أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالوهاب حميد رشيد - اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر















المزيد.....



اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 3967 - 2013 / 1 / 9 - 13:10
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


الفصل السادس عشر
نحو الرأسمالية الشاملة في الولايات المتحدة
كينيث ب. تايلر، جامعة فيلَنوفا
ترجمة:حسن عبدالله (و)عبدالوهاب حميد رشيد
Kenneth B. Taylor, Villanova University

تشكلت رؤية المجتمع اللبرالي في أمريكا في سياق البوتقة الفكرية بين الثورتين الإنجليزية والفرنسية. قامت الثورة الأمريكية على المثل اللبرالية وأطلقت دعوة للتحرر من الاستغلال التجاري والحرية السياسية. ومع ذلك، وفي زوبعة النمو الاقتصادي العالمي الانفجاري في العقد الأخير من القرن العشرين، فإن قسماً هاماً من المثل الواعدة قد ضاعت وسط ثقافة متنافرة، مادية. يتابع هذا الفصل مسار الأفكار التي تدافع عن شكل ما للرأسمالية الشاملة Universal Capitalism منذ القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر في أمريكا؛ ثم يفحص القوى الاجتماعية-الاقتصادية الهامة التي تشكل الفترة المبكرة من القرن الحادي والعشرين، ويتأمل آفاق الحركة الجادة نحو اقتصاد ديمقراطي أكثر.
وقبل أن نبدأ جولتنا في القرن القادم، من المفيد أن نستمع لما كان ينبغي قوله من قبل أولئك الذين تصوروا أن تصبح أمريكا بلداً لتجسيد الديمقراطية الاقتصادية؛ إذ كانت رؤيتهم تنطوي على حقيقة عميقة وأمل عظيم.
الحقيقة العميقة هي إن البشر جميعاً يعيشون على الأرض معاً وإن مصيرهم مشترك. ومهما كان ذلك المصير المشترك، فلن يدركه أحد وحيداً. ففي إطار المجتمع فقط، يمكننا أن نصبح ما سنصل إليه كبشر. وفي عهود أكثر حداثة، عكسَ مارتن لوثر كنج هذه الحقيقة عندما تحدثَ بهذه الكلمات:" بمعنى ما حقيقي، فالحياة كلها متداخلة. كل الناس أسرى في شبكة من العلاقات المتبادلة لا مفر منها، مشدودون بمصير واحد. فما يؤثر على فرد ما بشكل مباشر، يؤثر على الكل بشكل غير مباشر. فلا يمكنني أن أكون ما ينبغي أن أكون عليه حتى تكون أنت ما ينبغي أن تكون عليه، ولن تستطيع أبداً أن تكون ما ينبغي أن تكون عليه حتى أكون ما ينبغي أن أكون عليه. هذه هي البنية المتداخلة للحياة(1)."

الماضي
جسّد النداء القوي للثوار الفرنسيين: "الحرية، والعدل، والمساواة" الأملَ العظيم. وبكلمات بسيطة، كان ذلك الأمل دعوةً لأن نتخلص من أغلال الماضي وأن نجد طريقنا للعيش بحرية وسلام ونتقاسم خيرات أرضنا بصورة عادلة. توماس باين، الوطني الأمريكي العظيم، قال في العمل "Common Sense": "بوسعنا أن نبدأ العالم من جديد. فلم تظهر حالة مشابهة للوقت الحاضر منذ أيام نوح حتى الآن. فولادة عالم جديد هي بين أيدينا(2). إحساسه بوجود فرصة لتعريف المجتمع اللبرالي ضمن المسار الأمريكي كان صدى لكتابات الآباء المؤسسين.
ومن بين أولئك الآباء، كان توماس جيفرسون Thomas Jefferson شاملاً في الإحاطة بدقائق هذه الرؤية. فمن الوضع المؤاتي لأواخر القرن الثامن عشر، تصورَ جيفرسون المجتمعَ المثالي كاقتصاد زراعي يمتلك فيه كل فرد أرضاً كافية لكي يكون ناخباً. كانت الأرض، في تلك الأيام، الوسيلة الرئيسية لتراكم الثروة واكتساب حق التصويت. كان مجتمع جيفرسون المثالي يتضمن التوزيع الواسع للملكية المولِّدة للدخل وبالتالي التمثيل السياسي. والديمقراطية كانت تعني لديه: "غياب التمايزات أو الامتيازات الطبقية الوراثية أو الاعتباطية بالنسبة لعامة الناس". وقد شملَ حلم جيفرسون بالنسبة لأمريكا مفهوميْ الديمقراطية السياسية والاقتصادية معاً. فكلاهما كانا في ذهنه شيئاً واحداً لا ينفصل. وقد وضعَ هو والآباء الآخرون المؤسسون الإطارَ لدعم مفهوم الديمقراطية هذا وإدخاله في الدستور.
ومع بداية القرن التاسع عشر، كان مفهوم الرأسمالية الشاملة، وبدعم من الدستور، قد وُضع وبدا أنه يتضمن عناصر مجتمع ديمقراطي بشكل شامل.
وقد لحظَ رجل الدولة الفرنسي ألكسيس دي توكفيل إن أمريكا الناشئة كانت تجسد فكرة "المصلحة الخاصة، المفهومة بشكل". أشار توكفيل إلى إن القوة الهائلة للمصلحة الخاصة، في سياق التشتيت الواسع للقوة والملكية، خففّت من الطمع المدمِّر اجتماعياً بحيث أنها حملت الناس على التعاون وإدراك إن رفاهيتهم مرتبطة برفاهية الآخرين. في السنوات الأولى هذه من الجمهورية، غذّى سعي المرء وراء مصلحته مصلحةَ المجتمع ككل. وللأمانة، فلم تكن كل ملاحظات توكفيل عن الجمهورية في صالحها. فقوله "وفي الواقع، لا أعرف أي بلد كانت فيه لحب المال قبضة أقوى على مشاعر الناس" ربما كانت نذير شؤم للتآكل النهائي للعامل الأولي للديمقراطية الاقتصادية(3).
باشرت الجمهورية الفتية القرنَ التاسع عشر كبلد زراعي مع قاعدة صناعية صغيرة، ولكنها كانت تنمو بسرعة في الولايات الشمالية الشرقية. فالدور المركزي للأرض والمزارع الأمريكي في الدراما التجارية لهذا البلد لم يشرع بالتضاؤل قبل حلول الثورة الصناعية "الثانية"، كما تُسمى في الغالب، في سبعينات القرن التاسع عشر. وقد بدأنا برؤية مناخ متميز لنشوء التفاوت الاقتصادي في سياق السعي للاستحواذ على الأراضي الغربية في أعقاب الحرب الأهلية، وتركز نشاط الشركات المتزايد في شرق البلاد، وظهور "الاحتكار المالي".
في ذلك الوقت، ظهر المدافع الثاني عن الرأسمالية الشاملة في أمريكا الشمالية: هنري جورج. العمل الهام الأول لجورج، Our Land and Land Policy، نُشر العام )18714). في ذلك العمل، لاحظَ جورج بأن التطور الاقتصادي في القسم الغربي من البلاد يعمل على خلق قلة من الأغنياء بينما تزداد الغالبية فقراً. ويعود ذلك، كما ظنَ جورج، إلى تركز ملكية الأرض في أيدي مجموعة صغيرة استخدمتْ ملكيتها لانتزاع معظم مكاسب التطور الإقليمي الحاصل. وكان حله، الذي وردَ في كتابه Progress and poverty (1879)، هو إزالة كافة الضرائب باستثناء ضريبة الأرض(5). وفي كتابه الأخير هذا، شنَ جورج حرباً صليبية ضد الفقر والظلم الاقتصادي الذي ينبع من الرأسمالية الحديثة. وقد أمضى هنري جورج بقية حياته في تطوير مذهب للإصلاح الاجتماعي يقوم على الضريبة الوحيدة على الأرض. ومن حيث الجوهر، تقوم حجته على إن كل فرد له نفس الحق باستعمال الأرض، وبأن الأرض تزداد قيمتها بسبب التطور الاقتصادي الذي يتحقق في المجتمع؛ وبأن هذه الزيادة في القيمة تعود للمجتمع وليس لمالك الأرض.
حاول جورج إثبات إن التعريف القائم لحقوق الملكية يسمح للمالكين بالاستحواذ على كل الزيادة في القيمة الناجمة عن التطور الاقتصادي للمجتمع. وقد أكد على إن ذلك غير عقلاني ويساهم في التفاوت الاجتماعي. دعمَ جورج مبدأ الملكية الخاصة، ولكنه دافع عن فرض ضريبة على الأرض بقدر الزيادة في قيمة الأرض التي تتحقق من خلال المجتمع. كما دعمَ جورج كل المؤسسات الأخرى للرأسمالية ودافع عن حرية التجارة. أنه شجبَ فقط من التفاوتات الاجتماعية التي كانت تنبع من التعريف القائم لحقوق الملكية.
خلال العقود الثلاثة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، اختلطت السياسات المدافعة عن الرأسمالية الشاملة بالاشتراكية والشيوعية. فحينما كان الأمريكان يدعون للعدالة، والمساواة، والفرص الاقتصادية الأكبر من خلال إصلاحات شاملة، كانوا يُتهمون حالاً بأنهم اشتراكيون. ولسوء الحظ، فإن الرؤيا الأمريكية للديمقراطية الاقتصادية، التي سبقت صدور عمل ماركس Das Kapital بمائة عام تقريباً، دُفنت تحت موجة النزعة الوطنية nationalism وعدم الثقة التي تولدت نتيجة الحرب الباردة.
غذى كساد الثلاثينات العظيم، سويةً مع انتشار الشيوعية والاشتراكية في أوروبا، انعدام الأمن الاجتماعي والسياسي داخل الولايات المتحدة. وليس غريباً إن رجال السياسة في العالم الحر تمسكوا بأفكار السياسة العامة للاقتصادي جون مينارد كينز. فبحسب كينز، فإن مشكلة النظام الرأسمالي لم تكن مشكلة شاملة، بل أنها تعود لعدم كفاية الطلب الكلي بسبب تصدع النفسية الاجتماعية. كانت هناك حاجة للإنفاق الحكومي لردم الفجوة بين الطلب الكلي والعرض الكلي وبالتالي تحقيق الاستخدام الكامل. لا حاجة لأحد للتشكيك بآلية توزيع القوة الشرائية أو أي جانب آخر من النظام الرأسمالي القائم. فزيادة حجم التدخل الحكومي كانت كل ما هو مطلوب لمعالجة مشكلة الكساد الاقتصادي، المؤقتة.
كارل ماركس كان على حق في نقطة واحدة، على الأقل: القوة الأساسية التي تدفع باتجاه زيادة التفاوت الاقتصادي انتقلت من الأرض إلى رأس المال مع تحقق الثورة الصناعية. كان Capitalist Manifesto، الذي نشره لويس كيلسو ومورتيمور أدلر عام 1958، أول عمل فريد لكاتب من أمريكا الشمالية منذ هنري جورج للدفاع عن الإصلاح بغية تشجيع الديمقراطية الاقتصادية ضمن المسار الرأسمالي(6). من وجهة نظرهما، تخلق الرأسمالية والديمقراطية معاً مقاربةً للمجتمع المثالي، غير الطبقي، الذي يكون فيه كل الأفراد مواطنين وكلهم رأسماليون. وعلى فرض إن العمل هو عامل إنتاج متناقص بالمقارنة مع رأس المال، فإن الديمقراطية الاقتصادية يمكن أن تتحقق فقط عن طريق زيادة عدد الأفراد الذين يشاركون بالإنتاج ويكسبون دخلهم من تملكهم لرأس المال. عندما يتم إنتاج القسم الأكبر من الثروة الإضافية بواسطة الأدوات الرأسمالية، فإن المحافظة على الديمقراطية الاقتصادية تتطلب أن يساهم أكبر عدد ممكن من الأسر في الإنتاج من خلال تملكها لهذه الأدوات.
يقوم حل كيلسو وأدلر على توسيع ملكية المشروعات القائمة من خلال خطط المشروعات المساهمة equity-sharing plans. كما يدافع كيلسو وأدلر أيضاً عن إلغاء سياسات حكومية معينة تعمل على تعزيز تركيز الثروة وتعديل النظام الضريبي القائم لتحقيق ملكية أوسع لرأس المال. ويتضمن كتابهما وصفاً لثمانية نماذج منفصلة لتفتيت ملكية رأس المال. يغطي كل نموذج حقلاً معيناً لملكية رأس المال الصناعي ومصَّمم لإعادة توحيد الملكية والسيطرة من خلال نظام التفضيل بين المستثمرين investor preferences. العنصر المشترك الوحيد في الخطط هو التمويل الائتماني التفضيلي لاكتساب فوائد رأسمالية من قبل الأسر التي لا تملك أي رأسمال أو الأسر ذات الحيازات الرأسمالية التي تقل عن المتوسط. الأسر التي تملك حيازات رأسمالية كبيرة جداً تُمنح تفضيلات استثمارية قليلة يمكن أن تحد من استثمارها في السندات ذات الدخل الثابت. رأس المال المكتسب، في ظل أي من الخطط المقترحة، يتولى تسديد تكاليف الاكتساب من الدخول الصافية لرأس المال المكتسب حديثاً.
خطة ملكية العاملين للأسهم Employee Stock Ownership Plan (ESOP) تمثل أحد البرامج الثمانية التي جرى الدفاع عنها. حتى السبعينات، ركزَ لويس كيلسو جهوده على (ESOP) وأشكالها المختلفة التي صُممت لجعل العمال أصحاب أسهم في الشركات التي كانت تستخدمهم. تركَ كيلسو مشروعه: خطة الرأسمالي الممَّول Financed Capitalist Plan (FCP)، وهو مفهوم للملكية الرأسمالية الشاملة، باعتباره مشروع غير عملي لأن كيلسو صار يعتبره كرؤيا فوقية top-down (أي تعمل من أعلى نحو الأسفل) وخيالية. وقد تركزَ منهجه، في فترة ما بعد الستينات، على المشروعات الأقل حجماً،كخصخصة الممتلكات العامة والتشريع، لدعم خلق constituency trusts  (أي خطط تملك العاملين للأسهم ESOPs). حاول كيلسو، في وسائل الإعلام والكونغرس، إثبات إن فكرة تملك الجماهير لرأس المال لم تُجرب أبداً وإنها كانت الشيء الوحيد الذي يمكنه الحيلولة دون انضمام الولايات المتحدة لمعظم البلدان الأخرى في الانزلاق نحو الملكية الحكومية لرأس المال. أثارت أفكار كيلسو النائبَ رسل لونغ Russell Long (D, La)، وهو الرئيس المؤثر للجنة المالية، الذي طرحَ تشريع ESOP في المجلس. إن قسماً كبيراً من هذا التشريع تم سنه أخيراً، مع حوافز مالية جذابة، على شكل تخفيضات ضريبية للشركات التي عملت بهذه الخطط. ومنذ السبعينات، انتشرت ESOPs في الولايات المتحدة، وساعدتْ، رغم نواقصها البارزة، على تمليك رأس المال للكثيرين ممن لم يمتلكوا أي رأسمال في السابق.
تأثرَ ستيوارت سبيسر، وهو محامي وكاتب من نيويورك، بلويس كيلسو، ولكنه اختلف معه حول نقاط جوهرية عدة، رغم ذلك. كان سبيسر، من البداية، منجذباً للرؤيا الأساسية للملكية الرأسمالية الشاملة التي حاول هو بنائها وفق مشروع كيلسو: خطة الرأسمالي الممَّول (FCP). عرّفَ سبيسر الرأسمالية الشاملة بأنها نظام يمنح كل فرد الفرصة لأن يكون رأسمالياً وذلك، بشكل رئيسي، عن طريق تمكين الأفراد الذين ليست لديهم مدخرات من تملك أسهم في الشركات. وضعَ سبيسر تصوره لخطة الملكية الرأسمالية الشاملة Universal Stock Ownership Plan (USOP) في كتابه A Piece of the Action الصادر عام )19777). قام سبيسر بتنقية نظريات أدلر وكيلسو وقرر بأن العدل الاجتماعي هو أقوى محور لمفهوم الرأسمالية الشاملة. ودأبَ سبيسر على رفض نظرية كيلسو ذات العاملينْ واستنتج بأن نظرية كيلسو للقيمة التي تقوم على رأس المال تعاني من نفس العيب التبسيطي الذي تعاني منه نظرية ماركس للقيمة التي تقوم على العمل. صعوبة المشكلة هذه هي إن ملكية رأس المال، في ظل النظام الحالي، تتميز بالتركيز الشديد، وإن مؤسسات توزيع الناتج الاجتماعي تفاقم هذا التركيز الشديد للملكية. ما أهمله الاقتصاديون التقليديون هو إمكانية تحول ملكية رأس المال إلى مصدر هام للدخل بالنسبة لكل فرد من خلال خطة (USOP) التي ستعزز بدورها من العدل الاجتماعي والاستقرار.
في عمله اللاحق، أعاد سبيسر صياغة خطته ووضعَ لها عنواناً جديداً : Super-Stock (السهم الممتاز)(8). وبحلول العام 1982، عملَ سبيسر الإطار الإحصائي الذي كان يفتقده عمل كيلسو، وأضاف الملاحظات التي طرحتها حلقة النقاش للعام 1977 في معهدBrookings Institution وفق نموذج خطة الرأسمالي المموَّل FCP. ويركز سبيسر حالياً على صياغة هيكل بسيط ل (USOP)، وهو يعرف تماماً بأن التفاصيل ستكون معقدة وخلافية.
ووفقاً لخطة Super Stock، فإن التشريع الخاص بوضع البرنامج فوّضَ مساهمة أكبر 2000 شركة في البلاد. وما أن يتم اختيار منشأة ما للمساهمة، فإنها لن تمول بعد الآن خطط توسعها الرأسمالي من خلال الخيارات الحالية للأسهم العادية، والأسهم التفضيلية، والدين، والعوائد المحتجزة. وحينما تحتاج منشأة ما للمال للتوسع الرأسمالي، فيمكنها الحصول عليه من خلال جهاز (USOP) بإصدار شكل جديد للسهم، وهو السهم الذي أسماه سبيسر السهم الممتاز Super Stock. المؤسسة، المكلَّفة بإدارة (USOP)، ستُلزم بقبول السهم الممتاز الصادر تواً وتجهيز المنشأة المساهمِة بالقيمة السوقية المعادلة له على شكل ودائع قابلة للصرف بصكوك. ولتمويل أي إصدار جديد من السهم الممتاز، تقوم إدارة (USOP) بإصدار أدوات دين جديدة في أسواق رأس المال الخاصة.
ولتسديد الدين الذي كان قد طُرح لتمويل الأسهم الممتازة، لابد من دفع كل عوائد الشركة كحصص. الاستثناء الوحيد المسموح به هو جزء صغير من العوائد المحتجزة لتسيير العمليات اليومية والحالات الطارئة. سيتم حفظ كل الأسهم الممتازة لدى جهة معينة إلى أن تنتهي الحصص المدفوعة من تسديد الدين المبرّم عند البدء. وفي هذه اللحظة، تصبح الأسهم الممتازة المدفوعة مملوكة بشكل حر وواضح من قبل المواطنين الأمريكان الذي وُزعت عليهم.
القصد من مقترح سبيسر هو توزيع الأسهم الممتازة على الأمريكان ممن هم ليسو رأسماليين حالياً. وأقترحَ سبيسر أن تكون كل الأسر التي تقل ثروتها الحالية عن 100.000 دولار أول المتسلمين. وكبديل، اقترح وضع نظام النقاط a point system كأساس للاستحقاق. وللحيلولة دون حصول التفاوت ولتقليل المخاطرة، اقترح سبيسر أن تخلق (USOP) صندوقاً مشتركاً أو وديعة استثمارية unit trust. وعندئذ يتسلم المعنيون محفظة مالية portfolio في أسهم الصندوق المشترك من مشروع (USOP) المركزي. وما أن يتم تسديد الديون الأولى، فإن الحصص القادمة ستمر من خلال الوديعة الاستثمارية trust إلى المواطنين المساهمِين. وسيكون من حق أصحاب الصندوق المشترك من السهم الممتاز الحصول على حصة من كل الدخول التي تكسبها أكبر 2000 شركة طوال بقية حياتهم. وكملاحظة أخيرة، كان سبيسر يأمل بأن مشروع (USOP) القابل للنمو سيحل، مع مرور الوقت، محل الضمان الاجتماعي لأمريكا وبرامج الرفاهية معاً. وفي الواقع، فإن نجاح البرنامج هذا من شأنه إعادة دَمقرطة الاقتصاد الأمريكي.
لفتَ عمل كيسلو وسبيسر انتباه مجلس الشئون الدولية والعامة (CIPA) خلال السبعينات وأوائل الثمانينات. مجلس الشئون الدولية والعامة (CIPA)، الذي تأسسَ في نيويورك، هو منظمة غير ربحية هدفها تعزيز العدل الاقتصادي في العالم. وفي منتصف الثمانينات، شرعت منظمة (CIPA) برعاية سلسلة من المنافسات العلمية (في حقل البحوث) حول مشروعات USOPs. وأسفرت هذه المنافسات عن تدفق فعلي للأفكار عن الرأسمالية الشاملة عموماً ومشروعات USOPs على وجه الخصوص. ورغم أهمية هذه المقالات من حيث تفاصيلها، والضوء الذي سلّطته على الديمقراطية الاقتصادية في أمريكا، فالمجال لا يسع في هذا الفصل لاستعراض الآراء البناءة في تلك المقالات. ويمكن للقراء المهتمين الرجوع إلى سلسلة الكتب التي نشرها المجلس حول الموضوع9. تبين مقدمة أحد المجلدات، تحت عنوان: Mainstreet Capitalism: Essays on Broadening Share Ownership in America and Britain بأن الخطط التي رُسمت لمقالات المنافسات العلمية تقع ضمن واحدة من ثلاثة مجموعات: المجموعة الأولى، أو خطط النوع أ، تقوم على إعادة تعريف علاقات الاستخدام وبناء جسور بين ESOPs و USOP. المجموعة الثانية، أو خطط النوع ب، تركز على المدخرات التي يشجعها تخفيف الضرائب وإعادة تعريف آلية حساب التقاعد الفردي بحيث يحصل المساهمون على حوافز لشراء الأسهم. المجموعة الثالثة، أو خطط النوع ج، تفتح الملكية لكل المواطنين بغض النظر عن وضعهم في العمل أو ثروتهم الصافية. وتتضمن خطط النوع ج تغييرات مبتكرة لموضوعة السهم الممتاز.
بعد المنافسة العلمية الأخيرة في هذه السلسلة، أصبح من الواضح إن هناك ثمانية مصادر كامنة ضمن الرأسمالية الأمريكية، يمكن تكييفها لتوفير مصادر لتوسيع الملكية الرأسمالية. وهذه المصادر هي:
1. إضافات رأس المال من الشركات الكبرى، كما وُصفت في نموذج كيتي هاوك Kitty Hawk لنموذج USOP.
2. صندوق وطني مشترك، يقوم باقتراض النقود من الاحتياطي الفدرالي لشراء أسهم وسندات من الصناعة الخاصة بغية تشجيع الاقتصاد وزيادة الإنتاجية. وسوف يتم دفع الأرباح لعامة الناس (لكل مواطن بالغ) كحصص.
3. أرباح الشركات.
4. الخصخصة: الأصول والخدمات الحكومية التي يمكن تملكها وتشغيلها فردياً.
5. القوة الائتمانية للشركات الرئيسة، كما هي عند قيام فرد أو مجموعة معينة بكسب السيطرة على شركة ما بشراء كل أو معظم أسهمها leveraged buyouts.
6. مدفوعات المستهلكين للمرافق العامة.
7. توسيع مبدأ USOP إلى أبعد من الحصص في أسهم الشركات وتطبيقه على الأصول الأخرى كالأراضي الحكومية، والموارد الطبيعية، والعقارات الخاصة، والمواد الفنية.
8. الأسهم التي تقدمها الشركات الناجحة كحصص لبعض الزبائن، أو لأغراض العلاقات العامة/ والأغراض الوطنية وبما يخدم مصالح تلك الشركات…(10)"

والمجال لا يسمح بمناقشة مفصلة للخطط الأخرى لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بشأن الملكية الرأسمالية الشاملة، كنموذج جون بيري: ‘National Dividend Plan’، ونموذج مؤسسة سابره Sabre: ‘Capital Formation Plan ، ونموذج جيمس ميد: ‘Labor-Capital Partnership ومفاهيم Social Dividend ، ومفهوم جيمس ألبوس James Albus: ‘National Mutual Fund’ (رغم أنه وردَ في المصادر الكامنة، المذكورة تواً)(11). تقدم كل واحدة من هذه الخطط فكرة فريدة ونظرات عميقة، رغم إنها لا تضف سوى القليل للموضوعات التي جرت مناقشتها بالفعل. الاستنتاج الأساسي لدارسي الرأسمالية الشاملة هو إن التعريف القائم لحقوق الملكية والمؤسسات المعنية بتوزيع الدخل والثروة لابد من تغييرها بطريقة ما تحمل الحوافز والتناغم لتحقيق الديمقراطية الاقتصادية الحقيقية(12).
كما أُستبعدت من هذا العرض المناقشة التي جرت بخصوص أسلوب تحقيق الرأسمالية الشاملة: من أعلى نحو الأسفل مقابل من أسفل نحو الأعلى. لويس كيلسو دافع عن ESOPs، وهو مشروع له هدف محدد يقوم على أسلوب من أسفل نحو الأعلى، في الستينات والسبعينات، ونال الدعم أخيراً من الكونغرس في الحصول على التشريع الضروري لمأسسة هذا البرنامج. أما مقالة جون ويزمان Jon Wisman التي فازت في المنافسة العلمية لمجلس (CIPA) العام 1984 ، فقد اقترحت أسلوباً آخر من الأسفل نحو الأعلى لتحقيق الرأسمالية الشاملة يقوم على نموذج الإدارة الذاتية للعاملين. كما أكدت مقالة جورج بورس George Buress، التي فازت بمنافسة المجلس (CIPA) للعام 1988، على إن أسلوب من أسفل نحو الأعلى، القائم على التطوع، يملك أعظم فرصة للقبول. ورغم الترحيب بمشروع ESOP، ومفاهيم مماثلة، فإن العديدين ممن يؤيدون فكرة الرأسمالية الشاملة يقلقهم إن أساليب من أسفل نحو الأعلى تنطوي على مخاطرة معينة وهي كونها قد تفيد مجموعة صغيرة فقط من الأمريكان المحظوظين جداً للحصول على أعمال طويلة-الأمد لدى الشركات الناجحة.
وعلى أي حال، فإن إدخال أو توسيع معظم أساليب من أسفل نحو الأعلى تتطلب حداً أدنى من الدعم من التشريع الحكومي. والقضية، جزئياً، هي طبيعة ومدى التشريع المعني والتدخل الحكومي. ولكن الأهم هو قضية التوقيت. فالبيئة الاجتماعية-الاقتصادية القائمة، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، تقف موقفاً سلبياً تماماً من تدشين أي شكل للرأسمالية الشاملة.

الحاضر
شهد عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية عدداً من الابتكارات الواعدة على مستوى الاقتصاد الجزئي. وهذه الابتكارات تتضمن ليس فقط مشروعات ESOPs، بل أيضاً التوسع المعتدل للحركة التعاونية، ودمج الممارسات اليابانية بنشاط الأعمال الأمريكي، وخطط الدفع بحسب الإنجاز التي تقوم على التكافؤ، والفرق المدارة ذاتياً، وانتشار الأنواع المختلفة من حسابات التقاعد الفردية. إن كل مخططات الحوافز هذه وابتكارات الأعمال قد عززت الديمقراطية الاقتصادية، بينما ساعد الكثير منها على توسيع المشاركة في الملكية المساهمة في أمريكا لـ 43 % من السكان البالغين(13).
أشكال التكييف الهيكلي هذه، ضمن الاقتصاد الأمريكي، تعّزز الديمقراطية الاقتصادية وهي كلها جيدة بالنسبة للأفراد المعنيين بشكل مباشر. ولكنها، مع ذلك، لا تساعد غالبية الأمريكان على الالتحام أكثر بنظامنا الرأسمالي. فهي توّسع المساهمة في ملكية رأس المال لأبعد من الحلقة التقليدية، ولكنها تُبقي الناس مقسَّمين بصورة عميقة، رغم ذلك. وبعبارة أخرى، لا تفعل هذه الأشكال غير القليل لتعزيز الرأسمالية الشاملة.
السؤال الهام بالنسبة لأوائل القرن العشرين هو: ماذا سيحدث ل 57 % من الناخبين الأمريكان ممن لا يشاركون بالملكية المساهمة، والذين يشكلون حوالي 107 ملايين من البالغين فوق سن 18 سنة العام 1997؟ الإجابة الواقعية على هذا السؤال تتطلب مناقشة الوضع الاقتصادي لهذه المجموعة، مع شيء من التنبؤ بالكيفية التي سيتطور بها هذا الوضع خلال السنوات أل 25 القادمة. في السطور القادمة، على القارئ أن يضع في ذهنه إن هؤلاء الأفراد يمثلون كتلة انتخابية كامنة في الانتخابات القادمة.
الحقيقة المعروفة الآن هي إن الناتج المحلي الإجمالي (GDP) زاد بنسبة 36 % بين العامين 1973 و 1995، في حين هبط الأجر الحقيقي (للساعة الواحدة) للعاملين غير المشرفين بنسبة 4 %(14). يشكل هؤلاء العاملون الأغلبية الساحقة من أل 107 من الأمريكان البالغين الذين أشرنا إليهم تواً. الشيء الممِّيز في هذه الحقيقة هو إنها تشير، للمرة الأولى في تاريخ أمريكا، إلى إن حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) والأجور الحقيقية لغالبية الأمريكان قد تحركتا باتجاهات متعاكسة. فما هو، إذاً، تفسير هذا التناقض، كما يبدو؟
جزء من الجواب يتمثل في إن كل المكاسب التي تحققت، في الثمانينات، ذهبت إلى قمة قوة العمل التي تشكل 20 % منها. وحتى ضمن هذه القمة- 20 %، لم يكن هناك توزيع متساوي للمكاسب؛ فقد ذهبَ لجيوب 1 % فقط ما نسبته 64 % من المكاسب. وبين العامين 1968 و 1988، بدأ التفاوت يتسارع ويتغير هيكلياً. وفي هذه الفترة، فإن التفاوت لم يتسارع فقط ما بين المجموعات الاجتماعية، بل أنه زاد داخل كل مجموعة أيضاً. إذ زاد التفاوت في الدخل بين المجموعات، وداخل كل مجموعة، بالنسبة للمجموعات الصناعية، والمهنية، والتعليمية، والسكانية، والجغرافية(15). لخصَ الاقتصادي ليستر ثورو هذه التطورات بقوله: " كما تبين بيانات تدني الأجور، فإن العمال غير الماهرين في العالم الأول في طريقهم لأن يصبحوا هامشيين(16)." ورغم الانخفاض الواضح في هذه الاتجاهات في منتصف التسعينات، فإن الزيادة الإجمالية في التفاوت لا يحتمل أن تنقلب في وقت قريب.
أسباب هذه الزيادة في التفاوت والتغير الهيكلي في توزيع الدخل غير واضحة نوعاً ما، وهناك جدل حولها. يساعد تلخيص بعض العناصر الرئيسة لهذا الجدل على تمهيد المسرح لمناقشة آفاق تقدم مشروع الرأسمالية الشاملة في الولايات المتحدة في أوائل القرن الحادي والعشرين. كما إنه يدعم التأكيد الذي طُرح قبل قليل والقائل بأن الميل نحو تزايد التفاوت لا يحتمل أن ينقلب في المستقبل المنظور. وفي حين يتجادل العلماء حول الدرجة التي تساهم فيها هذه العوامل في ظاهرة التفاوت هذه، فكلهم متفقون على إن كل عامل يلعب دوراً هاماً إلى حد ما.
العامل الأول يخص مجموعة العمال الماهرين الذين جاءوا من خلال المهاجرين إلى الولايات المتحدة على مدى السنين أل 20 الأخيرة. على خلاف موجات الهجرة السابقة، فإن الموجة الحالية تضم الكثير من العمال غير الماهرين(17). وقد ألقى هذا التدفق ضغطاً قوياً على أجور معظم المواطنين الأمريكان ممن لا يتجاوز تحصيلهم الدراسي المرحلة الثانوية. وهذا العامل، لوحده، ما كان ليتسبب في هبوط الأجور الحقيقية لو أنه ترافقَ بزيادة متناسبة، أو أكثر، في الطلب على العمال غير الماهرين. ولكن ذلك لم يحدث، مع الأسف.
إن زيادة الطلب على العمال غير الماهرين في الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن العشرين قد خفت تحت تأثير تطوْرين آخرْين. الأول هو الظاهرة التي تصفها كلمة العولمة: التحول العالمي العنيد الذي أثّرَ على كل جوانب الحياة الاقتصادية الأمريكية. فرغم إنها بدأت بالتسارع في الستينات، إلاّ أن العقد الأخير لوحده شهدَ زيادة التجارة العالمية بمعدل مرتين أكثر من نمو الناتج المحلي الإجماليGDP، بينما زاد الاستثمار الأجنبي المباشر بثلاث مرات. ومنذ سقوط جدار برلين العام 1989، فإن بلداناً أكثر من السابق فتحتْ اقتصادياتها للتجارة الخارجية والتمويل. مقادير ضخمة من النقود تعبر الحدود بسهولة بمجرد الضغط على زر حاسوب. التجارة العالمية بالعملات الأجنبية في أسواق رأس المال العالمية تتجاوز بانتظام ما يعادل 1.3 ترليون دولار، وهي مستمرة بذلك.
العولمة ترافقت بإعادة هيكلة الإنتاج، وتوجه الشركات الأمريكية لتحويل الإنتاج بشكل متزايد، أو تهديدها بذلك، نحو البلدان ذات العمل غير الماهر أو نصف الماهر، الرخيص نسبياً. كما أن التحول السريع لتكنولوجيا المعلومات والنقل عجّلت من إعادة الهيكلة هذه بخلق مناخ اقتصادي يمكن فيه إنتاج العديد من السلع والخدمات في أي مكان من الأرض.
افترضتْ الدراسات الأخيرة بأن حوالي 20 % من الزيادة في تفاوت الدخل يمكن تفسيرها بظاهرة العولمة(18). ويجد بعض الاقتصاديين في التجارة الخارجية سبباً لزيادة تفاوت الدخل في الولايات المتحدة حتى أكثر أهمية مما تشير تلك الدراسات. داني رودك، وهو اقتصادي من جامعة هارفارد، يذهب، في كتابه الصادر مؤخراً، إلى إن الاقتصاديين يفتقدون الكثير من الوقائع الهامة(19). ويبين رودك، بشكل خاص، بأن العولمة تجعل انتقال النشاط الإنتاجي لأي مكان آخر من العالم أسهل مما كان مفترضاً؛ وفي سياق هذه العملية يتم استبدال العمال الأمريكان ذوي الأجور العالية بعمال أجانب أرخص. التفكير الاقتصادي الجاري يقلل من تقدير العواقب الكامنة والمفترضة للتغيرات الهيكلية المثيرة في الأنظمة الاقتصادية الأمريكية/العالمية. وعلاوة على ذلك، فحتى التهديد بنقل الإنتاج للخارج يغدو قوة فاعلة لإعاقة زيادة المنافع الأجرية وغير الأجرية، وإضعاف نقابات العمال، وزيادة فقدان الضمانة بالعمل. وتهمل النماذج الاقتصادية على الدوام هذا الواقع الأخير.
كيفما نظرَ المرء إلى تأثير التجارة الخارجية، فمن الممكن القول بشكل قاطع بأن إعادة هيكلة الإنتاج الأمريكي منذ العام 1970 قد كبحت زيادة الطلب المحلي على العمل غير الماهر. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الجانب من اقتصادنا المتغير قد ساهم في زيادة تفاوت الدخل وأنه لن يتغير في ظل الظروف الحالية.
وبينما تساعد الفقرات الأخيرة على وصف الأسباب الرئيسية لانخفاض الأجور الحقيقية لمن ليس لديهم تحصيل جامعي، بيد إنها لا تفسر الفجوة المتزايدة بين العمال الماهرين وغير الماهرين. في العام 1979، كان معدل أجر خريج الجامعة الأمريكي، من الذكور، يزيد بنسبة 49 % عن مثيلة خريج المدرسة الثانوية؛ وقد زادت هذه الفجوة إلى 89 % العام 1993 )20). إن زيادة الدخل الحقيقي لخريجي الجامعات، كمجموعة، هي العامل الأخير لتفسير زيادة التفاوت في الدخول.
وإذ تدفعها ضرورات عصر المعلومات، فإن الولايات المتحدة باتت تنتج السلع غير المادية (تمويل، اتصالات، وسائل إعلام، والخدمات بصورة عامة). تحول المَشاهد الاقتصادية landscape economic كان مدفوعاً، إلى حد بعيد، بتغير بنية الرأسمالية، وبالتالي، احتياجاتها. لقد أجبرت الضغوطُ الاقتصادية المتزايدة المنشآت على تطوير وتبني تقنيات جديدة. فتحقيق أرباح أكثر في بيئة ذات تضخم منخفض تتطلب تخفيض التكاليف بأي شكل ممكن. وإن تكنولوجيا المعلومات الجديدة (IT) تعمل، في النهاية، على تخفيض تكاليف الاتصالات وتكاليف المعاملات، في حين تساعد على رفع الإنتاجية والأرباح. وأولئك الذين يطوّرون مهاراتهم لاستعمال (IT)، يكسبون ميزة استراتيجية ضمن أسواق حرة ديناميكية.
تكمن السمات الممِّيزة لتكنولوجيا المعلومات (IT) في تخللها ومعدل انتشارها. فتكنولوجيا المعلومات (IT) قابلة للتطبيق في كل قطاعات الاقتصاد وتؤثر على كل وظيفة في كل منشأة. إذ حوّلت ليس فقط الإنتاج والتوزيع القائمْين، بل شقّت أيضاً أسواقاً ضخمة خاصة بها.
ففي حين أخذت الكهرباء، وهي تكنولوجيا ذات قدرة على الانتشار pervasive بنفس الدرجة، 46 سنة لكي تنتشر بين 25 % من الأسر الأمريكية، أخذ الحاسوب الشخصي 15 سنة، بينما أخذ الهاتف الخلوي 13 سنة(21). إن الانتشار ومعدل التطبيق السريع لتكنولوجيا المعلومات جلبَ الاضطراب لسوق العمل. وعلى وجه التحديد، تسّببت تكنولوجيا المعلومات بزيادة سريعة في الطلب على العاملين الماهرين لإدارة الجوانب المتنوعة من (IT). ورغم الزيادة الثابتة في الأفراد الذين لديهم تحصيل جامعي وتعليم ثانوي فني، فإن الطلب عليهم قد تجاوزَ، في ربع القرن الأخير، عرضهم المتزايد. وبالنتيجة، فقد تمتعَ هؤلاء بزيادة في أجورهم الحقيقية. وإضافة إلى ذلك، فالعديد من هؤلاء الأفراد المحظوظين كانوا قابعين في داخل معتكف الرأسمالية من خلال الخطة الاستثمارية 401k وخطط الخيار بين الأسهم.
ذهبَ كثير من النقاد إلى إن تكنولوجيا المعلومات (IT) لا تشبه التقنيات السابقة وإنها ستدمر المزيد من الأعمال بدلاً من أن تخلقها. كما يذكرون أيضاً بأنه حتى إذا قامت (IT) بخلق أعمال أكثر مما تقوم بتدمير هذه الأعمال، فإنها ستكون أعمالاً قليلة الأجر في الغالب مع منافع أخرى ضئيلة. وهذه المسألة يمكن أن تكون هامة من زاوية أن تصبح الرأسمالية الشاملة حقيقة واقعة في القرن الحادي والعشرين ، مع إن قرارها ليس حاسماً. ولكن الحقيقة تبقى هي إن غالبية الأمريكان جربت، وربما ستستمر بتجريب، هبوط الدخل الحقيقي في المستقبل المنظور بسبب العوامل التي جرت مناقشتها. إذ إن ظروفهم الاقتصادية وفرصهم المتناقصة ستكون في تناقض حاد مع أولئك الذين يركبون موجة تكنولوجيا المعلومات باتجاه القرن الجديد.
يشير البعض إلى إن العامل الآخر الذي يساهم في التفاوت المتزايد هو تراجع الحكومة عن البرامج الاجتماعية. ويشك هؤلاء بأن هذا التطور، الذي يعود للعام 1980، هو محصلة للتغيرات الأخرى الشاملة في المجتمع والتي لم تُناقش في هذا الفصل. ومع ذلك، فما هو واضح تماماً هو إن الحكومة الفيدرالية، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، شددت من نمو التفاوت الاقتصادي، على الأقل من خلال التغيرات الضريبية. بدأت هذه التغيرات في أوائل الثمانينات، وامتدت من تخفيض الضريبة على الاستثمار وفق قانون الضرائب في عهد كمب- روث Kemp-Roth إلى التخفيضات في الضريبة على المكاسب الرأسمالية من المنازل والأسهم في قانون الضريبة للعام 1997.
لماذا لم يجد أولئك الأمريكان الذين تُركوا في أعقاب ظهور الصناعات "ذات المقدرة العقلية" brainpower صوتاً جماعياً في واشنطن؟ يمكن للمرء أن يتوقع من هؤلاء الناس أن يمارسوا حقوقهم الانتخابية ويطالبوا بتدخل سياسي للحل: كالمزيد من ضرائب الدخل التصاعدية، وتوسيع البرامج الاجتماعية والمقاطعات التجارية. فهم لم يفعلوا ذلك رغم ثلاثين سنة من الهبوط في القوة الشرائية. وهذا اللغز المحيِّر معقد ومفهوم على نحو سيء. ومع ذلك، فمناقشة الموضوع بإيجاز في محلها؛ لأن موضوعة الرأسمالية الشاملة تبقى مجرد حلم إلى أن يجد هؤلاء الأفراد صوتهم الجماعي.
أولاً، بشّرت نهاية الشيوعية بعصر لا تواجه فيه الرأسمالية منافسة إيديولوجية قوية. بعض الكُتاب أسمى هذا الوضع "نهاية التاريخ". الحرب الباردة كانت لها سمة إيجابية وهو أنها حملت الأمريكان على التأمل النقدي للنظام الاقتصادي الذي يعيشون فيه. ففي سياق التوتر الذي شهده ذلك العصر، أعارَ الأمريكان، وممثلوهم في واشنطن، انتباههم الجاد لتهم الظلم السياسي والاقتصادي الشامل. فالخوف من "الانجراف نحو الاشتراكية" حفزّ الحكومة على سن قوانين جديدة وتأسيس برامج مبتكرة لتقليل التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. ورغم نمو التفاوت الاقتصادي، فإن عدداً متزايداً من الأمريكان يتناقص قلقهم على زملائهم وعلى المجتمع عموماً.
ثانياً، الثقافة المبسطة تلهي وتُربك الأمريكان وذلك بتحريف مفاهيم المسائل الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية القائمة. إذا كان الدين "أفيون الشعوب" في القرن التاسع عشر، فإن الإعلام الالكتروني هو "أفيون الشعوب" في أواخر القرن العشرين. ومن دون حدث ودراما قوية جداً على المسرح العالمي تجتذب انتباههم، فإن معظم الأمريكان يبقون مشدودين لأجهزة التلفزيون والحاسوب في بيوتهم.
وكما هو الحال مع زيادة التفاوت الاقتصادي، فإن الطريقة التي يصبح بها التلفزيون العامل المحدِّد لمعلومات الفرد وقيم العائلة يجري بحثها وتوثيقها. إن كمية وقت الفراغ التي يصرفها الفرد الأمريكي العادي أمام شاشة التلفزيون ونسبة الأمريكان الذي يشاهدون التلفزيون زادت إلى مستويات غير مسبوقة. مع تزايد تعقد الإعلانات والبرامج التلفزيونية، أصبح التلفزيون قوة ضخمة تخترق القيم الثقافية. فمنذ العهود القوية لكنيسة الكاثوليك الرومان، لم تكن هناك قوة بنفس المقدرة على التأثير في المجتمع الغربي من زاوية تشكيل الثقافة والقيم الإنسانية. ولسوء الحظ، فما يبيعه هؤلاء هو الإغراء والإثارة والتلاعب بالعواطف وإشباع الحاجات الآنية. وسائل الإعلام الالكترونية، الساعية لتعظيم الأرباح، تمجد الاستهلاك الفردي وتعليم المشاهد إن ما هو حقيقي في نظر المرء أهم في الغالب مما هو حقيقي. ليس في هذا برنامج سياسي خفي أو علني؛ فما تريده وسائل الإعلام ومناصروها من الشركات هو النقود بالضبط. وكما هو الحال مع المباركة والغفران الذي كانت تمنحها الكنيسة للأرستقراطية الأوروبية في العصور الوسطى، فإن وسائل الإعلام الالكترونية تمنح المباركة والغفران للرأسمالية الحديثة ووكلائها الرئيسين.

المستقبل
ستواصل وسائل الإعلام الالكترونية قبضتها التجارية ما دام هناك سلم وازدهار. وما سيوقظ العملاق الغافي، "الغالبية الصامتة" من الأمريكان الذين يعانون من تدني دخلهم الحقيقي، هو نزاع عسكري يمتد لفترة طويلة، أو اضطراب اقتصادي كلي خطير، أو استغاثة قوية للمساعدة حينما تخلق الاتجاهات الحالية وضعاً حرجاً من الإفقار النسبي. إن التوسع الاقتصادي الطويل، الذي لم يتوقف عملياً، والذي بدأ العام 1982، خلقَ أعمالاً كثيرة ومنحَ معظم العاملين الثقة بأن المد الاقتصادي المتصاعد سيمضي بقاربهم حتى النهاية. كما إن الائتمان السهل نسبياً سمحَ للكثيرين، ممن هبطت أجورهم الحقيقية، بالاقتراض بضمانة الدخول التي يُتوقع أن يحصلوا عليها في المستقبل لتحقيق "الحلم الأمريكي" اليوم. ومن بين الدعوات المحتملة للصحوة، فإن أقواها احتمالاً هو انكماش اقتصادي حاد. لن أحاول هنا أن أتكهن متى وكيف سيحدث هذا، بيد إن مثل هذا الأمر سيحدث خلال أل 25 سنة القادمة. وحينما يحدث، سيتحرر سياسيو واشنطن من قبضة مجموعات المصالح الخاصة ويتحملون مسئولية التفويض الممنوح لهم من الديمقراطية السياسية الأمريكية. المصالح الخاصة تحكم المجلس التشريعي Capitol Hill خلال الأوقات الطيبة؛ بينما يحكم الشعب خلال الأوقات الصعبة.
ولذلك، يبدو من الواضح أننا بين عصرين من "الحكومة الكبيرة" big government. مصطلح "الحكومة الكبيرة" ليس معناه زيادة حجم الحكومة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي GDP. فرغم المظاهر، فإن الإنفاق العام في الولايات المتحدة ظلَ يشكل 33 % تقريباً من GDP خلال ربع القرن الماضي. ولا يُتوقع تغير هذه النسبة كثيراً خلال أل 25 سنة القادمة. وفي الواقع، فما حدثَ منذ العام 1980 هو إعادة هيكلة مهام الحكومة الفيدرالية، والولايات، والحكومات المحلية، بطريقة ما تدفع المسئولية الوظيفية نحو الدرجات الدنيا من التسلسل الهرمي. التنبؤ المعمول هنا هو عَكسْ reversal هذا الاتجاه مع تراجع المسئولية لصالح المراتب العليا من التسلسل الهرمي. وأتوقع أن تنغمر الحكومة الفيدرالية بشكل متزايد بمراقبة وتوجيه القطاع الخاص وبإعادة توزيع الدخل والثروة من خلال المبادرات التشريعية.
لا جدال بأن وقائع الضعف الشديد لفعالية الحكومة قد حدثت في الماضي وإن هيكل العديد من البرامج الاجتماعية ربما لم يقلل بشكل كافٍ من المشاكل الاجتماعية التي كانت تنوي مواجهتها. الخوف من العودة إلى "الحكومة الكبيرة" يفترض إننا غير قادرين على التعلم من أخطائنا السابقة. وهذا الخوف يتناقض مع الميل البشري المؤكد للتعلم من التجربة.
يذهب روبرت كوتنر، في كتابه Everything for Sale، إلى إن اقتصاد الأسواق الحرة يعاني من محدوديات جدية في الحقل الاجتماعي(22). الاعتماد أكثر وأكثر على الأسواق يترك نسبة من الفقراء دون رعاية صحية، وسكن، أو طعام. وفي الحالة اللبرالية المتطرفة، يجد المرء كثيراً من الأفراد ممن تتجاوز التكاليف الاجتماعية الحدية لديهم المنافع الاجتماعية الحدية: نظرياً، هذا معناه هلاكهم. إن تصوير الاتجاهات الاجتماعية-الاقتصادية الحالية يأخذنا إلى الحالات المتطرفة غير الإنسانية هذه. وهذا لا يمكن أن يحصل، ولن يحصل، ضمن وضع ديمقراطي. ويذهب كونتر إلى إن الأسواق لا تقود، دائماً، إلى النتائج المثالية التي تبشر بها النظريات الاقتصادية. وهو يبين بأن الحكومة تترك للأسواق إنجاز مختلف المهام: من البحث العلمي، إلى تجهيز الطاقة الكهربائية، وإلى خدمات الإسعاف الصحي في المدن. وأخيراً، يبين كونتر بأن تجاوزات قوى السوق المنفلتة اليوم هي من السوء بقدر أسوأ شكل في أيام الحكومة الكبيرة. وتميل الدورات الاجتماعية-الاقتصادية للتقلب كثيراً قبل عَكس الاتجاه. والدورة الحالية يمكن أن تكون أطول من المعتاد بسبب العولمة والاقتصاد المحلي الذي تقوّيه تكنولوجيا المعلومات (IT). ومع ذلك، فمن المحتم لهذه الدورة أن تنعكس.
إن طبيعة وحدود انبعاث الحكومة الفيدرالية يعتمد على تفاصيل المشاكل الاقتصادية الوطنية الأمريكية وحالة الاقتصاد العالمي في الوقت الذي يتطلب تدخل الحكومة الفيدرالية. وبينما يتعذر قول الكثير عن تفاصيل التغيرات المقبلة في دور وهيكل الحكومة، فإنها (التفاصيل) ستشكلها عوامل عدة يسهل تعريفها. ولفهم ذلك، لابد من تذكر ما سبق قوله عن العولمة والتغير التكنولوجي، وأن نضيف بعض الوقائع.
أولاً، التغيرات الحاصلة في التكنولوجيا والنقل والاتصالات تخلق شبكة عالمية مترابطة من الأسواق التي تدعم الإنتاج والتوزيع الكفء في كل مكان من الأرض تقريباً. لم يتم إدراك الدور المتوقع لهذه الظاهرة بتمزيق الولايات المتحدة: إذ يتطور انفصال بين أهداف وأغراض الشركات التي تفكر "عالمياً" وأهداف وأغراض حكومة ديمقراطية تفكر "وطنياً". فإذا طالبَ الناس، واستجاب السياسيون، بوضع تعريفات جمركية أعلى، وحصص، وقيود قانونية على المشروع الحر، والمزيد من نظام الضرائب التصاعدية، والإنفاق الحكومي الأكثر، فلا شيء يمنع الشركات العاملة في الولايات المتحدة من الانتقال لأي بلد في العالم تتوفر فيه أرباح أكثر.
إن نمو الصناعات ذات المقدرة العقلية يجعل هذا السيناريو أكثر إشكالية لتلك الشركات التي لا تملك أسساً طبيعية جاهزة. فبخلاف رأس المال، فإن المقدرة العقلية لا يمكن تملكها، وهي متنقلة كما هو حال الفرد. إن حرية الحركة الجغرافية تجعل هذه الصناعات، والناس الذين يسيطرون عليها، أكثر حساسية للبيئة الاقتصادية التي تقع فيها هذه الصناعات.
في مقالة ظهرت مؤخراً في مجلة Wall Street Journal، تم وضع هذه المشكلة على النحو التالي: "الناس، في الأبراج الزجاجية، يتمتعون بخبرة ومهارة عالية، ويعملون في مباني ذات مكاتب ملساء. هم عالميون بالمعنى الحرفي للكلمة، جزء من شبكة اتصالات عالمية. إنهم كوزموبوليتانيون، تربطهم الأمور المشتركة مع نظرائهم في ألمانيا واليابان أكثر مما مع زملائهم الأمريكان ممن يعملون وفق نظام التجميع بين المدن(23)."
في كتابه المذكور سابقاً، يذهب الدكتور داني رودك إلى إن العولمة جعلت من الصعب بدرجة متزايدة على الحكومة الاتحادية تقديم الضمان الاجتماعي. وأخيراً، كلما زادت قدرة رأس المال والعاملين ذوي المعرفة والخبرة العالية على التنقل، بات من الأصعب جمع الإيراد الضريبي الكافي للتخفيف من آثار التجارة الأكثر حرية ولتمويل الإنفاق الاجتماعي. تتوافر للتجارة الالكترونية إمكانية إضعاف قدرة الحكومة على فرض الضرائب على الأمريكان لأنها تجعل من الأسهل على الأفراد تفادي بلد ما مالياً. وقد تكون بعض الشركات ذات المقدرة العقلية قادرة تماماً على التهرب من الضريبة بنقل نشاطها الاقتصادي إلى شبكة النت cyberspace.
في عصر تصاعد التدخل الحكومي، ربما يدعو بعض الاقتصاديين إلى تطبيق أشكال للرقابة على تدفق رأس المال للخارج. ولكن كما قال ليستر ثورو: "مع قدرة التقنيات والمؤسسات المالية على تحريك رأس المال باستخدام الحاسوب، فمن الصعب تصور تشديد الرقابة على رأس المال. القوانين يمكن تشريعها ولكن من المتعذر فرضها(24).
إذا كان الانكماش الاقتصادي، الذي ستواجهه الولايات المتحدة في نهاية المطاف، عالمياً بحيث إن كل البلدان التجارية الرئيسية تواجه مجموعة متشابهة من المشاكل، فقد نشاهد زيادة عالمية في التدخل الحكومي في نشاط القطاع الخاص. في هذه البيئة، ربما يكون تصاعد التدخل الحكومي سريعاً ومتشابهاً في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وإذ تواجه مجموعةً متشابهةً من طلبات مواطنيها، فإن حكومات (OECD) ستكون قادرة على تشريع برامج علاجية، ورفع الضرائب، ورسم سياسات الحماية. وعندما تقوم كل حكومات (OECD) بأخذ الإجراءات للتعامل مع نفس المشاكل الاقتصادية، فسيكون لدى كل واحدة منها القليل من الخوف سواء من هروب رأس المال أو انتقال الشركات للخارج.
إذا كانت المشاكل الاقتصادية فريدة بالنسبة للولايات المتحدة، فإن تقوية دور الحكومة الفيدرالية يمكن أن يقود إلى خروج هائل لرأس المال العالمي والصناعات ذات المقدرة العقلية بحثاً عن بيئة اقتصادية أنسب لها. وهذه الظروف من شأنها أن تؤدي إلى إبطاء، وتقطيع، وعدم توازن تصاعد الدور الحكومي في سياق أزمة اقتصادية محلية متقيحة. الطريقة التي ستنبثق بها من جديد الحكومةُ الكبيرة ستكون حساسة في ظل أي سيناريو أو أي شيء بين بين.
إن توسع البرامج الاجتماعية التقليدية سيتطلب زيادة الضرائب. كما إن إفراط الحكومة الاتحادية بالاقتراض منذ العام 1980 سيحد من القدرة على إصدار سندات دين إضافية كوسيلة لتمويل زيادة البرامج الاجتماعية لقسم هام من أوائل القرن الحادي والعشرين. إن زيادة الضرائب لن تعمل سوى على تفاقم أي أزمة محلية بتخفيض الاستهلاك والاستثمار وتعجيل رحيل رأس المال الدولي والعاملين ذوي الخبرة والمهارة. كما إن زيادة أسعار الفائدة من خلال السياسة النقدية المقيِّدة من شأنها أن تفاقم المشاكل الاقتصادية المحلية. إذن، كيف يمكن لحكومة الولايات المتحدة إعادة هندسة نفسها لمواجهة الطلبات المتزايدة لشعبها للإصلاح الاجتماعي، مع اجتذاب رأس المال الأجنبي للأسواق المالية المحلية؟
لقد تبينَ بأن برامج الرأسمالية الشاملة، كمشروع USOP، تشجع وتتوافق مع المؤسسات الرأسمالية القائمة. إن إقامة مشروع USOP من شأنه إعادة بناء المؤسسات التي تحدد توزيع الدخل والثروة، ولكنه يعمل ذلك بالتدريج وليس بطريقة المصادرة. إن إصدار سندات الدين بالارتباط مع مشروع USOP هو طريقة تصفي الدين تلقائياً لأن الإصدار مرتبط بدخول شركات الأعمال. مشروع USOP يمتلك إمكانية الحلول محل برامج الرفاهية الاجتماعية القائمة، وبذلك يخلق بديلاً معيناً يوفر ليس فقط "شبكة أمان" اقتصادية للمشاركين فيه، بل وينشر أيضاً ملكية رأس المال بين كل المواطنين. توزيع المصالح الثابتة في شركة America يمتلك إمكانية قوية لرفع الإنتاجية من خلال الملكية والشعور المتجدد بالاعتزاز والافتخار بكون المرء أمريكياً. وقد وُجد بأن المشاركة في مشروع USOP تزيد من إنتاجية العاملين بنسبة 10 %. وهناك كل الأسباب للشك بأن المشاركة في مشروع USOP سيكون لها تأثير إيجابي على الإنتاجية كما ينبغي. وعلاوة على ذلك، فإن USOP هو مشروع وطني بعمق لأنه يدعو إلى مبادئ الديمقراطية الاقتصادية الموصوفة في إعلان الاستقلال، وقانون الحقوق، والدستور.
طوّرَ باحثو مشروع USOP استراتيجيات لتوسيع هذا المفهوم بطريقة معينة بحيث تحتفظ مجموعات المالكين stakeholder groups بحصة أكبر نسبياً في الشركة التي يرتبطون بها(25). وهذه الأفكار لا تقلل بأي شكل من قيمة مشروع USOP كوسيلة لتعزيز الرأسمالية الشاملة. وفي الواقع، فإن هذه التوسيعات لموضوعة USOP تجعل هذا المفهوم منسجماً مع الكيان الفكري الناشئ لعلم الاقتصاد الإنساني ورأسمالية المالكين.
كل هذا يجعل مشروع USOP المحورَ الكامل في مهمة إعادة هيكلة الحكومة في ظل أيٍ من الظروف التي ذُكرت سابقاً والتي قد تظهر في أوائل القرن الحادي والعشرين في الولايات المتحدة. إن الحكومة الفيدرالية، التي يطوقها الدين المعلق وعدم الرغبة بزيادة الضرائب، ستجد في مؤسسة الرأسمالية الشاملة وسيلةً فعالة من حيث التكلفة لتلبية طلبات الناس المتزايدة للقيام بعمل ما. مشروع USOP يغطي تكاليف التشغيل من دخول شركات الأعمال وبالتالي لا يتطلب إيرادات ضريبية. وفي الواقع، يمكن عمل حجة قوية تفيد بأن الإعداد الجيد لمشروع USOP يؤدي أخيراً إلى تقليص النفقات الحكومية وبذلك يسمح بتخفيض الضرائب. ربما تقبل الشركات بهذا المشروع لأن المشاركة اختيارية وتقدم حوافز لتعزيز الربحية في المنشآت المعنية. رأس المال العالمي والصناعات ذات المقدرة العقلية قد تفكر مرتين قبل المغادرة لأن المفهوم يتمسك بوعده بخلق مكاسب إنتاجية على مستوى النظام، ولا يقوم بزيادة الضرائب، ويضع قواعد لتوسيع الطاقة التنظيمية.
في الأربعينات، ذهبَ كارل بولياني Karl Polyanyi إلى إن الحربين العالميتين والكساد بينهما أشّرت لنهاية رأسمالية القرن التاسع عشر. وقد خلقت الآليات الاجتماعية، التي تطورتْ في أعقاب الثورة الكينزية، "شبكة أمان" لحماية المواطنين من الوحشية المحتملة لقوى السوق. إن القوة الموازية للنقابات، والبرامج الاجتماعية الجديدة، والاتفاقات المتعددة الأطراف التي عُقدت في بريتن وودز Bretton Woods خلقت نظاماً اقتصادياً للفحص والتوازن تمكنتْ في إطاره البلدان الغربية من إعادة البناء والعمال الغربيين من الازدهار.
وبين العام 1973، الذي وصلتْ فيه إلى ذروتها الأجورُ الحقيقية لذوي الياقات الزرق، والعام 1980 الذي شهدَ بداية أول هجوم جدي في فترة ما بعد الحرب على دور الحكومة الفيدرالية، انعطفَ مد العصر الكينزي. واستمرت النقابات بالضعف، وشبكة الأمان أخذت تتفكك أو يُعاد تعريفها، وإن المؤسسات الباقية من اتفاقية بريتن وودز كانت تعيقها بدرجة متزايدة القوةُ الماحقة للسوق المالية العالمية.
لا أستطيع التكهن بالأحداث التي ستؤشر نهاية رأسمالية القرن العشرين. ومهما كانت هذه الأحداث والوقت الذي تقع فيه، فإن الاتجاهات الحالية توحي بقوة بأنها ستقع في أوائل القرن الحادي والعشرين. الديمقراطية السياسية، التي تؤمن بمبدأ "ناخب واحد، صوت واحد"، تقف في تعارض صارخ مع معتقدات الرأسمالية. في ظل الرأسمالية، كل فرد حر في العمل، ضمن الحدود القانونية، على جمع أكبر أصوات اقتصادية ممكنة (دولارات). ولكن ديناميكا هذه العملية، على فرض المؤسسات القائمة المعطاة، تخلق تفاوتاً صارخاً في الفرص الاقتصادية والنفوذ. وقد حجبَ دهاء سياسييّ القرن العشرين التناقضَ الإيديولوجي الشامل هذا بإقحام موضوع دولة الرفاهية الاجتماعية على الرأسمالية والديمقراطية. وهذه العملية انتهت إلى فشل في الولايات المتحدة، وقد اُستبدلت بسرعة، في أوائل الثمانينات، بشكل أغلظ للرأسمالية. والمحاولة القادمة لحل هذا التناقض الإيديولوجي ربما تكون سلسلة من التجارب الاجتماعية القائمة على مفهوم الرأسمالية الشاملة.
الولايات المتحدة كانت محظوظة بحيث جربت تعايش أحداث تاريخية، خلقتْ مساواة اقتصادية واسعة نسبياً، وفرص، وتأثير في الجزء الأفضل من أل 200 سنة. ولكن كما أوضح هذا الفصل، فمن المشكوك فيه ما إذا كنا نستطيع توقع استمرار هذا المصير في القرن الحادي والعشرين. تشير الأدلة الإحصائية إلى إن حالات المد والجزر أخذت منعطفاً سلبياً قوياً بالنسبة لغالبية الأمريكان.
الأنظمة الاقتصادية تتجه نحو الجمود، وإن التغير المؤسسي الحقيقي لا يأتي إلاّ حينما تتطور أزمة ما. والقيادة الوطنية لا تبحث عن بدائل جديدة إلاّ في أوقات الأزمة، وإن البدائل التي يتم تبنيها تعتمد على الأفكار التي سبق إدخالها للحقل العام.
حالياً، فإن القوى التي لا تُقاوم لثورة المعلومات والمنافسة العالمية تغّير، كما يبدو، طبيعة التقدم الاقتصادي بطريقة معنية بحيث لا تستفيد منه بصورة مباشرة سوى فئة ضيقة من السكان. وإلى أن يتم فهم المعضلات الظاهرة للعيان في السياق الصحيح للديمقراطية الاقتصادية المتآكلة، فإن رؤيا الرأسمالية الشاملة تبقى غير مكتملة. وإذا أخذنا، كمعطاة، مصفوفة المؤسسات المقدسة التي تحيط بالديمقراطية السياسية الأمريكية في سياق التفاوت الاقتصادي المتزايد، يبقى لدينا أمل أن نعود للرؤيا الشاملة للديمقراطية التي قامت عليها هذه البلاد. وإذا استشهدنا بتوماس باين، مرة أخرى: "الزمن يصنع مهتدين أكثر من سبب الاهتداء(26).

الهوامش


1 Martin King, Strength to Love (New York: Harper &Row, 1963), p. 73.
2 Thomas Paine, Common Sense,’ in M. Foot and I. Kramnick, eds., The Thomas Paine Reader (New York: Viking Penguin, 1987)65.
3 Alexis de Tocqueville, Democracy in America, vol. 1, chap.3, 1835, V. P. Mayer and Max Lerner, eds., George Lawrence, tr., (New York: Harper and Row, 1966).
4 Henry George, Our Land and Land Policy, (New York: Doubleday and McClure, 1902, originally published 1871)
5 Henry George, Progress and Poverty (Canaan, N. H. : Pjoenix Publishers, 1979, originally published 1879)
6 Louis Keslo and Mortimer Adler, The Capitalist Manifesto (New York: Random House, 1958).
7 Stuart Speiser, A Piece of Action (New York, Van Nostrand Reinhold, 1977).
8 Stuart Speiser, SuperStock (New York: Everest Publishers, 1982).
9 Stuart Speiser, Mainstreet Capitalism: Essays on Broadening Share Ownership in America and Britain (New York: New Horizons Press, 1988).
10 Stuart Speiser, Equitable Capitalism: Promoting Economic Opportunity Through Broader Capital Ownership (New York: The Apex Press, 1991), 4-5
11 John H. Perry, Jr., The National Dividend (New York: Van Obolensky, Inc., 1964), and James Meade, Efficiency, Equality, and the Ownership of Property (London,: George Allen Unwin, 1964).
12 NASDAQ Stock Market Survey, New York Daily, February 24, 1997.
13 انظر المراجع التالية:
Economic Reports of the President (Washington, D. C. : U. S. Government Printing Office, 1995), 276, 311, 326. Council of Economic Indicators (Washington, D. C. , U. S. GPO, August 1995), 2,15; Daniel Feenberg and James Poterba, Income Inequality and the Income of Very High Income Taxpayers, NBER Working Paper 4229, (December 1992): 31; Claudia Goldin and Robert Margo, Quarterly Journal of Economics (QJE) (February 1994):4.
14 أنظر المراجع التالية:
Robert Frank and Philip Cook, The Winner-Take-All Society (New York: Free Press, 1994); U. S. Bureau of the Census, Current Population Reports, Consumer Income, 1992, Series p-60



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس عشر
- حصيلة الصراع في سوريا 60 ألف قتيل قبل نهاية العام 2012
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الرابع عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثالث عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثاني عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل العاشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل التاسع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثامن
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السابع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين ج1-ف4
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- ق1/ف3
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- ق1/ف2
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين/ ق1-ف1
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- المقدمة
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. الخاتمة والمل ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2- ف5/ ف6
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2: ف3- ف4


المزيد.....




- زيادة جديدة.. سعر الذهب منتصف تعاملات اليوم الخميس
- -الدوما- يقر ميزانية روسيا للعام 2025 .. تعرف على حجمها وتوج ...
- إسرائيل تعلن عن زيادة غير مسبوقة في تصدير الغاز إلى مصر
- عقارات بعشرات ملايين الدولارات يمتلكها نيمار لاعب الهلال الس ...
- الذهب يواصل الصعود على وقع الحرب الروسية الأوكرانية.. والدول ...
- نيويورك تايمز: ثمة شخص واحد يحتاجه ترامب في إدارته
- بعد فوز ترامب.. الاهتمام بـ-التأشيرات الذهبية- بين المواطنين ...
- الأخضر اتجنن.. سعر الدولار اليوم الخميس 11-11-2024 في البنوك ...
- عملة -البيتكوين- تبلغ ذروة جديدة
- الذهب يواصل رحلة الصعود وسط التوترات الجيوسياسية


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالوهاب حميد رشيد - اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر