فلاح صبار
الحوار المتمدن-العدد: 1146 - 2005 / 3 / 24 - 11:38
المحور:
الادب والفن
" فضل الموسيقي يأتلف مع كل آلة, كالرجل الأديب المؤتلف مع كل بشر "
فيلسوف اغريقي
( 7 )
مقاربة لسمات الاغنية العربية وتكوين التعبير الفني 1:
ان المتتبع للموسيقا العربية والعارف بإمورها واسرارها يستنتج حقيقة - قد تكون من اهم الأسباب التي أدت الى عدم مواكبتها ووصولها الى مصاف الموسيقى العالمية من حيث سرعة الإنتشار واخذ مكانة لها ضمن دائرة الفنون المرموقة والمؤثرة عالميا -ألا وهي ان موسيقانا في الأساس صوتية نغمية,حيث يلعب الصوت البشري فيها دورا رئيسيا وشبه تام , بينما لا تلعب الآلات الموسيقية الّا دورا لايتعدى مرافقة المغني أو مساعدته ليرتاح قليلا ثم يعود ثانية للغناء هذا اولا , ثم ان العرب قد اهتموا وكتبوا في الجانب النظري للموسيقى وأهملوا الجانب العملي منها ثانيا , إضافة الى عدم تدوينها وتوثيقها مما يحفظها من الإندثار والتشويه . من المؤكد ان موسيقانا او اغنيتنا العربية قد نشأت وتأثرت بموسيقى الامم المجاورة لها - الهندية والإغريقية والفارسية وغيرها - ويلاحظ ايضا ان اكثرالمقامات الموسيقية لاتزال تحتفظ بأهم ميزاتها القديمة وحتى اسمائها منذ زمن الفارابي ..كمقام الحجاز والنهاوند وهما من المقامات الأساسية والوضعية , او المقامات العرضية كمقام "كاركردي ".
و لقد بينا في أكثر من مكان , ان الغناء العربي لم يكن معروفا في زمن الخلفاء الراشدين إلا ما كانت العرب تستعمله في جاهليتها من الحداء والنَصب والسناد والهزج، ويجري ذلك مجرى الانشاد أي قراءة منغمة ومصوته، ولكنه يقع بتطريب وترجيع ورفع للصوت. وكان الغناء في عهد النّبي والخلفاء الرّاشدين عبارة عن أناشيد دينية. أما بشأن الموسيقى قبل الإسلام، فيقول "براون" إن الموسيقى قبل الإسلام لم تكن أكثر من ترنم ساذج بنوعه يحمله المغني أو المغنية تبعا لذوقه أو انفعاله أو ما يريده من تأثير. وميزة المغني في جمال صوته وخفته وذبذبته والشعور الذي يجعل الصوت مستمراً أو متموجاً. وكان كل مغن يغني في نغمة واحدة أو مقام، إذ لم يعرفوا تأليف اللحون المتفرقة كما نعرفها نحن. والنوع الوحيد في التأليف الذي وجد عندهم هو تلك الأنغام التي تبعثها آلات القرع المختلفة، كالطبل والدف والقضيب.
أما الآلات الموسيقية التي انتشرت في العصر الجاهلي، فأهمها آلات ضبط الوزن، وأكثرها انتشاراً الصنوج والجلاجل. وهناك أيضا آلات الزمر".
يقول الأستاذ علي الشوك في كتابه الموسيقى بين الشرق والغرب :
" وفي الحجاز كانت الموسيقى مزدهرة بعض الشئ قبل الاسلام , حيث كانت عكاظ مركزا يتوافد اليه الشعراء والمغنون. وفي مكة كانت العبادة تقترن بالتهليل والتلبية. وكان عرب الجاهلية يطوفون حول الحجر ويغنون...... وفي تلك المرحلة كان الغناء يؤدى على طريقة الترجيع والجواب, حيث تؤدى حروف المد في نهايات المقاطع الغنائية بطريقة الترعيش. وكان الإيقاع يضبط بواسطة الات القرع كالطبل والدف والقضيب, والحق ان الزخرفة اللحنية والتلوين في الإيقاع, كانا وما يزالان من السمات المتميزة في الموسيقى العربية . وكانت موسيقى القرع هذه تصاحب الراقصين الذين خيطت ملابسهم بالجلاجل زيادة في ضبط الإيقاع والإطراب , وهي ظاهرة كانت امتدادا لطقوس دينية قديمة , على نحو ما كان يفعله اليهود والكنعانيون. "
و تغنى الحداة في حدو إبلهم، والفتيات والفتيان في اسمارهم وخلواتهم ، فرجّعوا الاصوات وترنموا، وكانوا يسمون الترنم بالشعر غناء، وربما نا سبوا بينه، فأكثروا من النغمات والنبرات،ويسمونه السِناد.وأما النصب فغناء الرُكبان، وهو يشبه الحِداء، إلا انه أرقّ منه، وأبلغ وقعاً في النفوس، وأكثر ما يكون غناؤهم في الخفيف الذي يُرقَص عليه، ويُمشى بالدُفّ والمزمار، ويسمونه الهَزَج.
وظهر الغناء ، أول مره في مكة والمدينة والطائف واليمامة والبحرين، وكان شائعا في الحيرة , لأنها مجامع اسواق العرب ، ومراكز تجاراتهم ، وفيها يلتقي العربي مع اليهودي والمسيحي ، فمن الطبيعي ان تقام مجالس اللهو، وترتفع فيها اصوات القِيان بالوانها المختلفة ذات الألق الإثني .
لقد كان للموسيقى الفضل الكبير في تطوير بعض الأوزان الشعرية في بلاد العرب, حيث نظم الشعراء اوزانا تناسب التأليفات الموسيقية ,مما ساعد على خلق اساليبا جديدة للتعبير في الموسيقى ايضا.
ولعب الغناء دورا مهما في التسويق لبضاعات تجارية متعددة . وهنا اسوق طرفة جميلة من تاريخ قوم الشعر.
قال الأصمعي:" قدم عراقي بعدل من خمر العراق (بضم الخاء ) إلى المدينة فباعها كلها إلا الخمر السود. فشكا ذلك إلى الدارمي ، وكان هذا قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي .. على أن احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك؟ قال: ما شئت، قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه ، فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول ، وقال : شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به .
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الأسود. فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود، وباع التاجر جميع ما كان معه. فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه."
هناك دلالة بينة فيما كان من المثال السابق , عن الجدلية المستمرة حول أيهما اقدم او أهم ,الكلمة ام الموسيقى ؟ فمن قائل الكلمة أولا , ومن يرد بأن الموسيقى هي التي حددت ملامح الكلمة , فلكي تقرّب المعنى الصادق ..أضيفت الموسيقى للألفاظ . يقول شوبنهور: " لأن فن الموسيقى لا يلبث ان يكشف فيها عن موارده وقوته الكبرى" ولكنا لا نلجأ الى استكمال معنى الموسيقى بالكلمات , ففي مجال النغم غنى عن هذا . " شوبنهور – عبد الرحمن بدوي ". ان فكرة الموسيقي قد تتحدث عن الشجاعة والبطولة مثلا , فينفذ الموسيقي انتاجه الإبداعي هذا , فالمستمع سوف يشعر بما تتحدث الموسيقى هذه بذاتها , فهي تعبير موسيقي عميق صادق يدخل في وجدان المستمع. كما ان هذه الموسيقى تصلح لأي نص شعري يتناول فكرة الحماسة والبطولة لأن هذه التعابيرتكون منسجمة مع هذا العمل الموسيقي. ولو تصورنا ان القطعة الموسيقية كتبت من المقام المؤنث ..كما يسميه البعض ( أي الماينور) وتحدثت عن الرومانسية او الوصفية , فلا ينسجم معها عندئذ النص البطولي المقدام !!! حيث لك ان تشعر بها كحقيقة موسيقية بذاتها منفردة. وهنا تكمن قيمة الموسيقى وافضليتها عن النص.
والفارق بين الشعر والموسيقى , في ان الموسيقى تقتنص الزمن في تتابع تنظيمي، وهي لاتملك سوى الصوت، والشعر يعتمد على الكلمات، ويكسبها بالوزن نظاماً وايقاعاً ومن ثم فإن أداءه الفني يتدفق من ذلك التناسق النغمي، ومادة الموسيقى هي النغمات ومادة الشعر هي الالفاظ ، ان الشاعر يمتلك عددا من الرنين الرقيق للغاية والمتنوع ولكن هناك فرقا بين هذا وبين النغمات الموسيقية بما فيها من ارتفاعات وانخفاضات وتواترات تستخدمها الموسيقى. " مبحث في علم الجمال، جان برتليمي ترجمة د. أنور عبدالعزيز، نهضة مصر" .
ولكننا عندما نتوجه لمناقشة العمل الموسيقي , ولكن كأغنية , فهناك عناصر وعوامل متعددة متلازمة لايجوز تجاوزها او اهمالها بل يتوجب توافرها وهي :-
- الميلوديا الأساسية ..أي الموسيقى التي تكسو النص الغنائي.
- استخدام الهارموني وبنائه بالطريقة العلمية الصحيحة ..اضافة لذوق المؤلف الموسيقي.
- الصوت البشري المثقف القادر على التعبيروالنطق السليم .. العارف بأسرار النغم.
- استخدام التكنلوجيا الحديثة.. وهنا أقصد جاهزية الإستديو وضرورة توفر الأجهزة المواكبة لأهم المبتكرات .
- وجوب وجود هندسة صوت ..اي المهندس الذي يلعب دورارمهما في عملية المزج ( mix) ويجب ان يكون دارسا متعلما ,اضافة لموهبة ما تتعلق بالموسيقى.
- إدارة انتاجية ذكية تسوق للعمل الفني هذا .
حينئذ لنا ان نتفاءل بتقديم منجز موسيقي راق نتباهى به, قد يكون له شأن عظيم مستقبلا , دافعا بنا للبحث عن سعادة اخرى وفق المعايير الجمالية .
إن عملية تكوين التعبير الفني ترجع في واقع الأمر الى اسباب متعددة . الّا ان اهمها على الإطلاق هو ذلك التلاقح والتعايش المتزامن بين ثقافات الشعوب التي وجدت في مواقع جغرافية متقاربة ,اذا لم نقل متجاورة. إضافة الى المغنين والموسيقيين المبدعين من العبيد والقيان في عصر ما قبل الإسلام والعصور اللاحقة الذين ساهموا في نقل الأشكال او الأنماط الغنائية المتعارف عليها آنذاك الى بلدانهم , بعد إضافة ما ينسجم منها مع روح المجتمع المعني ورمي مالاينسجم منها من مفردات لغوية وغيرها مما لايتناسب مع الذائقة السائدة.
كان الغناء قديما لدى الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه
الركبانية. وأول من نقل الغناء الاعجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح ومن أهل
المدينة سائب خاثر. وأول من صنع الهزج طويس.
بدأت الموسيقى والغناء العربي تزدهر في ثلاث مناطق,العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية وتحديدا في المدينة ومكة. وكان سوق عكاظ مكانا مهما على الصعيد الأدبي والموسيقي حيث كان للشعر صولة هناك , حيث يتبارى المغنون بما لديهم من فنون. ان العرب لم يستخدموا الموسيقى في عباداتهم , وهذا شئ قد خالفوا به ما جاورهم من الأمم ويعود ذلك لعدم وجود دين واحد يجمعهم. وبذلك نستطيع القول ان الموسيقى الدينية لم تكن هي السائدة على العكس من الغناء الآخر ..حيث كانت اكثر حاجة وأهمية.
وقد لعبت المرأة دورا مهما أساسيا في تسويق الموسيقى والترويج لها قبل الإسلام , وذلك من خلال مشاركاتهن بالالات الموسيقية والرقص والغناء في الأعياد العائلية والقبلية والحروب ,حيث كانت هند بنت عتبة تتزعم بعض النسوة للتخفيف عن متاعب مقاتلي موقعة أحد من القرشيين من خلال ضرب الدفوف ورثاء قتلى غزوة بدر أيضا. وقد استمرت تلك العادات حتى عصر الدعوة الإسلامية .
"وقد أشتهر عدي بن ربيعة شاعر بني تغلب المشهور والذي لقب بالمهلهل بسبب صوته. وكان علقمة بن عبدة من الشعراء الذين غنوا المعلقات. وكان الأعشى ميمون بن قيس يطوف بجميع أرجاء الجزيرة العربية وبيده الصنج يغني الأشعار الرائعة التي وهبته مكانة بين شعراء المعلقات. وكان يسمى صناجة العرب. ومن المؤكد أن النصر بن الحارث، كان من شعراء الجاهلية الموسيقيين.
أشهر المغنيات في عصر الأساطير: جرادتا بني عاد المشهورتان وكانتا تسميان تعاد وتماد. وكانت هزيلة وعفيرة مغنيتي بني جديس، القبيلة التي أفنت بني طسم. ومن المحتمل أن أم حاتم الطائي المشهوربالكرم كانت موسيقية. وكانت الخنساء شاعرة الرثاء المشهورة تغني مراثيها بمصاحبة الموسيقى. وكانت هند بنت عتبة شاعرة وموسيقية".
ومن المفيد الإشارة فيما يلي الى بعض من الأسماء التي اثرت الموسيقى العربية وحددت ملامحها الاولى.
* عزة الميلا
وهي أول من أدخل الغناء الموزون الى الحجاز.
وكانت مولاة، مدنيّة للأنصار وكانت تميل في مشيتها. فسميت الميلا وكانت من أحسن الناس وجهاً وغناء وضرباً بعود ومعزفة . وكانت مطبوعة على صنعة الغناء مؤلفة له لما قدم نشيط الفارسي ، وتعلّم منه سايب خاثر, وغنيا للقينة عزة نغمها. وقد ألّفت ألحاناً عجيبة. فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء.
وكان طويس بها معجباً.. وكانت عفيفة .... وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق يأتيان منزلها وتغنيهما.
وكان ابن سريج يزورها من مكة. فتعلّم منها . وطويس لا يفارقها وكذلك ابن محرز . ولها :
انظر نهاراً باب جلق هل تونس دون البلقا من أحد
لا أخدش الخدش بالنديم ولا يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
أبصرت سلمى ودونها جبل الثلج عليه السحاب كالقد د
* جميلة
وقد أحدثت الغناء الجماعي بعد أن كان منفردا.
أم عمرو مدنية مولاة لبنى سليم , زوجها مولى لبنى الحرث, وكانت من أجمل النساء وأكثرهم أدباً. فأما الغناء فناهيك أنها أتت معبداً ومالكاً وابن عائشة وحبابه وسلامه وخليده وربيحةالشماسيّة جارية قليج بن شماس مولى العباس بن عبد المطلب وعقيلة العقيقية. فأجمع أهل العلم بالغناء أنها كانت أعلم الخلق بالغناء لا يدّعي أحد من المكيين والمدنيين مقاربتها فيه.
وكانت ضاربة. قالت جميلة : اشتهيت الغناء لأن سائب خاثر كان جاراً لنا فكنت أسمعه فغنيت فجاء غنائي أحسن من غنائه. وقال يونس: ما غنت جميلة أحداً قط إلا في منزلها. وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة المحاربي وغناه ملك.
فإن الجلال وحسن الغنا ء وسط بيوت بني الخزرج
تكلم جميلة زين النسا إذا هي تزدان للمخرج
وكان لعبد الله بن جعفر رأي في الغناء .. فمرَّ بباب قوم عندهم جارية تغني:
قل للكرام ببابنا يلجوا ما في التصابي على الفتى حرج
فدخل عليهم فرحبوا به وقاموا إليه وقالوا له جُعلن فداك كيف دخلت بغير إذن. فقال قد أذنتم لي: فقد غنت الجارية .. قل للكرام ببابنا يلجوا.
* ابن مسجح ( توفي 715 م )
وهو عبد أسود ولد في مكة , وأخذ اصول الموسيقى عن المغنين " الفرس" وتعلم الألحان الرومية والبيزنطية في الشام . وهو الأهم كموسيقي مبدع في تلك الحقبة.
و هو أول من غنى الغناء العربي بمكة؛ وذلك أنه مر بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزبير، فسمع غناءهم بالفارسية فقلبه في شعر عربي، ثم رحل إلى الشام فأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية. وعلم أبن سريج، وعلم أبن سريج الغريض.
قالوا: وكان في صباه فطنا ذكياً، وكان مولاه معجبا به، فكان يقول: ليكونن لهذا الغلام شأن، وما يمنعني من عتقه إلا حسن فراستي فيه، ولئن عشت لأعرفن ذلك، وإن مت قبله فهو حر. فسمعه مولاه يوماً يتغنى بشعر أبن الرقاع يقول:
ألمم على طللٍ عفا متقادم بين الذّؤيب وبين غيب النّاعم
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
فدعاه مولاه فقال: أعد يا بني؛ فأعاده فإذا هو أحسن مما أبتدأ به، وقال: إن هذا لبعض ما كنت أقول. ثم قال له: أنى لك هذا ؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنى بالفارسية فقلبتها في هذا الشعر. قال: فأنت حرٌ لوجه الله. فلزم مولاه وكثر أدبه وأتسع في غنائه وشهر بمكة وأعجبوا به. فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال: يا بني علمه وأجتهد فيه.
وكان أبن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلم منه ثم برز عليه. وقد قيل: إنه إنما سمع الغناء من الفرس لما أمر معاوية ببناء دوره بمكة التي يقال لها الرقط ، وكان قد حمل إليها بنائين من الفرس الذين كانوا بالعراق فكانوا يبنونها، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع غناءهم على بنائهم؛ فما أستحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربي، ثم صاغه على نحوذلك. وكان من قديم غنائه الذي صنعه على تلك الألحان شعر الأحوص، وهو:
أسلام إنك قد ملكت فأسجحي قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّى على عانٍ أطلت عناءه في الغلّ عندك والعناة تسرّح
إني لأنصحكم وأعلم أنّه سيّان عندك من يغشّ وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبّها قالت أجدٌّ منك ذا أم تمزح
وهذا من أقدم الغناء العربي المنقول عن الغناء الفارسي. قال: وعاش سعيد بن مسجح حتى
لقيه معبد وأخذ عنه في ايام الوليد بن عبد الملك.
وقد ورد في كتاب " نهاية الأرب في فنون الأدب" للنويري الحكاية التالية عن هذا المغني الكبير في زمانه ما معناه : انه عندما قبض على سعيد ابن مسجح بمكة , وارسلوه الى عبد الملك بن مروان , وحيث حط عند بعض القرشيين في الشام . ذهب القرشيون - الذين أضافوه - لقضاء بعض الوقت من المتعة في بيت من بيوت القيان وكان ابن مسجح معهم .وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة . قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت: من الطويل:
فقُلْتُ أَشَمْسٌ أَم مصابيحُ بِيعةٍ بَدَتْ لك خَلْفَ السَّجْفِ أَم أَنْتَ حالمُ
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بي الأمثال! فنظروا إلي نظراً منكراً،ولم يزالوا يسكنونها، ثم غنت صوتاً. قال ابن مسجح: فقلت أحسنت والله ! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا
الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي، فقد ثقلت
على القوم، فذهبت أقوم، فتذمم القوم وقالوا لي: أقم وأحسن أدبك. فأقمت، وغنت فقلت: أخطأت والله يا جارية يا .....!!!! وأسأت، واندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية وقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد
بن مسجح؛ فقلت:أي والله أنا هو، والله لا أقيم عندكم! ووثبت، فوثب القرشيون، فكل قال: هذا يكون
عندي، فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيدكم- يعني الرجل الذي أنزله منهم- وسألوه عماأقدمه، فأخبرهم الخبر. فقال له صاحبه: إني أسمر الليلة مع أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال : لا، ولكني أستعمل حداء. قال: إن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك. ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيب النفس أرسل إلى ابن مسجح، فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا: من الرجز:
إنك يا عبد الملِك المُفْضل إِن زُلْزِلَ الأَقدامُ لم تُزلْزَلِ
عن دينِ موسى والكتاب المنزل تُقيمُ أَصداغَ القُرونِ المُيَّلِ
للحقْ حتى يَنْتَحوا للأَعدَلِ
قال عبد الملك للقرشي: من هذا؟ قال: رجل حجازي قدم علي، قال: أحضره، فأ حضره
ثم قال له: أحد مجدداً، ثم قال له: هل تغني غناء الركبان؟ قال: نعم؛ قال: غنه، فتغني، قال
له: فهل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: غنه فغنى، فاهتز عبد الملك طرباً، ثم قال له:
أقسم أن لك في القوم أسماء كثيرة، من أنت، ويلك!؟ قال: أنا المظلوم المقبوض ماله المسير
عن وطنه سعيد بن مسجح، قبض عامل الحجاز مالي ونفاني. فتبسم عبد الملك ثم قال:
قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم، وأمنه ووصله، فكتب إلى عامله
يردد ماله وأن لا يعرض له بسوء.
وبالإستناد الى ماكتبه الأولون العظماء عن المغنين الذين أثّروا و أثروا الغناء العربي . تتضح لنا رويدا رويدا بدايات تشكيل التعبير الفني والتعرف على انماط متعددة من مناحي الحياة الإجتماعية والأدبية.. والغنائية بشكل خاص .
يتبع
#فلاح_صبار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟