل بشكل مُباشر في الكون والظواهر، لأنَّ هذا من تمام عمله، وهو لديه رغبة في الاتصال بالعالم وبالبشر، وكان لابد أن يكون هذا هو موقفه، وإلّا لما كان مُؤمنًا مُسلمًا، ولهذا قال في محاضرته، ما معناه، إنَّ الملحد من هذا النوع، بالضرورة هو كافر بالرسالات والنبوات والأديان، والعكس هنا صحيح تمامًا، فمن يعتقد بمسألة العناية الربانية فهو مُؤمن بالضرورة، ولكن المُعضلة في هذا الموقف هو أنَّ الإله سوف يكون مسؤولًا مسؤوليةً أخلاقيةً عن أيّ ظاهرةٍ طبيعيةٍ حدثت أو ستحدث، لأنّه بتبنيه لموقف العناية الربانية يقف ضد موقف الإلحاد الطبيعي Naturalism القائل بأنَّ الطبيعة تُفسّر نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى أيّ تفسيرات خارجية، لأنَّها ستكون فرضيات زائدة عند ذلك. والطبيعة مُحايدة تمامًا تجاه البشر وتجاه الكائنات جميعًا، فعندما يثور بركان، فإنَّه يثور بصرف النظر عن المآلات الكارثية التي سوف تتعرَّض لها الكائنات الحيّة، فالطبيعة عمياء، والظواهر الطبيعية عمياء كذلك، وهي لا تتعامل بعاطفية أو أخلاقية تجاه الكائنات أو حتى تجاه نفسها، فهل الإله مسؤولٌ فعلًا عن الكوارث الطبيعية التي يروح ضحيتها آلالاف البشر والكائنات الحيّة؟ هل هو مسؤولٌ عن الأعاصير والزلازل والبراكين والتسونامي والمجاعات والفيضانات؟ كيف يُمكن اعتبار هذه الظواهر الكارثية من تمام صنعة الإله؛ وليس عيبًا فيها؟

يُؤمن الدكتور عدنان إبراهيم بضرورة العناية الربانية، وأنَّ من كمال إتقان العمل إتمامه، فهل الإله أتمّ صنعه على الوجه الأكمل برأيه؟ عند هذا الحد يكون المؤمنون مطالبون بتحديد موقف الإله الذي يُؤمنون بوجوده من كل الكوارث الطبيعية التي تعتبر خللًا في صُنعه، وليس كمالًا له بأي وجه من الأوجه، فالزلازل، مثلًا، تحدث نتيجةً لخلل في قشرة الأرض الضعيفة وغير المُتماسكة، فلماذا جعلها الإله على هذا الشكل، وهو يعلم أنَّ هنالك كائنات (ومن بينها البُشر المُدللون عنده) يقطنون فوق هذه الأرض؟ الحركة التكتونية للقشرة الأرضية والتي أدت في نهايتها إلى انفصال القارات كانت لها نتائج كارثية على الكائنات في ذلك الوقت، الثقوب السوداء التي تملأ الكون ألا تعد أحد العيوب في صناعة الإله؟ النيازك الطائشة التي يعج بها هذا الكون أليس عيبًا في صناعة الإله؟ وهنالك مئات النيازك التي تضرب كوكبنا يوميًا، ولكنها تحترق وتذوي قبل أن تصل إلينا، وهنالك نيازك أخرى كبيرة ضربت كوكبنا، وكان لها تأثيرات كارثية جدًا، فأين الإتقان، وأين العناية؟ وإذا نظرنا للأمر من زاوية بيولوجية محضة، فإن إمكانية الإصابة بالأمراض قد يُمكن اعتبارها خللًا في صناعة الإله، وتمامًا مثل ذلك التشوهات الخلقية التي يُولد بها كثير من الأطفال، والتي لا ترتبط بالوراثة أو بأيّ عوامل بشرية أخرى، والتوائم الملتصقين، والطفرات الجينية التي تحدث تشوهات لا معنى لها، كزيادة عدد أصابع اليدين أو الرجلين، فمن المسؤول عن مثل هذه الظواهر: الإله أم الطبيعة؟ إذا كان الإله يتدخل في الكون وفي مصائر الكائنات؛ لاسيما الإنسان، فهل يُمكن اعتباره مسؤولًا عن مثل هذه الظواهر؟ وسوف نأتي لهذا بشيء من التفصيل عندما نتكلّم عن نقد رهان النظم الذي يُقدّمه الدكتور عدنان في سلسلته.

تكلّم عدنان إبراهيم عن (إلحاد القرابين) حسب تصنيف أفلاطون، والذي أعتبر أنَّ الإله بحاجة إلى أنَّ نقدّم لها القرابين إمّا لدفع الضرر أو جلب المصلحة، وشبّه ذلك بالقاضي الذي يبيع ضميره، ولكنّه، أي الدكتور عدنان، يقف موقفًا متسامحًا مع هذا النوع من الإلحاد، ويتعجب من تصنيف أفلاطون هذا، لأنَّ غالبية الأديان تميل إلى تقديم القرابين والأضحيات، ورغم أنَّه لا ينفي أن تكون هنالك أديان تتعاطى مع فكرة القرابين هذه بدافع براجماتي يُسيء إلى الذات الإلهية، إلّا أنَّه في الوقت ذاته ينفي أن يكون مفهوم القرابين الإسلامي مُشابهًا لأيّ من هذه المفاهيم الأخرى، ويستشهد في ذلك بقوله: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين}(الحج:37) وهو بذلك يرى أنَّ مفهوم القرابين الإسلامي مختلف مثلًا عن مفهوم القرابين في اليهودية التي تصوّر الإله على أنّه يتلذذ برائحة الشواء، والحقيقة أنّه قريب جدًا من مفهوم إسلامي آخر نقرؤه في قوله: "عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" فالله الإسلامي يتلذذ حسيًا من رائحة فم الصائم كما يتلذذ الإله اليهودي حسيًا من رائحة شواء القرابين، فما الفارق؟

إنَّ فكرة تقديم القرابين إلى الإله لطلب رضاه وتجنّب سخطه هي فكرة قديمة جدًا*، ووجدت أوّل ما وجدت في الديانات الوثنية القديمة، ومن المُستغرب جدًا، أن يتم تبني هذه الفكرة في الأديان الأكثر حداثة؛ لاسيما وأنّها تدعي أنّها سماوية، فإذا لم يكن الإله مُحتاجًا إلى جلودها ولا إلى لحومها، فلماذا الأمر بذبحها أصلًا؟ يُقدّم لنا الدكتور عدنان الإجابة على الطريقة الإسلامية من واقع الآية القرآنية {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون}(الحج:36) إذن فالفكرة من القرابين هي إطعام الجائع والفقير، فهل لهذا كانت شعيرة؟ فالطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر الحج، وإن لم يقم الحاج بهما لم يُقبل منه حجّه، ولهذا نقرأ {إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما}(البقرة:158) ومن المعلوم أن الإله الإسلامي يأمر بالصدقات والإحسان للفقراء والمساكين، ولكن هذه ليست شعائر، ولا يُمكن إقران هذا الفعل بفعل الأضحية كشعيرة من شعائر الحج، ولو كان الأمر بالأضحية من باب الصدقة لما تمّ إقرانها بشعائر الحج، بل اكتفى بالحث عليها في غيرها من الأزمنة، وليس فقط في الحج مقصورة؛ لاسيما وأنَّ الفقه الإسلامي يحتوي على زكاة الأنعام، ولها مقدار ونصاب معلوم، وإذا حاولنا فهم قوله {ولكن يناله التقوى منكم} في سياق الآية نفسها، فإننا نجدها بمعنى (الرضوخ) لهذا الفعل وارتضائه كشعيرة مأمور بها من الله، فالفكرة الأساسية هنا إظهار الرضوخ لأوامر الله، وليس أكثر من ذلك ولا أقل، وتلذذ الإله الإسلامي برائحة فم الصائم يأتي كذلك من الباب ذاته، والرضا والفرح بما يفعله الإنسان من أجله.

في بعض الثقافات والديانات الأخرى، يتم إحراق هذه الأضاحي والقرابين، وجاء الإسلام ليختلف عن هذه الشرائع ويأمر الناس بالأكل من هذه الأضاحي والقرابين عوضًا عن إهدارها بالحرق. فإن سألنا: إذا كان الله لا يناله لحوم الأضاحي فلماذا أمرنا بتقديم الأضاحي؟ فإن الإجابة ستكون للأكل منها وإطعام الفقراء والمساكين. حسنًا، فإننا بالعادة، وكل يوم تقريبًا، نذبح الأنعام لنأكل منها، ولنطعم منها الفقراء والمساكين، فهل يُمكننا اعتبراها قرابين لله؟ الإجابة المُتسقة هي: لا، لأنَّ مفهوم الأضحية مرتبط بتوقيت مُحدد وهو الحج، وهو ما يجعلنا نقول: إنَّ فكرة الأضاحي في الحج ليس لها أيّ تفسير آخر غير التفسير الوثني القديم؛ لاسيما إذا عرفنا كذلك أنَّ العرب، قبل الإسلام، كانوا يُقدّمون القرابين لآلهاتهم في شهور الحج المعلومة، فالحج ليس صنعة إسلامية خالصة. إضافة إلى ذلك فإن فقر الفقراء ليس مُرتبطًا بتوقيت مُحدد، حتى يتم ربط التصدّق بهذه اللحوم بهذا التوقيت أو تحديد الأضحية بالضأن وليس بالجمال أو الأبقار أو الغزلان مثلًا، فالجمال أغزر لحمًا، والغزال ألذ طعمًا. المسألة هنا ليست مُتعلقة بالإطعام، فالإطعام هنا نتيجة لاحقة، ولكن الأصل هو القيام بهذا الفعل لإظهار الرضوخ، والرضوخ يُفرح الإله، ويُسعده، ويجلب رضاه ويدفعه سخطه، وهو تمام الفكرة الوثنية بعينها.

قلتُ إنَّ الدكتور عدنان إبراهيم تجاهل الإلحاد من حيث هو موقف فكري، ولكن وللأمانة فإنَّه ذكر ذلك في المقطع الثاني، ولكنه حتى عندما فعل ذلك أقرن هذا المفهوم بالتعريف المُخل والمخطئ، وهو "إنكار وجود الإله" كما تطرّق الدكتور عدنان إلى مقولة بارون دولباخ (Baron d Holbach) التي ذكرها في كتابه (نظام الطبيعة) بأنَّ الإنسان يُولد على الإلحاد، وبأنَّ الإلحاد هي فطرة الإنسان، ووافقه عليها كذلك جون سميث، وقد تناول الدكتور عدنان هذه المقولة بالتسخيف، والاستنكار، وقال بأنَّ الإنسان يولد "خلوًا" أيّ لا مُؤمنًا ولا مُلحدًا، وقال إن الأقرب إلى الدقة هو قولنا أنّه يولد "لاأدريًا" وهنا يتضح لنا تمامًا الأهمية التي أشرتُ إليها في إيضاح فكرة الإلحاد في مقابل الإيمان، فإنَّ قول دولباخ لا يعني إطلاقًا بالإلحاد ذلك المذهب أو المدرسة الفكرية، لأنَّ الطفل أساسًا لا يمتلك الإدراك والوعي الكافيين اللذين يجعلانه مُؤهلًا لاتخاذ أيّ موقف أيديولوجي من أيّ فكرة، وعلى هذا فهو لا يُمكن أن يكون لاأدريًا، وهو ما عاد واعترف به الدكتور عدنان إبراهيم في الحلقة الثالثة من سلسلته عندما تكلّم عن اللاأدرية في مقارنته مع البيرونية أو الأثاراكسيا (Peace of Mind) وقال حرفًا: "لأنَّ اللاأدري قد يكون قد بذل جهدًا عقليًا جبّارًا، وفي النهاية بلغ في نقطة المنتصف، وقال: المسائل متكافئة. لا أعرف" فمن أين للطفل الصغير القدرة على بذل الجهد العقلي للوصول إلى هذه النتيجة؟

لكن دولباخ قصد أنّ الإنسان يولد "خلوًا" فعلًا، ولكن ليس حسب المفهوم الذي قدّمه عدنان إبراهيم، فالخلو هنا لا يُعادل اللاأدرية أبدًا. وأزعم أنّه كان يعني بذلك أنَّ الإنسان سوف يكون خاليًا تمامًا من أيّ فكرة عن الإله، وأنّه إن لم يتعرّض لأي تلقين معرفي خارجي، فإنَّه سوف يكون في نظرنا نحن (كمجتمعات متدينة) مُلحدًا، باعتبار أنّه لا يملك أيّ فكرة عن الإله، ولا أيّ تصوّرات عنه، كما أنّه لن يكون قادرًا على الربط بين مجموعة الظواهر وبين قوى غيبية حسب التوصيفات الدينية لها، وفي الغالب فإنه قد يلجأ، كما لجأ الإنسان الأول، إلى وضع افتراضات لا تخلو من عدم القدرة على الفصل بين القيم والمُجسّدات، وهو تمام ما قصده الدكتور عدنان إبراهيم بقوله: الإنسان يُولد ولديه "استعداد" للإيمان، أو لديه "استعداد" للبحث عن الإله.

وهو أمر طبيعي للغاية في حال عدم توفر المعرفة التي تساعده على تفسير الظواهر الطبيعية، فالإنسان في الحقيقة يُولد ولديه استعداد (ليس للإيمان) ولكن للبحث والمعرفة، لأنّه كائن يمتاز بالفضول المعرفي، وهو ما تفتقر إليه بقية الكائنات الحيّة بنسب متفاوتة، ولهذا فإنَّ أيّ كائن لن يتمكن فعلًا من أن يُصبح فيلسوفًا أو عالم رياضيات، كما أنَّها لن تمتلك القدرة على الإيمان، ولكن هذا ما يتعارض مع المقولات الدينية التي تُصر على وجود علاقة لاهوتية بين الكون وبين الإله الخالق، وهذا ما أقرّ به الدكتور عدنان إبراهيم، وحاول التدليل بذلك على "الملائكة" الذين لا يعرفون الإيمان، ولكنهم مخلوقات مأمورة أو مجبولة على العبادة دون الإيمان، حيث أنّها لا تمتلك الوعي الإدراكي الذي يُؤهلها للخوض في مسائل الإيمان والحاجة إلى البحث عن إله، وبطبيعة الحال فإننا لا نملك أيّ معلومات مُؤكدة عن الملائكة إلّا فيما جاءت في الكُتب المُقدّسة، فلا يُمكننا الحديث عنها، ولكن هذا قد يدفعنا للتساؤل عن إمكانية تعارض ذلك مع مبدأ العدالة الإلهية: فهل من العدالة الإلهية أن يخلق كائنات ويجبلها على عبادته دون أن يكون لديها حريّة الاختيار؟ ما هي حاجة الإله لمثل هذه العبادة الإجبارية المفتقرة إلى أبسط مقومات الحرية والاختيار؟

على أنّه لدينا معلومات من مصادر دينية تُؤكد أيضًا أن بعض الكائنات الحيّة وغير الحيّة لها نزعات إيمانية صريحة، وفي ذلك نقرأ قول القرآن: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}(الإسراء:44) وقد يقول قائل، بأنَّ هذا من ضرب العبادة الجبليِّة التي لا تحتاج إلى الوعي والإرادة، ولكن دعونا نقرأ هنا: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين}(فصلت:11) ونلاحظ في هذه الآية امتلاك السماء والأرض يمتلكان وعيًا وإرادة حرّة تمكنهما من القبول والرفض، كذلك قوله: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون}(النمل:24) وهذه الآية الأخيرة على لسان الهُدد في قصة النبي سليمان، ومن الواضح أنَّ الهدهد يعرف الله الحق المستحق للعبادة، ويمتلك قدرًا من الوعي اللاهوتي الذي يجعله يستهجن فكرة أن يعبد الناس الشمس من دون الله، ولديه معرفة بعمل الشيطان الإغوائي في الصد عن سبيل الله، فمن أين أتت بهذه المعرفة المُختصة بالبشر؟ ولكن لنا أن نتصوّر أنَّ إنسانًا وُلد ولديه قدرة على تفسير الظواهر بطريقة علمية، أو تم تلقينه المعرفة العلمية منذ اليوم الأول لولادته، فهل نتوقع أن يُصبح مُؤمنًا أو باحثًا عن الإله أو الإيمان؟ بالتأكيد لا، لأنّ بواعث الإيمان الأساسية لدى الإنسان الأول كانت متمثلة في الخوف والجهل مرتبطين ببعضهما ارتباطًا لا يُمكن فصله. على أننا لا يُمكن أن نتصوّر الأمر على هذا النحو التبسيطي المُخل، فإنَّ الإنسان إذا وُلد ليجد نفسه وحيدًا في غابة أو صحراء بعيدًا عن أيّ مجتمعات أو تجمّعات بشرية؛ فإنَّه سوف لن يهتم كثيرًا لمسألة البحث والتأمل في الكون والظواهر الطبيعية، بل سوف يبدأ مباشرةً في ممارسة غريزيته في الصراع من أجل البقاء: مطارة الفرائس وتسلق الأشجار بحثًا عن غذاء، محاولات البحث عن مأوى يقيه البرد والحر، ويُبقيه بعيدًا عن المفترسات الأخرى، سوف يكون مشغولًا بحماية نفسه، والبقاء على قيد الحياة، فتلك هي أولويات أيّ كائن حيّ.

ولهذا فإنّ الفلسفة القديمة بدأت تمامًا مع بدايات العصر الإقطاعي الكلاسيكي، عندما وجد الإقطاعيون أنفسهم محاطين بعدد من العبيد الذين يقومون بأعمالهم الضرورية، مما أتاح لهم الوقت والفراغ المناسبين للتأمل والتفلسف، ولهذا فإن جُلَّ الفلاسفة في تلك العصور كانوا من طبقة النبلاء، فأين للإنسان البدائي أن يجد الوقت المناسب للتأمل والتفلسف، وهو منشغل تمامًا بالسعي وراء البحث عن الطعام، أو الهرب من المفترسات، أو حماية نفسه من ضراوة الطبيعة وقسوتها؟ يجب ألا نتناول مثل هذه الافتراضات بمعزل عن طبيعة الحياة نفسها، وطبيعة الغرائز الإنسانية المماثلة لغرائز الكائنات الحيّة الأخرى، وألا نتجاهل هذه الأولويات التي اختلفت الآن بسبب اختلاف نمط الحياة الإنسانية الحديثة والمُعاصرة، فالإنسان الذي يُولد بعيدًا عن أيّ تلقين خارجي مُباشر، لن يكون على الأرجح مُهتمًا بالبحث عن إله، لأنَّه ببساطة لا يعرف ما تعنيه كلمة إله، ولكنه إن ظل مرهونًا إلى خوفه من الطبيعة، فمن المُحتمل أن يضع افتراضات بدائية جدًا عن محرِّكات هذه الظواهر، وهي بطبيعة الحال افتراضات ضرورية، فعندما يُضاء مصباح غرفتك دون أن تعرف من أضاءَه فإنَّك تضع افتراضات حول من قام بذلك: صديق يُمازحك، عفريت، روح خيّرة أو شريرة، عطل في مفتاح الإنارة ... إلخ.

أختم هذا الجزء من المقال بما ذكره الدكتور عدنان في المقطع الثالث تقريبًا من حجّة أو برهان أبو بكر الرازي حول عدم وجود الإله والقائم على تناقض الأنبياء والتشريعات؛ إذ يرى الرازي أنَّ تناقض تشريعات الأنبياء رغم وحدانية المصدر، تدل على عدم وجود الإله، ورغم أنَّ أبو بكر الرازي لم يقصد هذا المعنى تمامًا؛ إلّا أنَّ البرهان له وجاهته على عكس ما ذهبَ إليه الدكتور عدنان، حيث يرى أنَّ الاختلاف بين الأنبياء هو اختلاف في الفروع وليس في الأصول؛ بل ويرى أنَّ الاختلاف في الفروع هو محمدة وليس مذمَّة، لأنَّه يجب أن تكون هنالك تشريعات تتناسب مع كل عصر، لاسيما إذا عرفنا أنَّ بين بعض الأنبياء حقبة زمانية بعيدة نوعًا ما، والحقيقة أنَّ الاختلافات هي اختلافات في الأصول وليست في الفروع كما زعم الدكتور عدنان، فالتصوّرات اليهودية عن ذات الإله، لا تتشابه بأيّ حال من الأحوال بالتصورات الإسلامية مثلًا، ولا بالتصوّرات المسيحية كذلك، فهل يُمكن أن نعتبر هذا النوع من الاختلاف اختلافًا حول فروع؟ الإله في التوراة يتعب ويُصيبه الإعياء، والتصوّر الإسلامي يرفض ذلك. التصوّر اليهودي عن الإله بأنَّه إله عنصري يُفضِّل عرقية على عرقيَّات أخرى دون أيَّ سبب معلوم، والتصوّرات المسيحية عن الإله بأنَّه تجسّد في صورة إنسان يُولد من رحم امرأة، ويتم ختانه، ويجوع ويأكل ويشرب ويصرخ ويبكي ويموت كأيّ إنسان آخر: إنسان وإله في ذات الوقت، والمسلمون لا يتفقون على تصوّر مُوحَّد عن الإله، فمرّة مُجسَّد ومرّة غير ذلك، فكيف لا يكون الأمر اختلافًا في الأصول؟ وإذا لم يكن اختلاف التصوّرات عن الإله هذه من الأصول، ماذا تكون الأصول إذن؟

وهكذا فإننا نجد مجموعة كبيرة جدًا، متعلقة بالتصورات الدينية عن الإله غير متشابه بين أيّ ديانة وأخرى، كما أنَّ المنطق الديني يفترض أنَّ الإله مُطلق في كل صفاته، فهو بالضرورة مًطلق في معرفته، ومُطلق في حكمته، ومُطلق في خيريتيه، ومُطلق في عدالته، وهذا يتناقض قطعًا مع وضع تشريعات تصلح لزمان ولا تصلح لزمان آخر، وهذا يُناقض ما زعم الدكتور عدنان بضرورة اختلاف التشريعات، وطرح الدكتور عدنان سؤالًا استنكاريًَا عن العيب في اختلاف التشريعات، والعيب هو في التصوّر الكُلي للإله، لأنَّ الإله الكُلي لا يُمكن أن يُعجزه وضع تشريعات مُناسبة للإنسان وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة، وهنا بالتحديد تتضح عظمة هذا الإله، وعظمة تشريعاته التي تتجاوز العقل البشري المحدود، والذي يمتاز باتباعه لمبدأ الخطأ والصواب، ويُضطر دائمًا إلى التعديل في تشريعاته الوضعية، فكيف يُمكن أن تكون التشريعات الإلهية مُشابهة، في هذه الناحية، إلى التشريعات الوضعية البشرية؟ ومن هنا تأتي وجاهة برهان الرازي على عكس ما حاول الدكتور عدنان تصويره.


----------------------
(*) هنالك مقال قيّم للأستاذ سامي لبيب عن القرابين في التاريخ البشري بعنوان (الله والذبائح والأضاحي – الأديان بشرية الهوى والهويّة) أنصحُ بقراءتِه:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=329016



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الرد على د. عدنان إبراهيم - 1
- بين موت المسيح وقيامته
- تفسيرٌ غير مُقدَّس لنصٍ مُقدَّس
- تأملات في العقيدة المسيحية
- عن المسيحية والبالتوك - 6
- عن المسيحية والبالتوك - 5
- عن المسيحية والبالتوك - 4
- عن المسيحية والبالتوك - 3
- عن المسيحية والبالتوك - 2
- عن المسيحية والبالتوك - 1
- لماذا الله غير موجود؟
- في نقد شعار: الإسلام هو الحل
- المادية التاريخية للجنس – 3
- المادية التاريخية للجنس – 2
- المادية التاريخية للجنس - 1
- عنّ ما حدِّش حوَّش
- نقد العبث اليومي(*)
- تهافت رهان باسكال(*)
- خطوطات مادية نحو تفكيك الإيمان
- يوم مهم


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي ...
- أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع ...
- الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى ...
- الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي- ...
- استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو ...
- في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف ...
- ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا ...
- فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
- ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - في الرد على د. عدنان إبراهيم - 2