|
تفسيرٌ غير مُقدَّس لنصٍ مُقدَّس
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 3969 - 2013 / 1 / 11 - 00:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنَّ آفةَ الفهمِ للنصوص الدينية هو ما يذهبُ إليه بعض المًفسِّرون باجتهاداتٍ شخصيةٍ، تحلُّ مَحَل القداسةِ لارتباط الفهم الخاص بالنص المُقدّس، فيُصبحُ التفسير نفسه مُقدّسًا وكأنَّه هو المُراد الحقيقي مِن الآية، وهنا يُغفلُ البعض التفريق بين قداسة النص والاجتهاد البشري القابل للخطأ والصواب. وإذ أتناول هذا الأمر فإنني أتناوله من وجهة النظر الدينية المُعتدلة، وليس من وجهة نظر إلحادية، وذلك حتى يستقيم المعنى، ونعرف أنَّ النص القرآني ليسَ مُعجزًا بحالٍ مِن الأحوال، ولم يُرد له ذلك؛ بل هو كلامٌ عربيٌّ عاديٌّ جاءَ في سياقٍ تاريخي، ولم يخرج عنه قيد أنملة.
وعندما تكونُ هنالكَ آيةٌ غيرُ مفهومةٍ، فإنَّه يطيبُ للبعض التحامل عليها، وذلك برؤية ما ليس فيها، وتحميلِ النَّص أكثرَ بكثير مما يحتمله عادةً، لأنَّ المُحرَّكَ في ذلك هو الانطلاق مِن قاعدة قداسة النَّص باعتباره نصًا إلهيًا معصومًا مِن العيب والخطأ، بينما العكسُ تمامًا هو الصحيح. واختلاف تفاسير الآيات التي أنوي تناولها، توضح هذا الفهم وهذه المُعالجة الخاطئة للنَّص القرآني، وهي الآيات من (106 – 108) من سورة هود، وتقول الآيات: {فأمّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (*) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلّا ما شاء ربك إنّ ربك فعّال لما يُريد (*) وأمّا الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلّا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ}(هود: 106-108)
يأتي الإشكال الرئيس في تأويل هذه الآيات مِن عبارتين مُهمّتين، هما: (ما دامت السماوات والأرض) و (إلّا ما شاء ربك) لأنَّه مِن المعلوم أنّه لن تكون هنالكَ (في الآخرة) أراضين أو سماوات، فما قيمة الاستشهاد بأشياءٍ لن تكونَ موجودة؟ لأننا نقرأ في موضع آخر قوله: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}(الأنبياء:104) والحقيقة أنَّ الفهم السائد عن أنَّه لن تكون هنالك سماء أو أرض يوم القيامة، هو فهم غير دقيق، ويحتاجُ إلى مُراجعة، لأن تتمة الآية 104 من سورة الأنبياء تفيد بعكس ذلك، فنقرأ {كما بدأنا أوّل خلق نعيده} إذن فهنالك "إعادة" سوف تحدث، وكذلك قوله: {يومئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّا بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا}(النساء:42) والحديث هنا عن أحد مشاهد يوم القيامة، وهذه الآية تؤكد أنَّه سوف يكونُ هنالك أرضٌ يتمنى الكافر أن يُسوَّا بها. وكذلك نقرأ: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ..}(إبراهيم:48) هذه الآية أكثر وضوحًا مِن أيّ آيةٍ أخرى، فسوف تكون هنالك سماوات وأرض، ولكنها ليست ذات السماوات أو الأرض الموجودة الآن. وبهذا نكون قد حسمنا هذه القضية، فقوله: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} تعني: "طوال فترة وجود هذه السماوات والأرض الجديدة" وليست السماوات والأرض الحالية، وهذا ينفي ما ذهبَ إليه البعض مِن تفسير الآية على أنها إشارةٌ إلى نعيم أو عذاب القبر، وارتباط مدّة هذا النعيم أو هذا العذاب بوجود الأرض والسماوات المعلومة.
نأتي الآن لمُناقشة قوله: {إلّا ما شاء ربك} وكثيرٌ مِن المُفسِّرينَ ذهبوا إلى تفسير هذه الآية أو العبارة على أنها قائمة بمعنى الاستثناء، وبذلك دخلوا في إشكالية تضارب الاستثناء مع فهم "الخلود" فبعضهم ذهب إلى التنظير حول معنى الخلود وزمانه، باعتبار أنَّ الكلمة لا تعني الخلود (Immortality) وإنما تعني البقاء بدون تغيير، لأنَّ الخلود، في نظرهم، صفةٌ إلهية، لا تحق للبشر أو أيّ كائن "مخلوق" التحلّي بها، وهم بذلك خلطوا بين مفهوم الخلود والأزلية، فالأزلية هي التي تليق بالإله مِن حيث هو لا بداية ولا نهاية، بينما الخلود يعني البداية بلا نهاية. وربما نسى هؤلاء المُفسّرون أنَّ "الخلود" في حدّ ذاته سرٌّ مِن الأسرار، بحيث أنّه مكافأةٌ لأهلِ النعيم، وعقوبةٌ لأهل النار، وبهذا الصدد نقرأ العديد مِن الآيات التي توضح لنا بشكلٍ جليٍّ، لا يدعو للبس أنَّ هنالك خلودًا في الدار الآخرة، سواءٌ للمُنعَّمين أو المُعذَّبين، فنقرأ مثلًا: {لا يذوقون فيها الموت إلّا الموتة الأولى}(الدخان:56) إذن فهنالك خلودٌ في الدار الآخرة، فكيف يُفسّر هذا الاستثناء؟
الحقيقة أنّه ليس هنالك أيُّ استثناءٍ في الآية، لأن الأداة المُستخدمة هي ليست أداة استثناء، وإنما حرف جرّ، فالكلمة الصحيحة هي (إلى) وليست (إلّا) ومِن الواضح أنَّ النُسَّاخ قد وقعوا في خطأ عند نقل وتصحيف القرآن، وذلكَ كما فعلوا في العديد مِن الآياتِ الأخرى، فاللغة العربية في ذلك الوقت، كانت لغةً سماعيةً فتكون الكتابة وفقًا للسمع، وليس وفقًا لقاعدة إملائية مُحدّدة، فقرأ النُسَّاخ قوله {إلى ما شاء ربك} ورسموها كما سمعوها {إلا ما شاء الله} (ولكن ليس بوضع الشدّة على حرف اللام)، وكُلنا يعلم أنَّ الحركات المعروفة في اللغة العربية أو الرسم العربي (فتحة، ضمّة، كسرة، شدّة، تنوين) تم اختراعها في وقتٍ لاحقٍ مِن تصحيف القرآن، ومِن هنا حدث الخلط لدى النُسَّاخ، ومثل هذه الأخطاء كثيرة جدًا، ومنها على سبيل المثال رسم تاء كلمة (نعمة) تاءً مفتوحة، وذلك في قوله مثلًا: {أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون}(الزخرف:32) مع أنَّها رُسمت في آياتٍ أخرى بطريقةٍ صحيحةٍ، فنقرأ مثلًا: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}(البقرة:157) والأمثلة كثيرةٌ للغاية.
وإذا عرفنا أنَّ العرب لم يكونوا يكتبون الألف، كما نبَّهنا إلى ذلك الدكتور كامل النجار في مقاله بعنوان (الرسم القرآني)* فإننا سوف نجدُ في هذا التفسير الكثير مِن الصحّة والاتساق؛ وهنالك كلماتٌ كثيرةٌ جدًا في القرآن لم يأت فيها رسم حركة المد (الألف)، وعلى سبيل المثال راجعوا رسم القرآن لهذه الكلمات: 1) أموات – ترسم (أموت) مع وضع ألف صغيرة فوق الرسم، وهذا جاء لاحقًا. 2) الظلمات – ترسم (الظلمت) مع وضع ألف صغيرة فوق الرسم، وهذا جاء لاحقًا. 3) الصلاة – ترسم (الصلوة) مع وضع ألف صغيرة فوق الرسم، وهذا جاء لاحقًا. 4) المنافقين – ترسم (منفقين) مع وضع ألف صغيرة فوق الرسم، وهذا جاء لاحقًا. 5) ميتاق – ترسم (ميثق) مع وضع ألف صغيرة فوق الرسم، وهذا جاء لاحقًا.
والأمثلة كثيرةٌ جدًا على ذلك، وقد انتقلت هذه العادة إلى الكتابة العربية حتى خارج القرآن في استخداماتنا الكتابية، فمثلًا، (هذا) هي في الأساس (هاذا)، وكلمة (أولئك) هي في الأساس (أولائك)، وكلمة (كذلك) هي في الأساس (كذالك)، وكلمة (ذلك) هي في الأساس (ذالك)، وكلمة (هكذا) هي في الأساس (هاكذا)؛ حسب الطريقةِ السماعيةِ لكتابةِ الكلمات بالعربية. ولقد قام النُسَّاخ بكتابة الكلمة كما سمعوها بهمزة ثم لام ثم مدّة (بدون وضع شدّة)، وهذه الشدّة تم وضعها لاحقًا عن طريق الخطأ؛ فأصل الكلمة هي (إلى)، وإذا حاولنا أن نقرأ الآيات، بعد هذا التعديل، سوف نجد المعنى متسقًا تمامًا: {فأمّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (*) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلى ما شاء ربك إنّ ربك فعّال لما يُريد (*) وأمّا الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلى ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ} وهكذا فإنَّه لا وجود لأيّ استثناء في هذه الآيات، والمعنى متسقٌ تمامًا، وهذا هو الفيصل في التفسير (السياق) الذي يُغفله الكثيرون في تأويلاتهم. والمُراد هنا عذاب الآخرة وليس عذاب القبر، لأننا إذا رجعنا للآية التي تسبق هذه الآيات لوجدنا أنَّ السياق هو سياق الإخبار عن الآخرة، فنقرأ: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (*)وما نؤخره إلا لأجل معدود (*)يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد}(هود: 103-105) ولكن هذا لا يعني أنَّ كلَّ حرف استثناء في القرآن هو بالضرورة حرف الجر (إلى) إلّا أن يكون السياق متوافقًا مع ذلك، لأنّ عملية النسخ لم يكن يقوم بها شخص واحد، بل عدد من النُسَّاخ، ولهذا فإنه كان لكل واحدٍ منهم طريقته في الكتابة؛ فنقرأ مثلًا: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلّا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}(الأنعام:128) فالسياق هنا هو (إلى ما شاء الله) فهي المُناسبة للخلود في النار عقابًا، أمّا قوله مثلًا: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلّا ما شاء الله}(الأعراف:188) فالسياق هنا سياق استثناء والمعنى هنا: "إلّا أن يشاء الله لي النفع أو الضر" وكذلك في قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلّا ما شاء الله}(الأعلى) فالمعنى هنا {فلا تنسى إلى ما شاء الله} أيّ: "فلن تنسى أبدًا" وهكذا نرى أنَّ السياق هو الذي يحكمنا في المقام الأول في التأويل.
وهذا الخطأ الذي وقع فيه بعض النُسَّاخ كان أحد مداخل المتلاعبين مِن دُعاة الإعجاز البلاغي واللغوي في القرآن، والأمر في نهايتي، كما أرى، لا يتجاوز الخطأ في النسخ، ولا أرى في الآية أيّ إشكال فيما عدا ذلك، ولا يُمكن فهم أداة الاستثناء (إلّا) بغير استخدامها الذي عرفتُه العرب، وليس لها أيّ استخدامات أخرى، ولكنا علينا أن نفرّق بين (إلّا) والتي هي أداة استثناء و (إلا) التي هي رسم سماعي لحرف الحرف (إلى) وهو المقصود في مقالنا هذا.
---------------- (*) مقال الدكتور كامل النجار (الرسم القرآني) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=272385
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات في العقيدة المسيحية
-
عن المسيحية والبالتوك - 6
-
عن المسيحية والبالتوك - 5
-
عن المسيحية والبالتوك - 4
-
عن المسيحية والبالتوك - 3
-
عن المسيحية والبالتوك - 2
-
عن المسيحية والبالتوك - 1
-
لماذا الله غير موجود؟
-
في نقد شعار: الإسلام هو الحل
-
المادية التاريخية للجنس – 3
-
المادية التاريخية للجنس – 2
-
المادية التاريخية للجنس - 1
-
عنّ ما حدِّش حوَّش
-
نقد العبث اليومي(*)
-
تهافت رهان باسكال(*)
-
خطوطات مادية نحو تفكيك الإيمان
-
يوم مهم
-
تأملات مشروعة 2
-
تأملات مشروعة
-
آلهة اسمها الصدفة
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|