|
القرن التاسع عشر وإستقلال علم النفس ... المدرسة التجريبية
أحمد القبانجي
الحوار المتمدن-العدد: 3968 - 2013 / 1 / 10 - 18:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يتميّز هذا القرن بالزيادة الملموسة في التوجّه إلى النمط التجريبي في علوم الفسيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية، حتّى أفرز هذا المنهج التجريبي وضوح في المعالم والرؤى لدى العلماء والباحثين بعيداً عن منهج التأمّل والبرهان الجدلي الذي كان سائداً فيما سبق، حيث أخذ العلماء ومن جملتهم علماء النفس يوجهّون الأسئلة وعلامات الإستفهام إلى الظواهر الطبيعية والحيوية ويجرون التجارب والمشاهدات المختبرية للتأكّد من صحة الاقتراضات في هذا المجال والخروج بنتائج مقنعة ومطمئنة، فتمّ الكشف عن كثير من القضايا التي ترتبط بعلم النفس من قبيل كيفية الأبصار وسرعة الصوت والضوء والكشف عن الدورة الدموية وتأثير الهرمونات التي تفرزها الغدد الصمّ، وبعض فعاليّات المخ ودوره في السيطرة على الفعاليات والنشاطات الجسمية والذهنية وشبكة الأعصاب وسرعة التيار العصبي وما إلى ذلك. وكان لهذا المنهج التجريبي ميزته على المنهج التأملي السابق بأنّه توصّل إلى اكتشاف حقائق علمية هامّة لا تقبل الردّ وخاصة في المجال الفسيولوجي حيث دعمها بالتجارب الكثيرة على الحيوان والإنسان، ممّا دفع ببعض الباحثين إلى الاستفادة من هذا المنهج الجديد في خدمة علم النفس بشكل خاص، فكان ان تولّد في أواخر هذا القرن أوّل مختبر للعلوم النفسانية في المانيا.
المدرسة التجريبية (المحتوى): وكما كانت انجلترا في القرن السابق رائدة في الدراسات النفسية على مذهب المدرسة الترابطية، نجد أنّ المانيا في هذا القرن، أي القرن التاسع عشر سبقت انجلترا وسائر الدول الاوربية في المنهج التجريبي وتأسيس ثاني مدرسة نفسية باسم المدرسة التجريبية، أو مدرسة المحتوى «لاهتمامها بالمحتوى الذهني للفرد» أخذت على عاتقها دراسة النفس الإنسانية وقضايا السلوك والتعليم والتربية والإنفعالات والعواطف على أساس المنهج التجريبي الجديد، وأخذ رجال هذه المدرسة وهم من الألمان غالباً أمثال، فونت، وفخنر، وتيجنر، وغيرهم بالإستفادة من آراء ونظريات علماء الأحياء والفسلجة وخاصةً داروين، وأقاموا مذهباً جديداً في علم النفس يوازي في منهجه العلوم الطبيعية الاُخرى، وثمّ فصل علم النفس كلّياً عن الفلسفة وصارت له علائمه ومختبراته وعلماؤه ودراساته جنباً إلى جنب مع سائر العلوم الطبيعية الاُخرى. ولابدّ للمزيد من التفاصيل عن المدرسة التجريبية هذه من استجلاء بعض الحقائق عن رجالها والدعامات الفكرية التي تقوم عليها، والنتائج التي أفرزتها في تحقيقاتها العلمية، ومجلوباتها على الصعيد العلمنفسي .. أمّا رجالات هذه المدرسة:
1 ـ هلم هلتز بـ(1821 ـ 1894): هلم هلتز، من كبار علماء القرن التاسع عشر، وله أكبر عدد من التحقيقات في الفيزياء والفسلجة وعلم النفس، أي انّ علم النفس يأتي بالدرجة الثالثة من اهتماماته العلمية، ومع ذلك كانت لتحقيقاته في قياس الإنتقال العصبي في حاستي السمع والبصر أثر كبير ودور فاعل في تفعيل علم النفس التجريبي. وقد كان يظنّ في السابق أنّ حركة الأعصاب آنية وفورية، أو على الأقل لا يمكن قياسها بالوسائل العلمية، فما كان من هلم هلتز إلاّ أن قام ولأوّل مرّة بقياس مقدار سرعة التحرّك العصبي، من خلال التجارب التي أقامها على الضفادع وتحريك عصب الحركة في قدم الضفدعة وقياس زمن الإثارة والحركة ونتيجة الحركة بدقّة بالغة، وكذلك الحال في الأعصاب الحسّية للإنسان وزمان الحركة الإنعكاسية للأعصاب، فقد قام بتجارب من هذا القبيل ودرس في تحقيقاته دورة كاملة للحركة العصبية من تحريك العضو الحسّي، إلى استجابة العضو الحركية. وهذه الإثباتات في المجال العصبي استلزمت حقائق اُخرى على صعيد الفكر والحركة وانّه يمكن قياس الفاصلة بينهما وأنّ أحدهما يتّبع الآخر، لا أنّهما يحدثان في وقت واحد كما كان يتصوّر سابقاً. أعمال هلم هلتز في مجال الرؤية والإبصار كان لها تأثير عميق في إيجاد علم النفس بالمنهج العملي التجريبي، وكذلك في نظريته حول رؤية الألوان التي طرحها لأوّل مرّة «توماس يونغ»، ثمّ تحقيقاته في مجال الأصوات وحاسة السمع وإدراك الموجات الصوتية البسيطة والمركبة، كلّ ذلك ترك آثاره العلمية على دراسات علم النفس فيما بعد في هذه المجالات.
2 ـ ارنس وبر: «1795 ـ 1878». تركزت تحقيقات ارنست وبر على عمل الحواس، وخاصةً حاستي السمع والبصر، لقد أثّرت تجاربه الفسيولوجية الأبحاث النفسية المتعلقة بالمؤثرات الخارجية وكيفية الإستجابة الحسيّة لها، بحيث زاد من ربط عجلة علم النفس بالعلوم الطبيعية، وأضعف إرتباطه بالفلسفة إلى حدّ كبير. وكما رأينا في هلم هلتز، فانّ وبر لم يكن يهتمّ لمعطيات تجاربه من جانبها العلمنفسي (السيكولوجي)، بل بما لها من قيمة فسيولوجية، إلاّ انّ علماء النفس استفادوا كثيراً من تحقيقاته، لا سيّما المتعلّقة في التحقيق حول إشكالية إرتباط البدن والذهن، وكذلك بين المثير والإستجابة، فكانت لها وقعاً غير متوقّع في الوسط المعرفي والتجريبي آنذاك. لقد كانت تحقيقات وبر تجريبية بتمام معنى الكلمة، وهذا ما فتح آفاقاً جديدة للباحثين في علم النفس وأكّد مقولة إمكانية الحصول على نتائج ومعطيات علمية مختبرية على الصعيد النفساني، فقد رصد وبر المثير أو المحرّك بدقّة فكان يغيّره بشكل منظّم ويلاحظ آثاره المتنوعة في الإنفعالات النفسية والاستجابات العصبية، ويسجل النتائج المتحصلّة، ثمّ أضحت هذه التجارب المختبرية رافداً علمياً للباحثين لمواصلة هذا المنهج في التحقيق النفسي.
3 ـ جوستاف فخنر (1801 ـ 1887): خلال سنوات مديدة كان فخنر منشغلاً بتحقيقاته الفلسفية، حيث تعمق فيه الشعور الديني وازداد حبّاً وتعلّقاً في معرفة الروح والنفس فأكبّ على معرفة الرابطة التي تربط بين الذهن (النفس) والبدن، وبالرغم من أنّه كان عالماً رياضياً وفيزياوياً، إلاّ انّ مسلكه الروحي جذبه إلى البحث الفلسفي عن الروح وما وراء الطبيعة، وقيل انّه تحوّل إلى هذا المسلك على أثر أزمة نفسية شديدة حدثت له عام 1839، فكان أنّ نشر أوّل كتاب فلسفي له عام 1851 تحدّث فيه عن سريان الشعور لدى الكائنات كافّة، فالأرض موجود حي ومدرك وهي اُمّنا، وانّ الروح لا تموت، وسعى بما اُوتي من ممارسة في العلوم الطبيعية إلى توضيح الرابطة بين الروح والمادّة، وبما أنّ المحرّك والمثير يكون عادةً من النور، الصوت، الوزن، وما شاكل ذلك وكلّها تدور في مدار المادّة، والإحساس في الإنسان والمتأثّر بهذه المثيرات الحسّية المادية من مقولة الروح أو يرتبط بها مباشرةً، فقبل كلّ شيء لابدّ من قياس مقدار الإحساس. فكان من فخنر أن استفاد لذلك من تجارب «وبر» في هذا المجال، وكانت حصيلة تحقيقاته ودراساته في هذا المجال أن ذهب إلى انّ الروح والبدن وجهان لحقيقة واحدة في الأصل، فالروح تمثّل البعد الباطني للحقيقة، والبدن بعدها الظاهري، فهما كالدائرة في تحدّبها وتقعرّها، فهي مقعرّة من جانبها الداخلي، ومحدّبة من الخارج، وهما مرتبطان أشدّ الإرتباط، بل انّهما من زاوية أمر واحد. وطبعاً، انّ شهرة فخنر ليست لأجل نظرياته الفلسفية، بل لتحقيقاته وتجاربه على الصعيد البدني النفسي، أي الجسمنفسي، فقد سعى إلى إثبات رؤاه الفلسفية بالمنهج التجريبي، ففي عام 1850 خطر في ذهن فخنر القانون الكمّي لاشكالية إرتباط الذهن والبدن، بين الإحساسات الذهنية والمحرّكات الجسمية الخارجية، بالشكل التالي: كلّ زيادة في شدّة المثير لا تستوجب زيادة بذلك المقدار على صعيد الإحساس، بل أنّ زيادة شدّة المحرّك والمثير لو كانت بصورة تصاعدية هندسية، فانّ شدّة الإحساس تكون بصورة تصاعدية عددية، مثلاً، إضافةً صوت جرس على جرس كان يدقّ قبلاً له تأثير على الاحساس أكثر من إضافة جرس إلى عشرة أجراس كانت تدقّ قبلاً، فعلى هذا الأساس لا تكون شدّة المحركات أو المثيرات مطلقة من هذه الجهة، بل ترتبط بمقدار الإحساس الموجود سابقاً. بهذا البيان المبسّط والهام في الوقت نفسه من ناحية علمية خرج علماء النفس بنتيجة، وهي انّ مقدار الإحساس (أي الخصوصية الذهنية) تبتني على مقدار المثير (أي الخصوصيات الجسمانية والمادية)، فلذا، ومن أجل قياس مقدار التغيير، أو الزيادة الكمية في الإحساس يجب قياس مقدار التغيير أو مقدار زيادة المثير الخارجي، لأن أحدهما مبتن على الآخر، أو بعبارة اُخرى: انّ الإحساس مبتن على المحرّك الخارجي، وبهذا الترتيب أمكن ربط العالم المادي بالعالم الذهني من الناحية الكمية، وهدم الجدار الحائل بين الجسم والذهن بهذه المقولة. وكان كشف فخنر هذا في إثبات وجود الإرتباط الكمّي بين شدّة المحرّك والإحساس يعدّ في ذلك الوسط العلمي بمثابة كشف قانون العتلات وسقوط الأجسام لجاليلو من حيث الأهمية والفوائد المترتبة عليه، حيث أدّى سعي فخنر إلى إمكانية قياس الذهن والفعاليات الذهنية لأوّل مرّة بعد أن كانت من المحالات. وبالرغم من أنّ «وبر» قد سبق فخنر بعض الشيء في تحقيقاته التجريبية في هذا المجال، إلاّ أنّ المشكلات وتراكمات العمل وقعت على عاتق فخنر الذي أوضح إشكالية الإرتباط بين العالم المادي والروحي بشكل معادلات رياضية ضرورية في الدراسات النفسية. ولا يخفى أنّ فخنر قد درس عند وبر فترة من الزمان، إلاّ أنّ أبحاثه امتدت إلى عالم ما وراء الطبيعة وأدّت إلى تثوير فكري في الوسط الفلسفي والفسيولوجي، وما زالت إثباتاته العلمية محل بحث وقبول لدى العلماء.
4 ـ ويلهلم فونت (1832 ـ 1920) والمدرسة التجريبية: من خلال ما تقدّم في تصوير المسار المعرفي لعلم النفس لابدّ وان نصل إلى هذه النتيجة الحتمية المترتبة على المنهجية التجريبية لعلماء الغرب، وهي إستقلالية علم النفس عن الفلسفة، وتغيير المنهج التأمّلي والبرهاني العقلي في الفلسفة إلى التجريبي في دائرة العلوم النفسية، ولابدّ أن يصدع أحد العلماء بهذا الأمر، ويتحمّل عب التأسيس لهذا العلم، ولملمة المفردات المتناثرة ونتائج التجارب السالفة وصبّها في بوتقة واحدة في إطارها الجديد، وهو ما قام به «فونت» بتأسيسه أوّل مختبر للدراسات النفسية التجريبية في المانيا عام 1879 في مدينة لايبزيج، وهو أوّل معمل مزوّد بأجهزة خاصة لاجراء التجارب على الحواس المختلفة من سمع وبصر ولمس وكذلك على كيفية التذكّر والتعلّم والتفكير والإنتباه وقياس سرعة النبض والتنفّس في حالات الإنفعال، وخاصةً بعد أن أمكن قياس فعاليّة الذهن والشعور بتوسط فخنر، فمنذ ذلك الحين أمكن لعلم النفس أن يتبّوأ مكانه بين العلوم الطبيعية كعلم مستقل له موضوعاته ورجاله ومختبراته الخاصة، وتهيّأ لمدينة لايبزيج أن تقام فيها أوّل أكاديمية تتخصّص بدراسة هذا العلم بما توافد عليها من طلاب وهواة هذا العلم للإستفادة من اُستاذهم «فونت». أمّا السبب في عدم نسبة هذا الفتح العلمي إلى فخنر مع إذعان المؤرخين في علم النفس إلى أهمية أبحاثه وتحقيقاته في تطوير وترشيد هذا العلم حتّى أنّ فونت نفسه قال: «إنّ عمل فخنر كان بداية المشروع في علم النفس التجريبي»، ولولا تجارب فخنر لكان من المستبعد جدّاً أن تقوم لعلم النفس ركائز علمية وإثباتات فكرية في ذلك الحين، إذاً، لماذا لم يذكر كمؤسّس لهذا العلم وباني دعائمه؟ الواقع انّه لابدّ من التمييز بين مقولة «الإبتكار» ومقولة «التأسيس»، فما قام به فخنر ومن سبقه في هذا المجال من إثباتات علمية وتجارب مضنية يدخل في مقولة الإبتكار والإكتشاف لمفردات متناثرة في موضوع العلم، فلم يكن فخنر بصدد تأسيس علم جديد في كشوفاته تلك، ولا أدعى ذلك، بل كان همّه إيجاد الرابطة بين العالم المادي والروحي والسعي لإثبات الوحدة المفهومية بين الذهن والبدن، وكذلك كانت الكشوفات والإبتكارات السابقة للعلماء الانجليز والالمان، أمّا عنوان التأسيس، فهو أن يقوم أحد العلماء بجميع الإبتكارات المتناثرة هذه وإفراغها في إطار موضوعي واحد مع سبق إصرار وتفّهم لما يقوم به، أي مع علمه وإصراره على خلق اُطروحة متكاملة ومنسجمة تجمع بين النظريات السابقة والتجارب السالفة، وترميم النواقص وسدّ الثغرات والإعلان المداوم عن اُطروحته هذه، وهذا ما قام به فونت، عندما قال في بداية كتابه «علم النفس الفيزيولوجي» عام 1874: «ما أقوم به الآن من الإعلان لعموم الناس، إنّما هو محاولة لإبراز مدار جديد من العلم ..» وأيّد كتابه هذا على الصعيد التطبيقي بإنجازه أوّل معمل أسّسه لهذا الغرض.
5 ـ ادوارد تيجنر: «1867 ـ 1927» ولد تيجنر في انجلترا، وعاش في امريكا، ويعتبر من أشهر رجال المدرسة التجريبية لعلم النفس، فبعد أن درس علم النفس مدّة سنتين في لا يبزيك على يد «فونت»، سافر امريكا وعمل فيها اُستاذاً لعلم النفس في جامعة آكسفورد، وأنشأ مختبراً لإجراء التجارب والفحوصات والتحقيقات العلمية في المجال النفسي ممّا أسهم كثيراً في تطوير الحركة العلمية التجريبية في هذا المجال، وألّف عدّة كتب ومقالات في صدد التعريف بهذا العلم الجديد والإشادة بالمدرسة التجريبية والدفاع عنها حتّى أنّه قيل في المذهب التجريبي انّه مذهب تيجنر. وبالرغم من نشوء مذاهب اُخرى في هذا العلم أكثر استيعاباً لمسائل العلم وأقوى حجّة، إلاّ أنّ المذهب التجريبي بقى حيّاً وفاعلاً ولو في الظاهر ما دام تيجنر على قيد الحياة، فلمّا مات ماتت معه المدرسة التجريبية وأخلت مكانها للمدرسة الوظيفية، والسلوكية، ومدرسة التحليل النفسي وغيرها.
موضوع علم النفس التجريبي وأهدافه: لمّا كان (فونت) يرى أنّ معلومات الإنسان حصيلة التجربة والمدركات الحسّية، كما هو الحال في النظرة الفلسفية المادية التي سادت الأوساط العلمية الغربية في ذلك الحين. فقد ذهب إلى أنّ موضوع هذا العلم الجديد يتمحور في «التجربة بلا واسطة» في مقابل موضوعات العلوم الطبيعية الاُخرى «التجربة مع الواسطة». والمراد من التجربة بلا واسطة أو مع الواسطة، أنّ العلوم الطبيعية تدرس المفردات والموضوعات الخارجية بتوسط التراكمات الذهنية من التصورات السابقة والمحصولات الفكرية القبلية، كما هو الحال في علم الفيزياء والطبّ مثلاً، فهي تعتمد بالدرجة الاُولى على المخزون الذهني من ركام هائل من اللغات والتصورات المقتبسة من الخارج، كما لو رأينا سيارة سوداء، وحكمنا بأنّها سوداء، أو من النوع الفلاني، أو قيّمنا ثمنها وما شاكل ذلك، حيث تعتمد هذه المعلومات على تصورات مسبقة عن اللون والنوع والقيمة، أمّا لو فتحنا الباب وركبنا فيها، فالإحساس النفسي والإدراك الذهني لهذه التجربة لا يتوقّف على إدراكات ومعلومات مسبقة، بل هو إدراك آني وبدون واسطة. وكذلك في الإحساس بوجع السن، فهو علم نفسي وبدون توسط تصورات مسبقة، بخلاف ما لو قال الشخص: انّني أشعر بوجع السن، فهنا نقف أمام تجربة مع الواسطة. وهذا المعنى يتوافق مع مقولة الحكماء من تقسيم العلم إلى حضوري وحصولي، والمراد من العلم الحضوري ما يشعر فيه الإنسان بالمعلوم لذاته، أي يتّحد فيه العالم والمعلوم، فالعالم هو النفس والمعلوم هو النفس أيضاً كما في أشكالية اللذّة والألم والحالات الإنفعالية من الفرح والحزن والغضب وما شاكل ذلك. والعلم الحصولي بخلاف، أي علم الإنسان بالموضوعات الخارجية. أمّا تيجنر، فلم يلتزم بهذا التحديد لموضوع علم النفس، أو بعبارة اُخرى، وضع الموضوع وهو التجربة في إطار آخر أكثر مقبولية من السابق، حيث ذهب إلى أنّ جميع العلوم لها موضوع واحد، وهو الجانب التجريبي من اتصال الإنسان بالعالم الخارجي، ولكن كلّ علم إنّما يدرس التجربة في بعد خاص وجهة معينة، وبصورة مستقلة عن إدراكاتنا الذهنية والنفسية: فالوزن يقاس بالغرام، والحرارة تقاس بالدرجة المئوية، والمساحة تقاس بالسانتيمتر وهكذا، ولا علاقة في كلّ هذه المقاييس بحالة المحقّق أو المجرّب النفسية، فهي مقادير ثابتة، ولا تتغيّر بتغيّر الحالة الذهنية أو النفسية للإنسان، سواء كان طفلاً أم بالغاً، سليماً أم سقيماً، جاهلاً أم عالماً، فالماء يغلي بدرجة مائة مئوية، ولا ربط له بالإنسان. أمّا في العلوم النفسية فيختلف الحال كثيراً، لأنّه لمّا كانت النفس تخضع لمتغيّرات بيئوية ومزاجية وفاقد لعنصر الثبات، فالأحكام التي يصدرها الذهن متغيرة كذلك، فالبطيخة ذات الكيلوين ثقيلة بالنسبة للطفل، وخفيفة للرجل النشيط، بل انّ الفرد الواحد يجد هذه المتغيرات في الحكم على الشيء الواحد عند اختلاف الظروف الموضوعية، فلو وضعنا عدد من الحصى يبلغ وزنها كيلو غراماً واحداً في علبة صغيرة أو كيساً لوجدنا لها ثقلاً معتداً به، أمّا لو وضعنا نفس هذه الحصوات في جعبة كبيرة، لما وجدنا لها وزناً يذكر، الساعة الموجودة في غرفة الانتظار بالقياس مع الساعة الموجودة في صالون السهرة، نلاحظ انّهما بالرغم من تساويهما من الناحية الفيزياوية في حساب الوقت وعدد الدقائق والساعات، ولكن في الدراسات النفسية نحكم بأنّ حركة العقارب في الاُولى أبطأ من الثانية، وهكذا. فالزمان والمكان والوزن لها مقاييسها الثابتة في العلوم الطبيعية. أمّا في علم النفس فهي متغيّرة بتغيّر الحالات النفسية للأفراد. ثمّ إنّ الإدراك والذهن موضوعان لعلم النفس، غاية الأمر أنّ الإدراك هو حاصل جمع التجارب الشخصية في لحظة معينة وآن واحد، والذهن هو حاصل جمع التجارب الشخصية المتراكمة طيلة فترة الحياة. ولمّا كانت أصدق الحقائق في عالم التجربة هي أنّ الواقع متغيّر دائماً، وكلّ شيء في حالة حركة مستقيمة فلا شيء ثابت إطلاقاً، فقد توصّل علماء النفس التجريبيون إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الاُمور الثابتة والمعاني غير المتغيّرة لا توجد إلاّ في عالم ما وراء الطبيعة، أمّا في عالمنا هذا، فكلّ جوهر متغيّر، سواء كان من الاُمور المادية أو الذهنية النفسية، والنتيجة هي أنّ الذهن يكون على هذا الأساس عبارة عن المجموع الكلّي للمتغيرات التي تعتمد على الجهاز العصبي، وهو إشارة إلى الموضوع المبحوث عنه في حالة تغيير وسيلان وحركة دائمية. وبهذا يكون الإدراك قسماً من جريان الذهن وحركته، أي أنّه المجموع الكلّي للمتغيّرات الذهنية في الحال الحاضر والزمان الحال. وفي الوقت الذي يكون الموضوع الأصل لعلم النفس هو الذهن، يكون الموضوع المباشر لهذا العلم هو الإدراك، وببيان أدقّ: انّنا لا يمكننا رصد إدراك واحد مرّتين، لأنّ حركة الذهن في سيلان وجريان وحركة دائبة، فلذا نحن نعلم بأنّ إدراكنا بالأمس لا يعود أبداً، ولكن مع ذلك يمكننا القول بأنّ لدينا علماً مستقلاً باسم علم النفس مثل سائر العلوم الطبيعية مع فارق الموضوع المتغيّر لهذا العلم.
أهداف علم النفس التجريبي: ذكرت ثلاثة أهداف لعلم النفس التجريبي: 1 ـ تحليل عناصر الإدراك المتغيّرة إلى أوّلياتها الأصلية. 2 ـ بيان كيفية إتّصال هذه العناصر. 3 ـ تعيين قوانين هذا الإتّصال. فالغاية من كلّ علم هي العثور على أجوبة للاستفهامات الكيفية، ثمّ معرفة الأسباب الكامنة وراء الظواهر المختلفة. بالنسبة إلى علم النفس فالهدف منه هو تحليل وتجزئة التراكمات الذهنية إلى عناصرها البسيطة الأوّلية، ثمّ تأتي مرحلة تركيب هذه العناصر في تجارب كثيرة وتحت شرائط معينة، وبذلك يتمكّن عالم النفس من معرفة ماهية النظم والنسق المتوفر في هذه التراكيب الذهنية، ومعرفة قوانينها، مع التحفّظ بعض الشيء عن الأخير، أي انّنا بامكاننا تحصيل ركام هائل من المواصفات العلمية للمتغيرات الذهنية مثلاً عن تركيب الألوان والألحان وتأثيرها في النفس، إلاّ انّه من العسير أن نخرج بقانون علمي في المتغيرات الذهنية، كما في الفيزياء أو الكيمياء مثل قانون الجاذبية أو تركيب العناصر وتعميمه إلى جميع الحالات. والحاصل هو أنّه وللوصول إلى الهدف النهائي وهو استخدام الأسلوب العلمي والتجريبي في علم النفس لابدّ من معرفة علل الظواهر النفسية والإجابة على الإستفهامات المتعلّقة بالأسباب والمسبّبات مضافاً إلى تحليل الظواهر وتفسيرها. ولمّا كان الهدف الأوّلي لعلم النفس معرفة علل الظواهر والمتغيّرات الذهنية، ولا يعقل أن تكون بعض محصولات الذهن علّة للبعض الآخر، لأنّنا نلاحظ حصول معلومات جديدة تماماً عند تغيّر المحيط، كأن نسافر إلى بلد لم نره من قبل، والمحصولات العصبية هي الاُخرى لا يمكن أن تكون علّة لمحصولات الذهن، فنصل إلى أصل التوازي بين النفس والبدن، وهذا يعني أنّ المتغيّرات المرتبطة بمحصولات الأعصاب والذهن تسير جنباً إلى جنب دون تدخّل أحدهما في الآخر إلاّ عن إرتباط دقيق بينهما، فهما وجهان وصورتان لتجربة واحدة، إلاّ أنّ أحدهما ليس علّة للآخر. وبهذا يتحقّق لنا العلم ببعض الشرائط في تكوين التصورات الذهنية لا تشخيص العلل لها. أمّا المحصولات العصبية، أي مجلوبات الجهاز العصبي فترتبط مع الخارج بنظام العلّة والمعلول كسائر العلوم الطبيعية، وتخضع لمؤثرات خارج البدن، وليس كذلك المحصولات الذهنية، لأنّنا نعلم بعدم إنطباق الذهن على الحوادث الطبيعية التي تقع في الخارج( ). والخلاصة، إنّ علم النفس في منظور رجال هذه المدرسة هو علم الشعور والوعي، أي تجاربنا الداخلية في مقابل الموضوعات الخارجية، ولذا يسمّى هذا المذهب في علم النفس بعلم النفس المحتوى أيضاً نظراً لاهتمامه بمحتويات الذهن والشعور وتجزئتها إلى عناصرها الأوّلية، فيرى تيجنر أن الهدف من هذا العلم هو تحليل محتويات الذهن، فمهمة عالم النفس هي القيام بتشريح الذهن كما في عمليات تشريح الجسد، وإكتشاف عناصره وأجزائه ومعرفة كيفية تركيبها والروابط الحاكمة عليها، والعناصر الأوّلية هي: الحواس، التصورات الذهنية، الإحساسات، والخطوة التالية هي معرفة كيفية تركب هذه العناصر مع بعضها لتشكيل العواطف والإنفعالات وسائر المحصولات الذهنية، والخطوة الثالثة هي معرفة القوانين الحاكمة عليها كما تقدّم، (ويلاحظ اختزال النفس الانسانية لدى هؤلاء العلماء في اطار الذهن فقط، وذلك لعدم ايمانهم بوجود الروح أو النفس المجردة).. وبما أنّ المدرسة الوظيفية في علم النفس كانت قد بدأت تبسط سيطرتها على الأوساط العلمية وتدحض بذلك مباني مدرسة المحتوى، لذا فانّ تيجنر لم يأل جهداً في دعم وتقوية مذهبه النفسي وبيان أوجه الخلل في المدارس الجديدة ولكن دون فائدة تذكر، فقد كانت هذه المدرسة آيلة للاُفول والإضمحلال. إلاّ انّ تيجنر كان يؤكّد أنّ الأمل كبير في تداوم علم النفس بالاستمرار على المنهج الذي وضعه فونت. وعداه من المناهج والمذاهب النفسية ليس لها علاقة بعلم النفس مثل علم النفس الوظيفي والوراثي والفردي والتطبيقي والإحصائي وغيرها، لأنّنا قبل أن نعرف الذهن ومحتوياته لا نحصل على شيء باسم علم النفس.
امّا منهجية العمل والأسلوب الذي تراه هذه المدرسة في عملها للتوصل إلى النتائج العلمية في تحقيقاتها، فهو المنهج «الاستبطاني» بأن يتوجّه الفرد إلى ما يجري في داخله من تصورات وانفعالات، ويقوم العالم بتسجيل ما يعكسه الفرد عن عالمه الباطني من حالات نفسية مثل الغضب والحزن والمعاني المتداعية في الذهن، والخلاصة انّ الفرد في هذه الحالة ينكفي على نفسه ليصف كلّ ما يدور بخلده وخياله من إحساسات وعواطف وتصورات وغير ذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن معها دراسة النفس الإنسانية حسب تصور فونت وأتباعه. وليس هذا المنهج بالأمر اليسير، فلابدّ لمن يريد إجراء عملية الاستبطان على الأفراد من إجراء تمرينات مسبقة كثيرة تؤهله لتسجيل الإلقاءات ومعرفة نوعيتها وكيفية الحكم عليها وطريقة توجيه الأسئلة وغير ذلك، وأمّا متعلّقات الاستبطان فهي الإدراك، والتداعي، والحافظة، والحالات العاطفية، والتفكّر، والأهم من كلّ ذلك هو عنصر الإحساس. فمثلاً، عندما يراد إقامة تجربة على عمل إحدى الحواس، يقوم المحقّق بإيراد مثير على أحد أعضاء الحواس، كضوء خاص، أو أمواج صوتية معينة، أو روائح مهيجة، أو مركب من نوعين أو أكثر من المثيرات ثمّ يطلب من الشخص المراد تجربته الإفضاء بإحساساته وتصوراته وخلجات نفسه إثر ذلك. وقد ذكر فونت لإجراء هذا المنهج قانوناً من أربع مواد: 1 ـ أن يكون المشاهِد (المحقّق) عالماً بوقت إجراء التجربة وقادراً على إجرائها. 2 ـ أن يكون المشاهَد (مَن يراد اختباره) مستعدّاً لذلك وفي حالة وعي تام. 3 ـ أن يكون بالإمكان تكرار المشاهدة وإعادة التجربة. 4 ـ أن تكون الظروف الموضوعية للتجربة قابلة للتغيّر كيما يتيسر دراسة المثيرات المتغيّرة بدقّة، أي يتمّ تغيير المثير أو المحرّك ودراسة التغييرات الحاصلة من جرّاء ذلك على الفرد. ولذا تعتبر التجربة المختبرية عبارة عن المشاهدات المنفصلة والمتغيّرة والقابلة للتكرار، فكلّما كانت التجربة أكثر قبولاً للتكرار والمشاهدة كانت النتائج أفضل، وكلّما أمكن التغلّب على النقائص والعوامل المزاحمة والأجنبية تمّ تنفيذ عملية الاستبطان بشكل أفضل وأسهل.
تقييم المدرسة التجريبية: لا شكّ أنّ فونت وتلامذته وضعوا بمدرستهم التجريبية هذه اللّبنات الأساسية لكافّة المدارس النفسية، ورسموا لعلم النفس الخطوط والمعالم الرئيسية بمختبراتهم وأساليبهم في البحث واستكناه الحقائق حول الذهن والإحساس ومجموعة التصورات الذهنية والإنفعالات النفسية بما جعل منها مادة أوّلية للدراسات البعدية لعلماء النفس، فحتّى بعد أُفول نجم هذه المدرسة ومنسوخيتها فانّ المدارس الاُخرى درجت في تحقيقاتها على ضوء القواعد والمرتكزات والأسلوب لمجلوبات فونت وتيجنر، وبطلان ونسخ مذهب معيّن لا يعني بطلان كلّ مفرداته العلمية ومجلوباته المعرفية، فمثلاً، بقي منهج الاستبطان كأحد روافد المركّب المعرفي لعلم النفس وان بطل المفهوم الإنحصاري به، وبقي الذهن وتصوراته كأحد أقطاب وأركان الشخصية وان تناولت المدارس الاُخرى في دراساتها محاور غير الذهن في رسم الشخصية، وعلى كلّ حال، أخذ علم النفس مكانه بين العلوم الاُخرى بجهود رجال مدرسة المحتوى هذه، ومن لايبزيك إنطلق تلامذة فونت لتأسيس مختبرات نفسية في امريكا وسائر الدول الأوربية، ونشطت الدراسات النفسية بسرعة عجيبة، فلم تمض أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة حتّى كانت الجامعات الغربية تخرّج المئات والآلاف من علماء النفس، وأضحت معالم المدارس النفسية الاُمّ واضحة في منهجها ورؤاها ومختصاتها الفكرية. إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ هذه المدرسة في علم النفس قد ضمنت لها رصيد البقاء في الأوساط العلمية، بل سرعان ما تشعبت عنها مذاهب اُخرى أكثر حيوية وأوسع شمولية، واتخذت من المدرسة التجريبية غرضاً لسهامها ومرمى لنبالها فلم يكتب لها البقاء زمناً أطول، وأمّا ما يؤخذ على هذه المدرسة فاُمور كثيرة تتعلّق بالهدف والمنهج والنتائج المتحصلة من تحقيقاتها، فمنها: 1 ـ مسألة إنفصال هذا العلم عن الفلسفة والحاقه بالعلوم الطبيعية والتجريبية، والقول بالتقاطع التام والتباين الكامل بينهما كما أكّدت عليه هذه المدرسة النفسية والمدارس الاُخرى أيضاً، محلّ مناقشة وتأمل، فقد يكون هذا المعنى صحيحاً بالنسبة إلى العلوم الطبيعية لإختلاف المنهج والأهداف والموضوع، إذ أنّها عبارة عن قوانين مستقلّة عن فكر الإنسان وتصوراته الخاصّة، وقد تكون لبعض أبحاث علم النفس هذه الإستقلالية أيضاً كالإدراك الحسّي مثلاً، إلاّ أنّ الكثير من فصوله وأبوابه كمباحث الإدراك العقلي والعواطف والهدفية من الحياة والجبرية في السلوك و.. من المباحث التي لها ارتباط مباشر بالأبحاث الفلسفية. وببيان آخر: أنّ النظرة الفلسفية للفرد عن الحياة والكون والوجود لها دخل كبير في كافة مفاصل حياته النفسية، وأساساً لا يمكن دراسة هذه المواضيع بعيداً عن الرؤية الميتافيزيقية للإنسان، وخاصةً بعد أن ثبت بالوجدان ومن خلال التحقيقات التجريبية وجود البعد الميتافزيقي في الإنسان على شكل غريزة العبادة والرغبة في الخلود وطلب حسن الذكر بعد الموت وأمثال ذلك، وهذه المطالب لابدّ في دراستها من سلوك المنهج العقلي الفلسفي لتساميها على التجربة كما هو واضح. 2 ـ هناك من أخذ على هذه المدرسة القول بتحليل وتفكيك الذهن إلى عناصره الأوّلية، أي النظرة الميكانيكية لمحتويات الذهن والإدراك بشكل عام، في حين أنّ هذا التفكيك قد يضيّع علينا المحتوى بالكامل، إنّ المحتوى الذهني والنفسي يؤخذ ككل لا يتجزّأ، ولو قمنا بعملية تفكيكه وتجزئته لأنعدم الأصل، كالماء عندما ينحل إلى عناصره الأوّلية من لهيدورجين والاوكسجين، يفقد خصائصه ومميزاته بالكامل، فمن شأن التجربة النفسية أن تؤخذ ككل ويتمّ دراستها بهذه الكيفية للخروج بالنتائج المطلوبة. 3 ـ إنّ قصر الموضوع لعلم النفس على الإدراك والذهن ومحصولاتهما اختزل علم النفس كثيراً، وجعله يتقوقع في دائرته الذهنية الواعية، ولازم ذلك خروج علم النفس الطفل، علم النفس الحيوان، علم النفس السريري (الأمراض النفسية) و.. عن دائرة موضوع علم النفس كما صرّح بذلك تيجنر نفسه حيث أكّد أنّ غرض علم النفس هو الإنسان الأبيض الراشد والمتحضّر. 4 ـ أشدّ ما واجهته مدرسة المحتوى من نقود هي الإشكاليات المتعلّقة بمنهج التحقيق الذي يعتمد على عملية الاستبطان في اكتشاف عناصر الوعي والإدراك والمحتوى الداخلي للإنسان. وبالرغم من أنّ لهذا المنهج حسناته ومجلوباته الإيجابية على المستوى التجريبي من سهولة إجرائه من جهة، فهو لا يتطلّب شخصية معينة أو ثقافة عالية، ولا يتحدّد بمكان أو زمان أو ظروف معينة يصعب توفيرها، ومن جهة اُخرى قابليته للتنقيح المستمر للوصول إلى نتائج أفضل، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يكتنف بعض الإشكاليات تجعله دون المستوى المطلوب من حيث الاعتماد على معطياته العلمية، وأهمّ هذه الإشكاليات: أ ـ بما أنّ الباحث والشيء المبحوث والذي يراد اختباره يتحدّان في عملية الاستبطان، فالشخص في هذه العملية يدرس نفسه وتصوراته، وببيان آخر: إنّ الأنا متحدة هنا مع الحالة النفسية، فلذا من العسير أن نخرج بملاحظات مطمئنة وموثوقة، لأنّ القوّة المخيلة وافرازات الإنفعالات والعواطف وعوامل اُخرى مثل الحياء وتوّقع العقوبة، أو ميل الإنسان إلى التغاضي عن سلبياته وغيرها تتدخل في صياغة الخطاب النهائي، ولا يمكن الاطمئنان إلى موضوعية الأنا في تحليلها وإخبارها عن نفسها دائماً، وفي جميع الأفراد. ب ـ اختلاف نتائج الاستبطان بين المثقّف وغيره، والرجل والمرأة، والطفل والبالغ، والمريض والمعافى في التجارب المماثلة يجعل من الصعب الخروج بقانون كلّي يستوعب كافة الحالات. ج ـ إنّ النفس البشرية من العمق والتعقيد وتشابك الدوافع الشعورية واللاشعورية ما يجعلها شموسة على كلّ محاولات الاستبطان، فنحن لا نعرف أنفسنا بشكل دقيق وخاصة بعد اكتشاف عالم اللاشعور ودوره الفاعل في تسيير الفرد والتحكّم في طاقاته وخلجات نفسه، وحينئذ كيف يتسنّى لنا معرفة دقائق الاُمور وتفاصيل مجريات الأحداث الداخلية واستنطاقها وإبرازها إلى السطح؟ ولو فرض إمكانية ذلك بالتأمّل والتعمّق المستمرين، إلاّ انّ هذا المعنى لا يكاد يتوفّر عن عامة الناس الذين يميلون إلى السطحية وعدم النظر الدقيق والفاحص. د ـ ما ذكره «كانت» الألماني على هذا المنهج، وكذلك (إجوست كونت) قبله من أنّنا لو أردنا التأمّل في عمل الذهن ومشاهدة التجارب الذهنية حين وقوعها، فذلك يستلزم أن يتوقّف الذهن حينها، فلا يعدّ هناك شيء موجود للدراسة والمشاهدة، وإن لم يتوقّف الذهن فلا تتحقّق المشاهدة، فنحن نعلم أنّ التصورات الذهنية متغيّرة ومتحرّكة ولا تقف عند نقطة معينة ليمكن تصويرها وتركيز الأضواء عليها. ومثل ذلك يقال عن حالات الإنفعال النفسي مثل الغضب والفزع الشديد والهياج التي تستوجب ملاحظتها ومعاينتها بواسطة الفرد نفسه من التريّث قليلاً والانتباه إلى الذات ممّا يفقد الإنفعال حرارته وطغيانه، فنخسر بذلك تصوير هذه الإنفعالات وهي في القمّة، وتأتي نتائج المشاهدة الباطنية غير متطابقة مع الحدث المقصود بالدراسة والتجربة. اللهمّ إلاّ أن يقال: انّنا في هذه الصورة نعتمد على الحافظة لاسعافنا بما حصل من خلجات وتصورات وافرازات نفسية حال الإنفعال، ولكن قد تعكس لنا الحافظة بعض الشيء عن مدخولات النفس في تلك الحالة، وقد لا تسعفها الذاكرة في أغلب الأحيان، ويمحو الوعي والعودة إلى الذات ما طرأ من متغيرات لا تتواصل مع القراءة الواعية عن الذات. ولهذه الأسباب، وكذلك ضرورة الاستبطان في الدراسات النفسية بحيث لا يمكن الاستغناء عنه، طرح «ريبو» الفرنسي (1839 ـ 1916) منهج «الاستبطان الموضوعي» كيما يستوعب ميدان الاستبطان الطفل والمرأة والمريض وغيرهم، وتقوم نظرية ريبو على اللجوء إلى المقارنة، فيعمد في التجربة إلى تعطيل عامل من عوامل الظاهرة، فمثلاً قد يعطّل المرض العقلي عاملاً واحداً، ومن ثمّة تجوز المقارنة لنتبيّن الفرق بين المتغيّرات في المريض والسليم، ومن الفرق بين نفسيتهما تتبيّن دور هذا العامل المعطّل وأهميته في النفس. إلاّ أنّه تقدّم أنّ العوامل النفسية تشكّل فيما بينها وحدة متجانسة، ومركباً يختلف في خصائصه وسماته عن عناصر تشكيله كما في المركبات الكيماوية، فلا يتسنّى للعوامل الاُخرى أن تلعب دورها في معزل عن بقية العوامل، فهناك تداخل وتأثير متبادل بين الأجزاء من جهة، وبينها وبين الكلّ من جهة اُخرى، وقد يقوم عامل آخر بالنيابة عن ذلك العامل المفقود ويؤدّي دوره ويقوم بوظائفه الأصلية، فنفقد بذلك الدقّة في النتائج والمحصولات المعرفية. 5 ـ بما أنّ رجال هذه المدرسة وخاصةً تيجنر يرون بأنّ الذهن والإدراك والنفس عبارةً عن شيء واحد، وهو مجموع التصورات الحاصلة طيلة فترة الحياة، والإختلاف بينها اعتباري، فهنا نواجه استفهامات متعدّدة منبثقة من هذه الرؤية، أهمّها: كيف يمكن توجيه بقاء الشخصية المستقلة للفرد مع كلّ هذه المتغيّرات الطارئة على الذهن؟ وكيف نشعر بوجداننا أنّ هناك نفس تفكّر وترغّب وتقع محلاً لكلّ هذه المتغيّرات، ولذا نقول: أنا اُفكّر، أنا أتألّم، أنا اُريد، و... فمن هو هذا الكيان الذي يقع محلاً لهذه الاُمور إذا كان الإنسان يعني الوعي المجرد فقط، أو محتويات الذهن المتراكمة؟ من الواضح أنّ الوعي والإدراك ومحتويات الذهن تحتاج إلى محلّ، وإلاّ فكيف نسبتُها إلى نفسي وقلت: إدراكي، ذهني، تصوّراتي ... ويتضح ذلك في الإحساس بالألم واللذّة وأمثالهما من الإنفعالات النفسية، فهناك أمران يحدثان في وقت واحد، وهما: نفس الألم الذي أحسّه في يدي أو رأسي، وتصوّري عن الألم والذي ينعكس في قولي: أنا متألّم، والتصورات الذهنية كلّها من هذا القبيل، أي الأمر الثاني. وعلى أي حال، فالوجدان يقرّر وجود كيان موحّد ومستديم منذ الطفولة وحتّى آخر سنوات العمر يغاير ما يتراكم في الذهن من متغيّرات وحوادث سيّالة متقلّبة. * * *
#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية والمعنوية
-
قراءة في البلورالية الدينية او الصراطات المستقيمة
-
الايمان, السياسة, الحكومة
-
العلم الالهي وحرية الانسان
-
تحقيق في اخر اللحظات التي عاشها المسيح
-
في نقد برهان النظم
-
التقليد والتحقيق في سلوك طلاب الجامعة - د. عبد الكريم سروش
-
نظرة عامة في براهين وجود الله
-
دوافع جعل الحديث عند الشيعة
-
مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل
-
المجتمع المدني مجتمع تحت سلطة القانون
-
القرآن والتحدي بمجموع الآيات
-
التفسير السيكولوجي لظاهرة الايمان بالله
-
منهج العقل الديني في التعامل مع المعارف والمطالب الدينية
-
التفسير السسيولوجي لظاهرة الايمان بالله
-
التجربة الدينية للنبي
-
هل الدين معيار للعدالة أو العدالة معيار للدين؟
-
القراءة السطحية للنصوص
-
-لا للديمقراطية- هو الشعار الحقيقي للإسلام السياسي
-
صورة الله عند الفلاسفة
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|