أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبد الحسين شعبان - سياقات الخصوصية والعالمية















المزيد.....


سياقات الخصوصية والعالمية


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3966 - 2013 / 1 / 8 - 17:08
المحور: المجتمع المدني
    


سياقات الخصوصية والعالمية
المجتمع المدني بين قوة الاحتجاج وقوة الاقتراح

أستاذ فلسلفة اللاعنف في جامعة أونور
أثار قرار البرلمان الأوروبي بخصوص الحريات وأوضاع العمالة ووضع المرأة وبعض القوانين في دولة الإمارات العربية المتحدة ردود فعل مختلفة لدى النخب السياسية الحكومية وغير الحكومية، بما فيها بعض الأنشطة الحقوقية والفكرية والثقافية في دول الخليج بشكل خاص وفي العالم العربي بشكل عام. وما من حكومة عربية أو غير عربية صدر بحقها تقرير دولي من منظمة حقوقية أو جهة خارجية الاّ وبادرت إلى الردّ، سواءً بالنفي أو بالتوضيح أو بإجلاء بعض الحقائق أو التنبّه إلى بعض النواقص والتعهّد بمعالجتها، أو حتى بكشف الدوافع التي تقف خلف بعض التقارير.
ولعلّ بعض تقارير الجهات الدولية حقوقية أو غير حقوقية، بما فيها تقارير وزارة الخارجية الأمريكية أو تقارير الاتحاد الأوروبي، لا تستهدف الدفاع عن الحريات أو ممارسة الضغط للقيام بسلسلة إصلاحات، بقدر ما تحاول التدخل بالشؤون الداخلية بفرض الهيمنة وإملاء الإرادة، حتى وإنْ تضمّنت بعض الحقائق أو المعطيات الصحيحة، لكن طرق المعالجة والمعايير التي تستند إليها تختلف في الكثير من الأحيان عن أوضاع تلك البلدان ومعاييرها، ناهيكم عن درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والتاريخي، وهي أمور لا بدّ أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند الدراسة والبحث والتقويم.
ولا شكّ أن العديد من الجهات الدولية الغرب، أدركت أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به بعض منظمات المجتمع المدني، فبادرت إلى احتواء بعضها أو تشجيع بعض الجهات والجماعات على تأسيس منظمات خاصة أو رفد بعض المنظمات والجهات الدولية وغير الدولية، بمعلومات إغراضية أو ناقصة أو مبتورة عن حقيقة الأوضاع في عدد من البلدان، الأمر الذي يطرح العلاقة بين الحقوق والأمن وبين الحقوق والهوّية، وبين الحقوق والسيادة وبين الحقوق والخبز وبين الحقوق والتقدم الاجتماعي وبين الحقوق وقضايا السلام والتسامح وغيرها، وهي أمورٌ جوهرية في غاية الأهمية والخطورة، لاسيما وهي حقوق مترابطة ومتلازمة ومتداخلة بحيث لا يمكن تجزئتها أو الانتقاء منها أو تأجيل بعضها بحجة الأولويات، حتى وإن كان بعض القضايا ذات طابع آني ومباشر، لأن المسألة لها علاقة بكامل منظومة الحقوق والحريات وبمستقبل البلدان وآفاق تطوّرها.
وإذا كانت هناك مشتركات إنسانية وقواعد ناظمة للحقوق على المستوى الكوني، وهو ما معروف بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، المكوّنة من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر) العام 1948 والعهدين الدوليين، الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1966، والداخلان حيّز التنفيذ في العام 1976 (وهما اتفاقيتان دوليتان شارعتان، أي منشئتان لقواعد قانونية جديدة أو مثبتة لبعض القواعد القانونية)، أقول على الرغم من هذه المعايير الدولية، فهناك خصوصيات لكل بلد، آخذين بنظر الاعتبار درجة تطوره وتاريخه وأوضاعه الاجتماعية، دون أن تكون هذه الخصوصية وسيلة للتملّص من القواعد العامة ذات الطابع الشمولي، ودون أن تكون الشمولية والكونية، وسيلة لإلغاء الخصوصية أو التنكر لها أو تجاوز متطلباتها.
وهكذا لا يمكن بشكل ميكانيكي أو عبر الاستنساخ أو التقليد فرض شكل من أشكال النظام السياسي والاجتماعي ونمط حياة وسلوك معين، على بلد دون أن يكون هو بالذات قد وصل إلى هذه الحاجة وهذا التقدير، بحيث يختار هو بنفسه وطبقاً لحق تقرير المصير الذي هو حق جماعي للشعوب والأمم، شكل نظامه السياسي والاجتماعي والقواعد التي تنظم ذلك، وحتى الديمقراطية ذاتها لا يمكن فرضها كشكل وحيد وواحد على جميع البلدان، وإن كانت المعايير العامة والقواعد الناظمة لقيامها، تقوم على مشتركات، لكن هناك خصوصيات ينبغي احترامها للوصول إلى الديمقراطية، وهذه الخصوصيات دينية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وسياسية وثقافية ونفسية وغير ذلك.
وقد ذهبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 كانون الأول (ديسمبر) العام 2000 لإصدار قرار يعتبر بمثابة مرجعية دولية للديمقراطية، حين اعتبرتها قضية كونية وفيها خاصيات مشتركة، ولا وجود لطريق واحد "كنموذج" للوصول إليها، بل أنها تعتمد على تقاليد ومعتقدات الأمم والشعوب.
وبهذا لم يعد بإمكان أية جهة أن تفرض نفسها وصيّة على إقامة النظام الديمقراطي، كما أن ليس بإمكان أية دولة ان تضع نفسها خارج إطار المساءلة الدولية والتدخل الإنساني من جانب المجتمع الدولي، فيما اذا انتهكت المعايير الدولية لحقوق الانسان، وتغوّلت الدولة على مواطنيها. كما لم يعد بامكان حكومة ما، بحجة "السيادة" أو"عدم التدخل"، التملّص من خطة التغيير الديمقراطي، تحت أية ذريعة كانت، فقد أصبح الامر استحقاقاً دولياً وسياقاً عالمياً.
إن قضية الاصلاحات السياسية والقانونية التي طرحت منذ الاستقلالات العربية في القرن الماضي، تطرح اليوم على نحو أشد إلحاحاً، لا سيما بعد موجة ما يسمى بالربيع العربي، لكن هذا شيء والتجاذبات الخارجية ومحاولات الاستغلال السياسي لبعض القوى الأجنبية، شيء آخر.
ولعل الخصوصيات التي تحدث عنها قرار الجمعية العامة يمكن أن تندرج في الدساتير والقوانين التي تنظم علاقة الدولة بالأفراد وعلاقتهم ببعضهم في ظل قضاء يفترض أن يكون مستقلاً، مثلما هي استقلالية السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية.
ولا شكّ أن بعض البلدان التي حققت نجاحات معينة في مجالات التنمية، لا سيما في حقول البناء والعمران والصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والضمان وغيرها، ومنها دول الخليج، تشعر بشيء من الاستفزاز وربما بالتجنّي والغبن إزاء بعض تقارير المنظمات الدولية، ومنها دولة الامارات، بل وتعتبر الحديث عن بعض الحقول التي تتعلق بالحريات أو لبعض القطاعات مثل العمالة الأجنبية مبالغة وإغراضاً، بل وقسم منه ينمّ على عدم معرفة ويصدر أحياناً دون تدقيق في إطار عموميات لا تنطبق على الواقع، حتى وإن كان هناك الكثير من الإشكالات فيما يتعلق بالعمالة الأجنبية، وقسم منها تراكم وبحاجة إلى حلول جذرية، تأخذ بنظر الاعتبار الحقوق الواردة في اتفاقيات العمل الدولية، أو ما يتعلق بالمرأة والتي تذهب بعض التقارير بعيداً حين تسعى لتطبيق المعايير ذاتها التي تعتمد في بلدان متطوّرة وراسخة في التطور الديمقراطي، إزاء بلدان نامية لا تزال في بدايات الطريق تتلمس خصوصيتها في الخضم العالمي الواسع، وتتطور بشكل تدريجي ومتراكم.
ومثلما هناك بلدان تتّسع فيها دائرة الحقوق المدنية والسياسية، لكن دائرة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تنحسر فيها، فهناك العكس، الأمر الذي يحتاج إلى توازنات بين هذه وتلك، وبين الحقوق الفردية والحقوق الجماعية، ولا يوجد بلد في العالم يشبه بلداً آخر في مدى التحقق الكامل لمنظومة الحقوق والحريات .
وإذا كانت قاعدة حقوق الانسان قد أصبحت قاعدة آمرة- ملزمة Jus Cogens في القانون الدولي منذ مؤتمر هلسنكي للسلم والأمن الأوروبي في العام 1975 إضافة الى احترام حرمة الحدود والاستقلال السياسي وعدم خرقها واحترام وحدة الأوطان، فإن هذه القاعدة وردت سبع مرات في ميثاق الأمم المتحدة العام 1945، وذلك قبل صدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، وإنْ لم تأتي كقاعدة مستقلة وإن لم تجد تطبيقاتها الاّ بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية وتحوّل الصراع الآيديولوجي العالمي من شكل إلى شكل آخر جديد، بحيث تراجعت فيه بعض مظاهر السيادة، لصالح التدخل لأغراض إنسانية.
لكن مثل هذا الحق استخدم في الكثير من الأحيان على نحو يضمن تسيّد القوى الكبرى وهيمنتها على القرار الدولي وتوظيفه لمصالحها الخاصة، الأنانية الضيقة، التي تتعارض مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقواعد والمعايير الدولية ذات القصد والدلالة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه " المقاصد" مثل مقصد الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة والسلام والتعاون الدولي والتنمية واحترام السيادة وحق تقرير المصير واللجوء إلى وسائل وآليات سلمية تحقيقاً لهذه الأهداف.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الغرب بشكل عام والمقصود سياسات حكوماته وبعض المنظمات والجهات المدنية مارست سياسات ازدواجية قائمة على معايير انتقائية إزاء العالم الثالث والبلدان النامية ومنها البلدان العربية وخصوصياتها، وكان الغرب يتعامل مع العرب طبقاً لمعايير خاصة، ليست هي نفسها التي يعتمدها على " إسرائيل" وانتهاكاتها السافرة لكامل منظومة حقوق الانسان الفلسطيني، ولاسيما حقوقه المدنية والسياسية، فضلاً عن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وخرقها السافر لقواعد القانون الدولي، وخصوصاً لمبدأ حق تقرير المصير وهو حق ثابت وغير قابل للتصرف، يتعلق بالوجود والكيان، فضلاً عن حق العودة وحق العيش بسلام ودون خوف، وحق إقامة الدولة كتعبير سياسي عن الوجود والكيان (الجماعي) أساساً للحقوق الأخرى.
للأسف الشديد تتأثر بعض المنظمات الحقوقية في الغرب ببعض وجهات النظر السائدة والأطروحات النافذة لاسيما إزاء القضايا العربية كلاًّ أو جزءًا بما ينسجم مع المصالح، وليس عجباً أن تقف ثلاث منظمات دولية كبرى، وهو منظمات مرموقة، موقفاً لا ينسجم مع أهدافها في المؤتمر الدولي المنعقد في ديربن ( جنوب أفريقيا) حول العنصرية في العام 2001، وذلك على الضد من موقف نحو ثلاثة آلاف منظمة عالمية لإدانة الممارسات "الإسرائيلية" العنصرية ضد الشعب العربي الفلسطيني، وذلك حين حاولت منظمة العفو الدولية (لندن) ومنظمة مراقبة حقوق الانسان (واشنطن) والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (باريس) تمييز موقفها عن الجمع الحقوقي العالمي، بإصدار بيان " خاص" حاولت فيه نقد الطرف الفلسطيني، في محاولة لمساواة الضحية بالجلاد أو للتخفيف من مسؤولية الأخير.
وكان كاتب السطور قد كتب لأكثر من مرّة رسائل عتب مملحة ومقالات لفت فيه نظر الرأي العام الحقوقي، إلى ازدواجية المعايير وإلى بعض الجوانب غير المهنية التي اتخذتها منظمات حقوقية مهمة ولها دور أساسي على الصعيد العالمي، وذلك جزء من النضال المهني والحقوقي على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي.
لعلّ ذلك في قسم منه يتعلق بمفهوم منظمات المجتمع المدني ودورها على الصعيد العربي والعالمي، سواءً بالنسبة للقضايا ذات الطابع الكوني أو للقضايا ذات الطابع المحلي، والعلاقة ما بين الخصوصية والشمولية، بحيث لا يتم التغوّل من جانب واحدة على الأخرى في إطار توازن مهني وعقلاني، ويأخذ تطور أي بلد من البلدان بظرفه الخاص وتاريخه ودينه ومجتمعه وثقافته وعاداته وتقاليده وغير ذلك، دون نسيان المعايير المشتركة ذات الطابع الدولي.
مفهوم المجتمع المدني
وهنا لا بد من وقفة لمفهوم المجتمع المدني، حيث لا يزال مصطلح "المجتمع المدني" Civil Society، غير محدد على نحو دقيق، بل يثير التباسات نظرية وعملية فأحياناً نحن نتحدث عنه ونستخدمه، ولكن كل منّا يقصد أمراً مختلفاً.
وعلى النطاق العربي فإن المصطلح يثير إبهاماً كبيراً وتعارضاً شديداً بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد بين فريقي التنوير والتشهير أو التقديس والتدنيس!!
فأحياناً نطلق عليه اسم "المجتمع الأهلي" National Society وأحياناً اسم القطاع الثالث Third Sector (بين القطاع العام والقطاع الخاص) وفي أحيان أخرى: القطاع الخيري Charity (Philanthropy) Sector، أو القطاع المستقل Independent Sector، أو القطاع المعفي من الضرائب Tax exempted Sector، أو نسمّيه المنظمات غير الحكومية NGO’S، أو المنظمات التطوعية Associational voluntary، أو القطاع غير الهادف إلى الربح Non-profit Sector ، وهذه التسميات جميعها تصف شيئاً واحداً وهو وجود مؤسسات غير حكومية، غير إرثية، تطوعية، مستقلة عن الجهاز الحكومي، وتشكل قطاعاً ثالثاً بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وهو ما نسمّيه بالمجتمع المدني.
وسبب صعوبة تحديد المعنى يعود إلى حداثة استخدام المصطلح لدينا وشحّة المختصين، فضلاً عن انه بحاجة إلى سياقات فكرية وثقافية والى بيئة سياسية واجتماعية، لكي يكون "مقبولاً " على نحو ما نشهده في الغرب. والسبب الآخر يعود إلى الاختلاف، الذي يتضمنه الموضوع كإطار نظري ناجم عن تجارب محددة سرعان ما تتغيّر. ولعل السجالات السياسية والأيديولوجية تأخذ بعدها في هذا الموضوع، ناهيكم عن الاختلافات في الممارسة والتطبيق.
أما أهداف المجتمع المدني فيمكن تلخيصها بما يأتي:
بدعم مشاريع وخطط التنمية واقتراح قوانين وأنظمة ولوائح وتقديمها إلى البرلمانات والجهات التشريعية والحكومات. والسعي من أجل بناء مواطنة متساوية وكاملة ودون تمييز والعمل على بناء قدرات الأفراد وتنمية مهاراتهم وتدريبهم، وتشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفعاليات الاجتماعية.


خصوصية المجتمع المدني العربي
هناك تمايزات بين المجتمع المدني في كل بلد وإن كانت هناك مشتركات، وبخصوص المجتمع المدني العربي فهناك من لا يعترف أساساً بفكرة المجتمع المدني العربي، بل يثير علامات استفهام حول أهدافها وأجندتها وتمويلها وتداخلاتها الخارجية، ويذهب البعض الآخر إلى التشكيك بوجوده، وإن وجِدَ فهو غير قادر على فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته على قرارات الدولة، كما هي حالة أوروبا الغربية والشرقية، أو حالة بعض أقطار شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية، كما يذهب إلى ذلك الدكتور باقر النجار.
إن الأصوات العربية التي تندد بأطروحة المجتمع المدني الجديدة، لم تنطلق جميعها من رؤية واحدة، فالبعض يعتبرها تقليعة مستوردة أو مشبوهة وربما يقيس على ذلك مواقف بعضها التي تعتمد على المعايير السياسية، وهو التوجه الغالب للحكومات بغض النظر عن طبيعتها سواءً كانت محافظة أم ثورية، ولعل هذا الموقف يقترب من مواقف الجماعات التقليدية المتشددة حتى وإن كانت في المعارضة، وينظر إليها البعض الآخر من زاوية اقترابها أو ابتعادها من الصراع مع القوى المهيمنة على المستوى الدولي، خصوصاً محاولات "توظيف" بعض مؤسسات المجتمع المدني أو بعض إداراتها لأجندات خارجية واستغلالها أحياناً بالضد من المصالح الوطنية العليا، أو هكذا يتم تفسير بعض النشاطات المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان باعتبارها ممالئة للغرب استرضاءً له كما يعتقد أصحاب هذا الاتجاه، أو للحصول على التمويل أو لمكاسب سياسية وحتى لو كانت مثل هذه الاعتبارات موجودة الاّ أنه لا ينبغي التعميم على جميع منظمات المجتمع المدني، والتعميم على جميع منظمات المجتمع المدني.
وهناك اتجاهاً نقدياً للمجتمع المدني من داخله أحياناً من زاوية ديمقراطية وتنويرية وليس بهدف الإساءة أو التشهير، وهذا الاتجاه يرى أن المجتمع المدني ضرورة لا غنى عنها وحاجة ماسّة، لا يمكن إحداث التحول والإصلاح الديمقراطي دونها، بما يستوجب دعم مؤسساته والترخيص لها قانونياً، إلاّ أنه ينتقد بعض ممارساتها وتوجّهاتها وتشبّث بعض قياداتها بمواقعها، ناهيكم عن بعض أساليبها البيروقراطية واللاديمقراطية وأحياناً خضوعها لأجندات خارجية. وقد كشف الربيع العربي الحاجة الماسة لمثل هذه المنظمات والدور الذي لعبته في إحداث التراكم المطلوب على مدى يزيد عن عقدين من الزمان، مع ضرورة الانتباه إلى أصابع القوى الخارجية ومساعي توظيفها، فضلاً عن بعض أولوياتها.
وللأسف فإن سوء الفهم وعدم إدراك أهمية وحيوية المجتمع المدني وضرورته، باعتباره أحد أهم روافد الإصلاح والتغيير وتعزيز وتمكين الديمقراطية التي تنشدها لا تزال قائمة لدى الكثير من القوى سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، بغض النظر عن تحفظاتها على سلوك بعضها، فالمجتمع المدني سواءً توافقنا معه أم لم نتوافق، يمثل القوة الثالثة، التي لا غنى عنها لضمان السلم المجتمعي، فضلاً عن أن وجوده يمثل هو الآخر انتماءً إلى العالم المعاصر، عالم الحداثة والتقدم، ولعلّ التنكر له أو تهميش دوره أو محاولة احتوائه، إنما هو تشبث بالماضي وهروب من المستقبل، ولا بدّ من مواجهة الأمر بالمزيد من الحريات والشفافية دون نسيان أهمية تنقية الأجواء لعمله في الإطار الوطني وضمن أجنداته ولاسيما لدوره في التنمية والتقدم ولعل أهم ما هو مطلوب اليوم لدور منشود للمجتمع المدني هو أن يتحوّل من قوة احتجاج إلى قوة اقتراح، ومن قوة اعتراض إلى قوة شريكة وهو الدور المنشود والحضاري.
ولهذا فإن البلدان العربية تغدو أكثر حاجة من غيرها إلى تنمية وتعزيز دور المجتمع المدني وتمكينه من القيام بواجباته من خلال كيانات مستقلة غير حكومية، غير ربحية، حرة وغير إرثية وقائمة على الانتماء الطوعي والتعددي وتتعامل مع منتسبيها على نحو شفاف وديمقراطي، وذلك لحاقاً بالتطور الدولي.

الخليج وصورة المجتمع المدني
يميل الاعتقاد السائد إلى أن دول الخليج العربي أو ما يمكن أن نطلق عليه دول مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس في العام 1980 لا تمتلك تجربة كافية بخصوص المجتمع المدني، فإمّا أنها حديثة التكوين أو ما تزال ضعيفة ولم يشتّد عودها أو أنها لا تكترث كثيراً بهذا الحقل أو أن هناك عقبات أمام الترخيص لتأسيس أو إنشاء مؤسسات خاصة بالمجتمع المدني، لكن بعض الدراسات ذهبت إلى القول أن هناك أكثر من 10.000 (عشرة آلاف) جمعية ومؤسسة خاصة بالمجتمع المدني، وأن عدد المنتسبين المنضمّين إليها يزيد على مليون شخص، في مجلس عدد سكانه حسب بعض الإحصاءات يقارب من 48 مليوناً.
لكن الباحث والمتخصص في المجتمع المدني، سيلاحظ أن المؤسسات التي نطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني هي في الغالب مؤسسات خيرية أو يغلب عليها التوجّه الخيري- الإنساني والطابع الدعوي الإسلامي في إطار حقوق الزكاة أو ما نسميه "التكافل الاجتماعي" لمساعدة من يحتاج إليه، لاسيما من ذوي الإعاقة أو الفئات الفقيرة أو الضعيفة.
وإذا كان ثمت تطورات قد حدثت في دول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة الحق في التعليم والصحة والعمل والضمان والبيئة والتمتع بأوقات الراحة والاستفادة من منجزات الثورة العلمية - التقنية وفي إشباع بعض الحاجات الروحية والثقافية، فإن الأمر يحتاج إلى تعزيز جوانب أخرى تشكل منطلقاً لتعميق هذه الحقوق من جهة، ومن جهة أخرى لضمان استمرارها وتأصيلها، لاسيما الحقوق المدنية والسياسية، التي تنطلق في منظومة شاملة أساسها المساواة الكاملة والمواطنة التامة، خصوصاً في الموقف من تأهيل وإعداد المرأة وإدماجها في العمل العام بما فيه حقوقها السياسية، كالحق في الانتخاب والترشيح وتوّلي المناصب العليا دون تمييز، ولا شك أن هذه الحقوق لا بدّ أن ترتكز على أربعة أطر أساسية:
الإطار الأول- يتعلق بحرية التعبير، والإطار الثاني- يتعلق بحق الاعتقاد، والإطار الثالث- يتعلق بحق التنظيم، أما الإطار الرابع فيتعلق بالحق في المشاركة.
ولعل هناك بعض النواقص والثغرات على هذا الصعيد لا يتعلق بعضها بالحكومات فحسب، بل أن القوى المجتمعية تتحمل جزءًا منها، لاسيما في ما يتعلق بنقص الثقافة الحقوقية وضعف الوعي، وبخاصة بأهمية المجتمع المدني بكونه يمكن أن يكون شريكاً فعّالاً للحكومة، أي أن تتحول مؤسسات المجتمع المدني إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، وهذا الأمر يتعلق بمدى قدرة المجتمع المدني في التصرف على صورة مستقلة ومهنية وموضوعية وغير منحازة، الأمر الذي سيكسبه شراكة في اتخاذ القرار.
وإذا كان الخطاب الرسمي الخليجي يؤكد على قيمة المشاركة ودور المجتمع المدني فثمة كوابح منظورة وأخرى غير منظورة بحكم طبيعة المجتمعات الخليجية المحافظة التي تحول أحياناً دون مشاركة فعّالة، ناهيكم عن المركزية في شكل الدولة، وبتقديري أن أي تطور للمجتمع المدني بما فيه دول الخليج العربي يحتاج إلى بيئة تشريعية مناسبة وقوانين تنسجم مع التطور الدولي ونظام تعليمي وتربوي يتناسب مع التطور الدولي فيما يتعلق بالعمل المدني والبدء من المدرسة ومن مرحلة الطفولة الأولى لنشر الوعي الحقوقي وصولاً إلى الجامعة. إضافة إلى نشر الوعي القانوني والمهني لاسيما بالترويج لدور المجتمع المدني الذي عليه أن يضع مسافة بينه وبين السياسة، إزاء السلطة والمعارضة مثلما عليه عدم الانخراط في الصراع السياسي والآيديولوجي والديني والطائفي السائد في مجتمعاتنا. ولعل هذا يتطلب وجود مجتمع مدني يكون شريكاً ورقيباً وراصداً، بجاهزية فكرية وأداء ديمقراطي وعمل مهني وبُعد إنساني.
ثلاثة اتجاهات في المجتمع المدني
هناك ثلاث اتجاهات تتجاذب المجتمع المدني العربي ومؤسساته وهي على النحو التالي:
1- الاتجاه الأول ويمكن أن نطلق عليه "الاتجاه التصادمي"، إذ تميل بعض المؤسسات إلى اتخاذ مواقف حادة داعية إلى المواجهة والقطيعة (بين الحكومات والمجتمع المدني) – وهو بتقديري اتجاه انعزالي ويغلب عليه طابع التسييس أي التأثر بالمواقف والخلفيات السياسية، وهذا الاتجاه اقرب إلى اتجاهات بعض المعارضات أو يخضع لبعض تأثيراتها .
2- الاتجاه الثاني وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الاتجاه التساومي"، حيث تسعى السلطات لاحتواء أو تدجين المجتمع المدني كما يسعى بعض العاملين في هذا الميدان وبحجة "الواقعية" إلى التخلي عن بعض المنطلقات المبدئية كالاستقلالية والحيادية وغيرها، فينصرف إلى تأييد مواقف الحكومات ويبرر لها، وغالباً ما تبتلع الحكومات مثل هذه المؤسسات التي يضعف تأثيرها على المجتمع بالتدريج وتفقد دورها.
الاتجاه الثالث وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الاتجاه التصالحي" أي الاتجاه الأكثر عقلانية وواقعية، وهو يسعى إلى فتح حوار مع الحكومات وصولاً إلى المداولة والشراكة.
وبتقديري فإن هذا الاتجاه هو الأقرب إلى المبدأية والمهنية والنظرة الإستراتيجية البعيدة المدى وهو يقوم على النقد والتعاون، أي التطوير عبر التدرج والتراكم وصولاً للتغيير في المجالات المختلفة.فمؤسسات المجتمع المدني بطبيعتها لا تسعى للوصول إلى السلطة، كما هي ليست جزءًا من الصراع السياسي وكل هدفها هو تطوير المجتمع والدفاع عن حقوقه.
وقد برزت في الفترة الأخيرة محاولات تدعو وتشجع على الاستقواء بالخارج وأحياناً بالترويج لتوافق بين مشروعها مع المشروع الخارجي، ولعل حساسية الحكومات شديدة إزاء أي محاولات للارتباط أو الاستقواء بالخارج مثلما هي حساسية الشارع العربي إزاء الاملاءات الخارجية والدعوات الأجنبية حتى وإن كان بعضها ايجابياً إلا أنها ستكون مشوبة بالكثير من عوامل الارتياب والشك.
ولكي تكون مؤسسات المجتمع المدني فاعلة ومؤثرة فلا بدّ لها أن تتحول إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، وقوة انسجام وتواؤم وليس قوة اعتراض أو رفض لكي تتجنب الانخراط في الصراع السياسي والإيديولوجي وتضع مسافة واضحة ومحددة بينها وبين الحكومات والمعارضات السياسية وتتمسك باستقلاليتها وحياديتها وسلميتها وتدرجية المجتمع الذي تريد تطويره وتفاعلها مع كل فعل ايجابي.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد الصهيونية مجدداً!
- ما بعد الصهيونية
- انسحاب . . ولكن
- شيء عن الدبلوماسية “الإسلامية”
- الدستور العراقي الحالي حمّل أوجه وألغام
- اختبار جديد للحرب الباردة
- حلف الفضول!
- شكراً... للضمير الجامع
- الحلم الفضي يعود إلى بنغازي
- حكمة الضوء وشهادة التاريخ
- منصور الكيخيا والرهان على «سلطة» الضوء!
- مصر والإسلام السياسي
- هل ترسو سفينة مصر الدستورية؟
- ماذا عن أكراد سوريا؟
- غزة وعمود السحاب!
- غوته وسحر الشرق
- اعتراف هولاند الخجول بجرائم قتل الجزائريين
- دلالات الديمقراطية وحقوق الإنسان في فكر أمين الريحاني
- عن تونس والدين والدولة
- العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية


المزيد.....




- تقنية التعرف على الوجه سلاح الجيش الإسرائيلي للإعدامات والاع ...
- نائبة مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة تشير إلى ازدواجية معايير ...
- أول رد فعل من نتنياهو بعد اعتقال اثنين من مكتبه في قضية التس ...
- حماس: اتفاق يوليو الماضي هو المفتاح لوقف الحرب وعودة الأسرى ...
- ممثل الأمم المتحدة يؤكد للسيستاني عدم التدخل في شؤون العراق ...
- فيديو: ما وراء قرار الاحتلال وقف عمل وكالة الأونروا؟
- السيسي يؤكد لعباس دعم مصر للسلطة الفلسطينية وحماية حق تقرير ...
- بعد توقيف 4 أشخاص بمكتب نتنياهو.. اعتقال ضابط إسرائيلي في قض ...
- أسامة حمدان: حظر الاونروا يؤكد اصرار الكيان على التمرد والاس ...
- موسكو تطلق سراح بعض العسكريين الأوكرانيين الأسرى


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبد الحسين شعبان - سياقات الخصوصية والعالمية