|
الحيل النفسية للفاسد إداريا وماليا في المجتمع العراقي
محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 3968 - 2013 / 1 / 10 - 18:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بينما كنت أقف في الطابور المزدحم والمتدافع كما هي عادة المجتمع العراقي الذي لا وجود فيه لثقافة الطابور أصلا، لاستلام راتبي خرج أحد المنتسبين كالبقية يعد راتبه مرارا وتكرارا حتى تأكد إنه استلم راتبه ليس ناقصا أو كاملا وإنما فيه زيادة قدرها 300 ألف! بدون وجود أي علاوة أو مناسبة تقتضي زيادة الراتب؟ وإنما كان بسبب خطأ في الحساب من المسؤول عن توزيع الرواتب، عندها بادر الرجل بإرجاع المبلغ الزائد فورا إلى هيئة الرواتب، فلاقى استحسان الواقفين بالطابور، لكن المفارقة إن معرفتي الشخصية بهذا الرجل انه لا يداوم بالدائرة نهائيا إلا لاستلام الراتب فقط!؟ إذ يدفع جزء من راتبه رشوة لجهات ما تقوم بمسح غياباته وإعطائه إجازة رسمية! والسؤال إذا كان هذا الفاسد إداريا يبيح لنفسه كسب مال الحكومة بطرق غير شرعية لماذا يعيد هذا الراتب لها في هذه الحالة الاستثنائية؟ وهذا يعني إن الفاسد له ضمير وأخلاق وتحريم مثل أي شخص آخر، وإن تفاوت الضمير من شخص إلى شخص بصورة عامة، فإذا كان الأمر كذلك هل يعني إن الفاسد مجرد شخص قليل الضمير بحيث تصبح قاعدة نقيسه بها؟ لكن الفاسدون حسب ملاحظاتي عنهم وتجربتي مع بعضهم لأنهم زملائي بالدوام، ودودون، ذو أخلاق وأدب بالتعامل مع أقرانهم، غالبا ما يلتزمون بالطقوس الدينية، وبعضهم أصحاب شهادات بكالوريوس أو دبلوم، يتكلمون بالحلال والحرام وينتقدون الحكومة على فسادها! ملتزمون أخلاقيا في حياتهم المدنية! وليس هناك أدنى شك أنهم أناس أسوياء كالآخرين، لكن تبقى أموال الحكومة وممتلكاتها خارج هذه الاعتبارات الأخلاقية والدينية، وبحسب نقاشاتي مع بعض الفاسدين عن سبب الفساد بالدائرة دون أن أحسسهم أنهم المقصودون، عللو انتشار الفساد بفساد الحكومة وغياب العدالة والقوانين الرادعة؟. فإذا كان الفاسد له ضمير وأخلاق وشهادة دراسية فهل هذا يعني إن كل إنسان ممكن أن يكون فاسدا؟ إذن ما الذي يجعل بعض الناس فاسدون دون سواهم؟ وما الذي يميز الفاسد عن الأسوياء إذا كان مثلهم، لماذا لا يمنعه ضميره وأخلاقه ودينه كالبقية؟ إن الفاسد إنسان سوي لكنه يتحايل على ضميره وعقله باللاوعي، فقد اكتشفت إن لكل فاسد مبررا لفساده، وإن لكل فاسد طريقة يعوض بها ضميره عن فساده، وأن للفساد مفردات خاصة متداولة، بدون أن يعلم الفاسد بهذه الطرق لأنها من مصدر نفسي لاشعوري؟ إن للفاسد حيل نفسية لممارسة فساده بشكل طبيعي ليتجاوز تأنيب الضمير والذنب الأخلاقي والديني، وهذا حجر الزاوية في شخصية الفاسد بتصوري، وهذه الحيل النفسية هي (التبرير)، (التعويض)، (تحريف مسميات الفساد)، فحيلة (التبرير) أي أن يقوم الفاسد بتبرير فساده فيتحجج بالتبرير الاقتصادي أي بعدم كفاية الراتب مهما كان مرتفعا (بعد أن يخفي المبلغ عن الناس) بحجة الغلاء أو الديون أو الإيجار أو إعالته لأسرة كبيرة أو يتحجج بالتبرير بانتشار الفساد بحجة أن الحكومة فاسدة قائلا (راس السمچة خايسه) أو (بقت عليه) أو (حالي من حالهم) الخ، أما حيلة (التعويض) فإن الفاسد يعوض فساده بممارسة الطقوس والعبادة أو عمل الخير كمساعدة الفقراء والتبرع لبناء المساجد والمؤسسات الخيرية، لتعويض الذنوب بالحسنات، وقد لا حضت أن أكثر الفاسدين مواظبون على ممارسة العبادة أو الطقوس الدينية، ويجب الإشارة هنا إلى أن الفاسد لا يتخذ من الدين كغطاء كما يتصور الناس بل لخداع ضميره أولا، وإلا لمارس العبادة والطقوس أمام الناس فقط وما التزم بها بخلوته وهذا خلاف الواقع حيث الفاسد ملتزم بالعبادة والطقوس بصدق، وصاحبنا حين أرجع الراتب الزيادة، كان من حيلة (التعويض)، أما حيلة (تحريف مسميات الفساد) فهو ما جعل للفساد قاموسا شفهيا معروفا يمنحه شرعية، فالذي يدفع الرشوة لتمحى غياباته يسمى (تبرع)! والفرق واضح جدا بين الرشوة والتبرع، حيث الأولى للمصلحة الشخصية على حساب الآخرين، في حين أن الثانية هي الإيثار من أجل الآخرين، وإذا كانت الرشوة عينية تسمى (هدية)! في حين تمنح الهدية الحقيقية دون مقابل؟، والذي يأخذ الإجازة بالرشوة أو تمحى غياباته يسمى (طار) أو (فضائي)! بدل المتغيب عن الدوام، أو الفاسد إداريا، أما الذي يأخذ الرشوة أو يسرق فتسمى غنيمته (المالات) أو (البضاعة) ويسمى صاحبها (تمساح) أو (حوت) وهذا كله لمنح الشرعية بتحريف المسميات لفعل غير شرعي قانوني وأخلاقي. لكن ما الذي يجعل الفاسد يمارس الحيل النفسية للممارسة فساده الإداري بسهولة بدون أن يحدث هذا الفساد في حياته العامة مع أصدقائه وأقرانه؟ إذ أصبح الفساد يمارس بمعزل عن التزامات الفرد الأخلاقية والقانونية والدينية، عن طريق الحيل النفسية، ذلك إن الانتماء للحكومة من الأساس ضعيف يتقدم عليه الانتماء العشائري والديني، إن المواطن لا يزال يشعر بعدم انتماءه للحكومة حتى بعد انتخابها بسبب فسادها أو طائفيتها أو ظلمها أو استبدادها، ولأنه لا يزال مقيد بالعشيرة التي تحدد انتمائه بالدم، لهذا نسمع الموظفين يعللون سكوتهم على الفاسدين بعبارة (قابل مال أبويه) أو (آني شعليه) أو (مال عمك ما يهمك)، لهذا ينظر الفرد للحكومة بحذر وريبة ولا يلجأ إلى قضائها لحل مشكلاته بل للعشيرة وعلاقته بها قائمة على المصلحة والخوف والتملق فقط وليس قناعة متبادلة من الحقوق والواجبات؟، والحقيقة أن السكوت على الفساد هو بحد ذاته مشكلة أخرى، وهو فساد من نوع آخر، لأن الناس تعتقد بالعقاب الرباني للفاسد، معتقدين إن أمواله سريعة التبذير قائلين (ما بيهن بركة) (مال اللبن لل لبن) (مال حرام للحرام) (تطلع بعائلته لو بصحته)! وهذا العقاب لا يتضمن تعويض الخسائر والأضرار التي سببها بالمال العام. فساد المواطن أيضا هو انعكاس وامتداد لفساد السلطة وهو تحصيل حاصل بعد ضعف الانتماء وبتراكم السنين أصبح الفساد عادة شبه طبيعية موجودة حتى لو تغيرت الظروف التي أوجدتها، حتى سمي الفاسد ب(السبع) و (اللوتي) أي الذكي الماكر وهذا يعني إضفاء الشرعية الاجتماعية علنا على الفساد وهذا اخطر ما في الموضوع؟ فالبقشيش والهدية والإكرامية التي تعطى للموظف لمجرد القيام بواجبه الطبيعي بسرعة أو التجاوز على السياقات القانونية أو كما تسمى بالعراقي (تسهيل أمر) أصبح من الأمور اليومية المعتادة التي نشاهدها في الدوائر الحكومية وأصبحت الناس هي من تبادر بإعطاء الرشوة من ذاتها في أحيان كثيرة؟. هذه المقالة بمثابة مدخل لفهم نفسية الفاسد إداريا أو ماليا، ولا أعتقد أنها تفسر كل الأسباب النفسية للفساد هذه الظاهرة العالمية، وقد أسميتها (الحيل النفسية) لأنها التحايل على الضمير والشعور بالذنب الأخلاقي والديني وتشريع الممنوع والمحظور فيصبح فعله مشروعا ومقبولا، ولأن هذه العمليات تجري في الاشعور، ويجب الإشارة إن هذه الحيل النفسية تنشط في الظروف الموضوعية كالفقر والظلم والجهل والاغتراب وانعدام المحاسبة وتفشي الفساد وضعف الرقابة والقوانين الرادعة. الفساد الإداري والمالي آفة اجتماعية لا تقل خطورة عن الإرهاب والمرض والجهل والفقر والعنصرية والاستبداد، وقد دُرست ظاهرة الفساد كثيرا دراسات أكاديمية لخطورتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لكن قِلة من هذه الدراسات من التفت للجانب النفسي للفاسد وركزت عليه، الذي يكون الأرضية التي ينطلق منها للممارسة فساده وهذا هو منطلق بحثي.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاكمة عزيز علي بالماسونية
-
المنولوجات المفقودة أو النادرة الغير المدونة لعزيز علي
-
ألكلمات والجُمل التي استبدلت بهمهمات في منولوجات عزيز علي
-
المنظّرون السياسيون للفكر الشيعي التقليدي
-
فلسفة عزيز علي
-
الإسلام بين خطاب الحداثة والسلفية
-
الإستبداد المقدس
-
خاتمة كتاب (تأملات في الأديان السياسية)
-
جدار المرحاض الحر
-
بين مقتدى الصدر وصدام حسين
-
فلسفة الخطأ الإنساني
-
تأثيرات الهاتف الخلوي على المجتمع العراقي
-
من ذاكرتي بين عهدين
-
حقيقة انتمائي
-
السياسة في نظرية الحق الشعبي
-
صورة المرأة الثنائية في المجتمع العربي
-
أربع قصائد سياسية
-
فلسفة الحب الأسطورية في المجتمع العربي
-
أسطورة الشيطان ونظرية المؤامرة
-
التحولات المُعاصرة للمقدس في الغرب
المزيد.....
-
برلمان كوريا الجنوبية يصوت على منع الرئيس من فرض الأحكام الع
...
-
إعلان الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. شاهد ما الذي يعنيه
...
-
ماسك يحذر من أكبر تهديد للبشرية
-
مسلحو المعارضة يتجولون داخل قصر رئاسي في حلب
-
العراق يحظر التحويلات المالية الخاصة بمشاهير تيك توك.. ما ال
...
-
اجتماع طارئ للجامعة العربية بطلب من سوريا
-
هاليفي يتحدث عما سيكتشفه حزب الله حال انسحاب انسحاب الجيش ال
...
-
ماسك يتوقع إفلاس الولايات المتحدة
-
مجلس سوريا الديمقراطية يحذر من مخاطر استغلال -داعش- للتصعيد
...
-
موتورولا تعلن عن هاتفها الجديد لشبكات 5G
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|